الجمعة، 30 يونيو 2017

الأخرس الناطق من مقالات كتاب لعنة بابل














ماذا يفعل إنسان وجد نفسه إثر حادث ما عاجزا عن التعبير الصوتيّ بعد أن اعتاد على قضاء كثير من حوائجه بواسطة تلك المضغة اللحمية الموّارة القابعة في فمه والتي هي اللسان؟ أناس كثيرون يصابون في أواخر أعمارهم أو في منتصف أقدارهم بأمراض تسطو على مقدرتهم الكلامية، تسرق منهم أصواتهم، تشلّ ألسنتهم، وتحرمهم التواصل الصوتيّ، وتمنعهم من توصيل رغباتهم ومشاعرهم إلى آذان من يحبّون. وثمّة عبارات طريفة ودالة عن معاناة الصمت يتفوّه بها شخص كُبّل لسانه أو منع من الكلام منها: "ح طقْ بدّي إحكي" أو " بِنْفجرْ، بموتْ إذا ما حكيتْ"، أي أنّ الصمت، في بعض المقامات، مجْلبة لموت رابض على طرف اللسان.
كنت اعرف شيخاً عجوزاً طيّباً يحبّ التعليق الساخر على الأحداث ويرتجل الطرائف ببساطة رائعة، تقع حفراً وتنزيلاً في مواقعها، ولكنه فقد القدرة على الكلام، قبل مغادرته الدنيا بسنتين. صارت الكلمات تخرج من فمه أشلاء ضبابية، همهمة مبهمة مقطّعة الأوصال والدلالات. لم يوجعه ألمه، ولا تمرّد جسده المشلول على رغباته في الحركة بقدر ما أحزنه عجزه الكلاميّ المباغت، وصمته الذي فرض سلطانه القاهر على لسانه فحرمه حتى من أن ينبس بوصاياه الأخيرة لعائلته. وما أصعب أنْ يدفن المرء صوته بيديه!
تذكّرت هذا الشيخ المحروم من صوته وأنا أقرأ خبراً علميّاً طموحاً نشر في مجلة " نيو ساينتيست" (New Scientist). والخبر يعيد الأمل إلى كلّ من فقد رنّة صوته ونعيم الكلام. قد يأخذ البعض هذا الخبر على أنّه من قبيل الخيال العلميّ أو الجنوح العلميّ، بل حتى الجنون العلميّ، والتطفّل النزِق على سنّة الحياة. ولكن بعض أحلام اليوم ليست، في أيّ حال، إلاّ حقائق قد تكون بسيطةً وعاديّةً من حقائق ووقائع الغد القريب.
وفي الخبر إنّ علماء في دراسة الدماغ - هذه القارّة الرمادية الشاسعة التي لا يزال الإنسان يجهل، إلى اليوم، الكثير الكثير من تضاريسها وأسرارها- يعملون على صنع برنامج حاسوبيّ يترجم، صوتيّاً، أفكار الناس الذين انهارت مقدرتهم على الكلام، يظهّر كلامهم المحبوس في تلافيف أدمغتهم، وقد يترجم هذا البرنامج مع الوقت نوايا الناس، فمن يدري! أليست الأفكار والنوايا كلمات بلا أصوات ولكنّها تقوم بتنشيط جزء من خلايا الدماغ، كلمات الأفكار لا يعوزها إلاّ الصوت لترنّ في طبلة الأذن؟ فماذا لو تمّ تأمين هذا الصوت اللازم لها لسحبها من عالمها المحجّب المكنون، أو من ما يمكن أن يسمّى بالكلام النفسي؟ (والكلام النفسيّ هو الذي يدور في صمت ظاهريّ تامّ بين المرء ودخيلة نفسه، أي أنّه نوع من الكلام غير المسموع، ولكن عدم سماعه لا ينفي عنه صفة الكلام!).
الآلة المنتظرة لا تقوّلك ما لا تقول، ولكنّها تستطيع أنْ تتفوّه بالكلمات التي يعجز لسانك عن إخراجها من فيك أي تتفوّه بالكلمات التي تظلّ عالقة في الدماغ لعطب فيزيائيّ محض اعترض وظائف الجسد وقدرات اللسان، فالجسور التي بين الدماغ واللسان مقطوعة، ومهمّة هذه الآلة ربط مناطق الكلام في الدماغ بمسجّلة صوتية عن طريق موصلات الكترونية تسجل النبضات الصادرة من المراكز الدماغية المتحكمة في الكلام، أي أنّ المرء يستبدل لسانه المشلول بآلة تقوم مقام لسانه.
والعمل على هذه الآلة ثمرة تعاون حثيث بين علماء أصوات ودماغ وبرمجيّات. والهدف الأخير من هذا المشروع هو اختراع برنامج حاسوبيّ يترجم النبضات الصوتية، والتجارب التي أجريت على "إريك رامزي" الرجل الذي فقد القدرة على الكلام إثر حادث سير وقع له قبل ثماني سنوات تبشّر بخير صوتيّ. العلماء سيستخدمون الإشارات الصادرة عن مراكز الكلام داخل دماغ " إريك رامزي" لإنتاج برنامج حاسوبيّ. ويقول الباحثون في جامعة بوسطن أنّه يمكنهم، الآن، التعرّف بوضوح على ثمانين في المائة من الصوت الذي يتخيّله دماغ "إريك رامزي".
يشير العلماء إلى أنّ المسألة قد لا تتطلب أكثر من عشر سنوات علماً أنّ العاملين على هذا المشروع كانوا يعتقدون أنّ خمس سنوات كفيلة بتحقيق هذا الحلم الصوتيّ الباهر. يقول البروفيسور "جون ديلان" من معهد "ماكس بلانك" لدراسات الدماغ البشريّ: "من المثير للغاية أنْ يصبح بإمكاننا البدء في ترجمة بعض الأفكار الرئيسية، لكننا لا نزال بعيدين- والبعد لا يعني الاستحالة- عن التوصّل إلى الآلة التي تستطيع قراءة العقل البشريّ في كلّ مكان".
وليس من المستبعد ما دمنا نعيش في زمن الصوت والصورة أن نشهد في يوم ما ولادة هذا الإنجاز العلميّ المذهل الذي يؤكد على أنّ الإنسان كائنٌ صوتيّ بامتياز قبل أيّ شيء آخر.
ألا يبدأ الإنسان حياته الأرضيّة، في أيّ حال، بصرخة ليست، في العمق، إلاّ تمريناً عضلياً وصوتيّاً لحنجرته
الغضّة؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق