الجمعة، 17 فبراير 2017

من طرائف الاديب ابراهيم المازنيّ


المدرّس الذي يحتاج إلى معاقبة تلميذه لا يصلح لهذه المهنة، وخير له أن يشتغل بغيرها.


قد يجد القارىء أنّ ما سوف يرد في تضاعيف الحكاية التالية يعارض كلام المازني أعلاه، ولكن عند التعمّق يعرف أنّ المازني لم يخطر بباله وهو يروي ما حصل معه في قاعة الصفّ فكرة ممارسة العقاب الجماعيّ. وإبراهيم المازنيّ من كبار كتاب النهضة الزاهية في النصف الأوّل من القرن العشرين، وشارك مع زميله عباس محمود العقاد في صياغة ما يمكن اعتباره بمثابة بيان الثورة الشعرية الحديثة، وكتاباته ممتعة جدّاً، فهو قصّاص فاتن وإن لم يكن يأخذ كتاباته النقدية والقصصية بجدية، فهو أديب ساخر، يسخر من كلّ شيء حتى من نفسه ونجد صدى سخريته واستخفافه الظاهريّ بذاته في العناوين التي اختارها لمؤلفاته. والعناوين دالّة فمن عناوين كتبه النقدية أو القصصية نستشفّ هذه النظرة الهزلية في التعامل مع الحياة، مثل "حصاد الهشيم" و"ع الماشي" و"في الطريق" و"قبض الريح" و"خيوط العنكبوت" وغيرها من عناوين توحي بالخفّة والهشاشة بخلاف مضامينها الغنية بالمعرفة والنظرات الأدبية والاجتماعية الثاقبة. وله نوادر كثيرة لو جمعت في كتاب واحد لكانت لطائف الطرائف. ومن هذه الطرائف التي حصلت معه أيّام كان مدرّساً، وهي مهنة مارسها زهاء عشر سنوات قبل أن يهجرها إلى عالم الكتابة والصحافة، وكان له وجهة نظر في التعليم على نقيض ما كان سائداً في زمانه من التعامل الفظّ مع الطلاب كما لو كانوا فرصة ذهبية ليمارس الأستاذ نزعته السادية على أجسادهم الغضة. يقول المازني إنه على امتداد هذه السنوات العشر لم يحتج أن يعاقب تلميذاً أو يوبّخه أو يقول له كلمة نابية. ولكن "الولد ولد ولو عمّر بلد" كما يقال، ولم يقصّر التلاميذ في محاولة المعاكسة ونصب المقالب، وكان ابراهيم المازني حديث عهد بالتلمذة وبشقاوة التلاميذ، فكان يعرف كيف يقمع هذه الرغبة الطبيعيّة في الشقاوة بوسائل وتقنيات هي بنت خياله الفذّ.

وهو يروي نادرة  من النوادر التي حصلت له معهم في كتابه "قصة حياة" التي يتناول فيها فصولاً ممتعة من طفولته وصباه وحياته المهنية، ولم أحبّ أن أغيّر من كلماته وأنا أنقلها وعليه فإني أترك لقلمه السيّال أن يروي لنا بأسلوبه الشخصيّ حكايته في معالجة ما يواجهه فيقول:

 " كنت مدرّساً في المدرسة الخديوية واتّفق يوماً أن دخلت الفصل فإذا رائحة  كريهة لا تطاق، وكان الوقت صيفاً، والجوّ حارّاً جدّاً، فضاعف الحرّ شعوري بالتنغيص من هذه الرائحة الثقيلة. وادركت انها هي المادة التي كنا ونحن تلاميذ نضعها في الدواة مع الحبر فتكون لها هذه الرائحة المزعجة. فقلت في نفسي:" إنهم ثلاثون أو أربعون وأنا واحد، وإذا كانت الرائحة القبيحة تغثي نفسي فإنها تغثي نفوسهم معي أيضاً . فحالهم ليس خيراً من حالي، والإحساس المتعب الذي أعانيه ليس قاصراً عليّ ولا أنا منفرد به، وإنهم أغبياء لأنهم أشركوا أنفسهم معي، وقد أرادوا أن يفردوني بهذه المحنة. والفوز في هذه الحالة خليق أن يكون لمن هو أقدر على الصبر والاحتمال فتجاهلت الأمر وصرت أغلق النوافذ واحدة بعد أخرى لأزيد شعورهم بالضيق والكرب فلا يعودوا إلى مثلها بعد ذلك، وقد كان. تصبّرت وتشدّدت ودعوت الله في سرّي أن يقوّيني على الاحتمال، ومضيت في الدرس بنشاط وهمّة لأشغل نفسي عما أعاني من كرب هذه الرائحة الملعونة. وكنت أرى بنفسي في وجوههم أمارات الجهد الذي يكابدونه من التجلّد مثلي، فأسرّ واغتبط وأزداد نشاطاً في الدرس وإغضاء عمن يرفعون أصابعهم ليستأذنوا في الكلام، فقد كنت عارفاً أنهم إنما يريدون أن يستأذنوا في فتح النوافذ عسى أنْ تخفّ الرائحة ويلطف وقعها.

وظللنا على هذه الحال نصف ساعة كادت أرواحنا فيها أنْ تزهق، ورأيت أنّ الطاقة الإنسانيّة لا يسعها أكثر من ذلك، وأنّ التلاميذ خليقون أن يتمردّوا إذا أصررت على عنادي المكتوم، واغتنمت فرصة إصبع مرفوعة وسألت صاحبها عمّا يريد، فقال إنه يريد أن يفتح النافذة لأنّ الحر شديد. قلت افتحها، وفتحت النوافذ كلّها، وتشهّدنا جميعاً، واستأنفنا الدرس ولكن بفتور لشدّة ما قاسينا من رياضة النفس على احتمال ما لا يطاق. وانتهى الدرس وخرجت فخرج ورائي ثلاثة او أربعة من التلاميذ ولحقوا بي، وقال لي واحد منهم إنهم يأسفون لما حصل وإنّ الأمر كان مقصوداً به غيري، وإنّهم يطلبون الصفح، فسررت ولكني تجاهلت، وسألتهم عما يعنون. قالوا: الرائحة الكريهة التي كانت في الفصل. قلت رائحة! أي رائحة؟ إنني مزكوم ولهذا لم أشمّ شيئاً فلا محلّ لاعتذاركم. ومضيت عنهم وكان هذا درساً نافعاً لهم ولو أني عاقبت أحدا لما أثمر العقاب إلاّ رضاهم عن نفوسهم لأنهم استطاعوا أن ينغّصوا علي، وأن ينجح معي عبثهم الطبيعي في مثل سنّهم".

لقد كانت "الرائحة الكريهة" بينه وبينهم هي ساحة المعركة، وعرف المازنيّ بذكائه الحادّ وطبيعته المرحة والساخرة أن ينتصر على الطلاّب دون عقاب وأن يحرمهم الشعور بالرضى حين أعلن في آخر الحكاية أنّه كان مزكوماً على خلاف واقع الحال فلم يشمّ أيّ رائحة. تحوّل الضعف المزعوم في حاسّة الشمّ لدى المازنيّ إلى قوّة صادمة لمسامع الطلاب أطاحت بمقلبهم الشمّي كما بقيت هذه الحادثة ذكرى حرّيفة لم تغب عن أنوفهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق