مولد
كتاب
ظروف ولادة الكتب تشبه ظروف ولادة الناس. وكتب كثيرة
لها سير ذاتية طريفة ومثيرة، منها كتاب عالم اللغة فرديناند دي سوسير Ferdinand de Saussure " محاضرات في الألسنية العامّة"، والمؤلّف
من مؤسّسي ما يعرف بعلم اللغة الحديث/ الألسنيّة، وكتابه هو فاتحة الدراسات الحديثة
في علم اللغة. طرافة كتابه أنّه ولد بعد موته،
( كتب كثيرة تولد يتيمة! أي تبصر النور بعد
غياب كاتبها)، وكان من الممكن جدّا أن لا يبصر كتابه " المحاضرات" النور
( الإجهاض يمكن أن نراه في الكتب أيضا!). لم يمت المؤلف والكتاب ينتظر، في المطبعة،
دوره، بل كان مجرّد أوراق ومحاضرات وشذرات وتعليقات يلقيها دي سوسير على طلاّبه، ووافاه
الأجل قبل أن يراها بين دفّتي كتاب. ولم يكن يخطر بباله انها تستحقّ أن تكون كتابا.
كانت أوراق دي سوسير تتغير مع الوقت، تعديلا هنا أو إضافة هناك، أو توضيح فكرة هنالك.
ترك أوراق محاضراته ورحل عن هذه الفانية. كان من ضمن تلامذته تلميذان نجيبان: شارل
بالي وألبير سشهاي، ولقد أدركا أهمية ما كان يقوله في محاضراته، فقرّرا أن يقوما بنشرها،
ولكن كيف؟ فالمحاضرة الواحدة ليست واحدة عند التدقيق، والمحاضر الجيّد يعرف كيف يغيّر
المحاضرة الواحدة من سنة الى سنة، لا يعتبر ما بين يديه ثابتا غير قابل للتغيير، فهو
سيّد اوراقه، تكون أوراقه معالم للفكرة لا كلّ الفكرة. فالكاتب يعرف أنّ ما يكتبه لا
يأخذ شكله النهائيّ إلاّ بصورة مؤقتة، فمع كلّ عودة الى المكتوب يغريك القلم بالتعديل،
وهذا ما تقوله وما كانت تقوله المسوّدات، والمسوّدات غنيّة، ذات قيمة نادرة، أشبه
ما تكون بصور ايكوغرافية لأجنّة الكتب! وفي الدول الحضارية يعرفون قيمة المسوّدات،
يحتفظون بها في المكتبات الوطنيّة ليعود اليها من يريد درس هذا الكاتب أو ذاك. ومن
يطّلع على مخطوطات بعض الكتب الفرنسية مثلاً كمسوّدات رواية فلوبير الشهيرة " مدام بوفاري" يعرف الرحلة
الشيقة التي قامت بها الجملة الواحدة من ذهن فلوبير الى أن صارت جملة حقيقية ونهائية
في الرواية، اللمسات الأخيرة حذف للمسات كثيرة في عالم النصوص. ماذا يختارون من كلماته؟
كيف يختارونها، كان وهو يملي محاضراته يرتجل فكرة او كلمة غير موجودة في النص، كيف
يستعيدون تلك الكلمات التي خرجت من شفتي دي سوسير ولكنها غير موجودة في الورق؟
جمع التلميذان أوراقهما التي كانا يسجلان عليها ما يسمعون،
وجمعا أيضا أوراق الطلاّب الآخرين، وراحوا يقارنون بين الأوراق لتوليد نصّ المحاضرات،
نصّ يكون أقرب إلى ما كان يريده دي سوسير.
وهكذا ولد الكتاب، وبولادته تغيّر مصير الدرس اللغويّ وانفتحت أمامه أبواب لم تكن من
هموم كثيرين من علماء اللغة، وانفتح باب على ضفاف علم اللغة هو علم السيمياء.
سأتناول، هنا، نقطة واحدة من كتابه، هي تشبيهه الكلمة
ببيدق من بيادق لعبة الشطرنج!
كان دي سوسير يحبّ استخدام التشبيه في دراسته العلمية
للغة، تشبيهات ترطّب الأجواء اللغوية الجافّة، وكان يراها على غرار فيلسوف المعنى
فيتغنشتاين لعبة. ولقد شبّه الكلمة بحجر في لعبة الشطرنج بغية توضيح معنى الكلمة في نفس القارىء.
فالكلمة من أشدّ الأمور عصيانا على التعريف رغم بساطتها الظاهرة. فلها أكثر من مائة تعريف، وكثرة
التعريفات تظهر صعوبة التعريف الجامع المانع. أين وجه الشبه بين الكلمة وحجر الشطرنج؟ فلنأخذ حجر
الحصان كما أخذه دي سوسير كمثال للتوضيح. ما هو المهمّ في الحصان؟ هل الأهمية في مادته؟
هل الأهمية في شكله؟ كان دي سوسير يريد الوصول إلى تبيان قيمة valeur الكلمة. هل قيمة الكلمة في قيمتها؟ ينظر إلى الحصان،
ويتساءل هل قيمة الحصان في مادته؟ أي هل قيمته في لعبة الشطرنج كونه من خشب أو ذهب
؟
هل تتغير اللعبة إذا تغيرت المادّة، وهل تتأثر اللعبة
بتغيّر المادة؟ هل يصير الحصان أمهر في الركض في حال كانت مادته من الذهب؟
اللعبة هي هي أيا كانت طبيعة المادّة، أليس كذلك؟ قد يتغير شيء لا علاقة له باللعبة،
فمن يلعب بالذهب ليس كمن يلعب بالخشب. هنا المسألة تلامس الطبقة الاجتماعية ( فقيرة
، غنية مثلا) ولكن لا تمسّ أصول اللعبة. الممنوع في حال كان بيدق الشطرنج خشباً لا
يصير مسموحاً في حال كان البيدق فضة أو حديدا. أليس كذلك؟
ثم يذهب دي سوسير إلى نقطة شكلية؟ هل تتغير قيمة الحصان
في حال لم يكن الحصان حصانا؟ لنفترض أن حجر الحصان قد ضاع، ولم يكن في متناول اليد
إلاّ سدّة تنكة عصير، وتمّ الاتفاق بين اللاعبين أن تكون هذه السدّة هي التي ستقوم
مقام الحصان، أو تسدّ مسدّه، هل تنهار اللعبة، هل تفقد اللعبة قدرتها؟ هل تتأفف الأحجار
الأخرى وتشعر بإهانة؟ هل تشعر اللعبة بأنّ كرامتها مرغّت على طاولة اللعب؟ تبقى اللعبة
هي هي، وتستمر اللعبة دون أن يُنتقص منها شيء. حال الحجر هو نفسه حال الكلمة.
أين قيمة الحجر؟ قيمته، كما نرى، لا هي في مادته ولا
هي في شكله. قيمة الحجر هي في علاقاته مع الاحجار الأخرى. قيمته هي بنت مكانه على رقعة
الشطرنج. يقول دي سوسير هكذا قيمة الكلمة، تأخذها من موقعها ومن علاقاتها مع الآخرين.
فاللغة ليست أكثر من علاقات. المعنى لا نأخذه فقط من الكلمات وإنما من شبكة
علاقاتها في الجملة، كما الحال في أمور كثيرة من أشياء هذا العالم حيث قيمتها الحقيقية
ليست بنت طينتها وانما بنت تلك العلاقات التي يسكبها المرء عليها فيمنحها قيمة جديدة
بل قل روحا جديدة تزوّدها بحياة متشبّعة ومتشعبّة.
بلال
عبد الهادي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق