يُحكى أنّ سمكتَين صغيرتَين جدّاً كانتا تسبحان فصادفتا في طريقهما سمكة كبيرةً وأكبر منهما سنّاً. فأشارت هذه الأخيرة برأسها، وقالت لهما: سلامٌ عليكما، كيف تجدان الماء هذا الصباح؟ تابعت السمكتان الصغيرتان طريقهما، وبعد لحظة قالت إحداهما للأخرى: ماذا كان المقصود بالماء؟ هل تعرفين؟ تُمثِّل هذه الحكاية وضع الناس في هذه الأيّام، وهي وإن كانت تنطبق على البيئة والاحتباس الحراري والطبيعة عموماً، فإنها تُصوّر كذلك حالَ البشريّة تجاه جانبٍ كبير من المعارف هو العلوم التي يُطلق عليها بحقّ أنّها "إنسانيّة". ذلك هو الموضوع الأساسي لكِتاب المفكّر الإيطالي نوتشيو أورديني "جدوى ما لا جدوى منه" (Nuccio Ordine, L’utilité de l’inutile, 2015) الذي يتناول فيه بُعداً إنسانياً غفل عنه الكثيرون وهو المعارف التي تبدو في بداية الأمر أنّها غير نافعة ولكنّها في الواقع أساسية في بناء الفكر وتحفيز الإبداعية عند الإنسان، هذا إذا لم نقل إنّ دورها كبير في بناء الهويّة وتكوين القيمة البشرية. يسود في عالمنا الحاضر مبدأ الربح والخسارة، كما تُهيمن في شبكات التواصل بين الناس والمؤسّسات فكرة الفائدة والمنتوج والتوسّع الاقتصادي. من ناحية أخرى، نرى أنّ الكثير من الدُّول والمؤسّسات الكبرى تذهب في هذا الاتّجاه نفسه، وتختصر من عدد المراكز والمنظّمات التي لا تؤدّي مباشرة إلى الربح الوفير، فتقفِل المتاحف وتُقلِّص من المساعدات التي كانت تقدِّمها لفنون المسرح والآداب كما المساعدات التي تقدّمها للجامعات التي تدرّس العلوم الإنسانية وللأبحاث التي تُخصَّص لها. ينتفض مؤلِّفُ "جدوى ما لا جدوى منه" ضدّ هذا الموقف المستجدّ في الحضارة البشرية، وذك بدراسة معظم المعارف التي يُقال عنها إنّها غير نفعية مثل الأدب والفلسفة والمتاحف والفنون. فالإنسان يكتسب مثل تلك المعارف لا من أجل الكسب أو الاستفادة المباشرة، بل بسبب اندفاع نفسي داخلي يشعر معه أنّه كلّما ازداد معرفة ازداد انتماءُ روحه إلى البُعد الإنساني السامي. يقول أورديني في مقدّمة كتابه "ليس من السهل إدراك جدوى ما لا جدوى منه، وخصوصاً إدراك انعدام الجدوى في ما يُعتقد أنّ الجدوى لا توجد إلّا فيه (كم من مواد الاستهلاك غير الضرورية للحياة البشرية أصبحت الآن تُباع بكثرة كما لو كانت مفيدة وأساسية؟). فمِن المؤسف أن نرى أناساً يجهلون ما يجري من تصحّر متزايد في عالَم الفكر ويكرّسون أنفسهم لاكتساب المال والسلطة فقط. وكم من المؤسف كذلك أن نرى في التلفزيون ووسائل الإعلام انتشارَ صورةٍ جديدة للنجاح تتجسّد في الشاب الذي يبني لنفسه إمبراطورية مالية". إنّ الفنون بفروعها الكثيرة من الأدب والشعر إلى الرسم والنحت والموسيقا، أساسيّة في حياة الإنسان لكونها الطّاقة التي تجري في جسم الإنسان وذهنه بطريقةٍ لا تُرى، وبحيث إنّها تذهب إلى أبعد ما تحتاجه الحياة البشرية. فهي على حدّ قول المؤلّف في جِبلّة الإنسان. يقول المؤلّف: "إنّ الإنسان المُعاصر عندما يتخلّى عمّا لا جدوى فيه وعن كلّ ما يوجد من خصوبة وغنى في ما لا جدوى منه، وإذا كرّس حياته للربح والتملّك، فإنّه لن يصل في نهاية الأمر إلّا إلى تكوين مجتمعٍ مريض لا ذاكرة له، مجتمع تائه لا يعرف معنى الحياة الفعلي ولا حتّى معنى واقعه الذي يعيشه". لقد عرف الفكر البشري منذ عهد قديمٍ هذا التناقض بين موقفَين هما فائدة التملّك ولا فائدة الفنون. فالفيلسوف اليوناني "أوفيد" قد انتفض في عهده ضدّ شهوة البحث عن الثراء، ويشرح كيف أنّ الشعر الذي "لا نفع فيه"، على حدّ قول بعضهم، هو الدواء الناجع ضدّ آلام وجودية الإنسان. أمّا المفكّر الفرنسي "مونتيني"، فإنّه يذهب إلى إعلان أنّ كلّ شيءٍ نافع وأنّه لا يوجد أي شيء لا جدوى منه. في حين أنّ الشاعر الألماني "غوتيه" يردّ على مَن يسأله عن فائدة الشعر بقوله: "بمَ ينفع الشعر؟ جدواه في أنّه جميل. ألا يكفي ذلك كما الأزهار والروائح العطرة والعصافير، وكما كلّ هذه الأشياء التي استفاد منها الإنسان وحوّلها لمنفعته الخاصّة. عموماً، ما أن يُصبح الشيء مفيداً يتوقّف عن أن يكون جميلاً". الواقع أنّ الفكر البشري يزخر بالمفكّرين والفلاسفة الذين أطلقوا صرخة مدوّية ضدّ النفعية والمادّية، وجاهدوا من أجل الاهتمام بالفنون والآداب والمعرفة التي لا تبغي إلّا نفسها. وإذا تفحّصنا مضامين الفصول التي يقدّمها أورديني في كتابه هذا، لرأينا أنّه يشرح شرحاً دقيقاً كلّ الأفكار التي تدخل في مجال الدعوة إلى تقييم جدوى ما يَعتقد عموم الناس أنّه لا جدوى منه، والتي تتوزَّع على مئات من السنين تمتدّ من العصور اليونانية القديمة إلى عصرنا هذا. وخير مثال على الجدوى الكبيرة في ما لا جدوى منه هو الحبّ والغرام. فإذا أحبّ المرء من أجل أن يمتلك يكون قد قتل الحب ونفاه. ذلك أنّ مَن يقع في الشغف يقدِّم نفسه لمجرّد الفرح في أن يفعل ذلك، وهو لا يطلب أيّ شيء في مقابل ذلك، فالحبّ الحقيقي كما يقول أورديني "هو علامة اللّقاء بين شخصَين يسير أحدهما باتّجاه الآخر، ولكنّه يسير بحرّية. فما يجمع بين هذين الكائنَين هو رابط لا يبغي الانتفاع، وهذا ما يُكوِّن قيمة الحبّ لذاته. إنّ هذا الرابط أقوى من كلّ منافع الفردية ومن كلّ أشكال الأنانية". ويضيف قائلاً: "إذا كان الحبّ والشغف حقيقيَّين فعلاً، فإنّهما في كلّ الحالات يفترضان المجّانية وعدم الاهتمام بالفائدة". وخير دليل على ذلك – بحسب أورديني – هو ما يقوله أحد المفكّرين اليابانيّين حول أوّل باقة من الزهور قدّمها الإنسان البدائي لمعشوقته: لقد تسامى بتلك الحركة الأولى وارتفع فوق الضرورات الطبيعية المباشرة، وبذلك أصبح إنساناً ومن البشر. فعندما أدرك كيفية استعمال ما لا جدوى منه استعمالاً مرهفاً، دخل في مملكة الفنون. من جهة أخرى، يخصِّص المؤلّف جزءاً كبيراً من كتابه لأمرَين اثنَين: أوّلهما ضرورة الأدب في هذا المجتمع الذي بات ينصرف إلى المنفعة المباشرة والسريعة وإلى التملّك والاستئثار بالسلطة. والأمر الثاني هو التعليم العالي والبحث الجامعي. فالمعارف في نظره هي التي تبني المجتمعات البشرية، أكانت تلك المعارف أدبيّة أم علميّة. وشرطها الأساسي أن تهدف إلى المعرفة في سبيل المعرفة ذاتها، أي في سبيل بناء الإنسان من الداخل، وليس في سبيل انتفاع الفرد ووصوله إلى مكانة مادّية أو ربحٍ سريع. ولا ينسى المؤلّف أهمّية تعلّم اللّغات في تطوير البُعد الإنساني عند المرء. فهو يركِّز على تعلّم اللّغات القديمة الذي يُعدّ عموماً مثالاً على بذل الجهد في سبيل لا شيء. فالمنطق النفعي يفترض أنّه لا حاجة لتعلّم اللّغات القديمة مثل اللّاتينية، نظراً لأنّها لا تساعد في شيء، لا في الحصول على وظيفة ولا في التواصل مع شركة أو مؤسّسة تبحث عن موظّفين تعيّنهم ليعملوا لديها. وإذا كان الناس في هذه الأيام يهرعون إلى تعلّم الإنكليزية، فذلك لأنّها السبيل الأقصر للتواصل "التافه"، ولأنّها مثل فتّاحة علب أو مفتاح يفتح السُّبل أمام الإثراء والتملّك. لكنّ تعلّم لغة قديمة من أجل الوصول إلى الفكر القديم والفنّ القديم أمرٌ "يغيّر حياة المرء" من الداخل ويفتح له باباً جديداً في التعرّف إلى البشرية والتسامي بإنسانيّته. على الإنسان المُعاصر إذاً أن يعي أنّ ما يعدّه الناس عموماً بلا فائدة ولا ضرورة له إنّما هو أساسي في حياة البشر ومن أجل أن يعيش الإنسان إنسانيّته، وأنّ التفاته إلى الفنون، والأدب، والشعر، والمعرفة العلمية التي لا تهدف إلى النفع المباشر يصونه ويحفظ حياته الداخلية والخارجية، تماماً كما على تلك السمكتَين الصغيرتَين أن تعيا أنّ الماء في حياتهما عنصر البقاء والاستمرار. أخيراً لا بدّ من ذكر أنّ الكِتاب الذي عرضناه في هذا المقال مُترجم إلى الفرنسية عن اللّغة الإيطالية. وصاحبه نوتشيو أورديني مفكرٌ إيطالي، وكاتب موسوعي، وأستاذ معروف يجوب العالَم ويلقي محاضراته في الجامعات الأوروبية والأميركية. كما يرأس عدّة سلاسل تنشر الكُتب الكلاسيكية والفكرية. وقد نشر عدداً كبيراً من الأعمال التي تُرجمت في معظمها إلى اللّغات العالمية (في الغرب كما في الشرق). *باحث لبناني وأستاذ جامعي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق