الأربعاء، 1 فبراير 2017

في متحف الشاعر فيكتور هيجو

عيون تسكنها الدهشة، تحدّق في نجم غير عادي، مجنّح، يطلع من شقوق القرميد ويهوّم بأضوائه فوق الدار ، والناس كأنهم خارجون ، للتوّ، من حلم ما زال بعضه عالقا في الاهداب. العيون نفسها، او في ذات الوقت، يخطفها مشهد اخر: غراب يفلت من أحد الشابيك ويفرّ بجناحيه المكسورين تجاه الحديقة المقابلة للدار. هذا ما تبادلته بعض الشفاه والعيون الباريسة ليلة افتتاح بيت فكتور هيغو  في 30 حزيران سنة 1903 ليصبح متحفا لاشيائه الخاصة.

 وكيف لا تنبت على شفاه الناس اسطورة يهدونها للشاعر الذي منحهم على مدى سنوات مديدة لغة المجاز والحقيقة والأساطير؟

فما هي قصّة البيت المتحف.

تغريك أسطورة النجم والغراب بالبحث عن جذورها. تتأبّط ما تعرفه عن الشاعر هوغو وتقصد البيت الذي سكنه من عام 1932 الى عام 1848، ستة عشر عاما، اطول مدة قضاها في بيت واحد، هي قلب عمره، بيت شهد ولادة "اصوات داخلية" وحضن بذور "البؤساء"، وبعض قصائد "التأملات" وغيرها. وفيه ايضا احسّ باوجاعه الذاتية. تبادل الافكار والاشعار مع كبار رجالات القرن التاسع عشر، لامارتين، شاتوبريان، دولاكروا، الفريد ده فينييه، بلزاك، الكسندر دوما، سانت بوف وآخرين. تحفظ عنوان البيت( 6 شارع فوج) او لا تحفظه، فلن تضيع. باريس لا تضيع اجساد الزائرين  او العابرين، وان كانت، في بعض الاحيان، تقضم اطراف الروح. تصل الى ساحة فوج حيث البيت/ الذكرى/ المتحق. تتملاّها قبل دخولك. تدلف الى حديقة الملك لويس الثالث عشر التي تتوسط الساحة. تلحظ اطفالا يلعبون، يمارسون طفولهتم في الرمل، والأراجيح، والمزالق. تتخيل اشياء من زمن مضى. فتاة الشاعر ليوبولدين، ربما، وهي تلعب كبقية الاطفال. ينشغل ذهنك بالحديقة والساحة. يدفعك الفضول الى ان تعرف فقرات من تاريخها. تتساءل وانت تنظر الى المقاعد الخشبية الخضراء المنثورة تحت شجر الزيزفون او الدردار، اي  مقعد كان مقعد هيجو؟ واي شيء اوحته اليه هذه الحديقة؟ تسرح، يصطدم نظرك بتمثال لويس الثالث عشر وهو على صهوة جواده. ملك في الجمهورية. جمهورية لا تغتال ماضيها ولا تمحوه. تعترف بكل شيء، تعيش مع اضدادها وباضدادها.

تنهض باتجاه باب الحديقة. تستوقفك لافتة هي تاريخ موجز عن الساحة. تقرأ انها بنيت بأمر ملكيّ من هنري الرابع في القرن السابع عشر هي وابنيتها المحيطة بها. سبعة وثلاثون مبنى من الحجر والآجر الاحمر. تقرأ انها كانت مركزا يتقاطر اليه المفكرون والنبلاء للسكن في اجنحته، ومنهم الكاردينال الداهية والخبيث ريشيليو، وفي احدى الغرف، فتحت الماركيزة ده سيفينييه عينيها على الدنيا. تخرج باحثا عن رقم بيت الشاعر، وانت في الطريق تلمح لوحة رخامية ، تدنو، تقرأ فيها، "هنا عاش الاديب تيوفيل غوتييه بين عامي 1828و1834" . تمشي في الاروقة الواطئة. تصل الى منزل فكتور هيجو الشاعر، تلج عتبة الباب الخشبي المدهون بالاخضر المعتم، فتشتري تذكرة دخول الى عالم آخر، وكأنك تدخل "آلة الزمن" التي تخيّلها الكاتب ذو الخيال المجنح ويلز. الماضي هنا، يصير حاضرا نابضا. تدخل في بعض تفاصيل القرن التاسع عشر.لا تحس انك غريب، بينك وبين الشاعر، ربمان الفة. يبدأ مشوار او تجوال او ما شئت. عينك هي دليلك السياحي الى المتعة، وذاكرتك ايضا . ينتعش الشاعر في اعماقها. تحدق، عينك مشدوهة. اول ما يشدها واجهة زجاجية صغيرة معلقة في جدار فيها اشياء ليست للشاعر وليست منه، فما زلت في البداية. بينك وبين الشاعر درجات تصعدها، تقترب من الواجهة ترى" اوراق لعب" عليها صور الذين طلعوا من مخيلة هوجو، شخصيات مسرحية، او روائية باثوابها المزركشة او الرثة، ميداليات برونزية لوجه الشاعر. تتأمل الجدران. الجدران هنا تحكي، كلامها صور ورسومات، ملاحق قديمة من عصره، عن مسرحه، او قصصه . الزمن ترك بعض خدوشه على اطرافها. تخطو خطوة اخرى، واذا انت ازاء خزانة اخرى، يتسرب نظرك اليها حيث وجه الشاعر يملأ فضاءها من وقت ان كان طفلا الى ان ودع الفانية وداعا جسديا لا اكثر. او بالاحرى وداعا شكليا . ترى وجهه محارق تبغ عاجية في  غلايين، على ورقة نقدية، في تماثيل خشبية، او برونزية، وقد يطلع وجهه من تقويم سنوي صادر عام افتتاح المتحف، فلا تقلّب وانت تقلّب بالنظر اوراق عام بل تقلّب وجوها متعددة لشخص واحد هو هوجو.

عاداتك اليومية هنا تغير لان كل شيء هنا يستوقفك.فالجدران حبلى بالالوان واللوحات والاسماء. اناس خرجوا من ذهن هوجو، التقطهم من العيش المغفل، المطحون، فاذا هم  من لحم ودم يتجولون في الورق، في ورقه الذي اسكنهم فيه، ثم ضبطتهم ريش رسامين مهرة من امثال برغوستان، سيموردان، غوفان وغيرهم.

لا مفر لك ، هنا، من الالوان، قرن كامل تقرينا بالالوان في زمن كانت الكاميرا لا تمنحك غير الابيض والاسود.

تتابع سيرك، تنتبه الى صورة حزينة، صورة جانبية لوجه الشاعر وهو ممدد فوق سريره، مغمض العينين، شعره الاشيب ولحيته الكثة البيضاء، صوّرها نادار لبابا نويل الشعر كمااطلق عليه البعض. تصل الى الطابق الاول فيشد بصرك بساط ارجواني على مساحة جدار الدار اهداه للشاعر الملازم ايبل وهو مأخوذ من الجزائر عام نزول الفرنسيين فيها، بساط موشى ببعض الاحرف العربية شبه الممحوّة.

تدخل الطابق الاول، تبحث عن هيجو، وعن اشيائه الخاصة، لا تراه بل ترى فعله في الاخرين، أثره، ووحيه. لوحات من وحي ابطاله وبؤسهم، جان فالجان وهو يتعشى عند الاسقف مريال، او الاحدب بوجهه المشوّه والطيّب او الفتى غافروش . تتوه في الاشياء والاسماء، تدنو من منضدة عالية قليلا فترى اشياء من ايام واترلو، اربع رصاصات التقطها هوجو من ارض المعركة. حدوة حصان صدئة ومهترئة، بعض الزهرات اقتطفها الشاعر من هناك، من ارض  الهزيمة، جافة فقدت بريقها ورائحتها، ولكنها ما زالت تقبض على بعض الوانها.

تخرج من قاعة لتدخل الى اخرى. قاعة مخصصة لبعض الهدايا التي وصلت الشاعر . مسدسان بقبضتين عاجيتين، عصا من رئيس المكسيك خواريز بينيتو، وصور كثيرة من ادباء ذلك العصر، مع اهداءاتهم وتوقيعاتهم: الكسندر ديما، الاديبة الفاتنة جورج صاند، ولكن ما يدهشك حقا، وسط اشياء كثيرة، وما يخرج الشاعر حيا او كالحي بين يديك هو علبة خشبية صغيرة ذات غطاء زجاجي تحوي اربع خصلات شعر من اثره الجسدي، تنتمى الى اربع سنوات او اوقات متفرقة من عمره، الخصلة الاولى تعود الى عام 1835، وهي كستنائية اللون، والخصلة الاخيرة الى عام 1885 اي الى عام وفاته وكانها مسروقة من الموت، بيضاء تميل الى اللون الفضي, زمن يتغير بين عينيك كما يتغير لون الخصل الاربع.

ترجع من حيث دخلت لتصعد الى الطابق الثاني. تمشي على مهل وعيناك تتقرّى الالوان. تتأمّل لوحة رسمها رافيالي في عيد ميلاد الشاعر الثمانين وهو يطل من شباك بيته الذي كان يسكنه في جادة فكتور هيجو الحالية( جادة ايلوو قديما)والناس محتشدون في الطرق بالبستهم المتعددة الالوان وقبعاتهم السوداء، واطفال يحملون اعلاما فرنسية وهم يهتفون "يعيش هوجو". تتابع الطريق او الرحلة. بين كل خطوة وخطوة لحظة تأمّل. تلفت نظرك منحوتة من معجون زجاجي ملون يتوسطها حصان ابيض مجنح كما في الاساطير وعلى صهوته الشاعر.

حياة الشاعر في بيته هذا ليست افراحا كلّها، في هذا البيت انكسرت روحه اكثر من مرة، الانكسار الاول غرق ابنته ليوبولدين، والانكسار الثاني وفاة نجله شارل.  آثار الحزن في وجهه منثورة فوق الجدران.

تصل الى الطابق الثاني الذي كان يسكنه الشاعر. في المدخل، باب خزانة ضخم لاصق بالجدار، ورسم لـ"امعاء باريس" كما قال هيجو، ويقصد انفاق المجاري، بريشته هو رسمها، ربما كنت نسيت انه كان يرسم، يستمد حبر الرسم، كما قال ، من خليط عجيب غريب: رماد، طحين، رصاص، فحم، شحّار. والورقة  التي تتحول الى لوحة او منمنمة قد تكون مغلف رسالة، او بطاقة دعوة، او حزام جريدة، او تذكرة مسرح، وقد تسقط وهو يكتب نقطة حبر على الورقة فيحولها الى رسمة، او قد يكون يرشف فنجان قهوة فيهتزّ الفنجان بين يديه وتقع نقطة فيتناول طرف قلم قديم او سكينا وحين لا يجد شيئا  في متناول يده يرسم باظفره ولقد قال مرة لبودلير:"اتسلى، بين مقطعي شعر، بالرسم" وما اكثر  الاوقات التي كانت فيها الرسمة اشبه بفاصلة أو علامة ترقيم بين طرفي جملة. كل شيء يطلع من يديه. يرسم ما تراه عينه هو لا ما تراه عيون الاخرين. فينسكب في الورق: وجه، عصفور، موجة، عاصفة، مهرّج، او اشياء اخرى يستمدها من ذكرياته. اصابعه كانت تشبه في بعض الاحيان، عدسة كاميرا ولكنها  تلقط الاشياء كما يريدها هو. لوحات فنية، جميلة، رومانسية احيانا، ولكنها تصل في لحظات الى حدود الرسم السوريالي، بل اعتبره البعض الاب الروحي للسوريالية.

من الخليط العجيب رسم مرة زهرة سماها" زهرة هوجو" هي عبارة عن تركيب طريف من ازهار البنفسج والاقحوان والياسمين وزهرة اللؤلؤ. الم يقل انه يرسم ما تراه عينه و ما يراه ذهنه؟

في الطابق الثاني اشياء كثيرة تفتنك، اشياء بسيطة جدا، مثل قطعة الورق الملون من جدار غرفته التي سمعت صرخته الاولى في "بيزنسون"، وترى تمثاله النصفي الرخامي الذي نحته "دانجير" ولوحات عائلية: الاب، الام، الاخ، الجدن الجدة، الحماة. عمل صديقه بول موريس وحفيده جورج وحفيدته جان على لملمتها من الاصحاب وذوي القربى وزرعها شجرة عائلية ملونة، ثم تدلف الى "القاعة الحمراء" جدرانها نسيج ارجواني. هنا، ترى زوجته ادال، تتعرف عليها من خلال رسوماتها، رسم ليوبولدين وهي مسترخية على كنبة، وفي يدها كتاب، رسوم  اولادها الاخرين، ولكن ما يدهشك هو "القاعة الصينية" لا تعرف من اين طلعت؟ امن خيال الشاعر ام من خيال عاشق للشرق وزخارفه؟ كل شيء من يد هيجو العاشق لجولييت درويه هنا. ابتدات قصة حبه للممثلة التي قال فيها:"في 26 شباط 1802 جئت الى الحياة، وفي 17 شباط 1833 ( ولادة حبه) الى السعادة.. والحبّ هو اكثر من مجرد حياة". وهذه القاعة هي، في الاصل، غرفة طعام صممها هيجو لحبيبته في بيتها في "غيرنيزي". صحون متناثرة في الجدران. رسومات لوجوه صينية، الوان زاهية، خشب جوز محفور وفق مشيئة اصابعه. فيتبدى لك وجه من وجوه الشاعر فاذا هو حفار، مصمم ديكورات، مهنته النقش في الخشب كما في عجائن الشعر.

تنتهي بك القاعة الصينية الى اثاث صالون الشاعر حيث كان يجتمع بشعراء عصره ويدندن الشعر ويبدع ابطاله ربّما.

ثم تدخل الى قاعة الصور، صور هيجو وهو في منفاه بعدسة ابنه شارل، وفي ركن من اركان القاعة منحوتة رودان وهي تمثال من برونز ذي لون اخضر، وكأن وجه الشاعر محفور في قطعة زمرّد. اكثر الرسامين والنحاتين كانوا يتبركون برسم وجهه. قرب الشباك طاولة من خشب الجوز، معتقة كتب عليها الشاعر "اسطورة العصور" تدنو منها تتحسّسها بيديك، وكانك تتحسّس بشرة شاعر لم يمت بعد.

الغرفة الاخيرة من المتحف كانت، في الاصل، مكتبه ومكان إقامة كتبه. جدرانها مكسوة بالمخمل ذي اللون النبيذي مسقوفة بسجادة متعددة الالوان ، مزنرة بمخمل اخضر، وعلى مقربة من الشباك  مكتبه العالي، حيث كان يكتب، واقفا، وكانه يخطب، فوق المكتب محبرة وريشة اوزة.

وفي عمق الغرفة، سريره المغطى بشرشف من حرير عنابي اللون. سريره الذي يحتفظ، وحده، بانفاسه الاخيرة.

تكون مستغرقا في الاشياء فتوقظك ساعة المنبه الموجودة في الغرفة  بتكتكاتها الرتيبة المتواصلة، رحل الشاعر،  تقول، اشياؤة بقيت وان تغيرت امكنتها، والزمن لا يني يتكتك، تتساءل: اي زمن هذا الذي أنا فيه ؟ أتراني لا أزال تعيش في زمن هيجو.

ينتهي تجوالك في البيت ولكنك لا تنتهي من سماع صدى المنبّه الذي كان يوقظ الشاعر،  فيقفز الى شفتيك سؤال اخير: أنبض الزمن هذا أم نبض قلب الشاعر الذي لا يزال يخفق؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق