الجمعة، 17 فبراير 2017

مقال ل أحمد فرحات عن احوال اللغة العربية في الصين


أحمد فرحات  العلاقات العربية – الصينية قديمة قدم التاريخ نفسه، المروي منه والمكتوب. إنها تعود الى ما قبل ظهور الإسلام، حيث كان التجّار العرب، هم أول من بادر إلى إنشاء هذه العلاقة، وبنائها بناءً شبه محكم، لأجل إنجاح تجارتهم عبر البحار، وكسب ثقة تجار الأسواق الصينية وناسها، عاماً بعد عام.  وبدورهم كان التجّار الصينيّون يتركون موانئهم أيضاً، لتصل سفنهم التجارية إلى موانئ البحار العربية، محمّلةً بالخزف الصيني، والقيشاني، وبالحرير، خيوطاً ونسيجاً، وكذلك بالفضة والذهب، واليشم.. علاوة على صنوف كثيرة من الأدوية الصينيّة، العشبية منها، وغير العشبية إلخ… لتعود إلى بلادها، محمّلة بالخيول العربية، واللبان، والبخور العربي والإفريقي، والعاج، والتمور، وبعض المنسوجات القطنية، وغيرها من البضائع، التي تفتقدها الأسواق الصينيّة.  ويذكر المسعودي في "مروج الذهب" أن سفن الصين، كانت تصل قبل الإسلام إلى مدينة الحيرة، على نهر الفرات في العراق، وهي عاصمة المناذرة الموالين للفرس. ويذكر ابن عبد ربه في "العقد الفريد"، أن النعمان بن المنذر، ملك الحيرة، رأى في إيوان كسرى وفداً من الصين.  وبعد ظهور الإسلام، وبحسب مراجع تاريخية صينيّة، فإن أول بعثة أرسلت من الجانب العربي- الإسلامي إلى الصين، كانت في العام 651 ميلادية، أي في عهد الخليفة عثمان بن عفّان، وكانت طبيعة البعثة، دينية، تدعو حكّام الصين للدخول في الدين الحنيف، وأن الذي حمل الدعوة المذكورة وقتها، هو سعد بن أبي وقاص. وتلت هذه البعثة، بعثات عديدة منذ مئات السنين.  هكذا إذن، مع التجار العرب، قبل الإسلام وبعده، استمرت العلاقات العربية- الصينيّة، وتقوّت تجارياً وثقافياً، بخاصة بعدما استقر عدد كبير من التجّار العرب المسلمين في الصين، وتزاوجوا، وأنجبوا أجيالاً صينيّة مسلمة، وصل تعدادها إلى ما يزيد على الثلاثين مليون مسلم اليوم.  وفي زمن أسرة يوان ( 1264- 1368)، أخضع المغول الصين كلها تحت سلطتهم القوية، فقامت جيوش جرارة منهم بحملاتٍ متوالية على غرب آسيا، وأسرت أعداداً كبيرة من الجنود، والمثقفين، والفنّيين المهرة المسلمين، وعادت بهم إلى الصين، فأقاموا في البلاد متفرقين في مختلف أنحائها. ومن خلال هؤلاء المسلمين، وغيرهم ممّن سبقهم من تجّار عرب مسلمين، بدأ دخول اللغة العربية، وانتشارها، وتعلمها بالضرورة، باعتبارها لغة الإسلام والقرآن الكريم.  ومع حكم أسرة تانغ الصينية (618- 907) ازدهر أكثر تعليم العربية في الصين، وبخاصة من خلال المساجد، التي تحوّلت إلى مراكز، أو معاهد لتعليم لغة الضاد، يدرّسها، بالإضافة إلى رجال الدين المسلمين، كلّ من تضلّع من هذه اللغة، التي يعتبرها البرفسور تشو وي ليه (أستاذ الدراسات الدولية في جامعة شانغهاي والخبير بالعلاقات العربيّة – الصينيّة) "من أجمل لغات العالم، وإنني سعيد بأنّني تعلّمت هذه اللغة الجميلة، وأبحرت في كنوز آدابها القديمة والحديثة، وأعجبت كثيراً بأشكال حروفها، و إيقاعات ألفاظها".  روّاد العربية في الصين  من جهة أخرى، يعتبر شوي تشينغ قوه، وهو أستاذ، وباحث، في كلية اللغة العربية في "جامعة الدراسات الأجنبية في بكين"، أحد أبرز المهتمين بتاريخ لغة الضاد في بلاد الصين، بوجهيه القديم والحديث، وله العديد من الدراسات في هذا المضمار اللساني. وقد قرأ له كاتب هذه السطور أكثر من دراسة في أحوال اللغة العربية، وخصوصاً في الصين الحديثة، نعرف من إحداها، أن اللغة العربية، لم تدخل المدارس الصينيّة، إلا في أوائل القرن العشرين، متزامنةً مع حركة الثقافة الجديدة، التي اجتاحت البلاد كلّها، فأنشئ العديد من المدارس الابتدائية والثانوية الإسلامية في المناطق المأهولة بالمسلمين، وفي بعض المدن الكبرى، مثل بكين وشانغهاي، تدرَّس مواد ثقافية وعلمية باللغتين: الصينية والعربية في وقت واحد. والجدير ذكره إن هذه المدارس قد خرّجت عدداً من رواد اللغة العربية في الصين، أمثال عبد الرحمن ناجون، ومحمد مكين، اللذين سافرا إلى جامعة الأزهر في مصر، لمواصلة دراستهما بعد تخرجهما من المدارس الثانوية الإسلامية، ثم عادا إلى الصين لنشر اللغة العربية والثقافة العربية – الإسلامية في جامعاتها.  وبدأ تعليم اللغة العربية في الجامعة الصينية في العام 1943 م. عندما عُيّن الأستاذ عبد الرحمن ناجون، بعد تخرجه من جامعة الأزهر، حاملاً شهادة "العالمية"، أستاذاً في الجامعة المركزية (جامعة نانكينج اليوم)، فألقى دروس اللغة العربية على الطلاب كمادة اختيارية، مستخدماً الكتب المنهجية، التي ألّفها بنفسه. كما ألقى محاضرات حول التاريخ العربي، والثقافة العربية الإسلامية، في نطاق برنامج الجامعة.  وفي العام 1946، أنشئ تخصّص اللغة العربية للمرّة الأولى في الجامعة الصينية، حيث استقدمت جامعة بكين، الأستاذ محمد مكين، زميل عبد الرحمن ناجون الأزهري، لإنشاء شعبة اللغة العربية في قسم اللغات الشرقية في الجامعة، وقبلت دفعات أولى من الشبّان الصينيّين (من مسلمين وغير مسلمين) لدراسة اللغة العربية كتخصّص. وقد صار هؤلاء الطلاب بعد تخرجهم كوادر، وعلماء، أو أساتذة، وأسهموا إسهاماً كبيراً في إقامة العلاقات بين الصين الجديدة والدول العربية، وفي تعريف الصينيّين بالثقافة العربية- الإسلامية.  وبعد تأسيس جمهورية الصين الشعبية في العام 1949، وبالتوازي مع تطوّر العلاقات بين الصين الشعبية والدول العربية، أنشأت الحكومة، تخصّص اللغة العربية في جامعات ومعاهد عدّة، منها معهد الشؤون الديبلوماسية، وجامعة الاقتصاد والتجارة الخارجية، وجامعة الدراسات الأجنبية في بكين، والمعهد العسكري للّغات الأجنبية في لويانغ، ومعهد العلوم الإسلامية الصيني، وجامعة الدراسات الدولية في شانغهاي، ومعهد اللغات في بكين، والمعهد الثاني للّغات الأجنبية في بكين. وقد أعدَت هذه الجامعات والمعاهد، آلافاً من الأكفّاء، الذين يعملون في مجالات مختلفة، ويسهمون في تطوير العلاقات الصينية – العربية، ومنهم وزراء، وسفراء، وجنرالات، وأساتذة، ومدراء شركات، وإعلاميون ورجال دين إلخ..  ومنذ تسعينيّات القرن العشرين، ومع تطوّر الاقتصاد الصيني، وزيادة الانفتاح على العالم الخارجي، كثر التبادل الاقتصادي والتجاري بين المناطق الصينيّة المختلفة والدول العربية، فبدأت بعض المقاطعات الصينيّة تهتم بإعداد مترجمين للّغة العربية. ونتيجة لذلك، تمّ إنشاء قسم تخصّص اللغة العربية في خمس جامعات إقليمية، ومعظمها في المناطق الواقعة غرب الصين، حيث يتكثّف وجود القوميات المسلمة.  ولا بدّ من التنويه هنا، أن فرص التوظيف لطلاب اللغة العربية في الصين، تعتبر جيّدة بشكل عام، ولاسيّما في بعض الجامعات المهمّة، نظراً للعلاقات الطيّبة، والتبادلات المكثّفة بين الصين والدول العربية في مختلف المجالات في الوقت الراهن.  ومن أجل ضمان ورفع نوعية التعليم، كوّنت وزارة التربية والتعليم الصينيّة لجاناً مختلفة، لتوجيه وتقييم أعمال التدريس في الجامعات، ومنها "اللجنة الوطنية لتوجيه تدريس اللغات الأجنبية في الجامعات"، وتتبع لهذه اللجنة، "فرقة اللغة العربية"، التي تقوم بتنسيق وتوجيه تعليم العربية في الجامعات. وتحت إشراف وتنظيم هذه "الفرقة"، شاركت مجموعة من الأساتذة المتمكّنين في جامعات عدّة، في تأليف "منهج تعليم اللغة العربية في الجامعات الصينية"، الذي صدر في العام 1991.  كما تمّ إنشاء "مجمع اللغة العربية في الصين للتعليم والدراسات" في العام 1985، والذي انضمّت إليه مختلف الجامعات، التي تدرّس اللغة العربية. وينظّم المجمع سنوياً فعاليات متعلقة بتعليم اللغة العربية، كعقد دورات، وندوات علمية، وإقامة مسابقات الخطابة، أو الإنشاء، أو الترجمة، أو العرض الفنّي بين طلبة الجامعات.  المساعدات العربيّة  وبيَن البرفسور شوي تشينغ قوه، أن قضية اللغة العربية في الصين، حظيت بمساعدات عربية كبيرة. فمنذ تأسيس الصين الجديدة، أوفدت الدول العربية خبراء وأساتذة، ومدرّسين إلى الصين، لإلقاء الدروس العربية، أو مشاركة الزملاء الصينيّين في تأليف القواميس، والكتب المنهجية، أو إجراء التنقيح اللغوي على أعمال المترجمين الصينيّين. وكان من بين هؤلاء الموفدين، أسماء أدبية لامعة كالروائي السوري الشهير حنا مينه، والشاعرين السوريّين: عبد المعين الملوحي، وسلامة عبيد، والمفكّر الفلسفي العراقي هادي العلوي، والمترجم الفلسطيني محمد نمر عبد الكريم.  وساعدت "المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم" على تنظيم دورتين تدريبيّتين لأساتذة اللغة العربية، غير الناطقين بها، من جامعات آسيا في بكين. كما وقّع العديد من الجامعات العربية اتفاقيات حول التبادل الأكاديمي مع نظيراتها الصينيّة.  وفي السنوات الأخيرة، لقي تعليم اللغة العربية في الصين اهتماماً متزايداً من طرف البلدان، والحكومات، والهيئات العربيّة. فقد تبرّع الراحل، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، الرئيس السابق لدولة الإمارات العربية المتّحدة، بمنحة لبناء "مركز الإمارات لتدريس اللغة العربية والدراسات العربية- الإسلامية" في جامعة الدراسات الأجنبية في بكين، وهو عبارة عن بناءٍ ذي خمسة طوابق، بكامل تجهيزاته اللازمة، ومكتبة عربية.  وأهدت المملكة العربية السعودية معملاً لغوياً إلى جامعة بكين. كما ساعدت في إنشاء "صندوق محمد مكين للدراسات الإسلامية" فيها. وتبرّعت غرفة التجارة والصناعة في دبي، لإنشاء "صندوق دبي- شانغهاي لتعليم اللغة العربية" في جامعة الدراسات الدولية في شانغهاي.  كما أهدت حكومة مصر إلى "معهد الدراسات الشرق الأوسطية" في الجامعة، مكتبة تحمل اسم سوزان مبارك، تضمّ آلاف الكتب العربيّة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق