في كتاب جان ماري بيلت "اللغة السرّيّة في الطبيعة،
الاتصال لدى الحيوان والنبات" الذي نقله إلى العربية فارس غصوب وأصدرت ترجمته
دار الفارابي، في بيروت، عبارات لم تألف الأذن سماعها إلا إذا كانت تتناول الكلام
عن البشر، ولكن ان تكون كلمات وعبارات تتناول حياة الحيوانات والنباتات فهذا أمر
مدهش حقّا.
ففي الكتاب مجموعة من الحقائق العلمية ولكن القارىء يظنّ،
لفرط غرابتها، انه يفلفش في أوراق الأساطير. يقفز أمام ناظريك كلام عن أشجار تتعذب
نفسيا، أو عن نباتات تقيم الخطط الدفاعية وكأنها أمام معركة عسكرية فعلية صاخبة،
وعن أشجار دبّ في جذوعها وأغصانها الرعب، أو ان يتناول نوعا من النبات يمرّ بفترات
كآبة، أو شجرات ماكرة وذكية كالشجرات المعرّشة، الذي يقول الكاتب ان نسبة الذكاء
عندها أعلى من نسبة الذكاء لدى النباتات التي لا تمارس هواية التعريش على الجدران
العالية. ويفصل القول عن حشرات تحبّ المقايضة أو تمارس الغشّ والخداع كي لا تقع
فريسة نبتة شرسة وغيرها من التعابير التي تحيل قراءتك لهذا الكتاب نزهة فاتنة في تضاعيف
الطبيعة الناطقة والصامتة. الصامتة مجازا، بكل تأكيد، لأنه فيما يبدو وبفضل التقدّم
العلمي يتيبن للقارىء، بدعائم علمية وتجارب حقيقية من قبل متخصصين ومتابعين بشغف
علميّ نبيل، ان البيان ليس وقفا على الإنسان إلا من الناحية "الإبداعية"
بحسب المفهوم الذي وضعه عالم اللغة الأمريكي تشومسكي. وأما ما دون ذلك، فلا ينقص
الحيوانات والنباتات شيء لأن تتواصل وتحكي، وتبعث برسائل عطرية أو لونيّة أو
كيميائية، متعددة الدلالات، منها رسائل واضحة، وأخرى لا تخلو من بعض الغموض المتعمّد،
لأنها نباتات أو حيوانات حذرة تخاف ان ينكشف أمرها للغرباء وقطّاع الطرق.
ولا تستغرب، وأنت تغوص في كلمات الكتاب، مفهوم الثأر
والانتقام عند النباتات أو عند الحيوانات على السواء. لعل المرء اعتاد على تصرف
بعض الحيوانات لا سيّما الداجنة، إلا ان عالم النبات والأشجار لا يخلو من طرافة
يرويها الكاتب بحذق وافتتان، فثمة الشجرة التي تنتقم من قاتليها أو تثأر بطرق
عجيبة غريبة لا تخطر على بال مخلوق بشري. تجارب كثيرة يقوم بها العلماء في إفريقيا
والولايات المتحدة حول أفعال الأشجار أو ردود أفعالها حين يداهمها خطر نهوم يأتيها
من أفواه الأبقار أو الظباء أو غيرها من الحيوانات أو الحشرات التي تلتهم أوراق الأغصان،
والطريف انه ما ان تتعرض نبتة ما للخطر حتى تقوم بإرسال رسائل مشفرة إلى زميلاتها
في الحقل لأخذ الحيطة والحذر، أي ان التعاضد الاجتماعي يبدو بين النباتات أحيانا أمتن
مما هو عليه الحال بين البشر، ومن أساليب الدفاع عن النفس أو عن الأوراق الخضراء
رفع نسبة السمّ في الأوراق بحيث ان التهامها يعرض الآكل للتسمّم. والنباتات تتواصل
فيما بينها كما يقول الكاتب بأساليب متعددة منها على سبيل المثال إرسال غاز الـ"أتيلين".ومن
التجارب الطريفة التي يرويها الكاتب تلك التي تتناول أشجار حور فتية لا يتجاوز عمرها الأربعة اشهر
حيث قام كلّ من " بلدوين" و"شولتز"، وهما من علماء النبات ، بتمزيق
ورقتين من كلّ شجرة ، فما كان من الأوراق الأخرى التي لم تصب بأذى إلا ان ضاعفت من
نسبة الدباغ، في حين أن أوراق الأشجار التي لم تتعرض إلى أي نوع من الأذى ارتفعت
إلى حوالي 60%. ولم تستطع الأوراق السليمة من تغيير نسبة الدباغ إلا بفضل الرسالة
التي بعثتها الورقة المجروحة. ويقول الكاتب ان بعض الألاعيب النباتية تقوم على
بناء تحالفات بينها وبين الحشرات، وهي تحالفات شبيهة بتلك التي يبنيها البشر
تطبيقا للمثل القائل" عدو عدوي صديقي". وهذا ما تقوم به شتلات الذرة.إذ
ما إن تتعرض لهجوم من بعض الحشرات حتى تقوم بإفراز مزيج معين وظيفته جذب الزنابير،
وهي عدو لدود للحشرات الطفيلية، وهكذا تكون شتلة الذرة قد طلبت النجدة من عدوّ
عدوها، وهذا ما تفعله أيضا الحيوانات البرية أو البحرية ومنها سمك يعرف باسم الفيرون
فما إن تجرح سمكة من سمكات "الفيرون" اثر هجوم مباغت من عدو حتى يتحول
الجرح إلى رسالة، لانّه يفرز رائحة محددة، وما ان تصل الرسالة إلى أنوف سمكات"
الفيرون "حتى تبدأ بالهروب والغوص أعمق وأعمق في الماء.
ولا يخلو الكتاب في بعض ألاماكن من مقارنات بين الإنسان
وبقية المخلوقات من ناحية استخدام الحواسّ من حيث هي أبواب أو جسور للتواصل، وكيف
ان الإنسان، بدأ يدمر الطبيعيّ فيه، ولعل أكثر الحواس التي تعاني من الظلم هي حاسّة
الشمّ، فهذه الحاسّة تتناقص فعاليتها بحدّة
لدى الإنسان، والروائح بدأت تتحول من الطبيعيّ إلى الثقافي، ويستشهد الكاتب بـ"هيمرمان"
مؤلف"علم النفس الاجتماعي للعطور" ويتكلم فيه عن الروائح ونسبية
دلالاتها، وكيف أنها تتغير دلاليّا من شخص إلى آخر ومن ثقافة إلى أخرى، فالأوروبيّ
على سبيل المثال يعتبر ان الأسود يبعث برائحة لاذعة ولكن الطريف في الأمر ان الأسود،
بدوره، يعتبر ان الأوروبي يبعث رائحة فاقدة اللذة بل رائحة اقرب إلى رائحة الجيف.
ويتناول التواصل عبر الروائح عند الأطفال وكيف ان التواصل الشمّي الطبيعي آخذ في
الانحسار عند الإنسان بسبب طبيعة الحياة التي تفصله عن الطبيعيّ، وتورطه أكثر
وأكثر في الاصطناعي أو الإسمنتي والزجاجي وغيرها من مواد امتصاص الروائح، ويحكي
الكاتب عن تجربة قامت بها بعض مستشفيات التوليد في الولايات المتحدة لمعرفة صلة
الطفل برائحة أمه، فالأطفال يعرفون أمهاتهم من روائحهن الطبيعية ولكن ما ان اغتسلن
واستخدمن العطور والصابون حتى فشل الأطفال في التعرف إليهنّ.
وللكاتب ملحوظة لا تخلو من دلالات، عن تماهي الإنسان مع
النبات من خلال استخراج أغلب العطور من النباتات محمّلا إياها أغلب الأحيان
الوظائف التي تحملها عادة في الطبيعة لوظيفة إغرائية، أو إغوائية، كما تفعل
النباتات تماما حيث يلعب العطر دورا جنسيا في عالم النبات وفي عالم الحيوان على
السواء. ويكفي قراءة أسماء أغلب العطور المصنوعة لتفهم دلالاتها المشابهة لدورها
الطبيعيّ، فمن العطور ما يحمل أسماء "ليل الحب" أو"حب" أو
شغف" وغيرها من الكلمات والتسميات الموحية. ولكن الكاتب يشير إلى ان للرائحة
دورا آخر لا سيما في ما يتعلق بالذاكرة فهي دعامة للذاكرة، تمنعها من التصدع مع
العمر،ويلمح إلى الكتاب الذين تناولوا علاقة الإنسان بالروائح والذاكرة أمثال
شاتوبريان ومو باسان وبودلير، ويشير الكاتب إلى أن إعادة زرع الأشجار في المدن مسألة على قدر كبير من الذكاء لأنها بمثابة
تمتين لحاسة الشم ومن ثم للذاكرة فضلا عن دورها التنظيفيّ. ويعتبر ان هذه النباتات
عبارة عن حبل سرّي يعيد ربطنا بالطبيعة، بل ان الكاتب مهموم أيضا بالبيئة والإنسان
على السواء فينهي فصلا من فصول كتابه بالقول "إذا كان علينا ان نختار بين
شجرة الكستناء والكمبيوتر فيتوجب علينا ان نحافظ على شجرة الكستناء".
وحين يتكلّم الكاتب عن نفسيّة الأزهار تستغرب أمورا
كثيرة ليس لأنها باطلة أو لا أساس لها من الصحّة وإنما لأنّه، بكل بساطة، لم يدخل
في روعك ان النبات يمكن ان يخاف بل ترتجف أوراقه من الخوف كأيّ كائن حيّ في هذا
العالم المدهش. ويقول إن الأشجار الأقزام المعروفة في اليابان لم تكن قزمة ولكن الرعب،
على امتداد القرون أدّى بها إلى ان تتوقف عن النموّ الطبيعيّ، فتحوّلت إلى أقزام،
ويقول ان هذه المسألة أوضحها علماء أمثال"تورجون" و"ويب"
و"سيلفيرا" وهم من علماء النبات. واللمس الكثير يزعج بعض أنواع النبات،
لأنه حسّاس جدّا تجاه اللمس. ومن هنا تتقوقع بعض النباتات وتنطوي على نفسها بمجرّد
لمسها، أي كما في الحياة البشرية أناس انطوائيون كذلك في الطبيعة نباتات انطوائية.والنباتات
تملك ذاكرة، يقول الكاتب، إلا أننا لا نزال في فترة التمتمات في هذا المجال، ولكن
التعمق في هذا العلم سوف يكشف عن ان النباتات تملك ذاكرة، تساعدها على التذكر
والتأقلم في محيطات جديدة. ويقول الكاتب ان على الإنسان ان يرفع قليلا الحاجز الذي
لم يكن بالإمكان اجتيازه سابقا ، والذي يفصل مملكة النبات عن مملكة الحيوان.
ويخصّص الكاتب فصلا عن نباتات تخالف المألوف، وكأنها نباتات
تثأر لبنات جنسها من أسنان الحيوانات وقرص الحشرات وغيرها، وهي النباتات المفترسة
التي تتغذى بالحشرات وكان اكتشاف هذا النوع من النباتات مادّة للتندّر وحياكة الأساطير،
ومن هذه الأساطير ما قيل عن وجود نباتات آكلة للحوم البشر، و بعض أفلام السينما
استثمرت هذه الوحشية النباتية الأسطورية، إلا ان ذلك يدخل في مجال علم النبات
الخيالي، ولكن الواقع يعترف بوجود نباتات لاحمة، وعددها يناهز الـ"530" نوعا،
وهي من النباتات التي افتتن بها وبأسرارها عالم البيولوجيا داروين.
ويتكلّم الكاتب في فصل لطيف عن "اليد الخضراء"،
أي تلك التي تبني علاقة خاصة مع النبات، ويحاول ان يميز ما هو أسطوري أو شعبيّ
متخيّل مما هو حقيقيّ، ويظهر ان مفهوم"
اليد الخضراء" عريق الحضور لدى كل الشعوب والحضارات.
والنباتات تحبّ الموسيقى، هذا ما يؤكده الدكتور سينغ
الذي يقول ان تعريض النبتة للموسيقى يُربي عطاءها، وحتى لا يقع الكاتب فريسة
التخمينات قام بتجارب موسيقية شخصية على النباتات استغرقت منه أربع سنوات. ولاحظ
الكاتب بعد تكرار التجارب ان سبع نبتات من أصل تسعٍ شهدت نموّا متسارعا، منها
الشعير والعدس، بل ان بعض النبتات اتجه نموها صوب المكان الذي تبث منه الموسيقى،
أي انها تعاملت مع الموسيقى كما تتعامل مع الضوء، ويقول الكاتب "ليس للنبات
ذوق ثابت للموسيقى" وذلك لأسباب بيو ـ كيميائية وذائقة النباتات الموسيقية
تتفاوت بتفاوت شخصيّة كلّ نبتة.وهناك مزارع اليوم كمزرعة" ماك كلورغ" في
فلوريدا، وهي تعتمد على الاتصال الصوتي مع المزروعات، وكان من نتيجة ذلك ان زاد
حجم البرتقال الموجود في المزرعة. وهذا ما يقوم به الهنود الحمر من قبيلة
"الهوبيس" في أريزونا، حيث يتحوّل موسم زرع الذرة عندهم إلى موسم غناء
في الحقول، لإطراب الذرة، ولكن هذه العادة، يقول المؤلف، بدأت بالتلاشي عند هذه الشعوب
البدائية.ويحكي عن تجربة في زراعة
البندورة قام بها الباحث ستيرنهايمر وكانت خلاصتها ان حبّات البندورة في البستان الذي
ينعم بالموسيقى كانت اكبر حجما وألذّ طعما
وأكثر عددا من تلك الموجودة في بستان آخر له الخصائص نفسها، واعتني بثمراته الاعتناء نفسه إلا انه كان محروما من الموسيقى، ، وقام "ستيرنهايمر" بتوثيق عمله
فوتوغرافياً.
كما أن الإنسان انتبه إلى الدور الصحي الذي يمكن ان
تمنحه إياه النباتات، ويروي قصة فتاة، استعادت صحتها، بعد انهيار قوي، من طريق
تحويل شرفة بيتها إلى حديقة. ويشير الكاتب إلى أن الصناعات المحلية تفرز موادّ
كثيرة مؤذية منها البنزول الذي يسبب السرطان وهو مستعمل في الألوان والحبر
والمحروقات والمواد البلاستيكية والكاوتشوك بل يسبّب البنزول الصداع والتوتر
العصبي وفقدان الشهية، وتطول لائحة الجزيئات
المشبوهة التي تندس في حياتنا وبيوتنا كبعض الأوراق المستعملة لتغليف الأطعمة،
وصمغ الموكيت والألبسة المنظفة على الناشف. ولقد قامت النازا بتجارب مدهشة عن دور
النباتات في إزالة التلوث، فشجر اللبلاب قادر على إزالة 90% من البنزول من الجو
خلال أربع وعشرين ساعة، وشجرة التين قادرة على إزالة حمض"النمليك" بنسبة
47%. ويدعو الكاتب إلى سياسة" حوض من التراب مقابل ما يعادله من هواء سيىء".
وفي الفصل الأخير، يتوقّف الكاتب عند تواصل البشر مع الشجر،
ويتناول العلاقة الرائعة والمرهفة التي يقيمها الصينيون واليابانيون واغلب سكان
الشرق الأقصى عموما مع الأشجار، وهي مفاهيم يعاد اليوم إدراجها في الثقافة الغربية
من طريق الفلسفة الصينيّة المعروفة بـ"الزن"، لترميم ما اعتور الذات
البشريّة من تصدّع حياتيّ، ويستشهد بكلام للقدّيس برنارد يقول فيه انه" تعلّم
من الشجر أكثر مما تعلّم من الكتب"، ويقتطف من سيرة الأديب الفرنسي فرنسوا
مورياك مشهدا حياتيا معبرا حيث كان يضمّ سنديانات حديقته لاصقاً جسمه إلى قشرتها،
وكأنّه بهذا يؤكّد على المفهوم اليونانيّ والرومانيّ القديم الذي كان يرى في شجرة
السنديان وسيطاً روحيا.
بلال عبد
الهادي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق