كتبهابلال عبد الهادي ، في 1 أيار 2011 الساعة: 14:11 م
الحديقة الأولى في المجاوبة البديهية والمخاطبة
المرضية وفيها ثلاثة أبواب: الباب الأول في مسكت الجواب، ومفحم الخطاب قال عقبة بن
أبي معيط لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمر بضرب عنقه يوم بدر: من للصبية?
قال: النار. وقال معاوية بن أبي سفيان لرجل من سبأ أهل اليمن: ما كان أحمق قومك حين
قالوا: (ربنا باعد بين أسفارنا) أما كان اجتماع الشمل خيراً لهم? فقال اليماني:
قومك أحمق منهم حيث قالوا: (إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من
السماء أو ائتنا بعذاب أليم) أفلا قالوا: إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له.
وقال معاوية أيضاً لابن عباس رضي الله عنه: أنتم يا بني هاشم تصابون في أبصاركم،
فقال له ابن عباس: وأنتم يا بني أمية تصابون في بصائركم.
ودخل زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب على هشام بن عبد الملك بن مروان فلم يوسع له أحد في المجلس، ولم ير لنفسه موضعاً يجلس فيه، فقال: يا أمير المؤمنين إنه ليس أحد إلا وله من مجلسك موضع فقال له هشام: اجلس حيث انتهى بك المجلس لا أم لك أنت الذي نازعتك نفسك الخلافة، وأنت ابن أمة. فقال له زيد يا أمير المؤمنين إن الأمهات لا يقعدن بالرجال عن الغايات، وقد كانت أم إسماعيل عليه السلام أمة فلم يمنعه ذلك من أن يبعثه الله نبياً، وأخرج من صلبه محمداً صلى الله عليه وسلم، وكان إسحاق أمه سارة حرة، وقد مسخ الله بعض ولده قردة وخنازير.
وقال معاوية لعقيل بن أبي طالب: أنا خير لك من أخيك، فقال: إن أخي آثر دينه على دنياه، وأنت آثرت دنياك على دينك فأنت خير لك من أخي، وأخي خير لنفسه منك.
وقال له يوماً آخر: أين ترى عمك أبا لهب? فقال: في النار مفترشاً عمتك حمالة الحطب، وكانت أم جميل امرأة أبي لهب بنت حرب بن أمية بن عبد شمس.
وقال ابن حازم يوماً لكاتبة يضحك منه: أين تريد يا هامان? قال: أبني لك صرحاً.
وقال الأحوص للفرزدق: متى عهدك بالزنى يا أبا فراس? قال: مذ ماتت العجوز أمك.
وقال يهودي حين قتل عثمان رحمه الله، وقعت الفتنة: إنما عهدكم بنبيكم منذ كذا، وقد فتنتم، فقال له رجل من المهاجرين: يا عدو الله، ما جفت أقدامكم من جوار البحر حتى قلتم لموسى: (اجعل لنا إلها كما لهم آلهة).
ورمى الحجاج حجراً بين يدي أعرابي، وقال له: أخبرني أذكر هو أم أنثى? فقال له الأعرابي: ارفع لي ذنبه وأخبرك.
وقال رجل لامرأته: وكان قبيحاً: إني أتمنى أن أرى إبليس، قالت له: أنا أريكه، قال: وكيف ذلك، فأخرجت له مرآة، وقالت له: انظر إلى وجهك.
وقال محمد بن داود يوماً لابن سريج، وقد أكثر عليه في السؤال: أبلغي ريقي، فقال له ابن سريج: قد أبلغتك دجلة والفرات.
وقال أمير لأعرابي: قل الحق وإلا أوجعتك ضرباً، فقال وأنت فاعمل به، فوالله إن ما أوعدك الله به على تركه أعظم مما توعدتني به.
وقال مولى لبني هاشم: رأيت ذا الرمة، وقد عارضه رجل فقال له، يهزأ به: يا أعرابي، أتشهد بما لم تره? قال: نعم، قال: بماذا? قال: أشهد أن أباك نكح أمك.
وكان للفضل بن سهل وصيفة ظريفة، كثيرة الملح والنوادر وكانت ساقية، وكان أبو نواس يولع بها ويمازحها، فقال لها يوماً: إني أحبك وتبغضينني فلم ذلك? فقالت له: لأن وجهك والحرام لا يجتمعان.
ويروى أن بثينة دخلت على عبد الملك بن مروان، فحدد النظر إليها، وقال يا بثينة: ما رأى فيك جميل حين قال فيك ما قال? قالت: يا أمير المؤمنين، ما رأى فيك الناس حين ولوك الخلافة، فضحك عبد الملك حتى بدت له سن سوداء، كان يخفيها، وما ترك لها من حاجة إلا قضاها يومئذ.
وحكى حماد الراوية قال: أخبرني خالد بن كلثوم، قال: أخبرني رجل من بني أسد أنه أدرك مياً، وكان أعور، قال: رأيتها في نسوة من قومها، فقلت: أيتكن مي? فقال النسوة: ما كنا نرى أنها تخفى على أحد، هذه هي، قلت: والله ما أدري ما كان لعجب ذا الرمة منك? وما أراك كما كان يصفك، فتنفست، وقالت: يرحم الله غيلان، إنه كان ينظر إلي بعينين، وأنت تنظر إلي بعين واحدة.
وكان بسجستان رجل يقال له بدر بن المناقر، وكان أبوه طلب في سرقة الإبل، فجلس إلى أبي الهندي الشاعر، وجعل يعرض له بالشراب، فقال أبو الهندي: إن أحدكم يرى القذاة في عين أخيه، ولا يرى الجذع في است أبيه.
ومر نصر بن سيار بأبي الهندي، وهو يتمايل سكراً، فقال له نصر: أفسدت شرفك بإدمانك الخمر، فقال أبو الهندي: لو لم أفسد شرفي لم تكن والي خرسان.
ومر الفرزدق بماء، وبه نسوة يغسلن ثيابهن، قال: فضرطت بغلته فضحكن منه، فقال لهن الفرزدق: ولم تضحكن? والله ما حملتني قط أنثى إلا فعلت كفعلها، فقالت له امرأة منهن: أترى التي حملتك تسعة أشهر كيف كان ضراطها? فخجل وانصرف.
ونازع بشاراً رجل في اليمانية والمضرية، وأذن المؤذن فقال له بشار: من الذي يؤذن باسمه مع اسم الله تعالى أمن مضر هو أو من سبأ? فسكت الرجل.
وقدم رجل من بني مخزوم على عبد الملك بن مروان، وكان زبيرياً، فقال له عبد الملك: أليس الله قد ردك على عقبيك? قال: ومن رد إليك يا أمير المؤمنين فقد رد على عقبيه، فسكت عبد الملك، وعلم أن قوله كان خطأ.
ودخل يزيد بن أبي مسلم كاتب الحجاج على سليمان بن عبد الملك، فقال له سليمان: على امرئ أجرك رسنك وسلطك على الأمة لعنة الله، أتظن الحجاج استقر في قعر جهنم، أو هو يهوي فيها? فقال: يا أمير المؤمنين إن الحجاج يأتي يوم القيامة بين أبيك وأخيك، فضعه في النار حيث شئت.
ودخل شريك القاضي على المهدي، فقال له الربيع: خنت مال الله، ومال أمير المؤمنين، فقال له شريك: لو كان ذلك لأتاك سهمك.
وقال العبثي، لما أتي بابن هبيرة إلى خالد بن عبد الله القسري، وهو والي العراق، وأتى به مغلولاً مقيداً، فقال له أيها الأمير: إن القوم الذين أنعموا عليك بهذه النعمة قد أنعموا بها على قبلك، فأنشدك الله أن تستن في سنة يستن بها فيك من بعدك، فأمر به إلى السجن، فأمر ابن هبيرة غلمانه فحفروا تحت الأرض حتى خرج الحفر تحت سريره، ثم خرج منه ليلاً، وقد أعدت له أفراس يداولها حتى أتى مسلمة بن عبد الملك، فاستجار به فأجاره، واستوهبه من هشام بن عبد الملك فوهبه له، فلما قدم خالد بن عبد الله القسري على هشام وجد عنده إبراهيم، فقال له خالد: أبقت إباق العبد، فقال له: حين نمت نومة الأمة.
وتكلم ربيعة يوماً فأكثر، وإلى جانبه أعرابي، فالتفت إليه وقال: ما تعدون البلاغة يا أعرابي? قال: قلة الكلام، وإيجاز الصواب، قال: بما تعدون العي? قال: ما كنت فيه منذ اليوم فكأنه ألقمه حجراً.
وقال رجل للأحنف بن قيس: بم سودك قومك، وما أنت بأشرفهم بيتاً، ولا أصبحهم وجهاً، ولا أحسنهم خلقاً? قال: بخلاف ما فيك يا ابن أخي? قال وما ذاك? قال: بتركي من أمرك ما لا يعنيني، كما عناك من أمري ما لا يعنيك، فخجل الرجل.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه - لرجل: من سيد قومك? قال: أنا، قال: كذبت، لو كنت كذلك لم تقله.
وقال أبو حنيفة للأعمش - وأتاه عائداً في مرضه -: لولا أن أثقل عليك يا أبا محمد لعدتك في كل يوم مرتين، فقال له الأعمش: والله يا ابن أخي، إنك لتثقل علي وأنت في بيتك، فكيف لو جئتني في كل يوم مرتين? ووقف عيينة بن حصين بباب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: استأذنوا لي على أمير المؤمنين، وقولوا له: هذا ابن الأخيار بالباب، فأذن له، فلما دخل عليه قال له: أنت ابن الأخيار? قال: نعم، قال: بل أنت ابن الأشرار. وأما ابن الأخيار فهو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام.
وقال أبو ضمرة: قدم غيلان بكلمة قد صاغها حتى وقف على ربيعة، فقال: أنت الذي تزعم أن الله أحب أن يعصى? قال ربيعة: أنت الذي تزعم أن الله يعصى كرهاً، فكأنما ألقمه حجراً.
وتكلم إياس بن معاوية مع بعض القدرية فقال: دخولك فيما ليس لك ظلم منك، قال: نعم، قال: فإن الأمر كله لله فلا تدع أن لك شيئاً منه.
وقال رجل لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: ما تقول في القدر? فقال له علي: أما أني أسألك عن ثلاث، فإن قلت في واحدة منهن: لأكفرت، وإن قلت: نعم، فأنت أنت، فمد القوم أعناقهم ليسمعوا ما يقول، فقال له علي: أخبرني عنك أخلقك الله كما شاء، أو كما شئت? قال: بل كما شاء، قال: أفخلقك الله لما شاء أو لما شئت? قال: لما شاء، قال: فيوم القيامة تأتيه بما شئت أو بما شاء? قال بما شاء، قال: قم فلا مشية لك، فسكت الرجل، ولم يجد جواباً.
ودخل رجل من الحسبانية على المأمون، فقال لثمامة بن أشرس: كلمه، فقال له ما مذهبك? قال: أقول إن الأشياء كلها على التوهم والحسبان، وإنما يدرك الناس منها على قدر عقولهم، ولا حق في الحقيقة، فقام إليه ثمامة فلطمه لطمة سوء في وجهه، فقال: يا أمير المؤمنين، يفعل بي هذا في مجلسك? قال له ثمامة: وما فعلت بك، قال: لطمتني، قال: ولعلي إنما دهنتك بالبان، ثم أنشأ يقول:
فسكت الرجل، وضحك من حضر.
ولقي أبو العيناء رجلاً من إخوانه في السحر، فجعل يعجب من بكوره، فقال له: أراك تشاركني في الفعل، وتنفرد دوني بالتعجب.
وسأل رجل من الشعراء رجلاً من المتكلمين بين يدي
المأمون: ما سنك? قال: عظم، قال: لم أرد هذا، ولكن كم تعد? قال من واحد إلى ألف
وأزيد، قال: لم أرد هذا، ولكن كم أتى عليك? قال: لو أتى على شيء لأهلكني، فضحك
المأمون، وقال له: كيف السؤال عن هذا? فقال: أن تقول: كم مضى من عمرك? وقال مؤدب
يزيد بن عبد الملك بن مروان يوماً له: لحنت، قال: الجواد يعثر، فقال المؤدب: إي
والله ويضرب حتى يستقيم، فقال يزيد: نعم، وربما كسر أنف سائسه.
ولقي رجل رجلاً فقال: ما اسمك? قال: بحر، قال: ابن من? قال: ابن الفرات، قال: أبو من? قال: أبو الفيض، قال: ما ينبغي أن تلقى إلا في زورق.
وسمع أشعث امرأة تقول: اللهم لا تمتني حتى تغفر لي ذنوبي، فقال: يا فاسقة، لم تسألي الله المغفرة، وأنت سألته عمر الأبد، يريد أنها لا يغفر لها.
وكان أسقف نجران يوماً جالساً في حانوت بعض الناس، فجاء مخبر لصاحب الحانوت بأن زوجته ولدت، فقال: الحمد لله، هذا ولد سعيد، فمكث ساعة، وإذا بآخر قال له: مات الولد، فقال: لا إله إلا الله، ما قضى الله تعالى أن حضرنا على ولادته، ولا على موته، فقال له الأسقف: ولا على عمله.
وجاء رجل إلى حاكم برجل؛ وقال: هذا احتلم بأمي في النوم، فقال الحاكم: يقام للشمس ويضرب ظله الحد.
وكان رجل يهوى امرأة، فرآها في النوم، وأمكنته من نفسها فأخبرها بذلك، فرفعته إلى الحاكم، وقالت له: إنه نال مني في المنام ما أراد، فليدفع إلي حقي، فقال له الحاكم: ادفع لها ديناراً، فقال الرجل: وكيف أدفع لها ديناراً، ولم أنل منها شيئاً إلا في المنام? فقال الحاكم: لابد من ذلك، فدفع لها ديناراً فلما جاوزت المرأة الباب، قال الحاكم: ارجعي إلي، فلما رجعت أخذ منها الدينار، ودفعه إلى صاحبه، وقال للمرأة: اذهبي فقد نلت منه بمقدار ما نال منك.
وقال الأصمعي: رأيت أعرابياً بالبادية قد بسط كساءه للشمس وهو يغتلي، فجعلت أنظر، فكان يأخذ البراغيث، ويدع القمل، فقلت له في ذلك، فقال: ابدأ بالفرسان، وأرجع للرجالة.
ووضع ثريد بين يدي قوم، وعليه دجاج، فسرق واحد منهم واحدة منها. فرآه آخر، فلما تم الطعام، قال له: يا فلان، اخرج الدجاجة تلتقط الحب والفتات، فقال: إنها على البيض.
ورأى رجل أحدب قد طلع في بستانه في خوخة، فقال له: يا أبا هشام ما أطلعك هناك? قال: سمعت فاض الماء، وجرى على الخوخ، فطلعت أتوضأ.
وخرج خطيب أشبيلية يوماً يتوضأ تحت برج الذهب، وكان أصلع، دون شيء في رأسه، فأخرجت الرميكية رأسها وقالت: بكم تلك القرعة? قال لها: بدرهم، قالت: إنما أعطيك فيها مقرعاً، فقال لها: إن كانت غالية رجحتها لك بهذا الببرير.
وضع المأمون طعاماً، وكان عنده أعرابي، فقال: يا أعرابي، هلم، قال: إني صائم، فاختلفت الألوان، فرأى جدياً مشوياً فغسل يده، فقال له المأمون: ألم تقل إنك صائم، قال: أقدر على صيام يوم واحد، ولا أقدر على إعادة جدي مثل هذا.
وكان بالبصرة مجنون يأكل التمر بنواه، فقيل له: بنواه تأكل التمر? فقال: كذا وزنوه علي.
ونظر رجل إلى طاق عالية، فوجد فيه امرأة جميلة، وهي تستاك، فقالت له: أتحب سواكاً? قال لها: لا أحب سواك، قالت له: ما ساقك إلى هنا? قال: إلهنا، قالت: فما أوقفك للهوى، قال: الهوى، قالت له: ما اسمك? قال: وجهك، قالت: ادخل إذن علي.
وقالت امرأة للحصين بن منذر: كيف سدت وأنت بخيل قبيح? فقال: لأني سديد الرأي، شديد الإقدام.
وقال مسلمة بن عبد الملك لأخيه هشام: كيف تطمح في الخلافة وأنت بخيل جبان? فقال: لأني حليم عفيف.
وشكى أبو العيناء حاله إلى عبد الله بن سليمان، فقال له: أليس قد كتبنا لك إلى إبراهيم بن المدبر? قال: قد كتبت إلى رجل قد قصر من همته طول الفقر، وذل الأسر، ومعاناة محن الدهر، فأخفقت في طلبي، قال: أنت قد اخترته، قال: وما علي - أعز الله الأمير - في ذلك، قد اختار موسى سبعين رجلاً فما كان منهم رشيد، واختار النبي صلى الله عليه وسلم ابن أبي سرح كاتباً، فرجع إلى المشركين مرتداً، واختار علي بن أبي طالب أبا موسى حاكماً فحكم عليه.
وسأل عبد الملك بن مروان مسلمة بن اليزيد، وكان من المعمرين، فقال: أي الملوك رأيت أكمل، وأي الزمان رأيت أفضل? فقال: أما الملوك فلم أر إلا حامداً أو ذاماً، وأما الزمان فيضع أقواماً، ويرفع أقواماً، وكلهم يذم زمانه، لأنه يبلي جديدهم، ويفرق عديدهم، ويهرم صغيرهم، ويهلك كبيرهم.
ودخل على القاضي إياس، وهو في مجلس القضاء - عدي بن أرطاة فقال له: أين أنت? فقال إياس: بينك وبين الحائط، فاسمع مني قال: للاستماع جلست، قال: أين رجل من الشام، قال: نائي المحل، سحيق الدار، قال: وتزوجت امرأة، قال: بالرفاء والبنين، قال: وولد لي غلام، قال: ليهنك الفارس، قال: وأريد الرجوع إلى وطني، قال: في حفظ الله، قال: وشرطت لأهلها ألا أخرجها من بينهم، قال: أوف لهم بالشرط، قال: فاقضي بيننا، قال: قد فعلت، قال: فعلى من قضيت? قال: على ابن أمك، قال: بشهادة من? قال: بشهادة ابن أخت خالتك.
وهذا إياس الذي يضرب به المثل في الذكاء والفطنة، وأول ما ظهر من ذكائه، أنه دخل دمشق، وهو غلام، فتحاكم عند قاضيها، مع شيخ. فصال إياس بحديثه على الشيخ، فقال القاضي: إنه شيخ كبير، فاخفض من كلامك. فقال له إياس: الحق أكبر منك: فقال له القاضي: اسكت، قال: ومن ينطق بحجتي? قال القاضي: ما أراك تقول إلا حقاً، قال له إياس: لا إله إلا الله أحق هذا أم باطل? فحكم القاضي بينهما، وانصرف.
ولما دخل عبد الملك البصرة، رأى إياساً وهو صبي، وخلفه أربعة من القراء، أصحاب الطيالسة والعمائم، وإياس يقدمهم فقال عبد الملك: أما فيكم شيخ يقدمكم غير هذا الحدث? ثم التفت إليه وقال: كم سنك? قال: سني - أطال الله بقاء الأمير - سن أسامة بن زيد حين ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً فيه أبو بكر وعمر، فقال: تقدم، بارك الله فيك، وكان سنه سبع عشرة سنة.
وقال المتوكل لأبي العيناء: ما أشد ما عليك في ذهاب بصرك? قال: ما حرمته يا أمير المؤمنين من رؤيتك من إجماع الناس على جمالك.
وقيل لأحد المكدين: أتبيع مرقعتك? قال: أرأيت صائداً يبيع شبكته? وقال رجل لأعرابي: ما يسرني لو بت ضيفاً لك، قال: لو بت ضيفاً لي لأصبحت أبطن من أمك قبل أن تلدك بساعة.
ودخل أعرابي على معاوية في عباءة فاحتقره. فقال: يا أمير المؤمنين، إن العباءة لا تكلمك، إنما يكلمك من فيها، ثم تكلم، فملأ سمعه بياناً، ثم خرج، ولم يسله شيئاً، فقال معاوية: ما رأيت رجلاً أحقر أولاً، ولا أجل آخراً منه.
وتكلم رجل عند عبد الملك بكلام ذهب فيه كل مذهب، فقال له، وقد أعجبه، ابن من أنت? قال: أنا ابن نفسي التي نلت بها هذا المقعد منك، قال: صدقت.
وعرض بعض الأدباء على صاحب له شعراً، بمحضر جماعة فجعل يعرض عن محاسن الشعر، ويتتبع مواضع النقد حسداً، فقال له صاحب الشعر: أراك كالذباب تعرض عن المواضع السليمة، وتتبع جروح الجسد.
وروي عن عمر بن الخطاب، أنه حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: لا تغالوا صدقات النساء؛ فإنه لا يبلغني عن أحد، أنه ساق أكثر من شيء ساقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو سيق إليه، إلا جعلت فضل ذلك في بيت المال، فقامت امرأة طويلة فقالت: ليس لك ذلك يا أمير المؤمنين، قال: ولم? قالت: كتاب الله أحق أن يتبع أم قولك? قال: كتاب الله، قالت: فإن الله تعالى يقول: (وأتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً) فقال عمر رضي الله عنه: امرأة أصاب، ورجل أخطأ، ثم قال: كنت نهيتكم عن أن تغالوا صدقات النساء، فليفعل كل واحد في ماله ما أحب.
وأخرج الحجاج رجلاً من سجنه ليعاقبه، فقال له: سمنت يا غضبان قال: الرفد والرفعة، والخفض والدعة، ومن يكن ضيف أمير المؤمنين يسمن، قال: لأحملنك على الأدهم، قال: مثل الأمير أعزه الله يحمل على الأدهم والورد والمكيث، قال: إنه حديد قال: لأن يكون حديداً خير من أن يكون بليداً. قال: اضربوا به الأرض، قال: (منها خلقناكم وفيها نعيدكم) قال: جروه قال: (بسم الله مجراها ومرساها) قال: احملوه على الأيدي فلما حمل، قال: (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين) فضحك الحجاج، وقال: غلبنا هذا الحديث الخبيث، خلوه إلى صفحي عنه، قال: (فاصفح عنهم وقل سلام).
وقال خالد بن الوليد لعبد المسيح بن عمرو الغساني وهو ابن ثلاثمائة وخمسين سنة، من أين أفضي أمرك? قال: من صلب أبي، قال: من أين خرجت? قال: من بطن أمي، قال: فعلام أنت? قال: على الأرض، قال: ففيم أنت? قال: في ثيابي، قال: أتعقل? قال: إي والله وأقيد، قال: ابن كم أنت? قال: ابن رجل واحد، قال: فما سنك? قال عظم، قال: ما تزيد في مسألتك إلا عناء، قال: ما أجبتك إلا عن مسألتك.
وقال الربيع بن عبد الرحمن: قلت لأعرابي: أتهمز إسرائيل? قال: إني إذن لرجل سوء، أراد قوله تعالى: (هماز مشاء بنميم)، قلت: أتجر فلسطين? قال: إني إذن لقوي.
وقيل لأعرابي: أتهمز الفأرة? قال: الهر يهمزها.
ومما يستظرف في هذا الباب أن رجلاً من محارب وفد على عبد الله بن زيد الهلالي عامل أرمينية، وقد بات على قرب من غدير فيه ضفادع، فقال عبد الله: ما تركتنا شيوخ محارب ننام لشدة أصواتها، فقال المحاربي: أصلح الله الأمير، إنها ضلت برقعاً، فهن في طلبه، أراد الهلالي قول الأخطل:
وأراد المحاربي قول الآخر:
وأذن بشار لأصحابه في الدخول عليه، والطعام بين
يديه، فلم يدعهم، ثم دعا بطست، وكشف عن سؤاله فبال، ثم حضر الظهر والعصر، فلم يصل،
فقالوا له: أنت أستأذنا، وقد رأينا منك أشياء أنكرناها عليك، قال: وما هي? قالوا:
دخلنا والطعام بين يديك فلم تدعنا إليه، قال: إنما أذنت لكم بالدخول لتأكلوا، ولو
لم أرد هذا لما أذنت لكم، ثم ماذا? قالوا: دعوت بالطست، ونحن حضور، فبلت، ونحن نراك
فقال: أنا مكفوف وأنتم بصراء، وأنتم المأمورون بغض البصر دوني، ثم ماذا? قالوا:
حضرت الصلاة ولم تصل قال: إن الذي يقبلها تفاريق يقبلها جملة. أحسن في الثنتين، ولم
يحسن في الثالثة.
وترك رجل النبيذ، فقيل له: لم تركته، وهو رسول السرور إلى القلب? فقال: ولكنه بئس الرسول يبعث إلى الجوف فيذهب إلى الرأس.
وسمع رجل أبا العتاهية ينشد:
فقال: لقد بخلت الناس كلهم، فقال: اكذبني أنت
بواحد منهم سخي.
وقال المأمون لمحمد بن عباد: أنت متلاف، فقال: منع الجود سوء الظن بالمعبود، يقول الله تعالى: (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين).
وخوف بخيل سخياً الإملاق والفقر، فرد عليه السخي: (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا).
وقال الحسن والحسين لعبد الله بن جعفر: إنك قد أسرفت في بذل المال، فقال: بأبي أنتما وأمي، إن الله عودني أن يتفضل علي، وعودته أن أتفضل على عبيده، وأخاف أن أقطع العادة، فيقطع عني عادته.
ودخل رجل على الشعبي - وهو مع امرأته - فقال: أيكما الشعبي? فقال: هذه، فقال: ما تقول - أصلحك الله - في رجل شتمني في أول يوم من رمضان? هل يؤجر? فقال له الشعبي: إن كان قال لك: أحمق فأرجو له الأجر.
وسأله آخر، فقال له: ما تقول في رجل أدخل أصبعه في أنفه في الصلاة، فخرج عليه دم، أترى له أن يحتجم? فقال: الحمد لله الذي نقلنا من الفقه إلى الحجامة.
وسأله فقال: كيف كانت تسمى امرأة إبليس? فقال: ذلك نكاح ما شهدناه.
ودخل الشعبي الحمام فرأى داود الأزدي بلا مئزر فغمض عينيه، فقال له داود: متى عميت يا أبا عمرو? قال: مذ هتك الله سترك.
وقال الأصمعي: قلت لامرأة ظريفة: يا جارية، هل في يديك عمل? قلت: لا، ولكن في رجلي.
وقال معاوية لعمرو بن سعيد: إلى من أوصى بك أبوك? وكان صغيراً، قال: إن أبي أوصى إلي، ولم يوص بي.
وكان للفرزدق نديم يسمى زياد الأقطع، فأتى به يوماً، فخرجت له بنية للفرزدق صغيرة، فقال: ابنة من أنت? قالت: ابنة الفرزدق، قال: فما بالك حبشية? قالت: فما بال يدك مقطوعة? قال: قطعت في حرب الحرورية، قالت: بل قطعت في اللصوصية. فقال: عليك وعلى أبيك لعنة الله، ثم أخبر الفرزدق، فقال: أشهد أنها ابنتي حقاً.
وأنشد الفرزدق شعراً وهو صغير، بمحضر الحطيئة فقال: هذا والله الشعر يا غلام، هل أنجدت أمك? قال: لا بل أنجد أبي.
ونظر خالد بن صفوان إلى جماعة في مسجد البصرة، فقال: ما هذه الجماعة? قالوا: على امرأة تدل على النساء، فأتاها، فقال لها: ابقني امرأة، قالت: صفها، قال: أريدها بكراً كثيب، أو ثيباً كبكر، حلوة من قريب، ضخمة من بعيد، كانت في نعمة فأصابها فاقة، فيها أدب النعمة، وذل الحاجة، إذا اجتمعنا كنا أهل دنيا، وإذا افترقنا كنا أهل آخرة، قالت قد أصبتها لك، قال: وأين هي? قالت: في الرفيق الأعلى من الجنة فاعمل لها.
وأتى الحطيئة رجل، وهو في غنمه، فقال: يا صاحب الغنم سلام عليكم، فرفع العصا، وقال: هذه لمن سلم، فقال الرجل: إني ضيف، فقال: للضيفان أعددتها، فأعاد السلام، فقال: إن شئت قمت بها إليك.
ومر به ابن حمامة، وهو جالس في فناء بيته، فقال: السلام عليكم، فقال: قد قلت ما لا ينكر، قال: خرجت من أهلي بغير زاد قال: ضمنت لأهلك قراك، قال: أفتأذن لي أن آتي ظل بيتك? قال: دونك الجبل يقيك ظله، قال: أنا ابن الحمامة، قال: انصرف، وكن ابن أي طائر شئت.
ونزل الغضبان القبعثري خارج كرمان، وهي كثيرة الرمضاء فضرب قبته، فورد عليه أعرابي، فقال: السلام عليكم، فقال: هي كلمة معقولة، قال الأعرابي: ما اسمك? قال: آخذ، قال: أو تعطي? قال: ما أحب أن يكون لي اسمان، قال: ومن أين جئت? قال: من الدلول، قال: وأين تريد? قال: أرضاً أمشي في مناكبها، قال: ومن عرض? قال: آل فرعون على النار، قال: ومن بشر? قال: الصابرون، قال: فمن غلب? قال: حزب الله، قال: أفتسمع? قال: إنما تسمع القينة، قال: أفتقول? قال: إنما يقول الأمير قال: أفتسجع? قال: إنما تسجع الحمامة، قال: أفتنطق? قال: كتاب الله ينطق، قال: إنك لمنكر، قال: إني لمعروف، قال: ذلك أريد، قال: وما إرادتك? قال: الدخول إليك، قال: وراءك أوسع لك، قال: قد ضرتني الشمس، قال: الساعة يأتيك الفيء، قال: الرمضاء أحرقت قدمي، قال: بل عليهما يبردان، قال: أوجعني الحر، قال: ليس لي عليه من سلطان، قال: إني لا أريد طعامك ولا شرابك، قال: لا تعرض بهما فوالله ما تذوقهما، قال: سبحان الله، قال: قبل كونك، قال: ما عندك? قال: هراوة أدق بها رأسك.
وأمر عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه بعقوبة رجل، فقال له رجاء بن حيوة: إن الله قد فعل ما تحب من الظفر، فافعل ما يحب من العفو، فعفا عنه.
وقال العتبي: وقعت ماء بين حييين من قريش، فأقبل أبو سفيان، فما بقي أحد واضع رأسه إلا رفعه، فقال: يا معشر قريش، هل لكم في الحق أو فيما هو أفضل من الحق? قالوا: وهل شيء أفضل من الحق? قال: نعم، العفو، فتبادر القوم واصطلحوا.
ويروى أن نصيباً وفد على عبد الملك بن مروان، وأنشده، فاستحسن شعره، ووصله، فجاء بالطعام فأكل معه، فقال له عبد الملك: هل لك فيما يتنادم عليه، فقال: يا أمير المؤمنين تأملني قال: فإني أراك، قال: يا أمير المؤمنين الجلد أسود، والوجه قبيح، ولست في منصب كريم، وإنما بلغ بي مجالستك ومواكلتك عقلي، وأنا أكره أن أدخل عليه ما يحول بيني وبينه، فأعجب عبد الملك كلامه وأعفاه.
وأنشد يوماً هشاماً قصيدة مدحه بها، فقال له هشام: يا أسود، قد بلغت المدح فسلني أعطك، فقال: يداك يا أمير المؤمنين بالعطية أطول من لساني بالمسألة، فقال هشام: هذا والله أجزل من الشعر وأجازه جائزة عظيمة.
وقال دعبل لمخنث: والله لأهجونك، فقال: إن هجوتني لأخرجن أمك من اللعبة.
ورفع إلى الأمير أن أبا نواس زنديق، وأنشد من شعره ما يستدل به على ذلك، فأمر بإحضاره، ولما حضر أمر بقتله، فقال: ما ذنبي يا أمير المؤمنين? قال: عرفت أنك زنديق قال: وما قلت? وما ظهر علي من ذلك? قال: قولك:
قال يا أمير المؤمنين أفسقاني? قال: كذلك أظن،
قال: أتقتلني على ظن? وقد قال ما تعالى: (إن بعض الظن إثم) قال: فأنت الذي تقول:
قال: أفجاء أحد يا أمير المؤمنين? قال: لا، قال:
أفتقتلني على الصدق? قال: أنت الذي تقول:
قال: أفقام يا أمير المؤمنين? قال: لا أدري،
قال: أفتقتلني على أن لا تدري? قال: أطلقوه، ولو وجب عليه القتل.
وكان الفرزدق يوماً ينشد، فنظر إلى الكميت بن زيد يستمع، وهو غلام يومئذ، فأعجبه ما رأى من إطغائه وتفهمه، فقال: يا غلام كيف ما تسمع? قال: حسن، قال: أفيسرك أني أبوك? قال: ما أحب بأبي بدلاً، ولكن وددت أنك أمي، قال: يا ابن أخي، استرها علي، فما لقيت مثلها.
وقام بشار بين يدي المهدي ينشده شعراً، ودخل خال المهدي يزيد بن منصور الحميري، وكانت في غفلة، فقال لبشار: ما صناعتك أيها الشيخ? قال: أثقب اللؤلؤ، فضحك المهدي وقال [أتهزأ] بخالي، فقال: يا أمير المؤمنين، وما أصنع به يرى شيخاً أعمى ينشد الخليفة شعراً، فيسأله عن صناعته? وكتب إلى عبد الرحمن بن الحكم بعض مواليه يسأله عملاً رفيعاً لم يكن من شاكلته فوقع في كتابه: من لم يصب وجه مطلبه كان الحرمان أولى به.
وكان أصاب عبد الله بن عمر زج رمح بقدمه في أيام الحج، فدخل عليه الحجاج يعوده، فقال له: يا أبا عبد الرحمن، لو علمت من أصابك لفعلت وفعلت، فقال له ابن عمر: أنت أصبتني، فقال: غفر الله لك، لم تقول هذا? قال: حملت السلاح في يوم لا يحمل فيه السلاح، وفي بلد لا يحمل فيه السلاح.
وحلف رجل بطلاق امرأته أن الحجاج في النار، فسأل الحسن البصري فقال: لا عليك يا ابن أخي، فإنه لم يكن الحجاج في النار، فما يضرك أن تكون مع امرأتك على زنى.
وقال جرير بن منصور: قلت لإبراهيم النخعي: ما تقول في أمر الحجاج? قال: ألم تسمع إلى قوله تعالى: (ألا لعنة الله على الظالمين) فأشهد أن الحجاج كان منهم.
وقال عبد الملك للحجاج: ما من أحد إلا وهو يعلم عيب نفسه، فصف لي عيوبك، قال: اعفني يا أمير المؤمنين، قال: لابد أن تقول، قال: أنا لجوج حقود وحسود، قال عبد الملك: ما في إبليس أشر من هذا.
وقيل للشعبي: إن الناس يزعمون أن الحجاج مؤمن، قال: مؤمن بالجبت والطاغوت، كافر بالله.
وسئل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه عن الحجاج، فقال: لو جاءت كل أمة بمنافقيها، وجئنا بالحجاج لفضلناهم.
ولما قدم أبو ليلى النابغة الجعدي على النبي صلى الله عليه وسلم وأنشده الشعر الذي يقول فيه:
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إلى أين يا
أبا ليلى? قال: إلى الجنة يا رسول الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن شاء
الله.
ولقي أبو العتاهية أبا نواس فقال له: أنت الذي لا تقول الشعر حتى تؤتى بالرياحين والأزهار فتوضع بين يديك? قال: وكيف ينبغي للشعر أن يقال إلا هكذا، قال: إني لأقوله على الكنيف، قال أبو نواس: ولذلك توجد فيه الرائحة.
ولما قدم رجال الكوفة يشكون لسعد بن أبي وقاص، قال: من يعذرني من أهل الكوفة? إن وليتهم التقى ضعفوه، وإن وليتهم القوي فجروه، فقال له المغيرة بن شعبة: يا أمير المؤمنين إن التقي الضعيف له تقاه، وعليك ضعفه، والقوي الفاجر لك قواه وعليه فجوره، قال: صدقت فأنت القوي الفاجر، فاخرج إليهم.
وقال المنصور لبعض قواده: صدق الذي قال: أجع كلبك يتبعك، وسمنه يأكلك، فقال له العباس الطوسي: أما تخشى يا أمير المؤمنين إن أجعته أن يلوح له غيرك برغيف فيتبعه ويدعك? وكتب إلى عمر بن عبد العزيز بعض عماله يستأذنه في تحصين مدينة فكتب إليه عمر: حصنها بالعدل، ونق طرقها من الظلم والسلام.
ولما أتي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بتاج كسرى وسواريه قال: إن الذي أدى هذا لأمين، قال رجل: يا أمير المؤمنين أنت أمين الله يؤدون إليك ما أديت إلى الله فإذا رتعت رتعوا.
واطلع مروان بن الحكم على صنيعة له فأنكر شيئاً، فقال لوكيله: ويحك، أظنك تخونني، قال: تظن، ولا تستيقنه، قال: نفعل قال: نعم، والله إني لأخونك، وإنك لتخون أمير المؤمنين، وإن أمير المؤمنين ليخون ربه، فلعن الله شر الثلاثة.
ومر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ببنيان بني بآجر وجص، فقال: لمن هذا? فقيل: لعاملك على البحرين، فقال: أبت الدراهم إلا أن تخرج أعناقها، وأرسل إليه فشاطره ماله.
ودخل حزيم الناعم على معاوية بن أبي سفيان، فنظر معاوية إلى ساقيه، فقال: أي ساقين? لو أنهما على جارية، فقال حزيم: في مثل عجيزتك يا أمير المؤمنين. فقال: واحدة بأخرى، والبادي أظلم.
ودخل أبو النصر سالم مولى عمر بن عبد الله على عامل للخليفة فقال له: يا أبا النصر، إنه تأتينا كتب من عند الخليفة فيها وفيها ولا نجد بداً من إنقاذها، فقال له أبو النصر: قد أتاك كتاب من عند الله قبل كتاب الخليفة، فأيهما اتبعت كنت من أهله.
ودخل الزهري على الوليد بن عبد الملك فقال: ما حديث يحدثني به أهل الشام قال: وما هو يا أمير المؤمنين? قال: يحدثوننا أن الله إذا استرعى عبداً رعيته كتبت له الحسنات، ولم تكتب عليه السيئات، قال: باطل يا أمير المؤمنين، أبني خليفة أكرم على الله أم خليفة غير بني? قال: بل بني خليفة، قال: فإن الله يقول لنبيه داود عليه السلام: (يا داود إنا جعلنك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب). فهذا يا أمير المؤمنين وعده لبني خليفة، فما ظنك بخليفة غير بني? قال: أن الناس ليفروننا عن ديننا.
وقعد معاوية بالكوفة يبايع الناس على البراءة من علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين نطيع أحياءكم، ولا نبرأ من موتاكم، فالتفت معاوية إلى المغيرة، وقال: هذا رجل فاستوحي به خيراً.
وقال الأصمعي: لما مات يزيد بن معاوية، وصارت الخلافة إلى هشام بن عبد الملك خر أصحابه سجوداً إلا الأبرش الكلبي، قال: ما منعك أن تسجد كما سجدوا? قال: لماذا يا أمير المؤمنين لأنك ذهبت عنا? قال: فإن ذهبت بك معي، قال: وتفعل يا أمير المؤمنين? قال: نعم، قال: الآن طاب السجود.
وكان سعيد بن عتبة بن حصين، إذا حضر باب السلاطين جلس جانباًن فقيل له: إنك لتباعد الإذن جهدك، قال: لأن أدعى من بعيد خير من أن أقصى من قريب، ثم قال:
ونظر رجل إلى روح بن حاتم واقفاً في الشمس عند
باب المنصور فقال: لقد طال من وقوفك في الشمس، فقال: ليطول جلوسي في الظل.
ووقف أبو سفيان بباب عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقد اشتغل ببعض مصلحة المسلمين، فحجبه، فقال له رجل وأراد أن يغريه يا أبا سفيان، ما كنت أرى أن تقف بباب مضري فيحجبك، فقال أبو سفيان: لا عدمت من قوي من أقف ببابه فيحجبني.
وقال الشعبي: كنت جالساً عند القاضي شريح، إذ دخلت عليه امرأة تشتكي زوجها، وهو غائب، وتبكي بكاء شديداً، فقلت: أصلحك الله ما أراها إلا مظلمة، فقال: وما علمك? قال: لبكائها، قال: لا تفعل فإن إخوة يوسف (وجاءوا أباهم عشاء يبكون)، وهم ظالمون.
وكان الحسن بن أبي الحسن لا يرى أن ترد شهادة مسلم إلا أن يجرحه المشهود عليه، فأقبل إليه رجل، فقال: يا أبا سعيد إن إياساً رد شهادتي، فقام معه الحسن إليه، فقال: أبا واتلة: لم رددت شهادة هذا المسلم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صلى قبلتنا فهو مسلم، له ما لنا وعليه ما علينا، قال: يا أبا سعيد إن الله يقول: (ممن ترضون من الشهداء) وهذا ممن لا نرضاه.
وأقبل وكيع صاحب خراسان يشهد عند إياس بشهادة، فقال له: مرحباً وأهلاً بأبي المطرف، وأجلسه معه، ثم قال له: ما جاء بك? قال: جئت لأشهد لفلان، قال: مالك وللشهادة? إنما يشهد الموالي والتجار والسوقة، قال: صدقت، وانصرف من عنده، فقيل له: خدعك، إنه لا يقبل شهادتك، قال: لو علمت ذلك لعلوته بالقضيب.
وقيل للقاضي شريح: أيهما أطيب الجوزنيق أو اللوزنيق? قال: لا أحكم على غائب.
ولما أتي بالهرمزان إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال له عمر: أعرض عليك الإسلام نصحاً لك في عاجلتك وآجلتك، فقال: يا أمير المؤمنين إنما أعتقد ما أنا عليه ولا أرغب في الإسلام رهبة، فدعا عمر بالسيف، فلما هم بقتله، قال: يا أمير المؤمنين، شربة ماء، هو أفضل من قتلي على ظمأ، فأمر له عمر بشربة ماء، فلما أخذها قال: أنا آمن حتى أشرب? قال: نعم، فرمى بها، وقال الوفاء يا أمير المؤمنين نور أبلج، قال: صدقت، لك التوقف عنك والنظر فيك، ارفعا عنه السيف، فلما رفع قال: الآن يا أمير المؤمنين، أشهد أن لا إله الله وأن محمداً عبده ورسوله، وما جاء به حق من عنده، قال عمر: أسلمت خير إسلام وما أخرك? قال: كرهت أن تظن أني إنما أسلمت فزعاً من السيف، قال عمر: إن لأهل فارس عقولاً بها استحقوا ما كانوا فيه من الملك، ثم أمر به أن ينزل ويكرم، فكان عمر يشاوره في توجيه الجيوش إلى أرض فارس.
ويشبه هذا في التلطف والتحيل في النجاة ما حكي أن الكلبي قال: لما فتح عمرو بن العاص قيسارية سار حتى نزل على موضع، فبعث إليه علجه أن ابعث إلي رجلاً من أصحابك أكلمه، ففكر عمرو، وقال: ما لهذا غيري، فخرج حتى دخل على العلج، فكلمه فسمع ما لم يسمع قط كلاماً مثله، فقال العلج: حدثني عن أصحابك، هل فيهم أحد مثلك? قال: لا تسأل عن هواني عليهم، إذ بعثوا بي إليك، وعرضوا لي إليك، ولا يدرون ما تصنع بي، فأمر له بكسوة وجائزة، وبعث إلى بوابه: إذا مر بك فاضرب عنقه، وخذ ما عنده، فخرج من عنده، فمر برجل نصراني من غسان، فعرفه، فقال له: يا عمرو قد أحسنت الدخول، فأحسن الخروج. ففطن عمرو لما أراد، ورجع فقال له العلج: ما ردك إلينا? قال: نظرت فيما أعطيتني فلم أجد ذلك يسع بني عمي، فأردت أن آتيك بعشرة منهم تعطيهم مثل هذه العطية، فيكون معروفك عند عشرة خيراً من أن يكون عند واحد، قال: صدقت، عجل بهم، وبعث إلى البواب. خل سبيله، فخرج عمرو وهو يلتفت حتى إذا أمن قال: لا عدت لمثلها أبداً، فلما صالحه عمرو دخل إليه العلج، قال له: أنت هو? قال: نعم على ما كان من غدرك.
وقال العتبي: بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عمرو بن معدي كرب أن يبعث إليه بسيفه المعروف بالصمصامة، فبعث به إليه، فلما ضرب به وجده دون ما بلغه عنه، فكتب إليه في ذلك فرد عليه: إني إنما بعثت إلى أمير المؤمنين بالسيف، ولم أبعث له بالساعد الذي يضرب.
وسأله عمر يوماً عن السلاح، فقال: يسأل أمير المؤمنين عما بدا له، فقال له: ما تقول في الرمح? قال: أخوك، وربما خانك فانقصف، قال: فما تقول في الترس? قال: هو المجن وعليه تدور الدوائر، قال: والنبل? قال: منايا تخطئ وتصيب، قال: فالدرع? قال: مفشلة للراجل، مشغلة للراكب، وإنها لحصن حصين، قال: فما تقول في السيف? قال: هنالك لا أم لك يا أمير المؤمنين فعلاه عمر بالدرة، وقال: لا، بل لا أم لك.
وقيل لمعاوية: أي الناس أحب إليك? قال: من كانت له عندي يد صالحة، قيل: فإن لم تكن? قال: فمن كانت لي عنده يد صالحة.
وقيل لأبي عقيل العراقي: كيف رأيت مروان بن الحكم عند طلب الحاجة إليه? قال: رأيته عند طلب الحاجة، رغبته في الإنعام فوق رغبته في الشكر، وحاجته إلى قضاء الحاجة أشد من حاجة صاحب الحاجة.
وقال الأصمعي: نظر زياد إلى رجل من ضبة يأكل أكلاً قبيحاً. وهو من أقبح الناس وجهاً، فقال: يا أخا ضبة كم عيالك? قال: سبع بنات، أنا أجمل منهن، وهن آكل مني، فضحك زياد، وقال: لله دره ما ألطف جوابه، افرضوا لكل واحدة منهن مائة وخادماً وعجلوا له ولهن أرزاقهن.
وقال رجل لإبراهيم بن أدهم: كنت أريد أن تقبل مني هذه الجبة، فقال: إن كنت غنياً قبلتها منك، وإن لم تكن غنياً لم أقبلها منك، قال: فإني غني، قال: وكم مالك? قال: ألف دينار، قال: أفكنت تود أنه أربعة آلاف? قال: نعم، قال: فأنت فقير لا أقبلها منك.
وسألت امرأة عبد الله بن جعفر، فأعطاها مالاً عظيماً، فقيل له: إنها لا تعرفك، وكانت يرضيها اليسير، قال: إن كان يرضيها اليسير فإني لا أرضى إلا بالكثير، وإن كانت لا تعرفني فأنا أعرف نفسي.
وقال الأصمعي: مدح نصيب عبد الله بن جعفر، فأمر له بمال كثير وكسوة شريفة، ورواحل موقرة براً وتمراً، فقيل له: أتفعل هذا بمثل هذا العبد الأسود? فقال: أما والله إن كان عبداً إن شعره لحر، وإن كان أسود إن ثناءه لأبيض، وإنما أخذ مالاً يفنى وثياباً تبلى، ورواحل تنضى، وأعطى مديحاً يروى، وثناء يبقى.
وقال العتبي: وفد حاجب بن زرارة على كسرى، فاستأذن عليه. فقيل له: أسيد الغرب أنت? قال لا، قيل: فسيد مضر? قال: لا، قيل: فسيد قومك? قال: لا، قيل: فسيد بني أبيك? قال: لا، ولكني رجل من العرب، فأذن له، فلما دخل عليه، قال له: من أنت? قال: سيد العرب، قال: أليس قد قيل لك: أسيد العرب أنت? فقلت: لا، حتى اقتصرت بك على بني أبيك، فقلت: لا، قال: أيها الملك لم أكن كذبك حتى دخلت عليك، فلما دخلت عليك صرت سيد العرب، قال: كسرى: املأوا فاه دراً.
وقال المنصور لمسلم بن قتيبة: ما ترى في قتل أبي مسلم فقال: (لو كان فيهما إلهة إلا الله لفسدتا)، قال: حسبك.
وقال المأمون ليزيد بن مزيد: ما أكثر الخلفاء في بني ربيعة، قال: بلى، ولكن منابرهم في الجذوع.
ودخل المأمون يوماً بيت الديوان، فرأى غلاماً جميلاً، على أذنه قلم، فقال: من أنت يا غلام? قال: الناشئ في دولتك، المتقلب في نعمتك، المؤكل لخدمتك الحسن بن رجاء.
وأتى عبد الملك بن مروان برجل يسرق، فأمر بقطع يده، فأنشأ يقول:
فأبى إلا قطعها، فقالت له أمه: يا أمير المؤمنين
واحدي وكاسبي، فقال: بئس الكاسب كان لك، وهذا حد من حدود الله، قالت: يا أمير
المؤمنين اجعله من بعض ذنوبك التي تستغفر الله منها، فعفا عنه.
ولما أتي الحجاج بالأسرى الذين خرجوا مع ابن الأشعث أمر بقتلهم، فقال رجل منهم: أصلح الله الأمير، لي حرمة، قال: وما هي? قال: ذكرت في عسكر بن الأشعث، فشتم في أبويك، فعرضت دونهما، وقلت: لا والله ما في نسبه مطعن، فقولوا فيه، ودعوا نسبه، قال: ومن يعلم ما ذكرت? فالتفت إلي أقرب الأسرى إليه، وقال: هذا يعلمه، فقال له الحجاج: ما تقول فيما قال هذا? قال: صدق، وبر الأمير، فقال: خليا عن هذا لنصرته، وعن هذا لحفظ شهادته.
وأتي الحجاج بأسرى من الخوارج، فأمر بضرب أعناقهم، فقدم فيهم شاب، فقال له: والله يا حجاج لئن كنا أسأنا في الذنب، فما أحسنت في العقوبة، قال: أف لهذه الجيف، أما كان فيهم من يقول مثل هذا، وأمسك عن القتل.
وأتي الحجاج بأسرى، فأمر بقتلهم، فقال له رجل منهم: لا جزاك الله يا حجاج عن السنة خيراً، فإن الله يقول: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء) فهذا قول الله تعالى في كتابه، وقول شاعركم فيما وصف به قومه من مكارم الأخلاق:
فقال الحجاج: ويحكم أعجزتم أن تخبروني ما أخبرني
هذا المنافق، وأمسك عمن بقي.
وقال الهيثم بن عدي: أتي الحجاج بحرورية، فقال لأصحابه: ما تقولون في هذه? قالوا: اقتلها أصلح الله الأمير، ونكل بها غيرها، فتبسمت الحرورية فقال لها: لم تبسمت? فقالت: لقد كان وزراء أخيك فرعون خيراً من وزرائك يا حجاج، استشارهم في قتل موسى، وقالوا: (أرجه وأخاه) وهؤلاء يأمرونك بتعجيل قتلي، فضحك الحجاج وأطلقها.
وقال الأصمعي: بعث الحجاج في يحيى بن يعمر، فقال له: أنت الذي تقول: إن الحسين بن علي ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لتأتين بالمخرج مما قلت، أو لأضربن عنقك، قال له ابن يعمر: إن جئت بالمخرج فأنا آمن? قال: نعم، قال: اقرأ قوله تعالى: (وتلك حجتنا أتينها إبراهيم على قومه نرفع درجت من نشاء إن ربك حكيم عليم ووهبنا له إسحق ويعقوب كلا هدينا ونوحاً هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهرون وكذلك نجزى المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين) فمن أبعد عيسى من إبراهيم أو الحسين? وإنما هو ابن ابنة محمد صلى الله عليه وسلم، قال الحجاج: والله لكأني ما قرأت هذه الآية قط، وولاه قضاء بلده حتى مات.
وقال رجل لابنه: لو أوصيت بك إلى فلان? فقال: يا أبت إذا لم يكن للحي إلا وصية الميت، فالحي هو الميت.
ودخل الفرزدق على سليمان بن عبد الملك، فقال له: من أنت? كأنه لا يعرفه، فقال له الفرزدق: أو ما تعرفني يا أمير المؤمنين? قال: لا قال: أنا من قوم منهم أوفى العرب، وأسود العرب، وأجود العرب، وأحلم العرب، وأفرس العرب، وأشعر العرب، قال سليمان: والله لتبينن ما قلت، أو لأوجعن ظهرك ضرباً، قال: نعم يا أمير المؤمنين، أما أوفى العرب فحاجب بن زرارة الذي رهن قومه عن جميع العرب، فوفى بها، وأما أسود العرب فقيس بن عاصم الذي وفد على النبي صلى الله عليه وسلم، فبسط له رداءه، وقال: هذا سيد الوبر، وأما أحلم العرب فالأحنف بن قيس الذي ضرب به المثل، وأما أجود العرب فعتاب بن ورقاء الرياحي، وأما أفرس العرب فالحريش بن عبد الله السعدي، وأما أشعر العرب فها أنا بين يديك، فاغتم سليمان مما سمع من فخره، ولم ينكره، وقال: ارجع على عقبيك؛ فما لك عندنا من ناشئ خير.
وقال أبو عبيد: اجتمعت وفود العرب عند النعمان بن المنذر، فأخرج لهم بردين، وقال: ليقم أعز العرب قبيلة فليلبسهما، فقام عامر بن الحمير السعدي، فاتزر بأحداهما، وارتدى بالآخر، فقال له النعمان: بم أنت أعز العرب? قال: العز والعدد في العرب في معد ثم في نزار، ثم في تميم، ثم في سعد، ثم في كعب، ثم في عوف، ثم في بهدلة، فمن أنكر هذا من العرب، فلينافرني، فسكت الناس، فقال النعمان: هذه حالتك في قومك، فكيف أنت في نفسك وأهل بيتك? قال: أنا أبو عشرة وعم عشرة وخال عشرة. فأما أنا في نفسي فهذا شاهدي، ثم وضع قدميه في الأرض، وقال: من أزالها من مكانها فله مائة من الإبل فلم يقم إليه أحد، فذهب بالبردين.
وروي لما هدم الوليد كنيسة دمشق، كتب إليه ملك الروم: أنت هدمت الكنيسة التي رأى أبوك تركها. فإن كان صواباً فقد أخطأ أبوك، وإن كان خطأ، فما عذرك? فكتب إليه (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شهدين ًَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً).
وقال العتبي: كتب قيصر إلى معاوية: أخبرني عما لا قبلة له، وعمن لا أب له، وعمن لا عشيرة له، وعمن سار به قبره، وعن ثلاثة أشياء لم تخلق في رحم، وعن شيء ونصف شيء ولا شيء، وابعث لي ببذر كل شيء، فبعث معاوية بالكتاب والقارورة إلى ابن عباس، فقال: أما ما لا قبلة له فالكعبة، ومن لا أب له فعيسى عليه السلام، ومن لا عشيرة له فآدم عليه السلام، ومن سار به قبره فيونس عليه السلام، وأما ثلاثة أشياء لم تخلق في رحم فكبش إبراهيم وناقة صالح وحية موسى عليه السلام، وأما شيء فالرجل له عقل يعمل به، وأما نصف الشيء فالذي ليس له عقل ويعمل برأي ذي العقل، وأما لا شيء فالذي ليس له عقل يعمل به، ولا يستعين بعقل غيره، وملأ القارورة ماء، وقال: هذا بذر كل شيء، فبعث معاوية إلى قيصر، فلما وصل إليه الكتاب والقارورة قال: ما خرج هذا إلا من بيت النبوة.
وكتب ملك الروم إلى عبد الملك بن مروان: أكلت لحم الجمال التي هرب عليها أبوك من المدينة إن لم أغزك جنوداً مائة ألف ومائة ألف ومائة ألف فبعث عبد الملك إلى الحجاج فقال: ابعث إلي علي بن الحسين وتواعده، واكتب لي بما يقول لك، ففعل الحجاج فقال له علي بن الحسين: إن لله لوحاً محفوظاً يلحظه في كل يوم ثلاثمائة لحظة، ليس فيها لحظة إلا ويحيي فيها ويميت، ويعز ويذل ويفعل ما يشاء، وإني لأرجو أن يكفيك منها بلحظة واحدة، فكتب به الحجاج إلى عبد الملك، فكتب عبد الملك بذلك إلى ملك الروح، فما قرأه ملك الروم قال: ما خرج هذا الكلام إلا من بيت النبوة.
وقال رجل لإبراهيم النخعي: إني أختم القرآن كل ثلاث، قال: ليتك تختمه كل ثلاثين، وتدري أي شيء تقرأ.
وسار إبراهيم النخعي في طريف، فلقيه الأعمش، فانصرف معه، فقال إبراهيم: الناس إذا رأوا قالوا: الأعمش والأعور، فقال: وما عليك أن يأثموا، ونؤجر، قال: وما عليك أن يسلموا ونسلم.
وسأل رجل ابن سيرين عن مسألة فيها أغلوطة، فقال له: أمسك حتى تسأل عنها أخاك إبليس.
وقيل لابن عباس: ما تقول في رجل طلق زوجته عدد نجوم السماء قال: يكفيه منها كواكب الجوزاء.
وقال الفضل بن عياض: اجتمع محمد بن واسع، ومالك بن دينار فقال مالك بن دينار: ما هو إلا طاعة الله أو النار، قال محمد بن واسع: ليس كما تقول، ما هو إلا عفو الله أو النار، ثم قال مالك بن دينار: إنه ليعجبني أن تكون للإنسان معيشة قدر ما تقوته، قال محمد بن واسع: ولا هو كما تقول، ولكن يعجبني أن يصبح الرجل، وليس له غداء، ويمسي وليس له عشاء، وهو مع ذلك راض عن الله، قال مالك بن دينار: ما أحوجني إلى من يعلمني مثلك.
وكان يجلس إلى سفيان الثوري فتى كثير الفكرة، حسن الاستماع، طويل الإطراق، فأراد سفيان أن يحركه ليسمع كلامه، فقال: يا فتى إن من كانوا قبلنا مروا على خيل عتاق، وبقينا على حمير دبرة، فقال: أبا عبد الله إن كنا على الطريق فما أسرع لحوقنا بالقوم.
وقيل لرجل ولي في الحرب: لا تهرب؛ فإن الأمير يغضب عليك، فقال: غضبه علي وأنا حي خير من رضاه عني وأنا ميت.
وعرض الإسكندر جنده، فتقدم إليه رجل على فرس أعرج، فأمر بإسقاطه، فضحك الرجل وولى، فأنكر الإسكندر ذلك وأمر برده فقال له: ما حملك على ما رأيت منك وقد أسقطتك? قال: تعجبت من فعلك، قال: وكيف ذلك? قال: لأن تحتك آلة الهروب، وتحتي آلة الوقوف والثبات فأسقطتني، فعجب الإسكندر من قوله، وزاد في عطائه.
وقيل لرجل: لم لا تخرج تقاتل العدو? قال: والله لا أعرف أحداً منهم ولا يعرفني فمن أين وقعت هذه العداوة بيني وبينهم.
ومدح بعض الشعراء محمد بن عبدوس صاحب الشرطة، فقال له: أما أن أعطيك من مالي شيئاً فلا، ولكن اذهب فاجن جناية، لا آخذك بها.
وجاء رجل إلى ابن أبي يعقوب فقال له: إذا نزعت ثيابي، ودخلت إلى النهر لأغتسل، إلى أين أتوجه? قال: أفضل ذلك أن يكون توجهك إلى ثيابك.
وسأله آخر، فقال له: إذا شيعت الجنازة أقدامها أفضل أم خلفها? قال: اجهد ألا تكون فوقها، وكن حيث شئت من نواحيها.
وجاء رجل إلى سوار القاضي، فقال: ما تقول أبقاك الله في القبلة في نهار رمضان? قال: مكروهة، قال: فإنها من صديقي، قال: تلك عافاك الله تقبل في شوال.
ودخل حارثة بن زيد على زياد، وبوجهه أثر، فقال له: ما هذا يا حارثة? قال: أصلح الله الأمير، ركبت فرس الأشقر فجمح بي فقال له زياد: أما أنك لو ركبت الأشهب لم يصبك منه شيء أراد حارثة بالأشقر النبيذ، وأراد زياد بالأشهب اللبن.
ووقف معاوية بن مروان بباب طحان، فنظر إلى حمار له يدور الرحا، في عنقه جلجل، فقال للطحان: لم جعلت الجلجل في عنق حمارك? قال: ربما تدركه سآمة أو نعاس، فإذا لم أسمع صوت الجلجل وعلمت أنه واقف، فصحت به قال: أرأيت إن وقف وحرك رأسه بالجلجل? قال: ومن لي بحمار يكون له مثل عقل الأمير.
وباع رجل ضيعته، فلما قبض ثمنها، قال للمشتري: لقد أخذتها كثيرة المثونة، قليلة المعونة، فقال له المشتري: وأنت والله لقد أخذتها بطيئة الاجتماع، سريعة الافتراق.
وقيل لعلي رضي الله عنه: كم بين المشرق والمغرب? قال: مسيرة يوم للشمس، قيل: فكم بين السماء والأرض? قال: مسيرة ساعة لدعوة مستجابة.
وقال أبو جعفر لعمرو بن عبيد: أعني بأصحابك أبا عثمان، قال: ارفع علم الحق يتبعك أهله.
وشكى قوم إلى المسيح عليه السلام ذنوبهم، فقال: اتركوها تغفر لكم.
وقيل لعقيل: مالك لا تطيل الهجاء? قال: يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق.
وأقبل حاكم، فرأى سكران بالأرض، فأمر به إلى السجن، فقال له الخدمة: قم إلى السجن، فقال: لو كنت أستطيع المشي إلى السجن لمشيت إلى داري.
وكان رجل غائباً عن أهله، فسألوا عن حاله: فقال لهم: هو أندلسي من رأسه، وغزي من أكتافه، ومحرم من بدنه، وتوزي من رجليه، ومتعبد من جسده، فقالوا: قل لنا: إنه عريان بالجوع.
وكان رجل له زوجة جميلة، فقال له أحد أصحابه: إنها تخونه، فطلقها وتزوج امرأة أخرى. فقال له صاحبه ذلك. كيف أنت مع هذه? قال: كنت آكل شهداً مع غيري، صرت آكل قطراناً وحدي، يريد أنها قبيحة.
وقيل لشبيب بن شيبة عند باب الرشيد: كيف رأيت الناس? قال: رأيت الداخل راجياً، والخارج راضياً.
وتكلم ابن السماك يوماً، وجارية له تسمع، فلما دخل قال: كيف سمعت? قال: ما أحسنه، لولا أنك تردده، قال: أردده حتى يفهمه من لم يفهمه، قالت له: إن كنت تردده حتى يفهمه من لم يفهمه يمله من فهمه.
وأسمع رجل عمر بن عبد العزيز بعض ما يكره، فقال: لا عليك، إنما أردت أن يستفزني الشيطان بعز السلطان، فأنال منك اليوم ما تناله مني غداً، انصرف إن شئت.
وقيل لقيس بن عاصم: بم سودك قومك، قال: بكف الأذى عنهم، وبذل الندى، ونصر المولى.
ونظر رجل إلى معاوية بن أبي سفيان، وهو غلام صغير - فقال: إني أظن هذا الغلام يسود قومه، فسمعته أمه هند، فقالت: ثكلته إن لم يسد غير قومه.
ودخل ضمرة بن ضمرة على النعمان بن المنذر، وكان قبيح المنظر، فالتفت الناس إلى أصحابه، وقال: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، فقال: أيها الملك؛ إنما المرء بأصغريه: قلبه ولسانه، إن قال قال ببيان، وإن صال صال بجنان، قال: صدقت، وبحق سودك قومك.
وقيل لعرابة الأوسي: بم سودك قومك? قال: بأربع خصال: أنخدع لهم في مالي، وأذل منهم في عرضي، ولا أحقر صغيرهم، ولا أحسد كبيرهم.
وجاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له: ما اسمك? قال: شهاب بن حرقة. قال: ممن? قال: من أهل حرة النار، قال: وأين مسكنك منها? قال: بذات لظى، قال: أدرك أهلك فقد احترقوا، فكان كما قال عمر رضي الله عنه.
وكان أشعب الطماع يختلف إلى قينة بالمدينة، فلما أراد الخروج سألها إن تعطيه خاتم ذهب في يدها ليذكرها به، فقالت له: إنه ذهبت وأخاف أن تذهب، ولكن خذ هذا العود، لعلك أن تعود، وناولته عوداً من الأرض.
وقال رجل لخالد بن صفوان: إني أحبك، قال: وما يمنعك من ذلك? ولست بجار لك ولا أخ ولا ابن عم، يريد أن الحسد موكل بالأدنى فالأدنى.
ومر محمد بن سيرين بقوم، فقام إليه رجل منهم، فقال: أبا بكر، إنا قد نلنا منك فحللنا، فقال: إني لا أحل ما حرم الله.
وكان رقبة بن مصقلة جالساً مع أصحابه، فذكروا رجلاً بشيء، فطلع ذلك الرجل، فقال له بعض أصحبه: ألا أخبره بما قلنا فيه لئلا يكون غيبة? قال: أخبره، حتى يكون غيمة.
وقيل لبعض الحكماء: فلان يعيبك، فقال: إنما يقرض الدرهم الوازن.
وصلى الأعمى في مسجد قوم فأطال بهم الإمام. فقال له الأعمش: يا هذا لا تطل صلاتنا، فإنه يكون ذو الحاجة والكبير والضعيف، قال الإمام: (وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين) قال الأعمش: أنا رسول رأس الخاشعين إليك، إنهم لا يحتاجون إلى هذا منك.
ولقي جهم رجلاً من اليونانيين، فقال له: هل لك أن تكلمني وأكلمك فمن أسرته الحجة رجع إلى قول صاحبه، قال: نعم، قال اليوناني: أخبرني عن معبودك، أرأيته? قال: أسمعته? قال: لا قال: أفلمسته? قال: لا، قال: أفشممته? قال: لا، قال: فمن أين عرفته وأنت لم تدركه بحاسة من حواسك الخمس? وإنما عقلك دائر عليها، فلا يدرك إلا ما أدت إليه من جميع المعلومات، فتلجلج جهم ساعة ثم استدرك فعكس عليه مسألته، فقال له: أتقر أن لك روحاً? قال: نعم، قال: هل رأيت روحك أو سمعته أو لمسته أو شممته أو دنته? قال: لا، قال: وكيف علمت روحك? فأقر له اليوناني.
ورفع ساق إلى حاكم، فأمر بضربه، فقال: كم تضربني? فقال له: بالحضرة تكون، وعد لنفسك.
وقيل لأعرابي: ما لك من الولد? قال: قليل خبيث، يريد لا أقل من واحد، ولا أخبث من أنثى.
واشترى رجل غلاماً، فقال له البائع: فيه عيب، قال: وما هو? قال: يبول في الفراش، قال: ليس هذا عندي عيباً، إن وجد فراشاً، دعه يبول ويسلح.
وقال رجل لطفل: ابن كم أنت? قال: ابن رجل واحد، قال: إنما سألتك عن عمرك، فقال: فقل كم عمرك? فقال له كذلك، قال: ثمانية أعوام، قال: أحية أمك? قال: ما هي بحية ولا عقرب، ولكنها امرأة، فقال: فكيف أقول? فقال له: قل: أفي الأحياء أمك? فقال له كذلك، فقال له: نعم.
ودخل رجل ببنت بكر، فوجدها مسنة، فعابها بكبر سنها، فقالت له: لا تلم إلا نفسك؛ إنك تركتني حتى كبر سني.
واشتكى طفل بآخر إلى مؤدب، فقال له: إنه يشتمني في قلبه، قال له المؤدب: حكه أنت تحتك.
ووقف رجل على طباخ، فأكل خبزه برائحة القدر، فدعاه إلى الحاكم وعرفه بفعله، فقال له الحاكم: اضرب بدرهم على رخامته، يأخذ طنينه ورد إليك درهمك.
وخطر حاكم بالليل، وهو يطوف بالمدينة على سارق ينقب داراً فقال له: ما هذا? قال: مات لنا ميت، وأنا أحفر له من أين يخرج، فقال له الحاكم: وأين أمارة الموت? البكاء والصراخ? قال: آخر الليل تسمع النياح.
وقال رجل لأحمد بن أبي خالد، وكان فظاً غليظاً، لقد أعطيت ما لم يعطه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لئن لم تخرج مما قلته لأعاقبك، فقال: قال الله تعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) وأنت فظ غليظ القلب، ولا يبرحون من حولك.
وقال أعمى: ارحموا ذا زمانتين، قيل: وما زمانتك? قال: أعمى، قبيح الصوت.
وسأل رجل رجلاً فرده وشتمه، فقال له السائل: تردني وتشتمني? قال: كرهت أن أردك غير مأجور.
وقال المتوكل لأبي العيناء: كنت أشتهي منادمتك، لولا أنك ضرير البصر، قال: إن إعفاني أمير المؤمنين من قراءة نفش النصوص، ورؤية الأهلة، فأنا أصلح للمنادمة.
وقيل لأبي العيناء: ما بقي في زماننا هذا أحد ينبغي أن يلقى قال: إلا في بئر.
وتزوج معن نائحة، فسمعها تقول: اللهم وسع علينا في الرزق، فقال: يا فاعلة، إنما الدنيا فرح وحزن، وقد أخذنا بطرفي ذلك، إن كان فرح دعوني، وإن كان حزن دعوك، فهل ثم ثالث? واعتل ضرس لرجل، ففتح فاه للطبيب، فشم رائحة قبيحة، فقال: ليس هذا من عملي، ولكن من شغل الكنافين.
وقال رجل لطبيب؛ خرج لي خراج في أقبح موضع، قال: كذبت، هذا وجهك لست أرى فيه شيئاً.
وقال يونس بن محمد: مر بنا سكران، فسلم علينا، فلم نرد عليه سلاماً، وكنا جماعة، فقعد يبول وسطنا، فقلنا له: ما تصنع? فقال: ما ظننت أن هنا أحداً.
ولما قتل الحسين بن علي جعل رجل يسلب بنته حليها ويبكي، فقالت له: ما يبكيك? قال: إني أسلبك، قالت: فدعه، قال: يأخذه غيري.
وقال أبو علقمة لحجام دعاه يحجمه: اتق غسل المحاجم، وشد قصب الملازم، وليكن شرطك وخزاً، ومصك نهزاً، ولا تكره آيباً، ولا تدعن آتياً، فوضع الحجام محاجمه في منديله، وقال: ابعث إلى الأصمعي يحجمك.
ودخل أبو علقمة على طبيب، فقال: إني أجد في بطني غمغمة وقرقرة، فقال له: أما الغمغمة فلا أعرفها، وأما القرقرة فضراط لم ينضج.
وقال رجل لآخر، إن لطمتك بلغتك المدينة، فقال: أحب أن تردفها بأخرى، عسى الله أن يرزقني حجة على يديك.
وقيل لأبي عبيد: أيما أفضل البصرة أم الكوفة? فقال: لو دلني رجل على البصرة لوهبت له الكوفة مكافأة على فعله.
وكان بعض الملوك قد أمر أهل مملكته أن يجعلوا السعي والانتشار بالليل والسكون بالنهار، فأخذ رجل بعد العصر، فأتي به للملك، فقال له: أما سمعت ندائي? قال: بلى، ولكن كانت لي حاجة مؤكدة، فأردت أن أبكر لها، فضحك الملك، وخلى سبيله.
وقيل لرجل صلى صلاة خفيفة: ما هذه الصلاة? فقال: صلاة ما فيها رياء ولا تصنع.
وقيل لبعضهم: هل يولد لابن تسعين? قال: نعم، إذا كان له جار ابن ثلاثين.
وسمع رجل من الظرفاء رجلاً يقول: كان أبي لا يدخل الزقاق إلا قام له الناس، فقال: صدقت، لأنه كان على ظهره حمل شوك.
وساق رجل قمحاً إلى طحان، فامتنع من طحنه، فقال له: اطحنه وإلا دعوت عليك، وعلى دوابك، فإني مستجاب الدعوة، فقال، فادع الله على قمحك، يرجع لك دقيقاً، فهو أنفع لك، وأسلم لدينك.
ودخل أبو العيناء على أبي الصقر، فقال له: ما أخرك عنا? فقال: سرق حماري، قال: وكيف سرق? قال: لم أكن مع اللصوص فأخبرك، قال: فلم لم تأتني على غيره? قال: قعد بي عن الشراء قلة يساري، وكرهت ذل المكاري، ومنة العواري.
ووقف أبو العيناء يوماً إلى صاعد بن مخلد، فقيل له: هو مشغول يصلي، فقال: لكل جديد لذة، وكان صاعد قبل أن يلي الوزارة نصرانياً.
وقيل لأبي العيناء: ما تقول في ابن مكرم والعباس في رستم، فقال: هما الخمر والميسر، إثمهما أكبر من نفعهما.
وقال أبو العيناء: ذكرت لبعض القيان فأحبتني على السماع، فلما رأتني استقبحتني، فقلت:
فقالت: إني لم أدرك أن أوليك على دير
العراق.
وقال محمد بن يزيد المهلبي: كنت يوماً عند المنتصر، والجماز حاضر، فقال لي المنتصر: سله، هل بقي فيه للنساء شيء? فسألته يوماً: نعم، أقود عليهن.
وقال الفتح للجماز: قد كلمت أمير المؤمنين يوليك على الكلاب والقرود قال: أفلست سامعاً مطيعاً، فضحك المتوكل، وأمر له بعشرة آلاف درهم.
وقال زكريا النيسابوري: قلت لأبي نواس: لم لا أرى في بيتك مصحفاً? فقال: النور والظلام لا يجتمعان.
وجاء شاعر إلى بشار بن برد، فأنشده شعراً ضعيفاً، وقال له: كيف تراه? فقال له: أحسنت، إذ أخرجته من صدرك، لو تركته لأورثك الفالج.
وتوعد بشار رجلاً بالهجاء، وكان ذلك الرجل زولقاً، فقال له: إن هجوتني صورتك على باب حمام، وجعلت خلفك قرداً يداعبك، فقال بشار: اللهم اخزه؛ أنا أمازجه، وهو يأبى إلا الجد.
ودخل أبو دلامة مصر، ثم انصرف منها إلى بغداد، فلقي أبا نواس، فقال له: كيف رأيت مصر? قال: رأيتها مقسمة على ثلاثة أقسام، قال: وما هي? قال: ثلث كلاب، وثلث دواب، وثلث تراب، قال: فأين الناس? قال: في الثلث الأول منها.
وكان ابن شآنة شاعراً ماجناً ظريفاً، فجاءه يوماً غلام، فقال له: علمني الزندقة، فقال له: نعم، ففعل به، فقال له: ما هذا? فقال: هذا أول باب من الزندقة.
ومرت امرأة بقوم وفي رجلها خف مقطع، فقال بعضهم، ما بال خفك يضحك? فقالت له: كذا يفعل إذا يرى القرانين.
ومرت امرأة بقوم، وفي يدها طبق مغطى، فقال لها بعضهم: أي شيء في الطبق? فقالت: فعلى أي شيء غطيناه? وقبل لأعرابي: أيسرك أن تكون أحمق ولك مائة ألف درهم? قال: لا، قيل: ولم? قال: لأن حمقة واحدة تأتي على المائة ألف درهم، وأبقى أحمق معدماً.
وتزوج عبادة امرأة، فأقامت عنده شهراً وولدت، فقال لها: ما هذا? فقالت: أنت عجنت على خميرة غيرك.
وسألت أشعب صديقة له خاتماً، فقال لها: وما تصنعين به? قالت: أذكرك به، قال: اذكريني بأنك سألتني، فمنعتك.
وجلس صبي مع قوم يأكلون طعاماً حاراً، فجعل الصبي يبكي، فقالوا: ما يبكيك? قال: الطعام حار، قالوا له: فاصبر حتى يبرد، قال: أنتم لا تصبرون.
وخرج غلام من منزله في يوم مطر شديد، فقالت له أمه: يا بني، هذا المطر كله على رأسك، قال: لا، يا أمي، أكثره على الأرض، ولو كان أكثره على رأسي ما عشت.
ونظر بعض الحكماء إلى غلام ومعه سراج، فقال له: من أين يجيء ضوء السراج? فقال له الغلام: إن أخبرتني أين يذهب إذا طفئ، أخبرتك من أين يجيء.
ومر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بصبيان يلعبون، وفيهم عبد الله بن الزبير، فهرب الصبيان، وبقي عبد الله واقفاً، فقال له عمر: لم لا تفر مع أصحابك? قال لم يكن علي جرم فأفر، ولا الطريق ضيق فأوسعه لك.
وأقبل المعتصم إلى خاقان يعوده من علة أصابته، والفتح يومئذ صبي، فقال له المعتصم: أيما أملح دار أمير المؤمنين أو دار أبيك? قال: دار أبي إذا كان فيها أمير المؤمنين.
وكان في يد المعتصم خاتم بفص، فقال له: رأيت يا فتح أحسن من هذا الفص? قال: نعم يا أمير المؤمنين، اليد التي الخاتم فيها.
وحكى محمد بن العباس قال: حدثني الفضل قال: عاتبت أم جعفر بحضرتها، وقال له: وجه إلى محمد وعبد الله خادمين خصيين يقولان لكل واحد منهما: ما يفعل معه، إذا أفضت الخلافة إليه? ففعلا، فأما محمد فإنه قال: أعطيك أموالاً، وأما عبد الله فإنه رمى الخادم بدواة، كانت بين يديه، وقال: يا ابن اللخناء، أتسألني ما أفعل معك يوم موت أمير المؤمنين، وخليفة رب العالمين، إني لأرجو أن أكون أنا وأنت فداء له، فرجعا بالخبر، فقال الرشيد لأم جعفر: ما أرى تقديم ابنك إلا ظلماً.
وقال بعضهم: رأيت أعرابياً في طريق مكة يسأل، ولم يعط شيئاً ومعه صبي صغير، فلما طال عليه الأمر، قال: ما أراك إلا محروساً، قال الصبي: يا أبت، المحروم من سألته فبخل، ولم يعط، فعجب الناس منه، ووهب له شيء كثير.
وجاء رجل إلى حمزة بن نصير فقال: أصلحك الله، إن أخي مات، وما عندي ما نكفنه، قال: والله ما حضر لي اليوم شيء، ولكن تفتقدني بعد هذا اليوم، فقال: فعسى أن تأمر لي بدرهم آخذ به ملحاً، قال: وما تصنع به? قال: أملحه لئلا ينتن حتى يتيسر الكفن إن شاء الله.
وتكلم عبد الله بن الزبير مع امرأة، فقال لها في بعض كلامه، أخرجي المال تحت استك، فقالت لمن حضر: سألتك بالله، هذا كلام الخلفاء? قالوا: لا، فقالت لابن الزبير: كيف ترى هذا الخلع الخفي?
ومر شبيب بن زيد رئيس الخوارج، بغلام في الفرات، فقال له: اخرج يا غلام أسائلك، وكان أراد قتله، فقال له الغلام: أمني حتى ألبس ثيابي، فأمنه، فقال: والله، لا ألبسها اليوم، قال شبيب: خدعتني، وانصرف عنه.
وحكى بعض البصريين أن عمر بن أسد صاحب السند قال: غزوت بعض بلاد السند، فوجدت شيخاً كبيراً، ومعه غلام، فسألته عن الناس، فقال: إن أردت أن أدلك عليهم، فاقتل هذا الغلام؛ لئلا يخبر بأمري، فأموت بضرب عنقه، ثم سألت الشيخ فقال: لو كانوا تحت قدمي ما رفعتها عنهم، وإنما خفت أن تسأل الغلام فيدلك عليهم، قال: فقتل الشيخ ولم يخبر.
وقال بعضهم: ورد الخبر على المنصور بخروج محمد بن عبد الله وأخيه إبراهيم، وهو يريد المدينة، فنظر إلى شجرة صغيرة يقال لها الخلاف، فقال للربيع: ما اسم هذه الشجرة? فقال: اجتماع يا أمير المؤمنين، فعلم أنها خلاف، وأعجبه قول الربيع.
ونظر المأمون إلى جارية له، وبيدها سواك، فقال لها: كيف تجمعين مسواكاً? قالت: محاسنك يا أمير المؤمنين، فاستحسن ذلك منها.
وأتي الحجاج بالغضبان بن القبعثري، وبيد الحجاج لقمة، فقال: والله لا أكلتها حتى أقتلك، قال الغضبان: وخير من ذلك -أصلحك الله أيها الأمير، تطعمنيها، ولا تقتلني، فتكون قد بررت في يمينك، ومننت علي، فقال الحجاج: ادن مني، فدنا منه، فأطعمه إياها، وخلى سبيله.
ويروى أن الحجاج مر في طريق المدينة بأعرابي، فقال له الأعرابي: ما وراءك أيها الركب? قال: خير قوم الحجاج، فقال الأعرابي: (إنا لله وإنا إليه راجعون) دمره الله وأهلكه، قال: ولم? قال: يخرجها كما أخرب مكة عليه لعنة الله، فنزع الحجاج عمامته عن رأسه، وقال: أنا الحجاج، فقال الأعرابي: وأنا ميمون غلام كرعان، أصرع في اليوم ثلاث مرات، فضحك الحجاج ومضى وتركه.
وكان مزيد يداخل بعض ولاة المدينة، وكان لطيف المحل عنده، فأبطأ عنه يوماً، فلما جاء، قال له: ما الذي أبطأك عني? قال: جارة لي كنت أهواها منذ زمان، فظفرت بها البارحة، وتمكنت منها، فهذا الذي حبسني، فغضب الوالي وقال: والله لآخذنك بإقرارك فلما عزم عليه قال: فاسمع مني تمام حديثي. قال: وما هو: قال: فلما أصبح خرجت لطلب معبر، يعبر لي رؤياي، فلم أجده، فهذا الذي أبطأني عنك، قال: في المنام - ويلك - رأيت هذا? قال: نعم، فسكن غضبه.
وحكى رجل عن شريك قال: رأيت أبا حنيفة وعنده حجام، يأخذ من شعره، فقال أبو حنيفة: خذ البياض من شعري، فقال له الحجام: إذن يكثر، فقال أبو حنيفة: فخذ السواد لعله يكثر، فضحك شريك، وقال: لو ترك أبو حنيفة قياسه في موضع، لتركه مع الحجام.
وجاء قوم إلى أبي حنيفة، فقالوا: ما تقول في رجل وجد معه طنبور، هل يجب عليه تأديب? قال: لا، قالوا: ولم قد وجد معه آلة الفسوق، قال: فكل واحد منكم معه آلة الزنا، فهل يجب عليكم حد? فانقطعوا.
وجاء رجل فوضع بين يديه عسل فيه نبيذ، على باب المسجد بالكوفة، وجعل ينادي: من يشتري مني كذا وكذا رطلاً بدرهم، وكان أبو حنيفة قد أحل النبيذ، فلما سمع أبو حنيفة قوله، قال: يا هذا، إنك فعلت قبيحاً، قال: أنت أحللته. قال: صدقت: ومن الحلال أن ينكح أبوك أمك في وسط السوق، ولكن يكون قبيحاً.
ودخل معن بن زائدة على المنصور، فقارب في خطوه، فقال له المنصور: كبرت يا معن، قال: في طاعتك يا أمير المؤمنين، قال: وإن فيك لجلداً قال: على أعدائك يا أمير المؤمنين، قال: وإن فيك لبقية، قال: هي لك يا أمير المؤمنين.
ورأى المنصور بعض أولاد الأشتر، فهم بقتله، فقال: يا أمير المؤمنين ذنبي أعظم من نقمتك، وعفوك أوسع من ذنبي، فإن لم أكن للعفو لسوء ما أتيته أهلاً، فأنت له أهل، فاستحسن قوله، وعفا عنه.
وأسر يوم الجمل رجل، فأتي به علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال له: ويلك، وأنت ممن ألب علينا، فقال الأشتر: دعني أضرب عنقه، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، لأن تلقى الله، وقد عفوت عني خير من أن تلقاه، وقد شفيت غيظك، قال: اذهب حيث شئت.
وأتي الحجاج برجل من الخوارج، فأمر بضرب عنقه، فقال له: أخرني يوماً، قال: ما تريد بذلك? قال: أؤمل فيه عفو الأمير، مع ما تجري به المقادير فتركه.
وأتي عبد الملك بن مروان بأسير، فدعا بالسيف والنطع، فوافق ذلك دخول صغار بني عبد الملك باكياً، قد ضربه المؤدب، فانزعج لذلك عبد الملك، وأرادوا تسكينه، فقال الأسير: دعوا الغلام ما أنت فيه عن هذا القول? قال: ما ينبغي أن يشغل المؤمن عن النصيحة شيء إلا أن يعوق عائق، قال: خلوا سبيله.
وجاز المنصور يوماً، والفرج بن فضالة جالس على باب الذهب، فقام الناس جميعاً، ولم يقم الفرج، فاستشاط المنصور غضباً، ودعا به، وقال: ما منعك من القيام? قال: خفت أن يسألني الله تعالى: لم فعلت? ويسألك: لم رضيت? وقد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فسكن غضبه، وقربه، وقضى حاجته.
وبلغ هشام بن عبد الملك عن رجل فيه شيء قبيح، فأحضره، فتكلم بحجته، فقال له هشام: وتتكلم أيضاً? فقال يا أمير المؤمنين يقول الله عز وجل: (يوم تأتى كل نفس تجدل عن نفسها)، فنجادل الله جدالاً، ولا نتكلم إليك كلاماً? فقال هشام: تكلم بما شئت.
وعربد غلام هاشمي، فشكوه إلى عمه، فأراد عمه أن يوقع به الحد، فقال: يا عم: إني أسأت، وليس معي عقلي، فلا تسيء إلي ومعك عقلك، فصفح عنه.
وجلس موسى بن عبد الملك للمظالم، فدخل عليه أهل شهرين، وفيهم سهل بن عاصم، فتظلموا إليه من عاملهم، وسهل ساكت، فقال له موسى: إن قال سهل كما قلتم صرفته عنكم، ثم قال: ما تقول يا سهل? قال: أقول: أعزك الله، إنه لم يظلمنا، ولكن الله أمر فينا وفي أمثالنا بالعدل والإحسان، فعدل فينا، ولم يحسن، ولن تصلح أحوالنا إلا بالإحسان، فقال موسى: قد صرفته عنكم، ووليتك عليهم فاعدل وأحسن.
وأقبل بعض السلاطين، فقام إليه رجل، فقال له: لم قمت? فقال: لأقعد، فولاه عملاً، واتخذه لنفسه.
وقيل لأعرابي: ما فعل بنوك? قال: أكلهم دهر لا يشبع، يعني ماتوا.
وقيل لأحد الزهاد: لم تحب الدراهم، وهي تدنيك من الدنيا? قال: هي وإن أدنتني من الدنيا، فقد صانتني عنها.
وكان في بني الجراح فتى خليع ماجن، فأراد العبث بأبي العيناء فنهاه نصاحه، فأبى، فقالوا له: شأنك به، فقال له: يا أبا العيناء، متى أسلمت? قال: حين كفر أهلوك، وأبوك الذين لم يؤدبوك، قال له الفتى: إذن علمت أنا ما أسلمت، فقال أبو العيناء: شهادتك لأهلك دعوى، وشهادتي عليهم بلوى، وستعلم أي السلاطين أقوى، وأي الشياطين أغوى، وسيعلم أهلك ما خبأ عليهم جهلك.
وأقبل رجل إلى الأعمش، فقال: يا أبا محمد، إني اكتريت حماراً بنصف درهم، وجئتك لتحدثني، قال: اكتره بالنصف الثاني، وارجع: فما أريد أن أحدثك.
وكان عقال بن سليمان يروي الحديث، فقال له بعض من حضر: إن رأيت أن ترفع صوتك؛ فإن بسمعي ثقلاً، فقال له: الثقل في كل شيء منك، ليس في سمعك.
وقال رجل لابن عمران المختار بن عبيد الله يزعم أنه يوحى إليه قال: صدق، يقول الله عز وجل: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم).
وقال رجل ليونس بن حبيب: ما بالي إذا تذاكرتم الحديث نعست قال: لأنك حمار في مسلخ إنسان.
وكان للمغيرة بن عبد الله الثقفي، وهو والي الكوفة جدي كل يوم يوضع على مائدته، فحضر يوماً أعرابي، فمد يده إلى الجدي، وأسرع فيه، فقال له المغيرة: إنك تأكله أكل حنق عليه كأن أباه نطحك، فقال له الأعرابي: وأنت تشفق عليه كأن أمه أرضعتك.
وقال معاوية لعبد الله بن عباس: لي عندك حاجة يا أمير المؤمنين أفتقضيها لي? فقال له: نعم، فقال له ابن عباس: سل حاجتك يا أمير المؤمنين، قال: أريد أن تهب لي دورك وضياعك التي بالطائف، قال: قد فعلت، فقال له معاوية: قد وصلت الرحم، فسل حاجتك، قال: حاجتي إليك أن تردها إلي، قال معاوية: قد فعلت.
وقال رجل لثمامة بن أشرس: لي إليك حاجة، قال: وأنا لي إليك حاجة أفتقضيها? قال: نعم، قال: فإن حاجتي إليك ألا تسألني حاجة.
وكان أشعب يختلف إلى قينة يعلمها، فطلبت منه درهماً، فانقطع عنها، فعلمت له دواء، ولقيته به، فقال لها: ما هذا? فقالت له: دواء علمته لك تشربه لهذا الفزع الذي بك، قال: اشربيه أنت للطمع، فلو انقطع طمعك، لانقطع فزعي.
ورمى المتوكل عصفوراً بالبندق، فلم يصبه، فقال ابن حمدون: أحسنت يا أمير المؤمنين، فقال المتوكل: أتهزأ بي? كيف أحسنت? قال: إلى العصفور الذي تركته.
ونظر أعرابي إلى درهم في يد رجل، فأدام النظر إليه، فقال له الرجل: لو كان لك ما كنت تصنع? قال: كنت أنظر إليه نظرة، ثم يكون آخر عهده بالشمس.
وحكى بعضهم قال: وقف خالد بن صفوان بباب سليمان بن علي، فاتقى بغلة كانت بالموضع واقفة، فقيل له: إنها ما ركضت أحداً قط، فقال: أخاف أن أكون أنا المستثنى، فيقال: غير خالد.
وجاء رجل إلى أبي ضمضم القاضي، يستعدي على رجل في دابة، اشتراها منه، وبها عيب، فقال أبو ضمضم: وما عيبها? قال: في أصل أذنها شيء مثل الرمانة، وفي ظهرها شيء مثل التفاحة، وفي عجيزتها شيء مثل الجوزة، وفي بطنها شيء مثل اللوزة، فقال القاضي: مر عنا يا بارد؛ هذا من صفات بستان، لا عيب دابة.
وهبت ريح شديدة، فقال الناس: قد قامت القيامة، فقال زائدة المخنث: قيامة بلا خروج دابة، ولا خروج دجال، هذا مما لا يكون.
وكتب سليمان بن عبد الملك إلى عامله بالمدينة، أن أحصي المخنثين، واخصهم، فخصاهم، وكان فيهم دلال المخنث، فمر بهم رجل، فقال له: ما هذا? فقال: الختان الثاني، فالآتي تم التخنيث.
ولما صلب ابن برحان اللص، جاز عليه خبيب بن ثابت فنظر إليه ودعا له، فقيل له: لم تدعو له، وهو برحان اللص? قال: فلمن أدعو، أللحسن وابن سيرين? وأتت امرأة إلى بلال بن بردة من ولد أبي موسى الأشعري في أمر اتفق بينها وبين زوجها، فأوجب الحاكم أن يفرق بينهما، فقالت له المرأة: يا بني موسى، ما خلقكم الله إلا للتفريق بين الناس.
وحج سليمان بن الأعمش، ومعه جماعة، فطالبهم الجمال بشيء، فأخذوا في ضربه، فقيل لسليمان بن الأعمش، وكان في يده عصاً: يا أبا محمد، ألست حاجاً? قال: بلى، ولكن من تمام مناسك الحج ضرب الجمال.
وقال الهيثم بن عدي: قعدت عند ابن عباس رضي الله عنه، فجاءت هدية من مكة فيها ثياب من عمل أهل اليمن، وأخر من مصر فقلت: ألست تروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: من جاءته هدية، وعنده قوم جلوس، فهم شركاؤه فيها، قال: يا ابن أخي، إنما ذلك في التمر والسويق، وما أشبههما، وأما في الثياب العدنية، فلا.
ولما حج المأمون اعترضه رجل في الطريق، فقال: يا أمير المؤمنين، أنا رجل أريد الحج، قال له: الطريق أمامك، قال: وليس لي نفقة، قال: قد سقط عنك الغرض، قال: إني جئت مستمخاً لا مستفتياً، فأمر له بجائزة، وضحك.
وقال أبو علي البصري لأبي العيناء: إني ولدت قبل طلوع الشمس بيسير، قال: فلذلك كنت سائلاً؛ لأنه وقت انتشار الشمس.
ووقع حرب في بعض الثغور، فخرج رجل بقوس بلا نشاب، فقيل له في ذلك، فقال: نأخذ النشاب مما يجيئنا من العدو، قيل له: فإن لم يجيء، قال: لا يكون بيننا وبينهم قتال.
وتغدى أبو الحارث عند رجل، فقدمت دجاجة، فقال لغلامه: إنما كان ينبغي أن تقدمها في أول الطعام، ارفعها، فما كان في اليوم الثاني أتى بها في وسط الطعام، فقال: ألم أقل لك: إنما يبدأ بها في أول الطعام، فقال له أبو الحارث: دجاجتك هذه ميتة أطول عمراً منها حية.
وكان بعضهم يقدم على مائدته خبز درمك مقدار ما يأكله وحده، ويطعم جليسه خبزاً أحمر، وكانت هذه عادته مع من يواكله، فحضر مائدته يوماً إنسان لم يحضرها قبل ذلك، فلما وضع الدرمك بين يديه، مد الرجل يده، وأخذ منه، فقال له صاحب الموضع: ما هذا? قال: اشتهيت أن آكل خبزي بهذا الخبز، فخجل رب الدار، وعلم قبح فعله.
وسرق لرجل بخيل عشرة آلاف درهم، فأظهر الجزع عليها، فقال بعض الناس: من أين كنت اكتسبتها? قال: كنت أجمع الدرهم إلى الدرهم منذ ثلاثين سنة، قال: فهل كنت تحدث نفسك أن تفعل بها شيئاً من أبواب البر? قال: لا، قال: فهل كنت تؤمل أن تمتع بها نفسك? قال: لا، وإنما كنت أجعلها في جراب تحت رأسي، أستلذ بها، قال: فاجعل تحت رأسك حجراً عوضاً منها.
وكان بعضهم يتعاهد وقت طعام رياح الجوهري، ولا يخطئ وقته عند الزوال، وربما دخل وهم يأكلون، أو حين تجعل المائدة، فيقول: لعن الله القدرية، من كان يستطيع أن يصرفني عن هذا الطعام وقد كان في اللوح المحفوظ أني لابد أن آكله? فلما أكثر من ذلك قال له رياح: تعال أنت في غير هذا الوقت، فإن وجدت ما تأكله، فالعن القدرية وآباءهم.
ودخل زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب على هشام بن عبد الملك بن مروان فلم يوسع له أحد في المجلس، ولم ير لنفسه موضعاً يجلس فيه، فقال: يا أمير المؤمنين إنه ليس أحد إلا وله من مجلسك موضع فقال له هشام: اجلس حيث انتهى بك المجلس لا أم لك أنت الذي نازعتك نفسك الخلافة، وأنت ابن أمة. فقال له زيد يا أمير المؤمنين إن الأمهات لا يقعدن بالرجال عن الغايات، وقد كانت أم إسماعيل عليه السلام أمة فلم يمنعه ذلك من أن يبعثه الله نبياً، وأخرج من صلبه محمداً صلى الله عليه وسلم، وكان إسحاق أمه سارة حرة، وقد مسخ الله بعض ولده قردة وخنازير.
وقال معاوية لعقيل بن أبي طالب: أنا خير لك من أخيك، فقال: إن أخي آثر دينه على دنياه، وأنت آثرت دنياك على دينك فأنت خير لك من أخي، وأخي خير لنفسه منك.
وقال له يوماً آخر: أين ترى عمك أبا لهب? فقال: في النار مفترشاً عمتك حمالة الحطب، وكانت أم جميل امرأة أبي لهب بنت حرب بن أمية بن عبد شمس.
وقال ابن حازم يوماً لكاتبة يضحك منه: أين تريد يا هامان? قال: أبني لك صرحاً.
وقال الأحوص للفرزدق: متى عهدك بالزنى يا أبا فراس? قال: مذ ماتت العجوز أمك.
وقال يهودي حين قتل عثمان رحمه الله، وقعت الفتنة: إنما عهدكم بنبيكم منذ كذا، وقد فتنتم، فقال له رجل من المهاجرين: يا عدو الله، ما جفت أقدامكم من جوار البحر حتى قلتم لموسى: (اجعل لنا إلها كما لهم آلهة).
ورمى الحجاج حجراً بين يدي أعرابي، وقال له: أخبرني أذكر هو أم أنثى? فقال له الأعرابي: ارفع لي ذنبه وأخبرك.
وقال رجل لامرأته: وكان قبيحاً: إني أتمنى أن أرى إبليس، قالت له: أنا أريكه، قال: وكيف ذلك، فأخرجت له مرآة، وقالت له: انظر إلى وجهك.
وقال محمد بن داود يوماً لابن سريج، وقد أكثر عليه في السؤال: أبلغي ريقي، فقال له ابن سريج: قد أبلغتك دجلة والفرات.
وقال أمير لأعرابي: قل الحق وإلا أوجعتك ضرباً، فقال وأنت فاعمل به، فوالله إن ما أوعدك الله به على تركه أعظم مما توعدتني به.
وقال مولى لبني هاشم: رأيت ذا الرمة، وقد عارضه رجل فقال له، يهزأ به: يا أعرابي، أتشهد بما لم تره? قال: نعم، قال: بماذا? قال: أشهد أن أباك نكح أمك.
وكان للفضل بن سهل وصيفة ظريفة، كثيرة الملح والنوادر وكانت ساقية، وكان أبو نواس يولع بها ويمازحها، فقال لها يوماً: إني أحبك وتبغضينني فلم ذلك? فقالت له: لأن وجهك والحرام لا يجتمعان.
ويروى أن بثينة دخلت على عبد الملك بن مروان، فحدد النظر إليها، وقال يا بثينة: ما رأى فيك جميل حين قال فيك ما قال? قالت: يا أمير المؤمنين، ما رأى فيك الناس حين ولوك الخلافة، فضحك عبد الملك حتى بدت له سن سوداء، كان يخفيها، وما ترك لها من حاجة إلا قضاها يومئذ.
وحكى حماد الراوية قال: أخبرني خالد بن كلثوم، قال: أخبرني رجل من بني أسد أنه أدرك مياً، وكان أعور، قال: رأيتها في نسوة من قومها، فقلت: أيتكن مي? فقال النسوة: ما كنا نرى أنها تخفى على أحد، هذه هي، قلت: والله ما أدري ما كان لعجب ذا الرمة منك? وما أراك كما كان يصفك، فتنفست، وقالت: يرحم الله غيلان، إنه كان ينظر إلي بعينين، وأنت تنظر إلي بعين واحدة.
وكان بسجستان رجل يقال له بدر بن المناقر، وكان أبوه طلب في سرقة الإبل، فجلس إلى أبي الهندي الشاعر، وجعل يعرض له بالشراب، فقال أبو الهندي: إن أحدكم يرى القذاة في عين أخيه، ولا يرى الجذع في است أبيه.
ومر نصر بن سيار بأبي الهندي، وهو يتمايل سكراً، فقال له نصر: أفسدت شرفك بإدمانك الخمر، فقال أبو الهندي: لو لم أفسد شرفي لم تكن والي خرسان.
ومر الفرزدق بماء، وبه نسوة يغسلن ثيابهن، قال: فضرطت بغلته فضحكن منه، فقال لهن الفرزدق: ولم تضحكن? والله ما حملتني قط أنثى إلا فعلت كفعلها، فقالت له امرأة منهن: أترى التي حملتك تسعة أشهر كيف كان ضراطها? فخجل وانصرف.
ونازع بشاراً رجل في اليمانية والمضرية، وأذن المؤذن فقال له بشار: من الذي يؤذن باسمه مع اسم الله تعالى أمن مضر هو أو من سبأ? فسكت الرجل.
وقدم رجل من بني مخزوم على عبد الملك بن مروان، وكان زبيرياً، فقال له عبد الملك: أليس الله قد ردك على عقبيك? قال: ومن رد إليك يا أمير المؤمنين فقد رد على عقبيه، فسكت عبد الملك، وعلم أن قوله كان خطأ.
ودخل يزيد بن أبي مسلم كاتب الحجاج على سليمان بن عبد الملك، فقال له سليمان: على امرئ أجرك رسنك وسلطك على الأمة لعنة الله، أتظن الحجاج استقر في قعر جهنم، أو هو يهوي فيها? فقال: يا أمير المؤمنين إن الحجاج يأتي يوم القيامة بين أبيك وأخيك، فضعه في النار حيث شئت.
ودخل شريك القاضي على المهدي، فقال له الربيع: خنت مال الله، ومال أمير المؤمنين، فقال له شريك: لو كان ذلك لأتاك سهمك.
وقال العبثي، لما أتي بابن هبيرة إلى خالد بن عبد الله القسري، وهو والي العراق، وأتى به مغلولاً مقيداً، فقال له أيها الأمير: إن القوم الذين أنعموا عليك بهذه النعمة قد أنعموا بها على قبلك، فأنشدك الله أن تستن في سنة يستن بها فيك من بعدك، فأمر به إلى السجن، فأمر ابن هبيرة غلمانه فحفروا تحت الأرض حتى خرج الحفر تحت سريره، ثم خرج منه ليلاً، وقد أعدت له أفراس يداولها حتى أتى مسلمة بن عبد الملك، فاستجار به فأجاره، واستوهبه من هشام بن عبد الملك فوهبه له، فلما قدم خالد بن عبد الله القسري على هشام وجد عنده إبراهيم، فقال له خالد: أبقت إباق العبد، فقال له: حين نمت نومة الأمة.
وتكلم ربيعة يوماً فأكثر، وإلى جانبه أعرابي، فالتفت إليه وقال: ما تعدون البلاغة يا أعرابي? قال: قلة الكلام، وإيجاز الصواب، قال: بما تعدون العي? قال: ما كنت فيه منذ اليوم فكأنه ألقمه حجراً.
وقال رجل للأحنف بن قيس: بم سودك قومك، وما أنت بأشرفهم بيتاً، ولا أصبحهم وجهاً، ولا أحسنهم خلقاً? قال: بخلاف ما فيك يا ابن أخي? قال وما ذاك? قال: بتركي من أمرك ما لا يعنيني، كما عناك من أمري ما لا يعنيك، فخجل الرجل.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه - لرجل: من سيد قومك? قال: أنا، قال: كذبت، لو كنت كذلك لم تقله.
وقال أبو حنيفة للأعمش - وأتاه عائداً في مرضه -: لولا أن أثقل عليك يا أبا محمد لعدتك في كل يوم مرتين، فقال له الأعمش: والله يا ابن أخي، إنك لتثقل علي وأنت في بيتك، فكيف لو جئتني في كل يوم مرتين? ووقف عيينة بن حصين بباب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: استأذنوا لي على أمير المؤمنين، وقولوا له: هذا ابن الأخيار بالباب، فأذن له، فلما دخل عليه قال له: أنت ابن الأخيار? قال: نعم، قال: بل أنت ابن الأشرار. وأما ابن الأخيار فهو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام.
وقال أبو ضمرة: قدم غيلان بكلمة قد صاغها حتى وقف على ربيعة، فقال: أنت الذي تزعم أن الله أحب أن يعصى? قال ربيعة: أنت الذي تزعم أن الله يعصى كرهاً، فكأنما ألقمه حجراً.
وتكلم إياس بن معاوية مع بعض القدرية فقال: دخولك فيما ليس لك ظلم منك، قال: نعم، قال: فإن الأمر كله لله فلا تدع أن لك شيئاً منه.
وقال رجل لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: ما تقول في القدر? فقال له علي: أما أني أسألك عن ثلاث، فإن قلت في واحدة منهن: لأكفرت، وإن قلت: نعم، فأنت أنت، فمد القوم أعناقهم ليسمعوا ما يقول، فقال له علي: أخبرني عنك أخلقك الله كما شاء، أو كما شئت? قال: بل كما شاء، قال: أفخلقك الله لما شاء أو لما شئت? قال: لما شاء، قال: فيوم القيامة تأتيه بما شئت أو بما شاء? قال بما شاء، قال: قم فلا مشية لك، فسكت الرجل، ولم يجد جواباً.
ودخل رجل من الحسبانية على المأمون، فقال لثمامة بن أشرس: كلمه، فقال له ما مذهبك? قال: أقول إن الأشياء كلها على التوهم والحسبان، وإنما يدرك الناس منها على قدر عقولهم، ولا حق في الحقيقة، فقام إليه ثمامة فلطمه لطمة سوء في وجهه، فقال: يا أمير المؤمنين، يفعل بي هذا في مجلسك? قال له ثمامة: وما فعلت بك، قال: لطمتني، قال: ولعلي إنما دهنتك بالبان، ثم أنشأ يقول:
فعساك حين قعدت قمت | وحين جئت إلى الذهاب | |
وعساك تأكل من قفـاك | وأنت تحسبه كـبـاب |
ولقي أبو العيناء رجلاً من إخوانه في السحر، فجعل يعجب من بكوره، فقال له: أراك تشاركني في الفعل، وتنفرد دوني بالتعجب.
ودخل رجل بجاية، فقال: ما أكثر هذه
البلاد بكلاب، فأخرجت امرأة رأسها من طاق، وقالت: أكثرهم برانيون. وشهد عند ابن شبرمة قوم على براح فيه نخل، فقال لهم: كم من نخلة? فقالوا: لا نعلم، فرد شهادتهم، فقال له بعضهم: أنت تقضي في هذا المسجد ثلاثين سنة، فهل تعلم كم من سارية فيه? فانقطع، وأجاز شهادتهم. ودخل رجل من الهاشميين على المنصور، فقال له المنصور: متى مات ? وما كان سبب موته? فجعل يقول: اعتل رحمه الله في وقت كذا، وخلف رحمه الله كذا، فقال له الربيع: كم تترحم على أبيك بين يدي أمير المؤمنين، فقال الهاشمي: لا ألومك فأنت لا تعرف حلاوة الآباء، وكان الربيع يرمي بأنه لا يعرف له أب. وقال المنصور لأهل الشام: ألا تحمدون الله الذي رفع عنكم الطاعون منذ علينا أمركم? فقال له رجل: الله أعدل من أن يجمعك والطاعون علينا، فسكت، ولم يزل يطلب عليه العلل حتى قتله. وكان بسجستان صاحب نعمة، فأخذه يعقوب بن الليث وأفقرهن فلما كان بعد مدة أدخل عليه، فقال له يعقوب: كيف أنت الساعة? قال له: كيف كنت أنت قديماً، فقال له يعقوب: وكيف كنت أنا قديماً? قال: كما أنا الساعة، فأطرق يعقوب برأسه، وأمر له بألف درهم. وقال معاوية في مجلسه ذات يوم: إن الله عز وجل يقول: (وإن من شيء إلى عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) فلم تلومونني? فقال الأحنف بن قيس: ما نطالب بما في خزائن الله، ولكن المقدار المعلوم الذي أنزله الله من خزائنه قد جعله في خزائنك، فانقطع معاوية، ولم يجب. ودخل رجل على كسرى يتظلم من بعض عماله في ضيعة غصبها له، فقال كسرى: قد أكلت ضيعتك منذ أربعين سنة، فما عليك أن تتركها لعاملي هذه السنة? فقال: أيها الملك، وما عليك أن تسلم موضعك إلى بهرام عدوك? فأمر برد ضيعته. ودخل ابن يزيد على هشام بن عبد الملك، وعلى رأس يزيد قلنسوة حسنة، فقال هشام: بكم أخذت قلنسوتك هذه? قال: بألف درهم، قال: سبحان الله، قلنسوة بألف درهم? قال: نعم يا أمير المؤمنين، أخذتها لأكرم أطرافي، وأنت قد اشتريت جارية بألف درهم لأخس أطرافك، فأفحم هشاماً بالجواب. وجلس محمد بن الزيات للمظالم، فجاءه رجل يتظلم، فقال له: غصبني وكيلك ضيعتي، وحازها إلى أرضك، قال: تحتاج إلى بينة وشهود، وأشياء كثيرة، قال: الشهود هم البينة وأشياء كثيرة تجيء من عندك، فبقي ابن الزيات باهتاً، ثم رد عليه ضيعته. وقال رجل لجارية أبيه: يا زانية، فقالت: لو كنت كذلك لجئت بآخر مثلك. وقال رجل من العباسيين لأبي العيناء: تبغضني وقد أمرت بالصلاة علي? تقول: اللهم صل على محمد وعلى آله، فقال أبو العيناء: فإني أقول: الطيبين الصالحين، فتخرج أنت منهم. وقال أبو العيناء: ما أخجلني أحد مثل ما أخجلني ابن ظريف لعبد الرحمن بن خاقان، كنت يوماً عندهم، فقلت لأبيه: وددت أن لي ابناً مثل ابنك، فقال الابن: هذا أمر هين، عليك بأم عيالك؛ فإنها تأتيك بابن مثلي. وكان زياد الأعجم يوماً يتكلم وهو قائم، والناس حوله، فمر به الفرزدق، فقال له: صرت يا أغلف تتكلم بين الناس، فقال زياد: أو أخبرتك أمك بالخبر. وقال رجل لبعض الشعراء: أنت تقذف المحصنات في شعرك، فقال: إذن لا يصيبك في أمك من شعري شيء. وقال نصر بن سيار الأعرابي: هل أصابتك تخمة? قال: أما من طعامك، وطعام أبيك، فلا. وقال المدائني: كان عند روح بن زنباغ هند ابنة النعمان بن بشير، وكان شديد الغيرة، فأشرفت تنظر إلى وفد من جذام كانوا عنده، فزجرها، فقلت: إني والله لأبغض الحلال من جذام، فكيف بالحرام منهم?. الباب الثانيفي مستحسن الأجوبة التي هي عن ذكاء قائلها معربة قبل لأبي الأسود الدؤلي: أشهد معاوية بدراً? قال: نعم، من تلك الناحية.ولقي الحسين بن علي رضي الله عنهما في حين خروجه إلى العراق فسأله: ما وراءك? فقال له: تركت القلوب معك، والسيوف عليك، والنصر من عند الله. وقدم معن بن زائدة أسرى كانوا عنده للقتل، فلما مثلوا بين يديه، قال أصغرهم: أتقتل الأسرى عطاشاً? فأمر لهم بالماء فلما شربوا، أمر بقتلهم، فقال له: أتقتل أضيافك يا معن فعفا عنهم، وخلى سبيلهم. وقيل للحسن البصري: أينام إبليس? قال: لو نام لوجدنا الراحة. | ||||
ولقي رجل رجلاً فقال: ما اسمك? قال: بحر، قال: ابن من? قال: ابن الفرات، قال: أبو من? قال: أبو الفيض، قال: ما ينبغي أن تلقى إلا في زورق.
وسمع أشعث امرأة تقول: اللهم لا تمتني حتى تغفر لي ذنوبي، فقال: يا فاسقة، لم تسألي الله المغفرة، وأنت سألته عمر الأبد، يريد أنها لا يغفر لها.
وكان أسقف نجران يوماً جالساً في حانوت بعض الناس، فجاء مخبر لصاحب الحانوت بأن زوجته ولدت، فقال: الحمد لله، هذا ولد سعيد، فمكث ساعة، وإذا بآخر قال له: مات الولد، فقال: لا إله إلا الله، ما قضى الله تعالى أن حضرنا على ولادته، ولا على موته، فقال له الأسقف: ولا على عمله.
وجاء رجل إلى حاكم برجل؛ وقال: هذا احتلم بأمي في النوم، فقال الحاكم: يقام للشمس ويضرب ظله الحد.
وكان رجل يهوى امرأة، فرآها في النوم، وأمكنته من نفسها فأخبرها بذلك، فرفعته إلى الحاكم، وقالت له: إنه نال مني في المنام ما أراد، فليدفع إلي حقي، فقال له الحاكم: ادفع لها ديناراً، فقال الرجل: وكيف أدفع لها ديناراً، ولم أنل منها شيئاً إلا في المنام? فقال الحاكم: لابد من ذلك، فدفع لها ديناراً فلما جاوزت المرأة الباب، قال الحاكم: ارجعي إلي، فلما رجعت أخذ منها الدينار، ودفعه إلى صاحبه، وقال للمرأة: اذهبي فقد نلت منه بمقدار ما نال منك.
وقال الأصمعي: رأيت أعرابياً بالبادية قد بسط كساءه للشمس وهو يغتلي، فجعلت أنظر، فكان يأخذ البراغيث، ويدع القمل، فقلت له في ذلك، فقال: ابدأ بالفرسان، وأرجع للرجالة.
ووضع ثريد بين يدي قوم، وعليه دجاج، فسرق واحد منهم واحدة منها. فرآه آخر، فلما تم الطعام، قال له: يا فلان، اخرج الدجاجة تلتقط الحب والفتات، فقال: إنها على البيض.
ورأى رجل أحدب قد طلع في بستانه في خوخة، فقال له: يا أبا هشام ما أطلعك هناك? قال: سمعت فاض الماء، وجرى على الخوخ، فطلعت أتوضأ.
وخرج خطيب أشبيلية يوماً يتوضأ تحت برج الذهب، وكان أصلع، دون شيء في رأسه، فأخرجت الرميكية رأسها وقالت: بكم تلك القرعة? قال لها: بدرهم، قالت: إنما أعطيك فيها مقرعاً، فقال لها: إن كانت غالية رجحتها لك بهذا الببرير.
وضع المأمون طعاماً، وكان عنده أعرابي، فقال: يا أعرابي، هلم، قال: إني صائم، فاختلفت الألوان، فرأى جدياً مشوياً فغسل يده، فقال له المأمون: ألم تقل إنك صائم، قال: أقدر على صيام يوم واحد، ولا أقدر على إعادة جدي مثل هذا.
وكان بالبصرة مجنون يأكل التمر بنواه، فقيل له: بنواه تأكل التمر? فقال: كذا وزنوه علي.
ونظر رجل إلى طاق عالية، فوجد فيه امرأة جميلة، وهي تستاك، فقالت له: أتحب سواكاً? قال لها: لا أحب سواك، قالت له: ما ساقك إلى هنا? قال: إلهنا، قالت: فما أوقفك للهوى، قال: الهوى، قالت له: ما اسمك? قال: وجهك، قالت: ادخل إذن علي.
وقالت امرأة للحصين بن منذر: كيف سدت وأنت بخيل قبيح? فقال: لأني سديد الرأي، شديد الإقدام.
وقال مسلمة بن عبد الملك لأخيه هشام: كيف تطمح في الخلافة وأنت بخيل جبان? فقال: لأني حليم عفيف.
وشكى أبو العيناء حاله إلى عبد الله بن سليمان، فقال له: أليس قد كتبنا لك إلى إبراهيم بن المدبر? قال: قد كتبت إلى رجل قد قصر من همته طول الفقر، وذل الأسر، ومعاناة محن الدهر، فأخفقت في طلبي، قال: أنت قد اخترته، قال: وما علي - أعز الله الأمير - في ذلك، قد اختار موسى سبعين رجلاً فما كان منهم رشيد، واختار النبي صلى الله عليه وسلم ابن أبي سرح كاتباً، فرجع إلى المشركين مرتداً، واختار علي بن أبي طالب أبا موسى حاكماً فحكم عليه.
وسأل عبد الملك بن مروان مسلمة بن اليزيد، وكان من المعمرين، فقال: أي الملوك رأيت أكمل، وأي الزمان رأيت أفضل? فقال: أما الملوك فلم أر إلا حامداً أو ذاماً، وأما الزمان فيضع أقواماً، ويرفع أقواماً، وكلهم يذم زمانه، لأنه يبلي جديدهم، ويفرق عديدهم، ويهرم صغيرهم، ويهلك كبيرهم.
ودخل على القاضي إياس، وهو في مجلس القضاء - عدي بن أرطاة فقال له: أين أنت? فقال إياس: بينك وبين الحائط، فاسمع مني قال: للاستماع جلست، قال: أين رجل من الشام، قال: نائي المحل، سحيق الدار، قال: وتزوجت امرأة، قال: بالرفاء والبنين، قال: وولد لي غلام، قال: ليهنك الفارس، قال: وأريد الرجوع إلى وطني، قال: في حفظ الله، قال: وشرطت لأهلها ألا أخرجها من بينهم، قال: أوف لهم بالشرط، قال: فاقضي بيننا، قال: قد فعلت، قال: فعلى من قضيت? قال: على ابن أمك، قال: بشهادة من? قال: بشهادة ابن أخت خالتك.
وهذا إياس الذي يضرب به المثل في الذكاء والفطنة، وأول ما ظهر من ذكائه، أنه دخل دمشق، وهو غلام، فتحاكم عند قاضيها، مع شيخ. فصال إياس بحديثه على الشيخ، فقال القاضي: إنه شيخ كبير، فاخفض من كلامك. فقال له إياس: الحق أكبر منك: فقال له القاضي: اسكت، قال: ومن ينطق بحجتي? قال القاضي: ما أراك تقول إلا حقاً، قال له إياس: لا إله إلا الله أحق هذا أم باطل? فحكم القاضي بينهما، وانصرف.
ولما دخل عبد الملك البصرة، رأى إياساً وهو صبي، وخلفه أربعة من القراء، أصحاب الطيالسة والعمائم، وإياس يقدمهم فقال عبد الملك: أما فيكم شيخ يقدمكم غير هذا الحدث? ثم التفت إليه وقال: كم سنك? قال: سني - أطال الله بقاء الأمير - سن أسامة بن زيد حين ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً فيه أبو بكر وعمر، فقال: تقدم، بارك الله فيك، وكان سنه سبع عشرة سنة.
وقال المتوكل لأبي العيناء: ما أشد ما عليك في ذهاب بصرك? قال: ما حرمته يا أمير المؤمنين من رؤيتك من إجماع الناس على جمالك.
وقيل لأحد المكدين: أتبيع مرقعتك? قال: أرأيت صائداً يبيع شبكته? وقال رجل لأعرابي: ما يسرني لو بت ضيفاً لك، قال: لو بت ضيفاً لي لأصبحت أبطن من أمك قبل أن تلدك بساعة.
ودخل أعرابي على معاوية في عباءة فاحتقره. فقال: يا أمير المؤمنين، إن العباءة لا تكلمك، إنما يكلمك من فيها، ثم تكلم، فملأ سمعه بياناً، ثم خرج، ولم يسله شيئاً، فقال معاوية: ما رأيت رجلاً أحقر أولاً، ولا أجل آخراً منه.
وتكلم رجل عند عبد الملك بكلام ذهب فيه كل مذهب، فقال له، وقد أعجبه، ابن من أنت? قال: أنا ابن نفسي التي نلت بها هذا المقعد منك، قال: صدقت.
وعرض بعض الأدباء على صاحب له شعراً، بمحضر جماعة فجعل يعرض عن محاسن الشعر، ويتتبع مواضع النقد حسداً، فقال له صاحب الشعر: أراك كالذباب تعرض عن المواضع السليمة، وتتبع جروح الجسد.
وروي عن عمر بن الخطاب، أنه حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: لا تغالوا صدقات النساء؛ فإنه لا يبلغني عن أحد، أنه ساق أكثر من شيء ساقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو سيق إليه، إلا جعلت فضل ذلك في بيت المال، فقامت امرأة طويلة فقالت: ليس لك ذلك يا أمير المؤمنين، قال: ولم? قالت: كتاب الله أحق أن يتبع أم قولك? قال: كتاب الله، قالت: فإن الله تعالى يقول: (وأتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً) فقال عمر رضي الله عنه: امرأة أصاب، ورجل أخطأ، ثم قال: كنت نهيتكم عن أن تغالوا صدقات النساء، فليفعل كل واحد في ماله ما أحب.
وأخرج الحجاج رجلاً من سجنه ليعاقبه، فقال له: سمنت يا غضبان قال: الرفد والرفعة، والخفض والدعة، ومن يكن ضيف أمير المؤمنين يسمن، قال: لأحملنك على الأدهم، قال: مثل الأمير أعزه الله يحمل على الأدهم والورد والمكيث، قال: إنه حديد قال: لأن يكون حديداً خير من أن يكون بليداً. قال: اضربوا به الأرض، قال: (منها خلقناكم وفيها نعيدكم) قال: جروه قال: (بسم الله مجراها ومرساها) قال: احملوه على الأيدي فلما حمل، قال: (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين) فضحك الحجاج، وقال: غلبنا هذا الحديث الخبيث، خلوه إلى صفحي عنه، قال: (فاصفح عنهم وقل سلام).
وقال خالد بن الوليد لعبد المسيح بن عمرو الغساني وهو ابن ثلاثمائة وخمسين سنة، من أين أفضي أمرك? قال: من صلب أبي، قال: من أين خرجت? قال: من بطن أمي، قال: فعلام أنت? قال: على الأرض، قال: ففيم أنت? قال: في ثيابي، قال: أتعقل? قال: إي والله وأقيد، قال: ابن كم أنت? قال: ابن رجل واحد، قال: فما سنك? قال عظم، قال: ما تزيد في مسألتك إلا عناء، قال: ما أجبتك إلا عن مسألتك.
وقال الربيع بن عبد الرحمن: قلت لأعرابي: أتهمز إسرائيل? قال: إني إذن لرجل سوء، أراد قوله تعالى: (هماز مشاء بنميم)، قلت: أتجر فلسطين? قال: إني إذن لقوي.
وقيل لأعرابي: أتهمز الفأرة? قال: الهر يهمزها.
ومما يستظرف في هذا الباب أن رجلاً من محارب وفد على عبد الله بن زيد الهلالي عامل أرمينية، وقد بات على قرب من غدير فيه ضفادع، فقال عبد الله: ما تركتنا شيوخ محارب ننام لشدة أصواتها، فقال المحاربي: أصلح الله الأمير، إنها ضلت برقعاً، فهن في طلبه، أراد الهلالي قول الأخطل:
تنق بلا شيء شيوخ مـحـارب | وما خلتها كانت تريش ولا تبري | |
ضفادع في ظلماء ليل تجاوبـت | فدل عليها صوتها حية البحـر |
لكل هلالي من اللؤم برقـع | ولابن هلال برقع وقميص |
وترك رجل النبيذ، فقيل له: لم تركته، وهو رسول السرور إلى القلب? فقال: ولكنه بئس الرسول يبعث إلى الجوف فيذهب إلى الرأس.
وسمع رجل أبا العتاهية ينشد:
فانظر بطرفك حيث شئت، | فلا تـرى إلا بـخـيلا |
وقال المأمون لمحمد بن عباد: أنت متلاف، فقال: منع الجود سوء الظن بالمعبود، يقول الله تعالى: (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين).
وخوف بخيل سخياً الإملاق والفقر، فرد عليه السخي: (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا).
وقال الحسن والحسين لعبد الله بن جعفر: إنك قد أسرفت في بذل المال، فقال: بأبي أنتما وأمي، إن الله عودني أن يتفضل علي، وعودته أن أتفضل على عبيده، وأخاف أن أقطع العادة، فيقطع عني عادته.
ودخل رجل على الشعبي - وهو مع امرأته - فقال: أيكما الشعبي? فقال: هذه، فقال: ما تقول - أصلحك الله - في رجل شتمني في أول يوم من رمضان? هل يؤجر? فقال له الشعبي: إن كان قال لك: أحمق فأرجو له الأجر.
وسأله آخر، فقال له: ما تقول في رجل أدخل أصبعه في أنفه في الصلاة، فخرج عليه دم، أترى له أن يحتجم? فقال: الحمد لله الذي نقلنا من الفقه إلى الحجامة.
وسأله فقال: كيف كانت تسمى امرأة إبليس? فقال: ذلك نكاح ما شهدناه.
ودخل الشعبي الحمام فرأى داود الأزدي بلا مئزر فغمض عينيه، فقال له داود: متى عميت يا أبا عمرو? قال: مذ هتك الله سترك.
وقال الأصمعي: قلت لامرأة ظريفة: يا جارية، هل في يديك عمل? قلت: لا، ولكن في رجلي.
وقال معاوية لعمرو بن سعيد: إلى من أوصى بك أبوك? وكان صغيراً، قال: إن أبي أوصى إلي، ولم يوص بي.
وكان للفرزدق نديم يسمى زياد الأقطع، فأتى به يوماً، فخرجت له بنية للفرزدق صغيرة، فقال: ابنة من أنت? قالت: ابنة الفرزدق، قال: فما بالك حبشية? قالت: فما بال يدك مقطوعة? قال: قطعت في حرب الحرورية، قالت: بل قطعت في اللصوصية. فقال: عليك وعلى أبيك لعنة الله، ثم أخبر الفرزدق، فقال: أشهد أنها ابنتي حقاً.
وأنشد الفرزدق شعراً وهو صغير، بمحضر الحطيئة فقال: هذا والله الشعر يا غلام، هل أنجدت أمك? قال: لا بل أنجد أبي.
ونظر خالد بن صفوان إلى جماعة في مسجد البصرة، فقال: ما هذه الجماعة? قالوا: على امرأة تدل على النساء، فأتاها، فقال لها: ابقني امرأة، قالت: صفها، قال: أريدها بكراً كثيب، أو ثيباً كبكر، حلوة من قريب، ضخمة من بعيد، كانت في نعمة فأصابها فاقة، فيها أدب النعمة، وذل الحاجة، إذا اجتمعنا كنا أهل دنيا، وإذا افترقنا كنا أهل آخرة، قالت قد أصبتها لك، قال: وأين هي? قالت: في الرفيق الأعلى من الجنة فاعمل لها.
وأتى الحطيئة رجل، وهو في غنمه، فقال: يا صاحب الغنم سلام عليكم، فرفع العصا، وقال: هذه لمن سلم، فقال الرجل: إني ضيف، فقال: للضيفان أعددتها، فأعاد السلام، فقال: إن شئت قمت بها إليك.
ومر به ابن حمامة، وهو جالس في فناء بيته، فقال: السلام عليكم، فقال: قد قلت ما لا ينكر، قال: خرجت من أهلي بغير زاد قال: ضمنت لأهلك قراك، قال: أفتأذن لي أن آتي ظل بيتك? قال: دونك الجبل يقيك ظله، قال: أنا ابن الحمامة، قال: انصرف، وكن ابن أي طائر شئت.
ونزل الغضبان القبعثري خارج كرمان، وهي كثيرة الرمضاء فضرب قبته، فورد عليه أعرابي، فقال: السلام عليكم، فقال: هي كلمة معقولة، قال الأعرابي: ما اسمك? قال: آخذ، قال: أو تعطي? قال: ما أحب أن يكون لي اسمان، قال: ومن أين جئت? قال: من الدلول، قال: وأين تريد? قال: أرضاً أمشي في مناكبها، قال: ومن عرض? قال: آل فرعون على النار، قال: ومن بشر? قال: الصابرون، قال: فمن غلب? قال: حزب الله، قال: أفتسمع? قال: إنما تسمع القينة، قال: أفتقول? قال: إنما يقول الأمير قال: أفتسجع? قال: إنما تسجع الحمامة، قال: أفتنطق? قال: كتاب الله ينطق، قال: إنك لمنكر، قال: إني لمعروف، قال: ذلك أريد، قال: وما إرادتك? قال: الدخول إليك، قال: وراءك أوسع لك، قال: قد ضرتني الشمس، قال: الساعة يأتيك الفيء، قال: الرمضاء أحرقت قدمي، قال: بل عليهما يبردان، قال: أوجعني الحر، قال: ليس لي عليه من سلطان، قال: إني لا أريد طعامك ولا شرابك، قال: لا تعرض بهما فوالله ما تذوقهما، قال: سبحان الله، قال: قبل كونك، قال: ما عندك? قال: هراوة أدق بها رأسك.
وأمر عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه بعقوبة رجل، فقال له رجاء بن حيوة: إن الله قد فعل ما تحب من الظفر، فافعل ما يحب من العفو، فعفا عنه.
وقال العتبي: وقعت ماء بين حييين من قريش، فأقبل أبو سفيان، فما بقي أحد واضع رأسه إلا رفعه، فقال: يا معشر قريش، هل لكم في الحق أو فيما هو أفضل من الحق? قالوا: وهل شيء أفضل من الحق? قال: نعم، العفو، فتبادر القوم واصطلحوا.
ويروى أن نصيباً وفد على عبد الملك بن مروان، وأنشده، فاستحسن شعره، ووصله، فجاء بالطعام فأكل معه، فقال له عبد الملك: هل لك فيما يتنادم عليه، فقال: يا أمير المؤمنين تأملني قال: فإني أراك، قال: يا أمير المؤمنين الجلد أسود، والوجه قبيح، ولست في منصب كريم، وإنما بلغ بي مجالستك ومواكلتك عقلي، وأنا أكره أن أدخل عليه ما يحول بيني وبينه، فأعجب عبد الملك كلامه وأعفاه.
وأنشد يوماً هشاماً قصيدة مدحه بها، فقال له هشام: يا أسود، قد بلغت المدح فسلني أعطك، فقال: يداك يا أمير المؤمنين بالعطية أطول من لساني بالمسألة، فقال هشام: هذا والله أجزل من الشعر وأجازه جائزة عظيمة.
وقال دعبل لمخنث: والله لأهجونك، فقال: إن هجوتني لأخرجن أمك من اللعبة.
ورفع إلى الأمير أن أبا نواس زنديق، وأنشد من شعره ما يستدل به على ذلك، فأمر بإحضاره، ولما حضر أمر بقتله، فقال: ما ذنبي يا أمير المؤمنين? قال: عرفت أنك زنديق قال: وما قلت? وما ظهر علي من ذلك? قال: قولك:
ألا فاسقني خمراً، وقل لي هي الخمر | ولا تسقني سراً إذا أمكن الجـهـر |
ما جاءنا أحد يخـبـر أنـه | في جنة مذ مات أو في نار |
يا أحمد المرتجى في كل نـائبة | قم سيدي نعص جبار السماوات |
وكان الفرزدق يوماً ينشد، فنظر إلى الكميت بن زيد يستمع، وهو غلام يومئذ، فأعجبه ما رأى من إطغائه وتفهمه، فقال: يا غلام كيف ما تسمع? قال: حسن، قال: أفيسرك أني أبوك? قال: ما أحب بأبي بدلاً، ولكن وددت أنك أمي، قال: يا ابن أخي، استرها علي، فما لقيت مثلها.
وقام بشار بين يدي المهدي ينشده شعراً، ودخل خال المهدي يزيد بن منصور الحميري، وكانت في غفلة، فقال لبشار: ما صناعتك أيها الشيخ? قال: أثقب اللؤلؤ، فضحك المهدي وقال [أتهزأ] بخالي، فقال: يا أمير المؤمنين، وما أصنع به يرى شيخاً أعمى ينشد الخليفة شعراً، فيسأله عن صناعته? وكتب إلى عبد الرحمن بن الحكم بعض مواليه يسأله عملاً رفيعاً لم يكن من شاكلته فوقع في كتابه: من لم يصب وجه مطلبه كان الحرمان أولى به.
وكان أصاب عبد الله بن عمر زج رمح بقدمه في أيام الحج، فدخل عليه الحجاج يعوده، فقال له: يا أبا عبد الرحمن، لو علمت من أصابك لفعلت وفعلت، فقال له ابن عمر: أنت أصبتني، فقال: غفر الله لك، لم تقول هذا? قال: حملت السلاح في يوم لا يحمل فيه السلاح، وفي بلد لا يحمل فيه السلاح.
وحلف رجل بطلاق امرأته أن الحجاج في النار، فسأل الحسن البصري فقال: لا عليك يا ابن أخي، فإنه لم يكن الحجاج في النار، فما يضرك أن تكون مع امرأتك على زنى.
وقال جرير بن منصور: قلت لإبراهيم النخعي: ما تقول في أمر الحجاج? قال: ألم تسمع إلى قوله تعالى: (ألا لعنة الله على الظالمين) فأشهد أن الحجاج كان منهم.
وقال عبد الملك للحجاج: ما من أحد إلا وهو يعلم عيب نفسه، فصف لي عيوبك، قال: اعفني يا أمير المؤمنين، قال: لابد أن تقول، قال: أنا لجوج حقود وحسود، قال عبد الملك: ما في إبليس أشر من هذا.
وقيل للشعبي: إن الناس يزعمون أن الحجاج مؤمن، قال: مؤمن بالجبت والطاغوت، كافر بالله.
وسئل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه عن الحجاج، فقال: لو جاءت كل أمة بمنافقيها، وجئنا بالحجاج لفضلناهم.
ولما قدم أبو ليلى النابغة الجعدي على النبي صلى الله عليه وسلم وأنشده الشعر الذي يقول فيه:
بلغنا السماء مجدنا وسنـاؤنـا | وإنا لنبغي فوق ذلك مظهرا |
ولقي أبو العتاهية أبا نواس فقال له: أنت الذي لا تقول الشعر حتى تؤتى بالرياحين والأزهار فتوضع بين يديك? قال: وكيف ينبغي للشعر أن يقال إلا هكذا، قال: إني لأقوله على الكنيف، قال أبو نواس: ولذلك توجد فيه الرائحة.
ولما قدم رجال الكوفة يشكون لسعد بن أبي وقاص، قال: من يعذرني من أهل الكوفة? إن وليتهم التقى ضعفوه، وإن وليتهم القوي فجروه، فقال له المغيرة بن شعبة: يا أمير المؤمنين إن التقي الضعيف له تقاه، وعليك ضعفه، والقوي الفاجر لك قواه وعليه فجوره، قال: صدقت فأنت القوي الفاجر، فاخرج إليهم.
وقال المنصور لبعض قواده: صدق الذي قال: أجع كلبك يتبعك، وسمنه يأكلك، فقال له العباس الطوسي: أما تخشى يا أمير المؤمنين إن أجعته أن يلوح له غيرك برغيف فيتبعه ويدعك? وكتب إلى عمر بن عبد العزيز بعض عماله يستأذنه في تحصين مدينة فكتب إليه عمر: حصنها بالعدل، ونق طرقها من الظلم والسلام.
ولما أتي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بتاج كسرى وسواريه قال: إن الذي أدى هذا لأمين، قال رجل: يا أمير المؤمنين أنت أمين الله يؤدون إليك ما أديت إلى الله فإذا رتعت رتعوا.
واطلع مروان بن الحكم على صنيعة له فأنكر شيئاً، فقال لوكيله: ويحك، أظنك تخونني، قال: تظن، ولا تستيقنه، قال: نفعل قال: نعم، والله إني لأخونك، وإنك لتخون أمير المؤمنين، وإن أمير المؤمنين ليخون ربه، فلعن الله شر الثلاثة.
ومر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ببنيان بني بآجر وجص، فقال: لمن هذا? فقيل: لعاملك على البحرين، فقال: أبت الدراهم إلا أن تخرج أعناقها، وأرسل إليه فشاطره ماله.
ودخل حزيم الناعم على معاوية بن أبي سفيان، فنظر معاوية إلى ساقيه، فقال: أي ساقين? لو أنهما على جارية، فقال حزيم: في مثل عجيزتك يا أمير المؤمنين. فقال: واحدة بأخرى، والبادي أظلم.
ودخل أبو النصر سالم مولى عمر بن عبد الله على عامل للخليفة فقال له: يا أبا النصر، إنه تأتينا كتب من عند الخليفة فيها وفيها ولا نجد بداً من إنقاذها، فقال له أبو النصر: قد أتاك كتاب من عند الله قبل كتاب الخليفة، فأيهما اتبعت كنت من أهله.
ودخل الزهري على الوليد بن عبد الملك فقال: ما حديث يحدثني به أهل الشام قال: وما هو يا أمير المؤمنين? قال: يحدثوننا أن الله إذا استرعى عبداً رعيته كتبت له الحسنات، ولم تكتب عليه السيئات، قال: باطل يا أمير المؤمنين، أبني خليفة أكرم على الله أم خليفة غير بني? قال: بل بني خليفة، قال: فإن الله يقول لنبيه داود عليه السلام: (يا داود إنا جعلنك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب). فهذا يا أمير المؤمنين وعده لبني خليفة، فما ظنك بخليفة غير بني? قال: أن الناس ليفروننا عن ديننا.
وقعد معاوية بالكوفة يبايع الناس على البراءة من علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين نطيع أحياءكم، ولا نبرأ من موتاكم، فالتفت معاوية إلى المغيرة، وقال: هذا رجل فاستوحي به خيراً.
وقال الأصمعي: لما مات يزيد بن معاوية، وصارت الخلافة إلى هشام بن عبد الملك خر أصحابه سجوداً إلا الأبرش الكلبي، قال: ما منعك أن تسجد كما سجدوا? قال: لماذا يا أمير المؤمنين لأنك ذهبت عنا? قال: فإن ذهبت بك معي، قال: وتفعل يا أمير المؤمنين? قال: نعم، قال: الآن طاب السجود.
وكان سعيد بن عتبة بن حصين، إذا حضر باب السلاطين جلس جانباًن فقيل له: إنك لتباعد الإذن جهدك، قال: لأن أدعى من بعيد خير من أن أقصى من قريب، ثم قال:
رأيت أناساً يسرعـون تـبـادراً | إذا فتح البواب بابك إصبـعـا | |
ونحن سكوت جالـسـون رزانة | وحلماً إلى أن يفتح الباب أجمعا |
ووقف أبو سفيان بباب عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقد اشتغل ببعض مصلحة المسلمين، فحجبه، فقال له رجل وأراد أن يغريه يا أبا سفيان، ما كنت أرى أن تقف بباب مضري فيحجبك، فقال أبو سفيان: لا عدمت من قوي من أقف ببابه فيحجبني.
وقال الشعبي: كنت جالساً عند القاضي شريح، إذ دخلت عليه امرأة تشتكي زوجها، وهو غائب، وتبكي بكاء شديداً، فقلت: أصلحك الله ما أراها إلا مظلمة، فقال: وما علمك? قال: لبكائها، قال: لا تفعل فإن إخوة يوسف (وجاءوا أباهم عشاء يبكون)، وهم ظالمون.
وكان الحسن بن أبي الحسن لا يرى أن ترد شهادة مسلم إلا أن يجرحه المشهود عليه، فأقبل إليه رجل، فقال: يا أبا سعيد إن إياساً رد شهادتي، فقام معه الحسن إليه، فقال: أبا واتلة: لم رددت شهادة هذا المسلم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صلى قبلتنا فهو مسلم، له ما لنا وعليه ما علينا، قال: يا أبا سعيد إن الله يقول: (ممن ترضون من الشهداء) وهذا ممن لا نرضاه.
وأقبل وكيع صاحب خراسان يشهد عند إياس بشهادة، فقال له: مرحباً وأهلاً بأبي المطرف، وأجلسه معه، ثم قال له: ما جاء بك? قال: جئت لأشهد لفلان، قال: مالك وللشهادة? إنما يشهد الموالي والتجار والسوقة، قال: صدقت، وانصرف من عنده، فقيل له: خدعك، إنه لا يقبل شهادتك، قال: لو علمت ذلك لعلوته بالقضيب.
وقيل للقاضي شريح: أيهما أطيب الجوزنيق أو اللوزنيق? قال: لا أحكم على غائب.
ولما أتي بالهرمزان إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال له عمر: أعرض عليك الإسلام نصحاً لك في عاجلتك وآجلتك، فقال: يا أمير المؤمنين إنما أعتقد ما أنا عليه ولا أرغب في الإسلام رهبة، فدعا عمر بالسيف، فلما هم بقتله، قال: يا أمير المؤمنين، شربة ماء، هو أفضل من قتلي على ظمأ، فأمر له عمر بشربة ماء، فلما أخذها قال: أنا آمن حتى أشرب? قال: نعم، فرمى بها، وقال الوفاء يا أمير المؤمنين نور أبلج، قال: صدقت، لك التوقف عنك والنظر فيك، ارفعا عنه السيف، فلما رفع قال: الآن يا أمير المؤمنين، أشهد أن لا إله الله وأن محمداً عبده ورسوله، وما جاء به حق من عنده، قال عمر: أسلمت خير إسلام وما أخرك? قال: كرهت أن تظن أني إنما أسلمت فزعاً من السيف، قال عمر: إن لأهل فارس عقولاً بها استحقوا ما كانوا فيه من الملك، ثم أمر به أن ينزل ويكرم، فكان عمر يشاوره في توجيه الجيوش إلى أرض فارس.
ويشبه هذا في التلطف والتحيل في النجاة ما حكي أن الكلبي قال: لما فتح عمرو بن العاص قيسارية سار حتى نزل على موضع، فبعث إليه علجه أن ابعث إلي رجلاً من أصحابك أكلمه، ففكر عمرو، وقال: ما لهذا غيري، فخرج حتى دخل على العلج، فكلمه فسمع ما لم يسمع قط كلاماً مثله، فقال العلج: حدثني عن أصحابك، هل فيهم أحد مثلك? قال: لا تسأل عن هواني عليهم، إذ بعثوا بي إليك، وعرضوا لي إليك، ولا يدرون ما تصنع بي، فأمر له بكسوة وجائزة، وبعث إلى بوابه: إذا مر بك فاضرب عنقه، وخذ ما عنده، فخرج من عنده، فمر برجل نصراني من غسان، فعرفه، فقال له: يا عمرو قد أحسنت الدخول، فأحسن الخروج. ففطن عمرو لما أراد، ورجع فقال له العلج: ما ردك إلينا? قال: نظرت فيما أعطيتني فلم أجد ذلك يسع بني عمي، فأردت أن آتيك بعشرة منهم تعطيهم مثل هذه العطية، فيكون معروفك عند عشرة خيراً من أن يكون عند واحد، قال: صدقت، عجل بهم، وبعث إلى البواب. خل سبيله، فخرج عمرو وهو يلتفت حتى إذا أمن قال: لا عدت لمثلها أبداً، فلما صالحه عمرو دخل إليه العلج، قال له: أنت هو? قال: نعم على ما كان من غدرك.
وقال العتبي: بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عمرو بن معدي كرب أن يبعث إليه بسيفه المعروف بالصمصامة، فبعث به إليه، فلما ضرب به وجده دون ما بلغه عنه، فكتب إليه في ذلك فرد عليه: إني إنما بعثت إلى أمير المؤمنين بالسيف، ولم أبعث له بالساعد الذي يضرب.
وسأله عمر يوماً عن السلاح، فقال: يسأل أمير المؤمنين عما بدا له، فقال له: ما تقول في الرمح? قال: أخوك، وربما خانك فانقصف، قال: فما تقول في الترس? قال: هو المجن وعليه تدور الدوائر، قال: والنبل? قال: منايا تخطئ وتصيب، قال: فالدرع? قال: مفشلة للراجل، مشغلة للراكب، وإنها لحصن حصين، قال: فما تقول في السيف? قال: هنالك لا أم لك يا أمير المؤمنين فعلاه عمر بالدرة، وقال: لا، بل لا أم لك.
وقيل لمعاوية: أي الناس أحب إليك? قال: من كانت له عندي يد صالحة، قيل: فإن لم تكن? قال: فمن كانت لي عنده يد صالحة.
وقيل لأبي عقيل العراقي: كيف رأيت مروان بن الحكم عند طلب الحاجة إليه? قال: رأيته عند طلب الحاجة، رغبته في الإنعام فوق رغبته في الشكر، وحاجته إلى قضاء الحاجة أشد من حاجة صاحب الحاجة.
وقال الأصمعي: نظر زياد إلى رجل من ضبة يأكل أكلاً قبيحاً. وهو من أقبح الناس وجهاً، فقال: يا أخا ضبة كم عيالك? قال: سبع بنات، أنا أجمل منهن، وهن آكل مني، فضحك زياد، وقال: لله دره ما ألطف جوابه، افرضوا لكل واحدة منهن مائة وخادماً وعجلوا له ولهن أرزاقهن.
وقال رجل لإبراهيم بن أدهم: كنت أريد أن تقبل مني هذه الجبة، فقال: إن كنت غنياً قبلتها منك، وإن لم تكن غنياً لم أقبلها منك، قال: فإني غني، قال: وكم مالك? قال: ألف دينار، قال: أفكنت تود أنه أربعة آلاف? قال: نعم، قال: فأنت فقير لا أقبلها منك.
وسألت امرأة عبد الله بن جعفر، فأعطاها مالاً عظيماً، فقيل له: إنها لا تعرفك، وكانت يرضيها اليسير، قال: إن كان يرضيها اليسير فإني لا أرضى إلا بالكثير، وإن كانت لا تعرفني فأنا أعرف نفسي.
وقال الأصمعي: مدح نصيب عبد الله بن جعفر، فأمر له بمال كثير وكسوة شريفة، ورواحل موقرة براً وتمراً، فقيل له: أتفعل هذا بمثل هذا العبد الأسود? فقال: أما والله إن كان عبداً إن شعره لحر، وإن كان أسود إن ثناءه لأبيض، وإنما أخذ مالاً يفنى وثياباً تبلى، ورواحل تنضى، وأعطى مديحاً يروى، وثناء يبقى.
وقال العتبي: وفد حاجب بن زرارة على كسرى، فاستأذن عليه. فقيل له: أسيد الغرب أنت? قال لا، قيل: فسيد مضر? قال: لا، قيل: فسيد قومك? قال: لا، قيل: فسيد بني أبيك? قال: لا، ولكني رجل من العرب، فأذن له، فلما دخل عليه، قال له: من أنت? قال: سيد العرب، قال: أليس قد قيل لك: أسيد العرب أنت? فقلت: لا، حتى اقتصرت بك على بني أبيك، فقلت: لا، قال: أيها الملك لم أكن كذبك حتى دخلت عليك، فلما دخلت عليك صرت سيد العرب، قال: كسرى: املأوا فاه دراً.
وقال المنصور لمسلم بن قتيبة: ما ترى في قتل أبي مسلم فقال: (لو كان فيهما إلهة إلا الله لفسدتا)، قال: حسبك.
وقال المأمون ليزيد بن مزيد: ما أكثر الخلفاء في بني ربيعة، قال: بلى، ولكن منابرهم في الجذوع.
ودخل المأمون يوماً بيت الديوان، فرأى غلاماً جميلاً، على أذنه قلم، فقال: من أنت يا غلام? قال: الناشئ في دولتك، المتقلب في نعمتك، المؤكل لخدمتك الحسن بن رجاء.
وأتى عبد الملك بن مروان برجل يسرق، فأمر بقطع يده، فأنشأ يقول:
يدي يا أمير المؤمنين أعيذهـا | بعفوك أن تلقى مكاناً يشينهـا | |
ولا خير في الدنيا، وكانت حبيبة | إذا ما شمالي فارقتها يمينهـا |
ولما أتي الحجاج بالأسرى الذين خرجوا مع ابن الأشعث أمر بقتلهم، فقال رجل منهم: أصلح الله الأمير، لي حرمة، قال: وما هي? قال: ذكرت في عسكر بن الأشعث، فشتم في أبويك، فعرضت دونهما، وقلت: لا والله ما في نسبه مطعن، فقولوا فيه، ودعوا نسبه، قال: ومن يعلم ما ذكرت? فالتفت إلي أقرب الأسرى إليه، وقال: هذا يعلمه، فقال له الحجاج: ما تقول فيما قال هذا? قال: صدق، وبر الأمير، فقال: خليا عن هذا لنصرته، وعن هذا لحفظ شهادته.
وأتي الحجاج بأسرى من الخوارج، فأمر بضرب أعناقهم، فقدم فيهم شاب، فقال له: والله يا حجاج لئن كنا أسأنا في الذنب، فما أحسنت في العقوبة، قال: أف لهذه الجيف، أما كان فيهم من يقول مثل هذا، وأمسك عن القتل.
وأتي الحجاج بأسرى، فأمر بقتلهم، فقال له رجل منهم: لا جزاك الله يا حجاج عن السنة خيراً، فإن الله يقول: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء) فهذا قول الله تعالى في كتابه، وقول شاعركم فيما وصف به قومه من مكارم الأخلاق:
وما نقتل الأسرى ولكن نفكهم | إذا أثقل الأعناق حمل القلائد |
وقال الهيثم بن عدي: أتي الحجاج بحرورية، فقال لأصحابه: ما تقولون في هذه? قالوا: اقتلها أصلح الله الأمير، ونكل بها غيرها، فتبسمت الحرورية فقال لها: لم تبسمت? فقالت: لقد كان وزراء أخيك فرعون خيراً من وزرائك يا حجاج، استشارهم في قتل موسى، وقالوا: (أرجه وأخاه) وهؤلاء يأمرونك بتعجيل قتلي، فضحك الحجاج وأطلقها.
وقال الأصمعي: بعث الحجاج في يحيى بن يعمر، فقال له: أنت الذي تقول: إن الحسين بن علي ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لتأتين بالمخرج مما قلت، أو لأضربن عنقك، قال له ابن يعمر: إن جئت بالمخرج فأنا آمن? قال: نعم، قال: اقرأ قوله تعالى: (وتلك حجتنا أتينها إبراهيم على قومه نرفع درجت من نشاء إن ربك حكيم عليم ووهبنا له إسحق ويعقوب كلا هدينا ونوحاً هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهرون وكذلك نجزى المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين) فمن أبعد عيسى من إبراهيم أو الحسين? وإنما هو ابن ابنة محمد صلى الله عليه وسلم، قال الحجاج: والله لكأني ما قرأت هذه الآية قط، وولاه قضاء بلده حتى مات.
وقال رجل لابنه: لو أوصيت بك إلى فلان? فقال: يا أبت إذا لم يكن للحي إلا وصية الميت، فالحي هو الميت.
ودخل الفرزدق على سليمان بن عبد الملك، فقال له: من أنت? كأنه لا يعرفه، فقال له الفرزدق: أو ما تعرفني يا أمير المؤمنين? قال: لا قال: أنا من قوم منهم أوفى العرب، وأسود العرب، وأجود العرب، وأحلم العرب، وأفرس العرب، وأشعر العرب، قال سليمان: والله لتبينن ما قلت، أو لأوجعن ظهرك ضرباً، قال: نعم يا أمير المؤمنين، أما أوفى العرب فحاجب بن زرارة الذي رهن قومه عن جميع العرب، فوفى بها، وأما أسود العرب فقيس بن عاصم الذي وفد على النبي صلى الله عليه وسلم، فبسط له رداءه، وقال: هذا سيد الوبر، وأما أحلم العرب فالأحنف بن قيس الذي ضرب به المثل، وأما أجود العرب فعتاب بن ورقاء الرياحي، وأما أفرس العرب فالحريش بن عبد الله السعدي، وأما أشعر العرب فها أنا بين يديك، فاغتم سليمان مما سمع من فخره، ولم ينكره، وقال: ارجع على عقبيك؛ فما لك عندنا من ناشئ خير.
وقال أبو عبيد: اجتمعت وفود العرب عند النعمان بن المنذر، فأخرج لهم بردين، وقال: ليقم أعز العرب قبيلة فليلبسهما، فقام عامر بن الحمير السعدي، فاتزر بأحداهما، وارتدى بالآخر، فقال له النعمان: بم أنت أعز العرب? قال: العز والعدد في العرب في معد ثم في نزار، ثم في تميم، ثم في سعد، ثم في كعب، ثم في عوف، ثم في بهدلة، فمن أنكر هذا من العرب، فلينافرني، فسكت الناس، فقال النعمان: هذه حالتك في قومك، فكيف أنت في نفسك وأهل بيتك? قال: أنا أبو عشرة وعم عشرة وخال عشرة. فأما أنا في نفسي فهذا شاهدي، ثم وضع قدميه في الأرض، وقال: من أزالها من مكانها فله مائة من الإبل فلم يقم إليه أحد، فذهب بالبردين.
وروي لما هدم الوليد كنيسة دمشق، كتب إليه ملك الروم: أنت هدمت الكنيسة التي رأى أبوك تركها. فإن كان صواباً فقد أخطأ أبوك، وإن كان خطأ، فما عذرك? فكتب إليه (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شهدين ًَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً).
وقال العتبي: كتب قيصر إلى معاوية: أخبرني عما لا قبلة له، وعمن لا أب له، وعمن لا عشيرة له، وعمن سار به قبره، وعن ثلاثة أشياء لم تخلق في رحم، وعن شيء ونصف شيء ولا شيء، وابعث لي ببذر كل شيء، فبعث معاوية بالكتاب والقارورة إلى ابن عباس، فقال: أما ما لا قبلة له فالكعبة، ومن لا أب له فعيسى عليه السلام، ومن لا عشيرة له فآدم عليه السلام، ومن سار به قبره فيونس عليه السلام، وأما ثلاثة أشياء لم تخلق في رحم فكبش إبراهيم وناقة صالح وحية موسى عليه السلام، وأما شيء فالرجل له عقل يعمل به، وأما نصف الشيء فالذي ليس له عقل ويعمل برأي ذي العقل، وأما لا شيء فالذي ليس له عقل يعمل به، ولا يستعين بعقل غيره، وملأ القارورة ماء، وقال: هذا بذر كل شيء، فبعث معاوية إلى قيصر، فلما وصل إليه الكتاب والقارورة قال: ما خرج هذا إلا من بيت النبوة.
وكتب ملك الروم إلى عبد الملك بن مروان: أكلت لحم الجمال التي هرب عليها أبوك من المدينة إن لم أغزك جنوداً مائة ألف ومائة ألف ومائة ألف فبعث عبد الملك إلى الحجاج فقال: ابعث إلي علي بن الحسين وتواعده، واكتب لي بما يقول لك، ففعل الحجاج فقال له علي بن الحسين: إن لله لوحاً محفوظاً يلحظه في كل يوم ثلاثمائة لحظة، ليس فيها لحظة إلا ويحيي فيها ويميت، ويعز ويذل ويفعل ما يشاء، وإني لأرجو أن يكفيك منها بلحظة واحدة، فكتب به الحجاج إلى عبد الملك، فكتب عبد الملك بذلك إلى ملك الروح، فما قرأه ملك الروم قال: ما خرج هذا الكلام إلا من بيت النبوة.
وقال رجل لإبراهيم النخعي: إني أختم القرآن كل ثلاث، قال: ليتك تختمه كل ثلاثين، وتدري أي شيء تقرأ.
وسار إبراهيم النخعي في طريف، فلقيه الأعمش، فانصرف معه، فقال إبراهيم: الناس إذا رأوا قالوا: الأعمش والأعور، فقال: وما عليك أن يأثموا، ونؤجر، قال: وما عليك أن يسلموا ونسلم.
وسأل رجل ابن سيرين عن مسألة فيها أغلوطة، فقال له: أمسك حتى تسأل عنها أخاك إبليس.
وقيل لابن عباس: ما تقول في رجل طلق زوجته عدد نجوم السماء قال: يكفيه منها كواكب الجوزاء.
وقال الفضل بن عياض: اجتمع محمد بن واسع، ومالك بن دينار فقال مالك بن دينار: ما هو إلا طاعة الله أو النار، قال محمد بن واسع: ليس كما تقول، ما هو إلا عفو الله أو النار، ثم قال مالك بن دينار: إنه ليعجبني أن تكون للإنسان معيشة قدر ما تقوته، قال محمد بن واسع: ولا هو كما تقول، ولكن يعجبني أن يصبح الرجل، وليس له غداء، ويمسي وليس له عشاء، وهو مع ذلك راض عن الله، قال مالك بن دينار: ما أحوجني إلى من يعلمني مثلك.
وكان يجلس إلى سفيان الثوري فتى كثير الفكرة، حسن الاستماع، طويل الإطراق، فأراد سفيان أن يحركه ليسمع كلامه، فقال: يا فتى إن من كانوا قبلنا مروا على خيل عتاق، وبقينا على حمير دبرة، فقال: أبا عبد الله إن كنا على الطريق فما أسرع لحوقنا بالقوم.
وقيل لرجل ولي في الحرب: لا تهرب؛ فإن الأمير يغضب عليك، فقال: غضبه علي وأنا حي خير من رضاه عني وأنا ميت.
وعرض الإسكندر جنده، فتقدم إليه رجل على فرس أعرج، فأمر بإسقاطه، فضحك الرجل وولى، فأنكر الإسكندر ذلك وأمر برده فقال له: ما حملك على ما رأيت منك وقد أسقطتك? قال: تعجبت من فعلك، قال: وكيف ذلك? قال: لأن تحتك آلة الهروب، وتحتي آلة الوقوف والثبات فأسقطتني، فعجب الإسكندر من قوله، وزاد في عطائه.
وقيل لرجل: لم لا تخرج تقاتل العدو? قال: والله لا أعرف أحداً منهم ولا يعرفني فمن أين وقعت هذه العداوة بيني وبينهم.
ومدح بعض الشعراء محمد بن عبدوس صاحب الشرطة، فقال له: أما أن أعطيك من مالي شيئاً فلا، ولكن اذهب فاجن جناية، لا آخذك بها.
وجاء رجل إلى ابن أبي يعقوب فقال له: إذا نزعت ثيابي، ودخلت إلى النهر لأغتسل، إلى أين أتوجه? قال: أفضل ذلك أن يكون توجهك إلى ثيابك.
وسأله آخر، فقال له: إذا شيعت الجنازة أقدامها أفضل أم خلفها? قال: اجهد ألا تكون فوقها، وكن حيث شئت من نواحيها.
وجاء رجل إلى سوار القاضي، فقال: ما تقول أبقاك الله في القبلة في نهار رمضان? قال: مكروهة، قال: فإنها من صديقي، قال: تلك عافاك الله تقبل في شوال.
ودخل حارثة بن زيد على زياد، وبوجهه أثر، فقال له: ما هذا يا حارثة? قال: أصلح الله الأمير، ركبت فرس الأشقر فجمح بي فقال له زياد: أما أنك لو ركبت الأشهب لم يصبك منه شيء أراد حارثة بالأشقر النبيذ، وأراد زياد بالأشهب اللبن.
ووقف معاوية بن مروان بباب طحان، فنظر إلى حمار له يدور الرحا، في عنقه جلجل، فقال للطحان: لم جعلت الجلجل في عنق حمارك? قال: ربما تدركه سآمة أو نعاس، فإذا لم أسمع صوت الجلجل وعلمت أنه واقف، فصحت به قال: أرأيت إن وقف وحرك رأسه بالجلجل? قال: ومن لي بحمار يكون له مثل عقل الأمير.
وباع رجل ضيعته، فلما قبض ثمنها، قال للمشتري: لقد أخذتها كثيرة المثونة، قليلة المعونة، فقال له المشتري: وأنت والله لقد أخذتها بطيئة الاجتماع، سريعة الافتراق.
وقيل لعلي رضي الله عنه: كم بين المشرق والمغرب? قال: مسيرة يوم للشمس، قيل: فكم بين السماء والأرض? قال: مسيرة ساعة لدعوة مستجابة.
وقال أبو جعفر لعمرو بن عبيد: أعني بأصحابك أبا عثمان، قال: ارفع علم الحق يتبعك أهله.
وشكى قوم إلى المسيح عليه السلام ذنوبهم، فقال: اتركوها تغفر لكم.
وقيل لعقيل: مالك لا تطيل الهجاء? قال: يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق.
وأقبل حاكم، فرأى سكران بالأرض، فأمر به إلى السجن، فقال له الخدمة: قم إلى السجن، فقال: لو كنت أستطيع المشي إلى السجن لمشيت إلى داري.
وكان رجل غائباً عن أهله، فسألوا عن حاله: فقال لهم: هو أندلسي من رأسه، وغزي من أكتافه، ومحرم من بدنه، وتوزي من رجليه، ومتعبد من جسده، فقالوا: قل لنا: إنه عريان بالجوع.
وكان رجل له زوجة جميلة، فقال له أحد أصحابه: إنها تخونه، فطلقها وتزوج امرأة أخرى. فقال له صاحبه ذلك. كيف أنت مع هذه? قال: كنت آكل شهداً مع غيري، صرت آكل قطراناً وحدي، يريد أنها قبيحة.
وقيل لشبيب بن شيبة عند باب الرشيد: كيف رأيت الناس? قال: رأيت الداخل راجياً، والخارج راضياً.
وتكلم ابن السماك يوماً، وجارية له تسمع، فلما دخل قال: كيف سمعت? قال: ما أحسنه، لولا أنك تردده، قال: أردده حتى يفهمه من لم يفهمه، قالت له: إن كنت تردده حتى يفهمه من لم يفهمه يمله من فهمه.
وأسمع رجل عمر بن عبد العزيز بعض ما يكره، فقال: لا عليك، إنما أردت أن يستفزني الشيطان بعز السلطان، فأنال منك اليوم ما تناله مني غداً، انصرف إن شئت.
وقيل لقيس بن عاصم: بم سودك قومك، قال: بكف الأذى عنهم، وبذل الندى، ونصر المولى.
ونظر رجل إلى معاوية بن أبي سفيان، وهو غلام صغير - فقال: إني أظن هذا الغلام يسود قومه، فسمعته أمه هند، فقالت: ثكلته إن لم يسد غير قومه.
ودخل ضمرة بن ضمرة على النعمان بن المنذر، وكان قبيح المنظر، فالتفت الناس إلى أصحابه، وقال: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، فقال: أيها الملك؛ إنما المرء بأصغريه: قلبه ولسانه، إن قال قال ببيان، وإن صال صال بجنان، قال: صدقت، وبحق سودك قومك.
وقيل لعرابة الأوسي: بم سودك قومك? قال: بأربع خصال: أنخدع لهم في مالي، وأذل منهم في عرضي، ولا أحقر صغيرهم، ولا أحسد كبيرهم.
وجاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له: ما اسمك? قال: شهاب بن حرقة. قال: ممن? قال: من أهل حرة النار، قال: وأين مسكنك منها? قال: بذات لظى، قال: أدرك أهلك فقد احترقوا، فكان كما قال عمر رضي الله عنه.
وكان أشعب الطماع يختلف إلى قينة بالمدينة، فلما أراد الخروج سألها إن تعطيه خاتم ذهب في يدها ليذكرها به، فقالت له: إنه ذهبت وأخاف أن تذهب، ولكن خذ هذا العود، لعلك أن تعود، وناولته عوداً من الأرض.
وقال رجل لخالد بن صفوان: إني أحبك، قال: وما يمنعك من ذلك? ولست بجار لك ولا أخ ولا ابن عم، يريد أن الحسد موكل بالأدنى فالأدنى.
ومر محمد بن سيرين بقوم، فقام إليه رجل منهم، فقال: أبا بكر، إنا قد نلنا منك فحللنا، فقال: إني لا أحل ما حرم الله.
وكان رقبة بن مصقلة جالساً مع أصحابه، فذكروا رجلاً بشيء، فطلع ذلك الرجل، فقال له بعض أصحبه: ألا أخبره بما قلنا فيه لئلا يكون غيبة? قال: أخبره، حتى يكون غيمة.
وقيل لبعض الحكماء: فلان يعيبك، فقال: إنما يقرض الدرهم الوازن.
وصلى الأعمى في مسجد قوم فأطال بهم الإمام. فقال له الأعمش: يا هذا لا تطل صلاتنا، فإنه يكون ذو الحاجة والكبير والضعيف، قال الإمام: (وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين) قال الأعمش: أنا رسول رأس الخاشعين إليك، إنهم لا يحتاجون إلى هذا منك.
ولقي جهم رجلاً من اليونانيين، فقال له: هل لك أن تكلمني وأكلمك فمن أسرته الحجة رجع إلى قول صاحبه، قال: نعم، قال اليوناني: أخبرني عن معبودك، أرأيته? قال: أسمعته? قال: لا قال: أفلمسته? قال: لا، قال: أفشممته? قال: لا، قال: فمن أين عرفته وأنت لم تدركه بحاسة من حواسك الخمس? وإنما عقلك دائر عليها، فلا يدرك إلا ما أدت إليه من جميع المعلومات، فتلجلج جهم ساعة ثم استدرك فعكس عليه مسألته، فقال له: أتقر أن لك روحاً? قال: نعم، قال: هل رأيت روحك أو سمعته أو لمسته أو شممته أو دنته? قال: لا، قال: وكيف علمت روحك? فأقر له اليوناني.
ورفع ساق إلى حاكم، فأمر بضربه، فقال: كم تضربني? فقال له: بالحضرة تكون، وعد لنفسك.
وقيل لأعرابي: ما لك من الولد? قال: قليل خبيث، يريد لا أقل من واحد، ولا أخبث من أنثى.
واشترى رجل غلاماً، فقال له البائع: فيه عيب، قال: وما هو? قال: يبول في الفراش، قال: ليس هذا عندي عيباً، إن وجد فراشاً، دعه يبول ويسلح.
وقال رجل لطفل: ابن كم أنت? قال: ابن رجل واحد، قال: إنما سألتك عن عمرك، فقال: فقل كم عمرك? فقال له كذلك، قال: ثمانية أعوام، قال: أحية أمك? قال: ما هي بحية ولا عقرب، ولكنها امرأة، فقال: فكيف أقول? فقال له: قل: أفي الأحياء أمك? فقال له كذلك، فقال له: نعم.
ودخل رجل ببنت بكر، فوجدها مسنة، فعابها بكبر سنها، فقالت له: لا تلم إلا نفسك؛ إنك تركتني حتى كبر سني.
واشتكى طفل بآخر إلى مؤدب، فقال له: إنه يشتمني في قلبه، قال له المؤدب: حكه أنت تحتك.
ووقف رجل على طباخ، فأكل خبزه برائحة القدر، فدعاه إلى الحاكم وعرفه بفعله، فقال له الحاكم: اضرب بدرهم على رخامته، يأخذ طنينه ورد إليك درهمك.
وخطر حاكم بالليل، وهو يطوف بالمدينة على سارق ينقب داراً فقال له: ما هذا? قال: مات لنا ميت، وأنا أحفر له من أين يخرج، فقال له الحاكم: وأين أمارة الموت? البكاء والصراخ? قال: آخر الليل تسمع النياح.
وقال رجل لأحمد بن أبي خالد، وكان فظاً غليظاً، لقد أعطيت ما لم يعطه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لئن لم تخرج مما قلته لأعاقبك، فقال: قال الله تعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) وأنت فظ غليظ القلب، ولا يبرحون من حولك.
وقال أعمى: ارحموا ذا زمانتين، قيل: وما زمانتك? قال: أعمى، قبيح الصوت.
وسأل رجل رجلاً فرده وشتمه، فقال له السائل: تردني وتشتمني? قال: كرهت أن أردك غير مأجور.
وقال المتوكل لأبي العيناء: كنت أشتهي منادمتك، لولا أنك ضرير البصر، قال: إن إعفاني أمير المؤمنين من قراءة نفش النصوص، ورؤية الأهلة، فأنا أصلح للمنادمة.
وقيل لأبي العيناء: ما بقي في زماننا هذا أحد ينبغي أن يلقى قال: إلا في بئر.
وتزوج معن نائحة، فسمعها تقول: اللهم وسع علينا في الرزق، فقال: يا فاعلة، إنما الدنيا فرح وحزن، وقد أخذنا بطرفي ذلك، إن كان فرح دعوني، وإن كان حزن دعوك، فهل ثم ثالث? واعتل ضرس لرجل، ففتح فاه للطبيب، فشم رائحة قبيحة، فقال: ليس هذا من عملي، ولكن من شغل الكنافين.
وقال رجل لطبيب؛ خرج لي خراج في أقبح موضع، قال: كذبت، هذا وجهك لست أرى فيه شيئاً.
وقال يونس بن محمد: مر بنا سكران، فسلم علينا، فلم نرد عليه سلاماً، وكنا جماعة، فقعد يبول وسطنا، فقلنا له: ما تصنع? فقال: ما ظننت أن هنا أحداً.
ولما قتل الحسين بن علي جعل رجل يسلب بنته حليها ويبكي، فقالت له: ما يبكيك? قال: إني أسلبك، قالت: فدعه، قال: يأخذه غيري.
وقال أبو علقمة لحجام دعاه يحجمه: اتق غسل المحاجم، وشد قصب الملازم، وليكن شرطك وخزاً، ومصك نهزاً، ولا تكره آيباً، ولا تدعن آتياً، فوضع الحجام محاجمه في منديله، وقال: ابعث إلى الأصمعي يحجمك.
ودخل أبو علقمة على طبيب، فقال: إني أجد في بطني غمغمة وقرقرة، فقال له: أما الغمغمة فلا أعرفها، وأما القرقرة فضراط لم ينضج.
وقال رجل لآخر، إن لطمتك بلغتك المدينة، فقال: أحب أن تردفها بأخرى، عسى الله أن يرزقني حجة على يديك.
وقيل لأبي عبيد: أيما أفضل البصرة أم الكوفة? فقال: لو دلني رجل على البصرة لوهبت له الكوفة مكافأة على فعله.
وكان بعض الملوك قد أمر أهل مملكته أن يجعلوا السعي والانتشار بالليل والسكون بالنهار، فأخذ رجل بعد العصر، فأتي به للملك، فقال له: أما سمعت ندائي? قال: بلى، ولكن كانت لي حاجة مؤكدة، فأردت أن أبكر لها، فضحك الملك، وخلى سبيله.
وقيل لرجل صلى صلاة خفيفة: ما هذه الصلاة? فقال: صلاة ما فيها رياء ولا تصنع.
وقيل لبعضهم: هل يولد لابن تسعين? قال: نعم، إذا كان له جار ابن ثلاثين.
وسمع رجل من الظرفاء رجلاً يقول: كان أبي لا يدخل الزقاق إلا قام له الناس، فقال: صدقت، لأنه كان على ظهره حمل شوك.
وساق رجل قمحاً إلى طحان، فامتنع من طحنه، فقال له: اطحنه وإلا دعوت عليك، وعلى دوابك، فإني مستجاب الدعوة، فقال، فادع الله على قمحك، يرجع لك دقيقاً، فهو أنفع لك، وأسلم لدينك.
ودخل أبو العيناء على أبي الصقر، فقال له: ما أخرك عنا? فقال: سرق حماري، قال: وكيف سرق? قال: لم أكن مع اللصوص فأخبرك، قال: فلم لم تأتني على غيره? قال: قعد بي عن الشراء قلة يساري، وكرهت ذل المكاري، ومنة العواري.
ووقف أبو العيناء يوماً إلى صاعد بن مخلد، فقيل له: هو مشغول يصلي، فقال: لكل جديد لذة، وكان صاعد قبل أن يلي الوزارة نصرانياً.
وقيل لأبي العيناء: ما تقول في ابن مكرم والعباس في رستم، فقال: هما الخمر والميسر، إثمهما أكبر من نفعهما.
وقال أبو العيناء: ذكرت لبعض القيان فأحبتني على السماع، فلما رأتني استقبحتني، فقلت:
وشاطرة لما رأتني تـنـكـرت | وقالت: قبيح أحول، ما له جسم | |
فإن تنكري مني احولالاً، فإننـي | أديب أريب، لا عيي، ولا فدم |
وقال محمد بن يزيد المهلبي: كنت يوماً عند المنتصر، والجماز حاضر، فقال لي المنتصر: سله، هل بقي فيه للنساء شيء? فسألته يوماً: نعم، أقود عليهن.
وقال الفتح للجماز: قد كلمت أمير المؤمنين يوليك على الكلاب والقرود قال: أفلست سامعاً مطيعاً، فضحك المتوكل، وأمر له بعشرة آلاف درهم.
وقال زكريا النيسابوري: قلت لأبي نواس: لم لا أرى في بيتك مصحفاً? فقال: النور والظلام لا يجتمعان.
وجاء شاعر إلى بشار بن برد، فأنشده شعراً ضعيفاً، وقال له: كيف تراه? فقال له: أحسنت، إذ أخرجته من صدرك، لو تركته لأورثك الفالج.
وتوعد بشار رجلاً بالهجاء، وكان ذلك الرجل زولقاً، فقال له: إن هجوتني صورتك على باب حمام، وجعلت خلفك قرداً يداعبك، فقال بشار: اللهم اخزه؛ أنا أمازجه، وهو يأبى إلا الجد.
ودخل أبو دلامة مصر، ثم انصرف منها إلى بغداد، فلقي أبا نواس، فقال له: كيف رأيت مصر? قال: رأيتها مقسمة على ثلاثة أقسام، قال: وما هي? قال: ثلث كلاب، وثلث دواب، وثلث تراب، قال: فأين الناس? قال: في الثلث الأول منها.
وكان ابن شآنة شاعراً ماجناً ظريفاً، فجاءه يوماً غلام، فقال له: علمني الزندقة، فقال له: نعم، ففعل به، فقال له: ما هذا? فقال: هذا أول باب من الزندقة.
ومرت امرأة بقوم وفي رجلها خف مقطع، فقال بعضهم، ما بال خفك يضحك? فقالت له: كذا يفعل إذا يرى القرانين.
ومرت امرأة بقوم، وفي يدها طبق مغطى، فقال لها بعضهم: أي شيء في الطبق? فقالت: فعلى أي شيء غطيناه? وقبل لأعرابي: أيسرك أن تكون أحمق ولك مائة ألف درهم? قال: لا، قيل: ولم? قال: لأن حمقة واحدة تأتي على المائة ألف درهم، وأبقى أحمق معدماً.
وتزوج عبادة امرأة، فأقامت عنده شهراً وولدت، فقال لها: ما هذا? فقالت: أنت عجنت على خميرة غيرك.
وسألت أشعب صديقة له خاتماً، فقال لها: وما تصنعين به? قالت: أذكرك به، قال: اذكريني بأنك سألتني، فمنعتك.
وجلس صبي مع قوم يأكلون طعاماً حاراً، فجعل الصبي يبكي، فقالوا: ما يبكيك? قال: الطعام حار، قالوا له: فاصبر حتى يبرد، قال: أنتم لا تصبرون.
وخرج غلام من منزله في يوم مطر شديد، فقالت له أمه: يا بني، هذا المطر كله على رأسك، قال: لا، يا أمي، أكثره على الأرض، ولو كان أكثره على رأسي ما عشت.
ونظر بعض الحكماء إلى غلام ومعه سراج، فقال له: من أين يجيء ضوء السراج? فقال له الغلام: إن أخبرتني أين يذهب إذا طفئ، أخبرتك من أين يجيء.
ومر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بصبيان يلعبون، وفيهم عبد الله بن الزبير، فهرب الصبيان، وبقي عبد الله واقفاً، فقال له عمر: لم لا تفر مع أصحابك? قال لم يكن علي جرم فأفر، ولا الطريق ضيق فأوسعه لك.
وأقبل المعتصم إلى خاقان يعوده من علة أصابته، والفتح يومئذ صبي، فقال له المعتصم: أيما أملح دار أمير المؤمنين أو دار أبيك? قال: دار أبي إذا كان فيها أمير المؤمنين.
وكان في يد المعتصم خاتم بفص، فقال له: رأيت يا فتح أحسن من هذا الفص? قال: نعم يا أمير المؤمنين، اليد التي الخاتم فيها.
وحكى محمد بن العباس قال: حدثني الفضل قال: عاتبت أم جعفر بحضرتها، وقال له: وجه إلى محمد وعبد الله خادمين خصيين يقولان لكل واحد منهما: ما يفعل معه، إذا أفضت الخلافة إليه? ففعلا، فأما محمد فإنه قال: أعطيك أموالاً، وأما عبد الله فإنه رمى الخادم بدواة، كانت بين يديه، وقال: يا ابن اللخناء، أتسألني ما أفعل معك يوم موت أمير المؤمنين، وخليفة رب العالمين، إني لأرجو أن أكون أنا وأنت فداء له، فرجعا بالخبر، فقال الرشيد لأم جعفر: ما أرى تقديم ابنك إلا ظلماً.
وقال بعضهم: رأيت أعرابياً في طريق مكة يسأل، ولم يعط شيئاً ومعه صبي صغير، فلما طال عليه الأمر، قال: ما أراك إلا محروساً، قال الصبي: يا أبت، المحروم من سألته فبخل، ولم يعط، فعجب الناس منه، ووهب له شيء كثير.
وجاء رجل إلى حمزة بن نصير فقال: أصلحك الله، إن أخي مات، وما عندي ما نكفنه، قال: والله ما حضر لي اليوم شيء، ولكن تفتقدني بعد هذا اليوم، فقال: فعسى أن تأمر لي بدرهم آخذ به ملحاً، قال: وما تصنع به? قال: أملحه لئلا ينتن حتى يتيسر الكفن إن شاء الله.
وتكلم عبد الله بن الزبير مع امرأة، فقال لها في بعض كلامه، أخرجي المال تحت استك، فقالت لمن حضر: سألتك بالله، هذا كلام الخلفاء? قالوا: لا، فقالت لابن الزبير: كيف ترى هذا الخلع الخفي?
ومر شبيب بن زيد رئيس الخوارج، بغلام في الفرات، فقال له: اخرج يا غلام أسائلك، وكان أراد قتله، فقال له الغلام: أمني حتى ألبس ثيابي، فأمنه، فقال: والله، لا ألبسها اليوم، قال شبيب: خدعتني، وانصرف عنه.
وحكى بعض البصريين أن عمر بن أسد صاحب السند قال: غزوت بعض بلاد السند، فوجدت شيخاً كبيراً، ومعه غلام، فسألته عن الناس، فقال: إن أردت أن أدلك عليهم، فاقتل هذا الغلام؛ لئلا يخبر بأمري، فأموت بضرب عنقه، ثم سألت الشيخ فقال: لو كانوا تحت قدمي ما رفعتها عنهم، وإنما خفت أن تسأل الغلام فيدلك عليهم، قال: فقتل الشيخ ولم يخبر.
وقال بعضهم: ورد الخبر على المنصور بخروج محمد بن عبد الله وأخيه إبراهيم، وهو يريد المدينة، فنظر إلى شجرة صغيرة يقال لها الخلاف، فقال للربيع: ما اسم هذه الشجرة? فقال: اجتماع يا أمير المؤمنين، فعلم أنها خلاف، وأعجبه قول الربيع.
ونظر المأمون إلى جارية له، وبيدها سواك، فقال لها: كيف تجمعين مسواكاً? قالت: محاسنك يا أمير المؤمنين، فاستحسن ذلك منها.
وأتي الحجاج بالغضبان بن القبعثري، وبيد الحجاج لقمة، فقال: والله لا أكلتها حتى أقتلك، قال الغضبان: وخير من ذلك -أصلحك الله أيها الأمير، تطعمنيها، ولا تقتلني، فتكون قد بررت في يمينك، ومننت علي، فقال الحجاج: ادن مني، فدنا منه، فأطعمه إياها، وخلى سبيله.
ويروى أن الحجاج مر في طريق المدينة بأعرابي، فقال له الأعرابي: ما وراءك أيها الركب? قال: خير قوم الحجاج، فقال الأعرابي: (إنا لله وإنا إليه راجعون) دمره الله وأهلكه، قال: ولم? قال: يخرجها كما أخرب مكة عليه لعنة الله، فنزع الحجاج عمامته عن رأسه، وقال: أنا الحجاج، فقال الأعرابي: وأنا ميمون غلام كرعان، أصرع في اليوم ثلاث مرات، فضحك الحجاج ومضى وتركه.
وكان مزيد يداخل بعض ولاة المدينة، وكان لطيف المحل عنده، فأبطأ عنه يوماً، فلما جاء، قال له: ما الذي أبطأك عني? قال: جارة لي كنت أهواها منذ زمان، فظفرت بها البارحة، وتمكنت منها، فهذا الذي حبسني، فغضب الوالي وقال: والله لآخذنك بإقرارك فلما عزم عليه قال: فاسمع مني تمام حديثي. قال: وما هو: قال: فلما أصبح خرجت لطلب معبر، يعبر لي رؤياي، فلم أجده، فهذا الذي أبطأني عنك، قال: في المنام - ويلك - رأيت هذا? قال: نعم، فسكن غضبه.
وحكى رجل عن شريك قال: رأيت أبا حنيفة وعنده حجام، يأخذ من شعره، فقال أبو حنيفة: خذ البياض من شعري، فقال له الحجام: إذن يكثر، فقال أبو حنيفة: فخذ السواد لعله يكثر، فضحك شريك، وقال: لو ترك أبو حنيفة قياسه في موضع، لتركه مع الحجام.
وجاء قوم إلى أبي حنيفة، فقالوا: ما تقول في رجل وجد معه طنبور، هل يجب عليه تأديب? قال: لا، قالوا: ولم قد وجد معه آلة الفسوق، قال: فكل واحد منكم معه آلة الزنا، فهل يجب عليكم حد? فانقطعوا.
وجاء رجل فوضع بين يديه عسل فيه نبيذ، على باب المسجد بالكوفة، وجعل ينادي: من يشتري مني كذا وكذا رطلاً بدرهم، وكان أبو حنيفة قد أحل النبيذ، فلما سمع أبو حنيفة قوله، قال: يا هذا، إنك فعلت قبيحاً، قال: أنت أحللته. قال: صدقت: ومن الحلال أن ينكح أبوك أمك في وسط السوق، ولكن يكون قبيحاً.
ودخل معن بن زائدة على المنصور، فقارب في خطوه، فقال له المنصور: كبرت يا معن، قال: في طاعتك يا أمير المؤمنين، قال: وإن فيك لجلداً قال: على أعدائك يا أمير المؤمنين، قال: وإن فيك لبقية، قال: هي لك يا أمير المؤمنين.
ورأى المنصور بعض أولاد الأشتر، فهم بقتله، فقال: يا أمير المؤمنين ذنبي أعظم من نقمتك، وعفوك أوسع من ذنبي، فإن لم أكن للعفو لسوء ما أتيته أهلاً، فأنت له أهل، فاستحسن قوله، وعفا عنه.
وأسر يوم الجمل رجل، فأتي به علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال له: ويلك، وأنت ممن ألب علينا، فقال الأشتر: دعني أضرب عنقه، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، لأن تلقى الله، وقد عفوت عني خير من أن تلقاه، وقد شفيت غيظك، قال: اذهب حيث شئت.
وأتي الحجاج برجل من الخوارج، فأمر بضرب عنقه، فقال له: أخرني يوماً، قال: ما تريد بذلك? قال: أؤمل فيه عفو الأمير، مع ما تجري به المقادير فتركه.
وأتي عبد الملك بن مروان بأسير، فدعا بالسيف والنطع، فوافق ذلك دخول صغار بني عبد الملك باكياً، قد ضربه المؤدب، فانزعج لذلك عبد الملك، وأرادوا تسكينه، فقال الأسير: دعوا الغلام ما أنت فيه عن هذا القول? قال: ما ينبغي أن يشغل المؤمن عن النصيحة شيء إلا أن يعوق عائق، قال: خلوا سبيله.
وجاز المنصور يوماً، والفرج بن فضالة جالس على باب الذهب، فقام الناس جميعاً، ولم يقم الفرج، فاستشاط المنصور غضباً، ودعا به، وقال: ما منعك من القيام? قال: خفت أن يسألني الله تعالى: لم فعلت? ويسألك: لم رضيت? وقد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فسكن غضبه، وقربه، وقضى حاجته.
وبلغ هشام بن عبد الملك عن رجل فيه شيء قبيح، فأحضره، فتكلم بحجته، فقال له هشام: وتتكلم أيضاً? فقال يا أمير المؤمنين يقول الله عز وجل: (يوم تأتى كل نفس تجدل عن نفسها)، فنجادل الله جدالاً، ولا نتكلم إليك كلاماً? فقال هشام: تكلم بما شئت.
وعربد غلام هاشمي، فشكوه إلى عمه، فأراد عمه أن يوقع به الحد، فقال: يا عم: إني أسأت، وليس معي عقلي، فلا تسيء إلي ومعك عقلك، فصفح عنه.
وجلس موسى بن عبد الملك للمظالم، فدخل عليه أهل شهرين، وفيهم سهل بن عاصم، فتظلموا إليه من عاملهم، وسهل ساكت، فقال له موسى: إن قال سهل كما قلتم صرفته عنكم، ثم قال: ما تقول يا سهل? قال: أقول: أعزك الله، إنه لم يظلمنا، ولكن الله أمر فينا وفي أمثالنا بالعدل والإحسان، فعدل فينا، ولم يحسن، ولن تصلح أحوالنا إلا بالإحسان، فقال موسى: قد صرفته عنكم، ووليتك عليهم فاعدل وأحسن.
وأقبل بعض السلاطين، فقام إليه رجل، فقال له: لم قمت? فقال: لأقعد، فولاه عملاً، واتخذه لنفسه.
وقيل لأعرابي: ما فعل بنوك? قال: أكلهم دهر لا يشبع، يعني ماتوا.
وقيل لأحد الزهاد: لم تحب الدراهم، وهي تدنيك من الدنيا? قال: هي وإن أدنتني من الدنيا، فقد صانتني عنها.
وكان في بني الجراح فتى خليع ماجن، فأراد العبث بأبي العيناء فنهاه نصاحه، فأبى، فقالوا له: شأنك به، فقال له: يا أبا العيناء، متى أسلمت? قال: حين كفر أهلوك، وأبوك الذين لم يؤدبوك، قال له الفتى: إذن علمت أنا ما أسلمت، فقال أبو العيناء: شهادتك لأهلك دعوى، وشهادتي عليهم بلوى، وستعلم أي السلاطين أقوى، وأي الشياطين أغوى، وسيعلم أهلك ما خبأ عليهم جهلك.
وأقبل رجل إلى الأعمش، فقال: يا أبا محمد، إني اكتريت حماراً بنصف درهم، وجئتك لتحدثني، قال: اكتره بالنصف الثاني، وارجع: فما أريد أن أحدثك.
وكان عقال بن سليمان يروي الحديث، فقال له بعض من حضر: إن رأيت أن ترفع صوتك؛ فإن بسمعي ثقلاً، فقال له: الثقل في كل شيء منك، ليس في سمعك.
وقال رجل لابن عمران المختار بن عبيد الله يزعم أنه يوحى إليه قال: صدق، يقول الله عز وجل: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم).
وقال رجل ليونس بن حبيب: ما بالي إذا تذاكرتم الحديث نعست قال: لأنك حمار في مسلخ إنسان.
وكان للمغيرة بن عبد الله الثقفي، وهو والي الكوفة جدي كل يوم يوضع على مائدته، فحضر يوماً أعرابي، فمد يده إلى الجدي، وأسرع فيه، فقال له المغيرة: إنك تأكله أكل حنق عليه كأن أباه نطحك، فقال له الأعرابي: وأنت تشفق عليه كأن أمه أرضعتك.
وقال معاوية لعبد الله بن عباس: لي عندك حاجة يا أمير المؤمنين أفتقضيها لي? فقال له: نعم، فقال له ابن عباس: سل حاجتك يا أمير المؤمنين، قال: أريد أن تهب لي دورك وضياعك التي بالطائف، قال: قد فعلت، فقال له معاوية: قد وصلت الرحم، فسل حاجتك، قال: حاجتي إليك أن تردها إلي، قال معاوية: قد فعلت.
وقال رجل لثمامة بن أشرس: لي إليك حاجة، قال: وأنا لي إليك حاجة أفتقضيها? قال: نعم، قال: فإن حاجتي إليك ألا تسألني حاجة.
وكان أشعب يختلف إلى قينة يعلمها، فطلبت منه درهماً، فانقطع عنها، فعلمت له دواء، ولقيته به، فقال لها: ما هذا? فقالت له: دواء علمته لك تشربه لهذا الفزع الذي بك، قال: اشربيه أنت للطمع، فلو انقطع طمعك، لانقطع فزعي.
ورمى المتوكل عصفوراً بالبندق، فلم يصبه، فقال ابن حمدون: أحسنت يا أمير المؤمنين، فقال المتوكل: أتهزأ بي? كيف أحسنت? قال: إلى العصفور الذي تركته.
ونظر أعرابي إلى درهم في يد رجل، فأدام النظر إليه، فقال له الرجل: لو كان لك ما كنت تصنع? قال: كنت أنظر إليه نظرة، ثم يكون آخر عهده بالشمس.
وحكى بعضهم قال: وقف خالد بن صفوان بباب سليمان بن علي، فاتقى بغلة كانت بالموضع واقفة، فقيل له: إنها ما ركضت أحداً قط، فقال: أخاف أن أكون أنا المستثنى، فيقال: غير خالد.
وجاء رجل إلى أبي ضمضم القاضي، يستعدي على رجل في دابة، اشتراها منه، وبها عيب، فقال أبو ضمضم: وما عيبها? قال: في أصل أذنها شيء مثل الرمانة، وفي ظهرها شيء مثل التفاحة، وفي عجيزتها شيء مثل الجوزة، وفي بطنها شيء مثل اللوزة، فقال القاضي: مر عنا يا بارد؛ هذا من صفات بستان، لا عيب دابة.
وهبت ريح شديدة، فقال الناس: قد قامت القيامة، فقال زائدة المخنث: قيامة بلا خروج دابة، ولا خروج دجال، هذا مما لا يكون.
وكتب سليمان بن عبد الملك إلى عامله بالمدينة، أن أحصي المخنثين، واخصهم، فخصاهم، وكان فيهم دلال المخنث، فمر بهم رجل، فقال له: ما هذا? فقال: الختان الثاني، فالآتي تم التخنيث.
ولما صلب ابن برحان اللص، جاز عليه خبيب بن ثابت فنظر إليه ودعا له، فقيل له: لم تدعو له، وهو برحان اللص? قال: فلمن أدعو، أللحسن وابن سيرين? وأتت امرأة إلى بلال بن بردة من ولد أبي موسى الأشعري في أمر اتفق بينها وبين زوجها، فأوجب الحاكم أن يفرق بينهما، فقالت له المرأة: يا بني موسى، ما خلقكم الله إلا للتفريق بين الناس.
وحج سليمان بن الأعمش، ومعه جماعة، فطالبهم الجمال بشيء، فأخذوا في ضربه، فقيل لسليمان بن الأعمش، وكان في يده عصاً: يا أبا محمد، ألست حاجاً? قال: بلى، ولكن من تمام مناسك الحج ضرب الجمال.
وقال الهيثم بن عدي: قعدت عند ابن عباس رضي الله عنه، فجاءت هدية من مكة فيها ثياب من عمل أهل اليمن، وأخر من مصر فقلت: ألست تروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: من جاءته هدية، وعنده قوم جلوس، فهم شركاؤه فيها، قال: يا ابن أخي، إنما ذلك في التمر والسويق، وما أشبههما، وأما في الثياب العدنية، فلا.
ولما حج المأمون اعترضه رجل في الطريق، فقال: يا أمير المؤمنين، أنا رجل أريد الحج، قال له: الطريق أمامك، قال: وليس لي نفقة، قال: قد سقط عنك الغرض، قال: إني جئت مستمخاً لا مستفتياً، فأمر له بجائزة، وضحك.
وقال أبو علي البصري لأبي العيناء: إني ولدت قبل طلوع الشمس بيسير، قال: فلذلك كنت سائلاً؛ لأنه وقت انتشار الشمس.
ووقع حرب في بعض الثغور، فخرج رجل بقوس بلا نشاب، فقيل له في ذلك، فقال: نأخذ النشاب مما يجيئنا من العدو، قيل له: فإن لم يجيء، قال: لا يكون بيننا وبينهم قتال.
وتغدى أبو الحارث عند رجل، فقدمت دجاجة، فقال لغلامه: إنما كان ينبغي أن تقدمها في أول الطعام، ارفعها، فما كان في اليوم الثاني أتى بها في وسط الطعام، فقال: ألم أقل لك: إنما يبدأ بها في أول الطعام، فقال له أبو الحارث: دجاجتك هذه ميتة أطول عمراً منها حية.
وكان بعضهم يقدم على مائدته خبز درمك مقدار ما يأكله وحده، ويطعم جليسه خبزاً أحمر، وكانت هذه عادته مع من يواكله، فحضر مائدته يوماً إنسان لم يحضرها قبل ذلك، فلما وضع الدرمك بين يديه، مد الرجل يده، وأخذ منه، فقال له صاحب الموضع: ما هذا? قال: اشتهيت أن آكل خبزي بهذا الخبز، فخجل رب الدار، وعلم قبح فعله.
وسرق لرجل بخيل عشرة آلاف درهم، فأظهر الجزع عليها، فقال بعض الناس: من أين كنت اكتسبتها? قال: كنت أجمع الدرهم إلى الدرهم منذ ثلاثين سنة، قال: فهل كنت تحدث نفسك أن تفعل بها شيئاً من أبواب البر? قال: لا، قال: فهل كنت تؤمل أن تمتع بها نفسك? قال: لا، وإنما كنت أجعلها في جراب تحت رأسي، أستلذ بها، قال: فاجعل تحت رأسك حجراً عوضاً منها.
وكان بعضهم يتعاهد وقت طعام رياح الجوهري، ولا يخطئ وقته عند الزوال، وربما دخل وهم يأكلون، أو حين تجعل المائدة، فيقول: لعن الله القدرية، من كان يستطيع أن يصرفني عن هذا الطعام وقد كان في اللوح المحفوظ أني لابد أن آكله? فلما أكثر من ذلك قال له رياح: تعال أنت في غير هذا الوقت، فإن وجدت ما تأكله، فالعن القدرية وآباءهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق