الأربعاء، 27 فبراير 2013

اللغة والحرفة في شعر كشاجم - د.مسعود بوبو



 

-1-

 

كُشاجِم هو أبو الفتح محمود بن حسين الرملي المتوفَّى سنة 350هـ. ووجدت ترجمته على ظهر ديوانه على الوجه التالي(1):

 

هو محمود بن الحسين بن السندي بن شاهك الكاتب المعروف بكشاجم. هو من أهل الرملة من نواحي فلسطين، كان رئيساً في الكتابة، ومقدّماً في الفصاحة والخطابة، له تحقيق يتميّز به على نظرائه، وتدقيق يربو به على أكْفائه، وتحديق في علوم التنجيم أضرم فيه شعلة ذكائه، فهو الشاعر المفلق، والأديب المدقق، لقّب نفسه بكشاجم، فسئل عن ذلك فقال: الكاف من كاتب، والشين من شاعر، والألف من أديب، والجيم من جواد، والميم من منجم. وكان طبّاخ سيف الدولة (الحَمْداني).. له كتاب المصايد، وأدب النديم. نشر ديوانه ببيروت سنة 1313هـ. قال فيه بعضهم:



يا بؤسَ من يُمنى بدمع ساجمِ  

     

يَهمي على حُجُب الفؤاد الواجم

 

لولا تعَلُّلُه بكأس مدامةٍ   

     

ورسائل الصابي وشعر كشاجم

 

 

-2-

 

وقبل النظر في طبيعة لغته الحِرَفية وخصائصها يستحسن أن نقف عند مفهوم الحرفة وصلتها باللغة عند علماء اللغة المحدثين.

 

أما مفهوم الحرفة فيطلق اليوم على العمل الذي يؤديه الإنسان ليحقق به دخلاً، أو على المهنة التي يزاولها ليكسب منها عيشه، أو ليرضي بها ميله وهوايته أو لينفّذ أوامر ألزمته بهذا النشاط الإنساني أو ذاك. وتُدرج الحرفة عند العرب في جملة الصنائع التي عرفوها في تراثهم وحضارتهم. وقد كانت حرفهم قديماً بسيطة معدودة توافق طبيعة حياتهم وحاجاتهم التي يستدعيها السكن والكساء والطعام وما يتفرَّع عن ذلك من آلة الحياة.. ولعل ابن خلدون من هنا قرر أن "العرب أبعد الناس عن الصنائع، والسبب في ذلك أنهم أعرق في البدو وأبعد عن العمران الحضري"(2).

 

ولأن الحرف لم تنتشر في المجتمع البدوي فقد أنف العرب الاشتغال بها وتركوا أمور خدماتهم للعبيد أو الأسرى أو الإماء(3)، فضلاً عن أن حياة الحل والترحال والغزو والإغارة والصيد لم تكن تتيح لهم التروي في العمل اليدوي الذي تتطلبه حرفهم البسيطة. لكن العرب، عندما اختطوا الحواضر والمدن وعرفوا مجتمعات الاستقرار والتحضر، اتَّسعت بهم الحاجة إلى الحرف والصنائع، وفرزت طبقة من الحرفيين الذين صار لهم أسواقهم ومحالّهم الخاصة، وانتظم كثير منهم في ما يشبه النقابات التي كانت تسمى "الأصناف"، مما دفع بالسلطات الإدارية في الدولة إلى الاهتمام بهذه الطبقة: رعاية، وتنظيماً، ورقابة، وفق ضوابط أو قوانين تتفق مع طبيعة العصر والبيئة ونوعية الحرفة. وتطوَّر نظام الإدارة في الدولة العربية حتى عرف نظام النقابات والحسبة والمحتسب(4).

 

وليس في النية الإفاضة في الحديث عن اتساع دائرة الحرف والصنائع وما يتصل بذلك من أنظمة وتصنيف للحرَف ومراتبها ونظرة المجتمع إليها وإلى أصحابها، فلذلك موضع آخر(5)، إنما نريد ربط لغة الحرفة هنا بالدراسات اللغوية الحديثة لنصل إلى غرضنا الأساسي.

 

-3-

 

ففي علم اللغة الحديث Linguistics شاع مصطلح يسمَّى: "علم اللغة النظمي Institutional Linguistics" وهو علم يدرس لغة لدى جماعة ذات طبيعة عمل واحدة، أو ممَّن يمكن أن تضمهم نقابة أو حرفة واحدة، وبتعبير آخر: هم من ذوي اختصاص واحد..

 

وفي ميدان علم اللغة الاجتماعي يجري الحديث عن هذا الجانب عند رصد لغة المواقف الاجتماعية، إذ يتناول علماء اللغة المحدَثون مستويات الأداء اللغوي بالتحليل ويصنفون نوعية اللغة الموافقة لكل موقف، مما سمَّاه علماء البلاغة العرب "لكل مقام مقال"؛ فالحديث مع الطفل يتطلَّب تخيّر لغة موافقة للخطاب والمحاورة والتواصل، وقل مثل ذلك عن الحديث مع العجوز، أو المتدين، أو المرأة، أو الحرفي، أو المفكّر.. وإذا ما تفهَّمنا مثل هذه الحالة كان بمقدورنا أن نتصوَّر اللغة الخاصة التي يمكن أن يستخدمها أصحاب الحرف للتخاطب والحديث والتعبير عن مكنونات النفس والمنازع الداخلية، والتفريغ النفسي، أو "المونولوج" الداخلي الذي يسمّيه بعضهم تيار الوعي.

 

ولا ينبغي أن نؤخذ في رصد ذلك بظواهر الأداء أو المحاكاة اللغويين، فكثيراً ما يتكلف الشاعر أو الناثر (الروائي أو المسرحي) محاكاة طائفة من الجماعة الكلامية ذاهباً إلى إتقان التصوير الواقعي، ولكنَّ بعض مفرداته قد تكشفه وتدلل على انتمائه إلى جماعة أخرى لم يستطع أن يتخلص كلياً من موروثاتها اللغوية أو عاداتها الكلامية، فيبدو شبيهاً بحديثي الثراء في تصرفاتهم المرتبكة أو المضحكة، أو يبدو غير متقن لمصطلحات الجماعة ولا ممسك بمفاتيح أسرارهم.. وأحياناً يكون لأصحاب الحرف رموزهم اللغوية التي يتفقون عليها وتشيع في دائرتهم وحدها، كما في المجتمعات الضيقة للمهربين أو المشتغلين بالنشاطات السرية والسلع الممنوعة.

 

ولأصحاب الحرف من الشعراء بواعثهم ودواعيهم الخاصة في اصطفاء ألفاظ وثيقة الصلة بطبيعة عملهم. فقد يكون ذلك تطرّفاً، أو تقرّباً من الكبراء، أو لإضحاكهم ونيل عطاياهم، وقد يكون للشكوى أو للتسرية عن النفس أو لإبراز براعتهم في أعمالهم.. أيتما حال، تظل تعابيرهم ولهجاتهم تنم على نوعية مشاغلهم، وترشح باللون الذي تلونت به حياتهم الخاصة وما يحيط بها من بيئة ومخالطين، وهذا ما يسمى في علم اللغة الحديث بالحقل الدلالي Semantic Field.

 

وشاعرنا كشاجم كان من شعراء الحرف، وفي مرآة شعره تنعكس ألفاظ حرفتي الطبخ والكتابة على نحو يلفت نظر المتأمل المدقق، من مثل ذلك قوله في الطبخ(6):

بالحرص في الرزق يُذلُّ الفتى  

     

والصَّبرُ فيه الشرف الشامخُ

 

ومستزيد في طلاب الغنى

     

يجمع لحماً ماله طابخ

 

يضيع ما نال بما يَرْتجي

     

والنار قد يطفئها النافخ

 

 

يريد كشاجم هنا أن يحلي شعره بالحكمة مستقبحاً التقتير الذي قد يحيل صاحبه مُعْدماً خسران، ولكنه لا يستطيع أن يتخلص داخلياً من أثر حرفة الطبخ، بل يُبقي رائحته ترشح من ألفاظ لا تخرج بعيداً عن الحقل الدلالي لحرفته. فالرزق والحرص والذل والصبر والتضييع كلمات لا نراها غريبة أو نائية عن حرفة الطباخ، فضلاً عن أن الشاعر يكشف النقاب عن ملامح حرفته بألفاظ اللحم والطبخ والنار والنفخ والإطفاء، يريد أن يزيِّن الصبر ويزري بالبخل فيصوغ هذا بلغة الحس، وبالألفاظ ذات الدلالات المادية، على حين أن ميدان الحكمة الإقناع وتحريض الذهن على المحاكمة وتدبر منطق القول..

 

ومن مظاهر إلحاحه على توظيف حرفة الطبخ أو الإفادة منها لغوياً واستثمار صورها وتأثيراتها في نفسه قوله(7):

ولحمان مما أمسكته كلابنا     

     

علينا ومما صيد بالشبكات

 

طعام إذا ما شئت باشرت طبخه

     

على كثرةٍ من غُلمتي وطهاتي

 

 

فهذا الصيد وفَّر له ولمن معه طعاماً كان بمقدوره أن يصفه فيقول: شهياً، أو لذيذاً، أو كثيراً.. كما ألِفنا عند نظرائه من الشعراء، ولكنه يعدل عن ذلك ويميل إلى الحديث عن حرفته في الطبخ، وكأنه يتلذذ بذكر الطبخ والطهاة، أو كأن للحرفة عليه حقاً لا معدى عن أدائه.

 

ويتكرر ذكر المطبخ على نحو آخر يوحي للمتأمّل بأن هناك سبباً خفياً لمعاودة ترداد هذه اللفظة، كما يُلحظ في هذه الأبيات التي كتب بها إلى صديق بعد رحلة صيد أخرى وفيرة الحصيلة، يقول(8):

وأحوزنا من الدُّرا  

     

ج ما الرحل به ضاقا

 

فأطعمت وأهديت  

     

إلى المطبخ أوساقا

 

وخير اللحم ما أقلقه الجارح اقلاقا

 

فكلْ منه شفاك الله مشوياً وامراقا

 

 

ومع المطبخ تحتشد دلالات وثيقة الصلة بعالم هذه الحرفة، كطائر الدُّراج والإطعام واللحم والجارح والأوساق (جمع وَسْق: مكيلة معلومة وهي ستون صاعاً. أو حمل البعير أو العربة والسفينة)(9) والشفاء والشواء والامراق(10).. وكرم الطابخ الذي يبدو مُحمَّلاً بالفخر  والسخاء.. وتتلون اللغة بألوان الطعام، ويصطنعها الشاعر على وفق صناعته في الطبخ، كما في قوله يصف صناعة القطائف (نوع من الحلوى)(11):

عندي لأضيافي إذا اشتدّ السَّغبْ

     

قطائف مثل قراطيس الكتبْ

 

كأنه إذا تبدّى عن كثَبْ 

     

كواثر النمل بياضاً وثقب(12)

 

قد مجَّ دهن اللوز مما قد شرب 

     

وابتلّ مما عام فيه ورسبْ

 

وجاء ماء الورد فيه وذهب     

     

وغاب في السكّر عيناً واحتجبْ

 

 

هذا المزج في التشبيه بين القطائف والقراطيس شاهد على ما يقيل في مخيلة الشاعر من صور حرفتي الطبخ والكتابة وأدواتهما ومستلزماتهما التي تتناقلها يداه وتتابعها عيناه. ويتبدى اللون القرطاسي الأبيض في البيت الثاني شبيهاً بكواثر النمل الصغيرة البيضاء. ثم يحشد من ألفاظ مادة صناعته: دهن اللوز، وماء الورد، والسكَّر.. ويمزجها بألفاظ الابتلال، والعوم، والشرب، والمجّ (الامتصاص).. التي يستحضرها لتكون عُدَّته، فهي من لوازم الآكل أو الأضياف الذين دعاهم.

 

وتتسع دائرة هذا الاهتمام الحرفي لتعاود الظهور في كثير من طردياته ورحلات صيده الجماعية، ولكنها تبقى دوائر تحت سيطرة اللغة التي لا تخفيها أقنعة الشعر أو أثوابه المبدَّلة، كما يمكن أن يلحظ المتأمل من قراءة هذه الطردية التي يصف فيها كلاب الصيد، حيث يقول(13):

توسعنا صيداً فمطبوخٌ   

     

ومشويٌّ خُلِطْ

 

وباشق ذي نخوة  

     

على الطيور ذا سخط

 

يهبط بالطير معاً  

     

إذا علا ثم انهبط

 

غدا فأردى حجَلاً 

     

منها ودُرَّاجاً وبطْ

 

وفائقاً من الاوزّ   

     

والحمام والحَبَطْ

 

 

فهذه الوليمة التي موَّلها بالصيد تفوح منها لغة مشبعة برائحة الطيور، الطيور باسمها العام الصريح، وبأنواعها الصائدة والمَصيْدة: الباشق، والحجل، والدراج، والبط، والاوزّ، والحمام، والحبط.. ولكن الشاعر- قبل أن يحتقب مادة صناعته- يعاجلنا بمفردات من صميم مهنته كالطبخ والخلط والشواء، وربما كان الأوفق إرجاءها لتعقب ذِكر الطير والطيور!.

 

ويعاوده ذكر الطبخ في موضع آخر وكأنه ظل يلاحقه، أو لفظ استعذبه فلا يملّ ترديده، يقول(14):

لنا شرائح من ظبي قنصناه    

     

وعند طبّاخنا جدي قرضناه

 

 

ولا يخفى على المتتبع أن يستبطن نزوع الشاعر الخبيء إلى استحضار المفردات التي تظلّ ضمن إطار الحقل الدلالي لحرفة الطبخ: كالشرائح، والقنص، والظبي، والطباخ، والجدي، والقرض، أي القطع بالمقراضين.. فما الذي يبقى من ألفاظ البيت؟!

 

ويقول في بيت آخر(15):

أغِثْنا فإنّا قد ظَمِئْنا وروِّنا

     

من الرائق المطبوخ وليكُ معسولا

 

 

ولا نجد كبير عناء في تلمس الذائقة الحسية المُندسَّة في ألفاظ: الظمأ، والري، والرائق، والمطبوخ، والمعسول. وما شيء منها ببعيد عن دائرة اهتمام محترف الطبخ..

 

وتريك تعابيره اللغوية أنه ذو بصَر طيّب بتفصيلات أداء حرفته، وذو شغف ملحوظ بقص أخبارها وأسرارها كما يمكن أن يستخلص القارئ من تأمل هذه الأبيات التي يصف فيها دجاجة، أو طبخ دجاجة، يقول(16):

دجاجةٌ في سِمَنِ السَّمَنْدِ 

     

نبيلة وفخرها بالهندِ

 

عظيمةُ الزَّور كصدرٍ  نهدِ     

     

أجريت منها في مجال العقدِ

 

مُرْهفةً ذاتَ شَباً وحدِّ     

     

لغير ما ذحل وغير حقدِ

 

بل رغبة فيها شبيه الزهد 

     

ولم تزَل بالماء كفّ العبدِ

 

لفرقِ بين ريشها والجلد  

     

وفصّلت أعضاؤها من بعدِ

 

حتى إذا أنضجها بالوقد 

     

صبَّ عليها اللوز مثْلَ الزبدِ

 

وغُلِيتْ بعدُ بماء الورد   

     

ثم أتى لنا بها المهدي

 

 

والسَّمَنْد: كلمة فارسية الأصل تعني الفرس المائل لونه إلى الصفْرة، والمقصود بالمرهفة ذات الشّبا: المدية ذات الشفرة أو الحد الشديد القطع، ومفرد الشَّبا: شَباة، وتقال للسنان والعقرب. والذَّحْل: الضغينة والحقد الدفين(17). وهذا الاستعراض التفصيلي من شاعرنا يكاد ينطق بسر المهنة، إذ يتدرج الشاعر من وصف الدجاجة بالسِّمَن إلى ذبحها فنتفها فتفصيل أعضائها حتى إنضاجها بالنار، ثم يصب عليها دهن اللوز ويغليها بماء الورد. ولا يتردد المرء كثيراً في القول: إن شعراً كهذا ينبغي أن يكون قد صدر عن صاحب حرفة ولو لم يُخبَر بذلك إذ لا يُتصوَّر أن شاعراً اتّباعياً أو رومانسياً أو عادياً يمكن أن يتقصّى مثل هذه التفصيلات أو يشغل نفسه بتقييد خطوات عمل لا يحظى بغير اهتمام الطهاة في الأعم الأغلب!. إن موضوعاً يعج بألفاظ: السمن، والزور، والصدر، والسكين، والريش، والجلد، والأعضاء، والنضج أو الانضاج، وصب اللوز، والزُّبْد، والغلي بماء الورد.. يفضي بالقارئ أو يخرج به من مطبخ تلاحقه الروائح والدهون فيوشك على المسارعة إلى الاستحمام..

 

ويعرض في قصيدة أخرى لصديقه المدعو ألواناً من الأطعمة والبقول والحلوى والمسمّيات مما لا يتسع المجال لإيراده تفصيلاً. من ذلك مثلاً(18):

وحرّيفٍ من الجُبْن

     

به الأوساط مقرونة

 

وباذنجان داراني  

     

به نفسك مفتونة

 

وهليون، وعهدي بـ 

     

ـكَ تستعذب هليونه

 

ولوزَيْنَجةٌ في الدهن

     

وفي السكر مدفونة

 

وعندي لك دستيجةً

     

مطبوخ وقنّينة

 

 

وتتزاحم في القصيدة ألفاظ: الجدي، النعنع، البقل، الطرخون، الفرخ، الزور، الطيهوج، الفرّوج، السبّوج، الطروين، البيض، الزيتون.. الخ. وهذا التزاحم الشبيه بسوق الخضار غني عن كل إضافة أو تعليق!.

 

وكشاجم كان كاتباً إلى جانب حرفة الطبخ كما قدَّمنا، والمقصود بالكتابة هنا: النسخ والتحبير، أو الكتابة الديوانية، لا كما نفهم اليوم من مدلول كلمة الكاتب بصفته الإبداعية، ويمكن أن نستنتج ذلك بيسر ووضوح حين نتأمل الأبيات التالية التي يذكر فيها سكين دواة له سرقت (أي السكين)، يقول(19):

يا قاتل الله كتّابَ الدواوين

     

ما يستحلّون من سرق السكاكين

 

لقد دهاني لطيفٌ منهم ختِلٌ    

     

في ذات حد كحد السيف مسنون

 

فابتزَّنيها ولم يُشْعَر به عبثاً    

     

ولست لو ساءني ظنٌّ بمغبون

 

وأقفرتْ بعد عمران بموقعها     

     

منها دواةُ فتىً بالكتب مفتون

 

تبكي على مدية أودى الزمان بها     

     

كانت على جائر الأقلام تعديني

 

كانت تقوِّم أقلامي وتنحتها     

     

نحتاً وتسخطها قطّاً فترضيني

 

فأضحك الطرس والقرطاس عن حلل 

     

تنوب للعين عن نور البساتين

 

إذا بشَرتُ بها سوداء من صحفي     

     

عادت كبعض خدود الخُرَّد العين

 

 

إلى أن يقول:

كأنّها حين يشجيني تذكّرها     

     

في القلب منّي وفي الأحشاء تفريني

 

فلست عنها بسالٍ ما حييت ولا 

     

بواجد عوضاً منها بسكين

 

 

ظاهر القصيدة يوحي بسرد حادثة عارضة هي سرقة سكين، ولكن مضمون النص الشعري يرشح بظلال العلاقة الإنسانية بين الشاعر وأدواته في حرفة الكتابة، أو قل بين الشاعر وعالمه الخاص بين كتّاب الدواوين، أو بينه وبين عالمه الداخلي. فهذه العلاقة الحميمة ترسم الدلالات اللغوية ملامحها وقسماتها بكثير من الأُلفة والاحتفاء بها. ومناط هذه العلاقة الحميمة ألفاظ مثل: البكاء، والشَّجى، والتذكر، وافتقاد السلوان والعوض منها، (والسكين تؤنّث وتذكّر). ولكن طرفي هذه العلاقة: الشاعر والسكين، لا يستأثران بألوان الرصيد اللغوي المبثوث في نسيج القصيدة، ولا تستحوذ السكين على خياله كله، بل يُفرد بعض نظَره وعقله لمكمّلات الصورة الأصل، وتمدّ الرؤوس كلمات مثل: الدواة، الكتب والافتتان بها، الأقلام، النحت، القطّ، الطرس، القرطاس، الصحف.. وكلها ألفاظ تنتمي صراحة إلى "الحقل الدلالي" لحرفة الكتابة. والمقصود بالنحت: بري القلم وقشره، والقَطّ: القطع عامة، ويتجه في الاستخدام إلى القطع العَرْضي. أما الطرس فهو الكتاب الذي مُحي ثم كتب، أو الصحيفة. والقرطاس: الورق، ويرى بعض اللغويين المحدثين أن الكلمة دخيلة من اليونانية بلفظ "خارتس".

 

ولعل أبرز ما ينم على أثر حرفة الكتابة في شعر كشاجم قوله في وصف أجزاء القرآن(20):

وكأن الخطوط فيها رياضٌ     

     

شاكراتٌ لصبغة الأنواءِ

 

وكأنّ البياض والنُّقَط السُّو

     

دَ عبير رششته في الماءِ

 

وكأنّ السطور والذهب السا    

     

طع فيها كواكب في سماءِ

 

وهي مشكولة بعدة أشكا  

     

لٍ ومقروَّةٌ على أنحاءِ

 

 

إن الخطوط، والصبغة، والبياض، والنقط السود، والسطور، والتشكيل، والقراءة.. مفردات تُصنف بدلالاتها في إطار "فن الكتابة" وأدواتها وأصول إجادة الخط وتحسينه، وكذلك التذهيب الذي يعني الكتابة بماء الذهب، مما شاع في حرفة الوِراقة. ويُقرن بهذا قوله(21):

لا أحب الدَّواة تُحشى يراعاً    

     

تلك عندي من الدُّوِيِّ معيبةْ

 

قلم واحد وجودة خط     

     

فإذا شئت فاستزد أنبوبةْ

 

 

هذا الحكم الذي ارتضاه كشاجم في حرفة الكتابة جاء بعد خبرة ودربة وتجربة جعلته يفضل الاكتفاء بقلم واحد قد يُعزّز بأنبوبة من القصب لبعض الأغراض الكتابية كتخطيط العنوانات والديباجات، أو "خطبة الكتاب". والدُّويّ: جمع الدواة (ما يكتب منه)، وتجمع في القليل على دوَيات، مثل نَوَيات وقنَوات، جمع نواة وقناة. كما تجمع الدواة على دَوَىً، مثل نوى، جمع نواة(22). واليراع: القصب تُتخذ منه الأقلام. والأنبوبة: ما بين العقدتين في القصب والقناة(23).

 

ومن الشواهد اللغوية على مدى تأثره بهذه الحرفة قوله يصف تخت الحساب والرمل(24):

وقلم مداده ترابُ   

     

في صحف سطورها حسابُ

 

يكثر فيه المحو والإضراب     

     

من غير أن يُسوَّدَ الكتابُ

 

حتى يبين الحقُّ والصوابُ

     

وليس إعجامٌ ولا إعرابُ

 

 

ولا يخفى على المتأمل أن النسيج اللغوي الذي حيكت منه هذه الأبيات كان كله- ما عدا كلمة الحق- من صميم لوازم الحرفة، ومن مفردات الحقل الدلالي الخاص بها، مما يُظهر مدى تأثير حرفة الكتابة في لغة الشاعر وإمساكها بزمام العقل الباطن له، حتى ليبدو التعبير اللغوي عنده صدى لإيقاعها الداخلي في وعيه، أو في "اللاوعي" كما يعبر المشتغلون بالفلسفة وعلم النفس؛ ففي صبَواته وتعلّقه بمن يحب، أو بمن يشغله يظل أسير هذه السيطرة الحرفية، كما يستخلص من قوله في الحب(25):

ورأيته في الطِّرْس يكتب مرّةً    

     

غلَطاً ويوصل محوه برضابه

 

فوددت أني في يديه صحيفة   

     

ووددته لا يهتدي لصوابه

 

 

فالطرس والكتابة والغلط والمحو والصحيفة والصواب هنا ألفاظ تتعاور مشاعره وتندس في هذه العلاقة الإنسانية (الحب) كطيور أليفة تحط على كتفيه وتُملي عليه فيكتب.. وعلى غرار ذلك تلاحقه ألفاظ الحرفة في وصف حصانه في إحدى طردياته حيث يقول(26):

كأنّ متْنيه إذا     

     

ريع بشخص فاختلطْ

 

أحسن ما يُكْتَب في الـ   

     

قرطاس من شكل وخطّ

 

 

وما ألفنا في أوصاف الخيل- على كثرتها- مثل هذا التشبيه الجديد، ولكنه ضرب من أثر لغة الحرفة وأدواتها لم يستطع الشاعر أن يُفلت من إساره، ولعله يسوّغ هذا المسلك بقوله(27):

لم ترَني قطُّ بارياً قلماً   

     

في بَرْيه مهنةٌ معاً وضَعَةْ

 

 

وكأنه يدافع عن حرفته ويُبرِّئها من شبهة المهانة أو الوضاعة اللتين قد يرميها بهما بعض من كانوا ما يزالون ينظرون إلى الحرف نِظْرة ازدراء، بل تراه في موضع آخر يتخذها سبيلاً للفخر والمباهاة، كما في قوله(28):

سَلْ بي وبالأيام تَعرفْ   

     

أني ابن دهر ليس يُنصفْ

 

وبلاغة معروفة   

     

سهلتْ وأخطاها التكلّفْ

 

وسطور خط مونق

     

في الطرس كالثوب المفوَّفْ

 

 

والخط المؤنق: المُعجِب، من الأناقة. والثوب المفَوَّف: بُرْدٌ رقيق مخطط. على هذه الصورة تتغير تدريجياً النظرة إلى الحرفة، فتصبح، بتطور البُنى الاجتماعية، محل فخر وامتداح، ويحاول الشاعر أن يقيم نوعاً من المصالحة والوئام بينه وبين حرفته من جهة، وبينه وبين من لا يرون في اتخاذ الحِرَف اختياراً حميداً، أو قل إن نوعاً من الألفة نشأ بينه وبين أدوات هذه الصناعة فراح يتخذ منها وسيلة للافتخار في سطور الخط الأنيق يزركش الورق الأبيض، فيبدو ذلك الورق مزداناً بالتحاسين كالثوب المفوَّف. وشبيه بهذا قوله(29):

وسطور خططتها في كتاب    

     

مثل غيم السحابة الرقراقِ

 

 

وتصير حرفة الكتابة أداة للتعريض عند الموازنة بينه وبين من يحاول أن يجاريه أو يدانيه في هذا الفن الذي قطع فيه شأواً بعيداً، يقول في هذا(30):

وزعمتَ أنك في الكتابة مُدركٌ  

     

شَأوي وقلت سلاحنا الأقلام

 

هيهات تلك صناعة ممزوجة   

     

فيها صباح واضح وظلام

 

هذا الحديد سلاح أبطال الوغى 

     

وبه يُريق دماءنا الحجَّام

 

 

أي لا يكفي أن تحمل الأقلام مثلي لتصير نظيري، فما كل من حمل قلماً صار كاتباً؛ إن هذه الصناعة تنطوي على نقيضين: أبيض كالصباح الواضح الألاّق، والأسود الحالك المظلم. والحديد كالأقلام، وكما يستعمله الفرسان في الحروب والمعارك، كذلك يستعمله الحجَّام في الحِجامة (والحِجامة حرفة الحجَّام الذي يمتص الدماء بالمِحْجم، ولم تكن حرفة حميدة على كل حال). وشتان ما بين الحجَّام والفارس البطل، كأن الشاعر يريد أن يقول: إنه الفارس المُجلّي في هذا الميدان؟!

 

ولشدة شغفه بهذه الحرفة تبدو أشعاره عنها أو فيها ضرباً من التعصُّب والانتصار لها، ويسوؤه ألا يحسن بعضهم تقدير قيمتها، بل قدسية عناصرها، كما يمكن أن نجد في هذه الأبيات(31):

غدرتَ بكسر دفترنا

     

وعهدي بالأديب ثقةْ

 

فخذه واردد قيمته  

     

ولا تستغنمنْ ورقه

 

فلست أحب للأبنا 

     

ءِ أن يتأدَّبوا صدقة

 

 

وقوله في الموضوع نفسه(32):

ما يكسر الدفتر إلا الذي 

     

يرغب في قيمة أوراقه

 

أو عاجز لم يستطع نسخه     

     

فضاق عن أجرة ورّاقه

 

 

وكسر الدفتر هنا: تقطيعه أو تمزيقه، إما لأخذ الأوراق البيض التي لم يُكتب فيها للإفادة منها في الكتابة، وإما لأخذ الأوراق المكتوب فيها للإفادة بما تضمَّنته من مادة معرفية، ويرى أن الأفضل في مثل هذه الحال الأخيرة أن تنسخ المادة المكتوبة، وأن يبقى الدفتر كاملاً من غير كسر، وينم هذا على حرص داخلي دفين على التعامل مع عناصر هذه الحرفة بكثير من الإجلال والتقدير، ولعلَّ مما يقوِّي هذا الزعم أننا لا نجد شعراء آخرين تناولوا مثل هذا الأمر بالنظم والاهتمام، لكنَّ الشاعر كشاجم مخلص لمهنته، ممتلئ بها، حريص على إحاطتها بكل أسباب الرعاية والحماية حرصه على إيصال هذا الشغف بها إلى الآخرين وحضهم على مثل هذا الاهتمام والتعلق بها.

 

وبهذه الجولة القصيرة في شعر كشاجم نكون قد وقفنا على جوانب من الظواهر اللغوية التي رصدناها في شعر الحرفة عند هذا الشاعر، مكتفين من شواهده بهذا القدر المعبِّر عما توخيناه، ويمكن تلخيص هذه الظواهر في الخطوط العريضة التالية:

 

1-كانت الصدارة في هذا البحث الموجز للألفاظ اللغوية "المفردات" في دلالاتها ومسمّياتها وإيحاءاتها، وأغفلنا الأسلوب والبلاغة والصورة الشعرية وغير ذلك مما يتم بحثه تحت مصطلح الدراسة الأدبية أو النقدية. ولقد استطاعت تلك الحصيلة من المفردات التي استخدمها الشاعر في نظمه الحِرَفي- إذا صح التعبير- أن ترسم إطاراً عاماً لحرفتي الطبخ والكتابة على ما قررت اللغة..

 

2-بتعبئة هذه الطائفة من المفردات ونسْقها في قصائد أو أبيات استطاع الشاعر أن يرسم صورة أو لوحة لطبيعتي الحرفتين مفيداً من ظلال الدلالات وإيحاءاتها وتوظيفاتها، مما جعلنا نكوِّن فكرة كافية عن الحرفة في إطارها الاجتماعي، وعن علاقة الشاعر بها، وعن أدواتها وموادها الأولية.

 

3-يمكن الإلماح إلى أن قدراً قليلاً من المصطلحات قد تخلل الشواهد الشعرية المنتقاة، وخاصة في حرفة الكتابة، كالنحت والقَطّ وبشر الصحيفة والنَّقْط والإعجام والمحو والتشكيل والإعراب والتذهيب والتوريق.. مما يعطي فكرة كافية عن شيوع هذه المصطلحات واستقرارها.

 

4-تبين من استقراء الشواهد الشعرية أن قدراً من الكلمات الدخيلة قد شاب عربية الشاعر الفصيحة، وخاصة في مفردات مهنة الطبخ، كالباذنجان واللوز والباشق والسَّمَنْد والهليون واللَّوزينج (نوع من الحلواء) والدستيج (وعاء يحمل باليد) والدواوين والبساتين.. وكلها من اللغة الفارسية مما ينبئ عن أثر الحياة الاجتماعية للفرس في اللغة والمجتمع العربيين إثر اختلاط الشعبين: العربي والفارسي بعد الإسلام. ويستخلص من استعراض مفردات الشاعر أنه كان أميل إلى استخدام المسمّيات والمعاني المادية الحسية التي كان لها الغلبة على الألفاظ الذهنية المجرَّدة.

 

***

 

الحواشي والإحالات:

 

(1)-انظر ديوان الشاعر كشاجم، ص 2-3، طبع في بيروت بالمطبعة الأنسية سنة 1313هـ.

 

(2)-مقدمة ابن خلدون: 402، دار إحياء التراث العربي، ط4، بيروت.

 

(3)-انظر "أدب الصنَّاع وأرباب الحرف"، ص 38 وما بعدها، للدكتور محمود سالم محمد، دار الفكر، دمشق 1993.

 

(4)-السابق، ص 40-41.

 

(5)-لمزيد من الاطلاع انظر المرجع السابق، ص 38 وما بعد.

 

(6)-ديوانه، ص 37.

 

(7)-نفسه، ص 19.

 

(8)-نفسه، ص 129-130.

 

(9)-المعجم الوسيط: وسق، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الثانية، بيروت- لبنان.

 

(10)-الإمراق: إكثار المرَق، وهو الماء أغلي فيه اللحم فصار دسماً.

 

(11)-ديوان كشاجم، ص 10.

 

(12)-ثقُب الشيء واللون: توهّج واشتدت حمرته، ومنه عود الثقاب.

 

(13)-الديوان، ص 115.

 

(14)-الديوان، ص 182.

 

(15)-الديوان، ص 185.

 

(16)- الديوان، ص 51.

 

(17)-في الديوان المطبوع: "الغير ما دخل"، والصحيح ما أثبتناه بقرينة لفظ الحقد المرادفة للذَّحْل.

 

(18)- الديوان، ص 179.

 

(19)- الديوان، ص 174-175.

 

(20)- الديوان، ص 7.

 

(21)- الديوان، ص 9.

 

(22)-انظر: الاقتضاب في شرح أدب الكتَّاب لابن السيد البطَلْيوسي، ص 82، دار الجليل- بيروت 1973، واللسان: دوا.

 

(23)-اللسان: نبب.

 

(24)- الديوان، ص 11.

 

(25)- الديوان، ص 13.

 

(26)- الديوان، ص 114.

 

(27)- الديوان، ص 123.

 

(28)- الديوان، ص 128.

 

(29)- الديوان، ص 131.

 

(30)- الديوان، ص 160.

 

(31)- الديوان، ص 131.

 

(32)-الموضع السابق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق