الخميس، 28 فبراير 2013

المسكتات من كتاب حدائق الأزاهر لابن عاصم

وكان الواثق شديد المحبة للباذنجان، وكان يعمل له كل يوم ألوان كثيرة، فيأكل منها كل يوم ثلاثمائة باذنجانة، فوجه إليه المعتصم يقول له: يا بني: هل أريت خليفة أعمة قط? قال للرسول: أبلغ أمير المؤمنين، إني قد تصدقت ببصري على الباذنجان.

وجاء بعض الثقلاء إلى بعض الظرفاء، فقال له: بلغنا عنك أن لك أربعة آلاف كلمة من الجواب المسكت، وأحب أن تعلمني بعضها، قال: سل عما بدا لك حتى أعلمك، قال: إن قال لك أحد: اسكت يا ثقيل. قال: قل له، صدقت، فخجل الرجل وانصرف.

وجلس ثقيل إلى جانب ظريف ثم قال: لعلك استثقلتني? قال: يعلم الله أني استثقلتك وأنت في بيتك، فكيف وأنت بجانبي?

ورفع رجل إلى الفضل بن يحيى رقعة بيضاء، ليس فيها شيء، فقال له الفضل: يا هذا، ليس في رقعتك شيء مكتوب، فقال له: يا سيدي اكتب فيها أنت ما يليق بفضلك، فكتب فيها أن يعطى مالاً جزيلاً.
وسأل أبو العيناء أحمد بن صالح حاجة، فواعده بها، فلما طالبه بالاقتضاء، قال أحمد: ما ترى هذا الطين والمطر? قال أبو العيناء: فحاجتي إذن صيفية، فضحك، وقضى حاجته.

وعوتب بعضهم على ما يتعاطاه من الحمق، فقال: حمق يعولني خير من عقل أعوله.

ونظر الحسن يوماً إلى رجل عليه بردة حسنة، وحالة جميلة، فقال: من هذا? فقيل له: ضراط، فقال الحسن: ما طلب أحد الدنيا بما تستحق إلا هذا.

واشترى رجل ثلاثة أرطال لحماً، وقال لامرأته: اطبخيه، وخرج إلى شغله، فطبخته المرأة، وأكلته، فلما جاء زوجها، قال: هات ما طبخت، فقالت له: أكله السنور، فأخذ الرجل السنور ووزنه، فإذا فيه ثلاثة أرطال. فقال لها: هذا وزن السنور، فأين اللحم? أو هذا وزن اللحم، فأين السنور?


 وكان السمك في زمن كسرى عزيزاً، فجاء صياد بسمكة فيها ثمانية أرطال، فأمر له بأربعة آلاف درهم، فقالت له جارية: تعطي في ثمانية أرطال من سمك أربعة آلاف درهم? قال: فرديه، فأمرت برده ثم قالت له: سمكتك هذه ذكر هي أم أنثى؛ طمعاً في أن يقول: ذكر فتقول: أنثى نريد، أو يقول: أنثى، فتقول: ذكراً نريد؛ ففطن الصياد، فقال لها: هي خنثى، لا ذكر ولا أنثى، فقال كسرى: زيدوه أربعة آلاف درهم أخرى، فقبض الصياد المال وانصرف، فسقط له درهم، فأكب عليه وأخذه، فقالت له الجارية: انظر خساسته وسوء أدبه، أعطيته ثمانية آلاف درهم، وآكب بحضرتك لأخذ درهم، فأمر كسرى برده، فقال: لم أسأت الأدب? قال: كان على الدرهم صورة الملك، فأجللته أن يقع على الأرض، فقال كسرى: أعطوه أربعة آلاف درهم، ثم قال: هذا ما يجري من النساء.

وكان رجل قاعداً في مجلس وليمة، فكل من دخل وسعوا له، فضاق الرجل، فقام يخرج، فقيل له: إلى أين? قال: أخرج وأدخل عساكم أن توسعوا لي.

وقيل لأعرابي: لمن هذه الإبل? قال: لله وهي في يدي.

وخاطب أعرابي عبد الله بن جعفر، فقال في مخاطبته: يا أبا الفضل، فقيل له: ليس هذا كنيته، فقال: إن لم تكن كنيته فهي صفته.

وقعد أبو الحارث إلى قينة بالمدينة صدر نهاره، فجعلت تحدثه ولا تذكر الطعام، فلما طال ذلك به، قال: ما لي لا أسمع للغداء ذكراً? قالت: سبحتن الله، ما تستحي، أما في وجهي ما يشغلك عن هذا? قال لها: جعلت فداك، لو أن جميلاً وبثينة قعدا ساعة لا يأكلان فيها لبصق كل واحد منهما في وجه صاحبه، ثم افترقا.

وحضر أبو نواس مجلساً فيه قيان، فقلن له: أبا نواس، ليتنا بناتك، قال: نعم، ونحن على دين المجوسية؛ وذلك لأن المجوس ينكحون بناتهم.

ونظر عمران بن حطان إلى امرأته، وكانت من أحسن النساء، وكان هو من أقبح الرجال، فقال: إني وإياك في الجنة إن شاء الله، قالت: وكيف ذلك? قال: لأنني أعطيت مثلك فشكرت، وابتليت بمثلي فصبرت.

وجاء أعرابي إلى ابن الزبير، فقال: أعطني وأقاتل عنك أهل الشام، قال: اذهب فقاتل، فإن أغنيت أعطيتك، قال: أراك جعلت روحي نقداً، ودراهمك نسيئة.

وقيل لأشعب: ما أحسن الفناء? قال: نشيش المقلاة، قيل: فما أطيب الزمان? قال: إذا كان عندك ما تنفق.

وكتب عامل عمان إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، إنا أتينا بساحرة، فألقيناها في الماء فطفت على الماء، فكتب له عمر: لسنا من الماء في شيء، إن قامت عليها بينة، وإلا خل عنها.

وقال الأصمعي: سأل علي بن أبي طالب ابنه الحسين رضي الله عنهما: كم بين الإيمان واليقين? قال: أربع أصابع، قال: وكيف ذلك? قال: الإيمان كل ما سمعته أذناك، وصدقه قلبك، واليقين ما رأته عيناك فصدق به قلبك، وليس بين الأذن والعين إلا أربع أصابع.

وقال الحسن لفرقد السبخي: بلغني أنك لا تأكل الفالوذج، قال: يا أبا سعيد، أخاف ألا أؤدي شكره، قال: يا لكع، هل يؤدي شكر الماء البارد في الصيف والحار في الشتاء أحد? أما سمعت الله يقول: (كلوا من الطيبات) و(كلوا من طيبات ما رزقنكم).

وسمع الحسن رجلاً يعيب الفالوذج، فقال: لعاب النحل، بلباب البر، بخالص السمن، ما عاب هذا مسلم.

وقيل لبقراط: مالك تقل الأكل جداً? قال: إني إنما آكل لأحيا، وغيري يحيا ليأكل.

ودعا عبد الملك بن مروان رجلاً إلى الغداء، فقال: ما بي فضل يا أمير المؤمنين، قال: لا خير في رجل يأكل حتى لا يكون فيه فضل.
وقيل للأحنف بن قيس: أي الشراب أطيب? قال: الخمر، قيل له: وكيف عرفت ذلك وأنت لم تشربها? قال: إني رأيت من حل له لا يتعداها ومن حرمت عليه إنما يدور حولها.

وقال قيصر لقس بن ساعدة: أي الأشربة أفضل عاقبة في البدن فقال: ما صفا في العين، واشتد على اللسان، وطابت رائحته في الأنف من شراب الكرم، قال: فما تقول في مطبوخه? قال: مرعي ولا كالسعدان، قال: فما تقول في نبيذ الزبيب? قال: ميت أحيي فيه بعض المتعة ولا يكاد يحيي من مات مرة.

وقيل لأعرابي: ما لك لا تشرب الخمر? قال: لا أشرب ما يشرب عقلي.

وقيل لعثمان بن عفان رضي الله عنه: ما منعك من شرب الخمر في الجاهلية ولا حرج عليك فيها? قال: إني رأيتها تذهب العقل جملة، وما رأيت شيئاً يذهب جملة ولا يعود جملة.

ودخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه على قوم، وهم يشربون ويوقدون في الأخصاص، فقال: نهيتكم عن معاقرة الشراب، وعن الوقد في الأخصاص فأوقدتم، وهم بتأديبهم، فقالوا: مهلاً يا أمير المؤمنين، نهاك الله عن التجسس فتجسست، ونهاك عن الدخول بغير إذن، فدخلت، فقال: هاتان بهاتين وانصرف، وهو يقول: كل الناس أفقه منك يا عمر.

وكان بالمدينة أعمى، فأتى يوماً عيناً يغتسل بها، فدخل بثيابه، فقيل له: بللت ثيابك، فقال: لأن نبتل علي خير من أن تجف على غيري.
وحكى الهيثم بن عدي قال: بينما أنا بكناسة الكوفة، إذا برجل مكفوف، قد وقف إلى نخاس الدواب، فقال له: يعني حماراً، ليس بالقصير، ولا بالكبير، إذا خلا الطريق تدفق، وإذا كثر الزحام ترفق، إن أقللت علفه صبر، وإن أكثرته شكر، إن ركبته هام، وإن ركبه غيري نام، فقال له النخاس: يا أبا عبد الله، اصبر، فإن مسخ الله القاضي حماراً، أصبت حاجتك إن شاء الله تعالى.



الباب الثالث


في أبيات شعر وقعت جواباً، واستعملت خطاباً اجتمع ناس من الشعراء، وأتوا منزل عدي بن الرقاع، وصاحوا به. فخرجت بنت له صغيرة، فقالت: ما تريدون? قالوا: نريد أباك، نهجوه، ونفضحه، فقالت:

تجمعتم من كل أوب، ووجهة على واحد، لازلتم قرن واحد

فاستحيوا، وانصرفوا خجلين.

ولقي كثير الفرزدق، فقال له الفرزدق، يعرض له بسرقته للشعر: يا أبا ضمرة، أنت أنسب العرب حين تقول:


أريد لأنس ذكرها، فكأنما تمثل لي ليلى بكل سبيل

فقال له كثير يعرض بسرقته، وأنت يا أبا فراس أفخر العرب حيث تقول:

ترى الناس ما سرنا، يسيرون خلفنا وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا

وهذان البيتان لجميل، سرق الفرزدق واحداً، وكثير واحداً، فقال له الفرزدق: هل كانت أمك ترد البصرة? قال: لا، ولكن كان أبي كثيراً ما يردها، فعرض كل واحد منهما بصاحبه.

ومر الأقيشر الأسدي بقوم من بني عبس، فقال بعضهم: يا أقيشر، وكان يغضب إذا دعي بذلك، فنظر إليه وأنشأ يقول:


أتدعوني الأقيشر، ذلك أسمي وأدعوك ابن مطفئة السراج
تناجي خدعها باللـيل سـراً ورب العرش يعلم ما تناجي

فسمي الرجل ابن مطفئة السراج ونظر رجل إلى الحسن بن عبد الحميد يزاحم الناس على باب محمد بن سليمان فقال: أمثلك يرضى بهذا? فقال:

أهين لهم نفسي؛ لاكرمها بهـم ولا يكرم النفس الذي لا يهينها

وقال أبو مسهر: أتيت أبا جعفر محمد بن عبد الله بن عبد كان، فحجبني، فكتبت إليه:

إني أتيتك للتسليم أمـس، فـلـم تأذن عليك لي الأستار والحجب
وقد علمت بأنـي لـم أرد، ولا والله، ما رد إلا العلـم والأدب

فأجابني ابن عبد كان:

لو كنت عافيت بالحسنى لقلت كما قال ابن أوس، وفيما قالـه أدب
ليس الحجاب بمقص عنك لي أملاً إن السماء ترجى حين تحتجـب

وقيل لجبان في موقف حرب: تقدم فقاتل، فأنشأ يقول:

وقالوا: تقدم، قلت: لست بفاعل أخاف على فخارتي أن تحطما
فلو كان لي رأسان، أتلفت واحداً ولكنه رأس إذا مات أعقـمـا
وأيتم أولاداً، وأرمـل نـسـوة فكيف على هذا ترون التقدما?

ووقف بعض الشعراء بباب أمير الرقة، فلما مثل بين يديه أنشده:

ماذا أقول إذا أتـيت مـعـاشـراً صفراً يدي من جود أروع مجزل
إن قلت: أعطاني كذبت، وإن أقـل بخل الأمير بما له لـم يجـمـل
ولأنت أعلم بالمـكـارم والـعـلا من أن أقول: فعلت ما لم تفعـل
فاختر لنفسك ما أقول؛ فـإنـنـي لابد مخبـرهـم وإن لـم أسـأل

فأعطاه عشرة آلاف درهم وكتب معها:

أعجلتنا، فأتاك عاجل بـرنـا قلاً، ولو أمهلتنا لم نقـلـل
فخذ القليل، وكن كأنك لم تسل ونكون نحن كأننا لم نفعـل

وقدم الحطيئة المدينة فوقف على عيينة، فقال له: أعطني، فقال: ما لك عندي حق فأعطيكه، وما في مالي فضل عن عيالي، فخرج مغضباًن وعرفه جلساؤه، فأمر برده، ثم قال له: يا هذا، إنك وقفت إلينا، فلم تستأنس ولم تسلم، وكتمتنا نفسك، كأنك كنت مجتنباً، قال: هو ذاك، قال: فاجلس؛ فلك عندنا ما تحب، فجلس، فقال له: من أشعر الناس? قال: الذي يقول:

ومن يجعل المعروف من دون عرضه يغره، ومن لا يتق الشـتـم يشـتـم

وأتى الشعبي مسجداً، فصادف فيه قوماً يغتابونه، فوقف عليهم، ثم قال:

هنيئاً مريئاً، غير داء مخامر=لعزة من أعراضنا ما استحلت


وقال الهيثم بن عدي: لما انفرد سفيان بن عيينة، ومات نظراؤه من العلماء، تكاثر الناس عليه يسألونه، فأنشأ يقول:

خلت الديار، فسدت غير مسود ومن الشقاء تفردي بالسؤود

وقال بعض الرؤساء لأبي العيناء: أبا العيناء، لو مت لرقص الناس طرباً وسروراً، فقال بديهاً:

أردت مذمتي، فأجدت مدحي بحمد الله ذلك، لا بحـمـدك
فلا تك واثقاً أبـداً بـعـمـد فقد يأتي القضاء بضد عمدك

أجل، الناس قد ذهبوا، فلو رآني الموتى لطربوا، فما زالوا يغبطونكم بي ويرحموني بكم.

وقيل لأبي العيناء: إن جماعة الكتاب يلومونك، فأنشد:


إذا رضيت عني كرام عشيرتي فلا زال غضباناً علي لئامها

وقال له يوماً عبد الله بن سليمان: اعذرني؛ فإني مشغول، فقال له: إذا فرغت لم نحتج إليك:

فلا تعتذر بالشغل عنا؛ فـإنـمـا تناط بك الآمال، ما اتصل الشغل

وقيل له: الناس مع أبي علي البصير عليك، وهم إليه أميل، فقال:

سقيتهم الردى، لمـا رمـونـي فقالوا: أبغضوك، فقلت: أدري
كبغض بني قريش في عـلـي ولا ذنب سوى أحـد، وبـدر

وأتي العريان بن الهيثم بغلام سكران. فقال له: ابن من أنت? فقال:

أنـــا ابـــن الـــذي لا تـــــــنـــــــزل الدهر
قدره
وإن نزلت يوماً فسوف تعود

فظن أنه ابن أحد الأشراف، فخلى سبيله، فكشف الغيب أنه ابن فوال.

وسئل ابن شبرمة عن إنشاد الشعر، هل ينقض الوضوء أم لا? فأنشد:


يا صلح إن فتاة كنـت أعـشـقـهـا عرقوبها مثل شهر الصوم في الطول

ثم قام فصلى.
ووجد المنصور على كاتب له، فأمر بإحضاره، ودعا بالسياط، فقال: يا أمير المؤمنين:


ونحن الكاتبون، وقد أسأنا فهبنا للكرام الكاتبينـا

فضحك منه وعفا عنه.

وأبطأ عبد الله بن يحيى عن الديوان، فأرسل إليه المتوكل يستفهمه عن حاله، فكتب إليه:


عليل من مكـانـين من الإفلاس والدين
ففي هذين لي شغل وحسبي شغل هذين

وقال الأصمعي: رأيت أعرابياً يضاجر أخاه، فقال له أخوه: والله لأهجونك، فقال: فكيف تهجوني وأبي أبك، وأمي أمك? قال: اسمع ما أقول:

لئيم أتاه اللؤم من ذات نفسـه ولم يأته من إرث أم ولا أب

وكان الفرزدق جالساً عند الحسن البصري، فجاء رجل فقال: يا أبا سعيد، إنا نكون في هذه البعوث والسرايا، فنصيب المرأة من العدو، وهي ذات زوج، فتحل لنا من غير أن يطلقها زوجها، فقال الفرزدق، وقد قلت أنا مثل هذا في شعري فقال له الحسن: وما قلت? قال: قلت:

وذات خليل أنكحتنا رماحـنـا حلالاً، لمن يبني بها، لم تطلق

قال الحسن: صدقت، ثم أقبل رجل آخر، فقال: يا أبا سعيد، ما تقول في الرجل يشك في الشخص يبدو له فيقول: هذا والله فلان، ثم لا يكون هو، ما ترى في يمينه? فقال الفرزدق: وقد قلت أنا مثل هذا، قال له الحسن: وما قلت? قال: قلت:

ولست مأخوذ بقول تقولـه إذا لم تعمد عاقدات العزائم

قال الحسن: صدقت.

واستعدت امرأة على زوجها عباد من منصور، وزعمت أنه لا ينفق عليها فقال لرؤبة بن العجاج: احكم بينهما، فقال:


فطلق إذن إن كنت لست بمنفق فما الناس إلا منفق أو مطلق

وقال علي بن الهجم: قلت لقينة:

هل تعلمين وراء الحب منـزلة تدنى إليك؛ فإن الحب أقصاني

قالت: تأتي من باب الذهب، وأنشدت:

اجعل شفيعك منقوشاً تقـدمـه فلم يزل مدنياً، من ليس بالداني

وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: كان بالمدينة رجل جعفري، من ولد جعفر بن أبي طالب، وكان يحب الغناء، وكان يتعشق قينة بالمدينة، فقال يوماً لإخوانه: قوموا معي إلى هذه الجارية حتى نكاشفها؛ فقد والله أيتمت أولادي، وأرملت نسائي، وأخرجت ضيعتي، فقاموا معه حتى وقفوا ببابها، فدقه، فخرجت إليه، فإذا هي أملح الناس دلالاً وشكلاً، فقال لها: يا جارية، أتغني:

وكنت أحبكم، فسلوت عنكم عليكم في دياركم السلام

فاستحيت وخجلت وبكت، وقالت: يا جارية، هات عودي، والله ما أحسن هذا، ولكن غيره:

تحمل أهلها منها فبـانـوا على آثار من ذهب العفاء

قال: فاستحيا والله صاحبنا. ثم تصيب عرقاً، ثم قال لها: يا سيدتي هل تحسنين أن تغني:

وأخضع للعتبى إذا كنت ظالماً وإن ظلموا كنت الذي أتنصل

قالت: والله ما أحسن هذا، ولكن غيره، ثم غنت:

فإن تقبلوا بالود أقبل بمثله وننزلكم منا بأفضل منزل

قال: فدفع الباب ودخل، وأرسل غلامه يحمل إليه حوائجه. وقال: لعن الله الأهل والولد والضيعة.
وكتب البعث على رجل من الكوفة، فخرج، وأفاد جارية وفرساً، وكان متزوجاً بابنة عم له، فكتب إليها:


ألا أبلغوا أم الـبـنـين بـأنـنـا غنينا، وأغنتنا الغطارفة الـمـج
بعيد مناط المنكـبـين، إذا جـرى وبيضاء كتمثال، زينها الـعـقـد
فهـذا لأيام الـعـدو، وهـــذه لحاجة نفسي، حين ينصرف الجند

فلما وردها كتابه، قرأت، وقالت: يا غلام، هات الدواة، ثم كتبت:

ألا أقره منـا الـسـلام، وقـل لـه: غنينا، وأغنتنا غـطـارفة الـمـج
إذا شئت غنـانـي غـلام مـرجـل ونازعته من ماء معتصـر الـورد
وإن شاء منهم نـاشـئ مـد كـفـه إلى كبد ملسـاء أو كـفـل نـهـد
فما كنتم تقضـون حـاجة أهـلـكـم حضوراً، فتقضوها على النأي والبعد
فعجل علينـا بـالـسـراح؛ فـإنـه منانا، ولا ندعو لك الـلـه بـالـرد
فلا قفل الجنـد الـذي أنـت فـيهـم وزادك رب الناس بعداً على بـعـد

فلما ورد كتابها لم يزد على أن ركب، وأردف الجارية ولحق بها، فكان أول شيء بدأها بعد السلام أن قال لها: بالله هل كنت فاعلة? قالت: الله في قلبي أجل وأعظم، وأنت في عيني أحقر وأذل من أن أعصي الله فيك، فكيف ذقت طعم الغيرة? فوهب لها الجارية، وانصرف إلى بعثه.

ونظر ابن أبي ذيب إلى عائشة بنت طلحة تطوف بالكعبة، فقال لها: من أنت? فقالت:


من اللاء لم يحججن يبغين حسبة ولكن ليقتلن التقي المغـفـلا

مثلك أبا عبد الله، قال: صان الله ذلك الوجه عن النار، قيل: أفتنتك أبا عبد? قال: لا، ولكن الحسن مرحوم.

وقال الشافعي رضي الله عنه؛ تزوج رجل امرأة حديثة على امرأة قديمة، فكانت جارية الحديثة تمر بباب القديمة فتقول:


وما يستوي الرجلان: رجل صحية ورجل رمى فيها الزمان فشلت

ثم تعود فتقول:

وما يستوي الثوبان: ثوب به البلى وثوب بأيدي البـائعـين جـديد

فمرت جارية القديمة بباب الحديثة، وأنشدت:

نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحـبـيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينـه أبـداً لأول مـنـزل

وقال الهيثم بن عدي: كان تحت العريان بن الأسود بنت عم له فطلقها، فتبعتها نفسه، فكتب إليها يعر ض لها بالرجوع، فكتبت إليه:

إن كنت ذا حاجة فاطلب لها بدلا إن الغزال الذي ضيعته مشغول

فكتب إليها:

إن كنت ذات شغل فالله يكلـؤه فقد لهونا به، والحبل موصول
وقد قضينا من استطرافه وطراً وفي الليالي، وفي أيامها طول

وطلق الوليد بن يزيد زوجته سعدى، فلما تزوجت اشتد ذلك عليه، وندم، فدخل عليه أشعب، فقال له: أبلغ سعدى عني رسالة، ولك عندي خمسة آلاف درهم، قال: عجلها، فأمر له بها، فلما قبضها قال: هات رسالتك، قال: ائتها وأنشدها:

أسعدى، هل إليك لنا سبـيل ولا حتى القيامة من تلاق
بلى، ولعل دهراً أن يواتـي بموت من خليلك، أو فراق

فأتاها، فاستأذن عليها، فأذنت له، وقالت: ما بدا لك في زيارتنا? قال: يا سيدتي، أرسلني إليك الوليد برسالة، وأنشدها الشعر فقالت لجواريها: خذن هذا الخبيث، فقال: يا سيدتي، جعل لي على ذلك خمسة آلاف درهم، قالت: والله لأعاقبنك، أو تبلغ إليه ما أقول، قال: يا سيدتي اجعلي لي شيئاً، قالت له: لك بساطي هذا، قال: قومي من عليه، فقامت فألقاه على ظهره، وقال: هات رسالتك، قالت له: قل له:

أتبكي على سعدى، وأنت تركتهـا? لقد ذهبت سعدى، فما أنت صانع?

فلما بلغه ذلك، سقط في يده، وقال: اختر مني إحدى ثلاث خصال: إما أن نقتلك، وإما أن نطرحك من هذا القصر، وإما أن نلقيك إلى ذلك السباع، فتحير أشعب، وأطرق طويلاً، ثم رفع رأسه، وقال: يا سيدي: ما كنت لتعذب عينين نظرتا إلى سعدى، فتبسم، وخلى سبيله.

ودخل أمية بن عبد الله على عبد الملك بن مروان، وبوجهه أثر، فقال: ما هذا? قال: قمت بالليل، فأصاب الباب وجهي، فقال عبد الملك:


رأتني صريع الخمر يوماً فسؤتها وللشاربيها المدمنين مصـارع

فقال: لا، وأخذك الله يا أمير المؤمنين بسوء ظنك، قال: بلى، وأخذك الله لسوء مصرعك.
وشهد عند سوار القاضي رجل، فرد شهادته؛ لأنه كان يشرب النبيذ، فقال:


أما النبيذ، فإني غير تاركـه ولا شهادة لي ما دام سوار

وكان بعض المشارقة يسمى كمال الدين، يهوى غلاماً اسمه بدر الدين فكتب إليه:

يا بدر دين الله، صل مدنفـاً صيره حبك مثل الخـيال
لا تخش من عيب إذا زرته فما يعاب البدر عند الكمال

فسمع بذلك عاشق آخر، فكتب إليه:

يا بدر، لا تسمع مقال الكمال فكل ما نمق زور محـال
البدر يوفى الخسف في نصفه وإنما يخسف عند الكمـال

وقال الأصمعي: كنت عند الرشيد، فجاءه نخاس بجارية للبيع، فنظر إليها الرشيد، ثم قال للنخاس: اذهب بجاريتك، فلولا كلف بوجهها، وخنس بأنفها لاشتريتها، فخرج بها، فلما بلغ الستر قالت: ردني يا أمير المؤمنين، أنشدك بيتين، فأمر بردها، فردت، فأنشدت:

ما سلم الظبي على حسـنـه كلا، ولا البدر الذي يوصف
فالظبي فـيه خـنـس بـين والبدر فيه كلـف يعـرف

فاشتراها الرشيد، وكانت من أحظى جواريه عنده.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق