الاثنين، 16 ديسمبر 2013

بائع الحكايات ( من حكايات اليابان)


 

الإنسان يحبّ الحكايات، ولغتنا كما لغات غيرنا تحمل هذه العبارة المفتوحة على شتّى الاحتمالات البهيّة، وهي:" إحكِ لي حكاية". والحكايات لا يحبّ سماعها الانسان حبّا بالسماع فقط، وإنما لأنها قد تنقذه من الملل أو تنقذه من الموت. ومن يملك القدرة على توليد الحكايات يملك القدرة، في الوقت نفسه، على الخروج من الأزمات أو المخاطر التي تعترضه. ليس المطلوب من الحكاية أن تكون صحيحة او واقعية، فآخر همّ المستمع ان تكون الحكاية صادقة أو كاذبة. أحبّ الاشارة هنا الى شهرذاد سيدة السرد العربيّ التي تعلقت حياتها على طرف حكاية، ولم ينقذها من رغبات شهريار الدامية الاّ ما تملكه من كَمّ سخيّ من الحكايات. كانت كلّ حكاية تأجيلاً لقدرها المحتوم، كانت تنجب حكاية كلّ ليلة بانتظار ان تنجب مولودا يغيّر مصيرها ومصير شهريار. كان للحكاية دوران، من جهة، انقذت نفسها بالحكاية، ولكنها، من جهة ثانية، انقذت شهريار أيضاً من عذابات نفسه.

السمر يغيّر مصائر البشر، والليل مخزن التحوّلات، هذا ما يفصح عنه عنوان حكايات شهرذاد" ألف ليلة وليلة". ولا تخلو أمّة من الأمم من الحكايات كما لا تخلو من الأمثال وجوامع الكلم. قد تتغير بعض التفاصيل من شعب الى شعب، ولكن جوهر الحكايات هو واحد.  
 
حكايات يابانية قديمة ترجمة محمد عضيمة


كنت أقرأ في كتاب " حكايات يابانيّة قديمة" الذي نقله الى العربية محمد عُضيمة، وهو كاتب سوريّ ذهب الى باريس ليتابع دراساته العليا في الأدب العربيّ، ولكنه في الوقت نفسه درس اللغة اليابانية وافتتن بحضارتها المجهولة لنا، فراح ينهل من ادبها الجمّ ويترجم من معينها الأدبيّ العذب، ولقد قام مؤخّراً بترجمة بعض الحكايات من التراث اليابانيّ بمعونة المستعرب الياباني كوتا كاريا المتخصّص بالتصوّف الشعبيّ في شمال افريقيا وغربها، وبين التصوف والحكايات اليابانية صلة رحم ظاهرة وان كانت غير مباشرة. فمن يقرأ حكايات فريد الدين العطّار او جلال الدين الروميّ يكتشف ان مقاصد الحكايات ليست للترفيه عن النفس، فالترفيه للتمويه، او قل ان الترفيه ليس اكثر من قشرة الجوز كما قال ابن المقفّع في مقدّمة  كتابه " كليلة ودمنة"، لقد اعتمد عضيمة على ذائقة المستعرب اليابانيّ لاختيار منتخبات دالّة من حكايات اليابان. ومن هذه الحكايات حكاية بعنوان:" حكايات بعشرة ينّات ذهبية".

تبدأ الحكاية بعبارة لا تتغيّر تفاصيلها كثيرا من حضارة الى اخرى وهي :" كان يا ما كان في قديم الزمان". الزمان القديم لا تفلت منه الحكايات، عبارة تقول لك منذ البداية انك تدخل الى حيّز زمنيّ لا يستغرب حدوث اي شيء فيه، حيّز زمنّي يهيىء ذهنك لقبول كل صنوف الأحداث. تقول الحكاية ان رجلا ذهب الى مدينة " ايدو" وهو اسم طوكيو القديم، وظلّ يعمل لمدّة عشرة سنوات، وكان في كلّ عام يوفر ينّاً ذهبياً، بعد عشر سنوات من الغربة قرّر العودة الى بلده ليعيش مع زوجته، وفي طريق عودته لمح في اطراف المدينة يافطة مكتوب عليها:" عندنا حياة للبيع". استوقفته العبارة، وتساءل ما نوع هذه الحياة التي تباع؟ دخل الى البيت وسأل صاحب الدار: هل عندكم حياة للبيع حقا؟ قال له صاحب البيت: لا، لا، يعني ذلك اننا نبيع الحكايات التي تنقذ من الموت. يا لها من حكايات ساحرة! قال الرجل. وحين سأله عن أسعار الحكايات، قال له صاحب البيت: اذا اشتريت ثلاث حكايات بعشرة ينّات فإنك تنقذ فيها حياتك من الموت ثلاث مرّات. فرح الرجل، فالحياة لا تقدّر بثمن، والمال فدى الابدان، نقد صاحب البيت الينات العشرة، فقال له صاحب الدار: اليك هذه الحكايات الثلاث. أوّلاً: (الاشجار الصغيرة اكرم من الكبيرة)، ثانيا: (اذا تناولت طعاما فاخرا فكن على حذر)، ثالثا: ( سرعة الانفعال تذهب المال) ما رـأيك؟ قال بائع الحكايات، أليس رخيصاً بعشرة ينّات ذهبية؟ وحين سمع الرجل ما سمع جنّ جنونه، ما هذا؟ انه لجنون، عملت عشر سنوات لأدّخر عشرة ينّات تذهب هدرا، ولكنه كان قد أعطى كلمة، ومن الشائن الرجوع عن كلمته، فحفظ الحكايات جيّداً، واستأنف السير.

كانت الطريق الى قريته بعيدة جدا، وكان عليه ان يسير اياما، غابت الشمس ذات يوم وكان لا يزال وسط الغابة، فاغتمّ ولكن كانت هناك شجرة كبيرة فذهب اليها واستلقى بالقرب من جذعها، غير انه في تلك اللحظة تذكر الحكاية الاولى ( الاشجار الصغيرة اكرم من الكبيرة) فقال لنفسه: عليّ والحالة هذه ان اختار شجرة صغيرة، وانام في ظلها. وفي الليل، تغير الجوّ، وبدأت السماء ترعد وتبرق ونزلت صاعقة على الشجرة الكبيرة وأحرقتها بالكامل، ولما رأى الرجل ذلك فرح فرحة عظيمة، وقال: فعلاً، لقد نجوت بفضل الحكاية التي اشتريتها.

وتابع طريقه بعد ان وَجْوج الضوء مسيرة يوم كامل، وحين حلّ وقت الغروب عرج على أحد البيوت طالبا المبيت، فتلقاه صاحب الدار بالأهلا والسهلا. وعندما حلّ المساء قدم له الكثير من الأطعمة الفاخرة، فقال الرجل: ليس عندي من النقود ما يكفي لتسديد المنامة مع هذا الطعام الفاخر، الا ان صاحب الدار قال: من دواعي سروري ان تبيت عندي، وانت مرتاح. ولما انتهى من العشاء وذهب الى فراشه تذكّر الحكاية الثانية فانسلّ من فراشه خفية ودخل إلى خرانة، وسرعان ما سمع صوت دوي وعندما أطلّ ليرى وجد صخرة سقطت من السقف على السرير، كان هذا الرجل يقدم الأطعمة الفاخرة ثم يقتل من عنده لسلبه. ففرّ الرجل، وفرح لأنّ الحكاية الثانية أنقذته من موت زؤام. وتابع مسيره حتى وصل ليلاً الى بيته، ولكن لفت انتباهه ظلّ رجل في غرفة الجلوس وسمع زوجته تقول: حكاية طويلة جدّا، أكابد وأعاني الأمرّين منذ فترة، فلعب الفأر في عبّ الرجل وقال لنفسه: ماذا أرى؟ كانت زوجتي تخونني انا الذي ذهبت كرمى لتحسين عيشتنا؟ استلّ سيفه وهو ينوي أن يقضي عليها، ولكنّه في هذه اللحظة تذكّر الحكاية الثالثة: "سرعة الانفعال تُذهب المال"، فتماسك، وقال: ها أنا وصلت، وما إن سمعت المرأة صوت زوجها حتى هرولت اليه وهي لا تصدّق عينيها من الفرح، ولكنه قال لها: هناك ما يشغل بالي، من هو الرجل الذي كنت تتكلمين معه منذ قليل؟ فردّت الزوجة ميتسمة:  لعلّك تقصد هذا؟ وأرته دمية كبيرة من القشّ. وروت له انها صنعت هذه الدمية من القشّ تشبهه لتخاطبها وتتحدث اليها كلّ يوم بانتظار عودته!

ففرح الرجل كثيراً وقال: فعلا لقد انقذت نفسي بالحكايتين الأولى والثانية كما أنقذت نفسك بالحكاية الثالثة.

 

بلال عبد الهادي

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق