الاثنين، 2 ديسمبر 2013

شذرات لغوية


الضرورات تبيح المحظورات اللغويّة

ليس هناك معجم لغويّ يتمتّع بالأخلاق الحميدة. فكلّ الكلمات التي يعاف اللسان التلفّظ بها لها مكان دافىء وحميم في ربوعه. ولا يمكنك ان تعترف أو تحترم معجماً يدّعي العفّة فيقوم برفض كلمات بحجة انها سيئة السمعة. إفتح " لسان العرب"، أو " تاج العروس"، أو "المقاييس"، أو "المخصّص" تجدهم يحتضنون كلمات من تحت الزنّار.

وما يقال عن الكلمات في المعاجم يقال أيضاً عن الحروف، فليس هناك حرف عفيف، تمنعه عفّته من الدخول في كلمات مدانة أخلاقيّا. فالكاف حرف لا غبار عليه، والسين حرف لا غبار عليه، ولكنّهما لا يتمرّدان على وجودهما في كلمات نابية.



سلطان الضمّة

وقعت عيني، ذات يوم، على عبارة معلّقة على أحد جدران طرابلس، وهي:" من تراثُنا صابونُ بلادُنا"، وهي مكتوبة كما كتبتها اي بوجود ضمّة فاقعة على الثاء في كلمة " تراثنا"، وعلى النون في كلمة "صابون"، وعلى الدال  في كلمة " بلادنا" رغم عدم وجود أي مبرّر نحويّ او لهجوي لوجود هذه الواوات ورغم انّ التسكين سلامة مستحبّة. العبارة تربط بين التراث وبين الصابون. فهل الواو " حركة تراثيّة"؟

 تساءلت ما سبب وجود هذه الضمّة؟ وما مبرّر الولع بها الى حدّ وضعها على ثاء التراث المكسور وعلى دال البلاد المخفوضة؟

احد تعليلاتي كان ان الضمة من الحركات النادرة في العربية العامية. ففي العامية نقول:" رايحيين جايين لا رايحون جايون ". والواو اخت الضمّة بل شقيقتها الكبرى في علم الأصوات. وبما ان بائع الصابون اراد ان يعزّز حضور التراث في صابونه قرّر ان يستعين بالضمّة في غير محلّها رغم أنف النحو ورغم أنف سيبويه ورغم أنف التراث.

خدعته الضمّة، والحركات خدّاعات! فغيابها عن مسرح الاستعمال لصالح الكسرة والفتحة زوّدها بقدرة تراثية ساحرة.

وهكذا عفّت، عن غير قصد، مع رائحة الصابون ورائحة اللحن الميمون!.



أُوساما

قد يظنّ القارىء أنّ عنوان هذه الخاطرة جمع "وسم" لذا وضعت حركة الضمّة على حرفها الأوّل منعاً للالتباس. ولكن ما كتبته هنا هو اسم " أسامة " كما قرأته على نعوة راحل إلى دنيا الحقّ. وهناك أخطاء إسمية كثيرة من هذا القبيل في كتابة الأسماء العربية، والسبب هو الجهل، والحرية في ممارسة الخطأ دون رقيب أو حسيب، وكأنّ الخطأ قدر لا يردّ!

في انتقال " أسامة" الى "أوساما" أسباب صوتية مردّها الالتباس بين الأصوات القصيرة والأصوات الطويلة أي بين ما يسمّى "الحركات" وبين ما يسمّى "حروف العلّة". الفارق الوحيد بين "الضمّة" و "الواو" حين تكون صائتاً طويلاً هو الزمن. إنّ الزمن في التلّفظ بالضمّة أقصر من الوقت الذي يستغرقه التلفّظ بالـ"واو". هل العتب على السمع؟

ومن ناحية ثانية انتقال التاء المربوطة إلى ألف في " أوساما" مردّه طبيعة التاء المربوطة في آخر الكلمة التي تتحوّل إلى هاء. ولكن التاء المربوطة تستحقّ بمفردها نظرة خاصّة، فهي متحوّلة كالحرباء وتغيّر جلدها الصوتي، فهي لمن يتتبّع حركتها في فمه تصير فتحة وتصير كسرة وتصير تاء طويلة أو تصير هاء. في اسم " فاطمة" مثلا نرى ان التاء انسحبت لصالح الكسرة القصيرة أو الكسرة الطويلة التي هي الياء، فنقول " فاطمي" وأحيانا نراها في استخدام اللهجة نفسها تتحوّل الى "ألف" كما في "أسامة" حيث نسمعها "أُساما".

وحين لا يميّز المرء بين المنطوق والمكتوب يقع في فخّ لا يخلو من طرافة، فهذا الفخّ يوقع الدوائر الرسميّة في الخطأ اللغويّ، فالكلمة التي لا وجود لها في عالم اللغة، وهي كلمة افتراضيّة، تصير جزءاً من مفردات الأحوال الشخصيّة، فلا يمكنك أن تحذف الكلمة الخطأ لأنّك بهذا كمن يحذف شخصاً له كيان. ولا تخلو كتابة الأسماء العربيّة من طرائف كثيرة خصوصاً أنّها متحررة في الكتابة من الفتحة والضمّة والكسرة. فلا أظنّ أنّ هناك اسماً على بطاقة الهويّة وضعت له الحركات مثلاً، وهذا ما ينتج تحريفاً مزعجاً ومحرجاً أحياناً، فلي صديق أسمه " مُنذِر"، وهو اسم عربيّ شائع، ولكن المختار على ما يبدو كتبه بالـ"ظاء" بدل الـ"ذال"، فإذ به "منظر"، ولكن شكل الكلمة يغري بتغيير حركاتها، وهكذا افترى حرف الظاء على حركاتها، فصار اسم ذلك الشخص " مَنْظَرْ" بدلاً من "مُنْذِرْ".



Phynal / فينال

هناك كلمات ليست كلمات، بمعنى انها لا تملك هوية لغوية ولا يرحب القاموس بوجودها، ولكنها تعيش، تعيش باصرار وعناد الى ان تذعن المعاجم لها وتعترف وّغن رغما عنها بها. منذ فترة وأنا افكر بجمع تلك الكلمات التي ولدت بإرادة ذاتية من قبل أناس معروفين أو حتّى مجهولين.

الكلمة أعلاه Phynal واحدة من هذه الكلمات التي نزلت بالمظلّة إلى عقر دار اللغة الفرنسيّة، ولكن هل فرنسيّة؟ لا أظنّ، وما عليك الاّ أن تستعين بمعجم فرنسي كـ"لاروس" أو "روبير الصغير" لتكتشف انّها مفردة لقيط، لا يتبّناها أحد، ومع هذا فهي مفردة تعيش، ولها وجود على الانترنت افتراضيّ، ولم تحتج هذه الكلمة الفرنسيّة الى أب وأم فرنسيين كي ترى النور. الكلمة ركّبها أستاذ لبناني يعلم الفيزياء في الصفوف النهائية، ولولا تعليمه الفيزياء في الصفوف النهائية لما خطر بباله أن يخترعها، وعزّزت حضورها حين أقدم الاستاذ على فتح حساب على الفايسبوك بهذا الاسم (  Phynal) للتواصل "الفيزيائي" مع طلابه.

نحت استاذ الفيزياء من كلمتين فرنسيتين وهما : الفيزياء ( physique ) و (terminal)  كلمة جديدة. أخذ المقطع الأوّل(phy  ) من الكلمة الأولى ( physique )  والمقطع الاخير او الثالث (nal)  من الكلمة الثانية (  terminal) . ومن هذين المقطعين ركّب كلمته ( Phynal / فينال ) . وبين "فينال" و"ترمينال" صلة دلالية. ليس هناك  ( F )لكن (PH) التي تلفظ هنا (F)   أي أنّ الكلمة المولّدة لا تخلو من طرفة ولعبة صوتية وخطية، فهي أي كلمة  (  Phynal)  على المستوى الصوتي لا تثير الغرابة بحكم وجود كلمة ( Final) في اللغة الفرنسيّة، وانما على المستوى الإملائي.

لا أحد يعلم ما تخفي أرحام الأبجديّات الا الله!



الآجرومية النحوية

انتشرت في العربية كلمة " آجروميّة" بمعنى " النحو" او كتاب بسيط في تعليم النحو. رغم ان الكلمة لا علاقة لها بالعربية من قريب او بعيد، فهي تعني باللغة الأمازيغية " الفقير الصوفي" . وشاءت أقدار النحو العربي أن يكتب " ابن آجروم" كتاباً في النحو العربيّ وهو: "المقدمة الآجُرُّومية في مبادئ علم العربية". انتشر الكتاب لبساطته، وتحوّلت مع الوقت الآجرومية إلى معنى كتاب نحويّ.

ولدت حول آجروميته خرافات طريفة وحكايات لطيفة منها انه اراد من وراء كتابه وجه الله لا غير، فكثير من النحاة كانوا يطلبون من وراء تصانيفهم وجه جيوبهم ومرضاة نرجسيّتهم!. وحين انتهى من تأليف رماه في البحر، وقال: "إن  كان لوجه الله فلن يبلى". نلحظ من وراء هذا الخبر ان ابن الآجروميّ نفسه لم يستطع ان يقرأ نواياه الذاتيّة! وحين سحبه من الماء حافظت كلمات الكتاب على وجودها في صفحاته ولم يشربها البحر. ففرح لسلامة نواياه، وأكرمه الله تعالى بأن أدخل كلمة " الآجرومية" الأمازيغيّة أو البربريّة في متن المعجم العربيّ، وفي متن النحو بل أصبحت علماً على النحو.

فسبحان الله!

بلال عبد الهادي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق