الثلاثاء، 6 أكتوبر 2015

محمود الكراكيزي أو محمود الحارس ومسرح خيال الظلّ


صوره للحاج محمود الكراكيزي وهو يجلس في مقهى التل العالي مع بعض اصاقائه وهم يرتدون اللباس العربي صاحب ثمثليات قره كوز وعواظ 

وكان كل ما في المدينة من دور اللهو وأسباب التسلية، هما "خيمة كراكوز" و "الحكواتي" حيث يقضي الناس سهراتهم وتقومان لديهم مقام الملاهي ودور السينما المعروفة اليوم.
   وكان أمير الكراكوزاتية في ذلك الزمن، الحاج محمود الكراكيزي، فقد كان نابغة في هذا المضمار، أديباً ونقاداً، حاضر النكتة، وأعجب ما يمتاز به قدرته على تغيير صوته ولهجته بحيث كان يقلد خمسة عشر صوتاً مختلفاً هي أصوات الأشخاص الذين تتألف منهم خيمته.
   و "خيمة كراكوز" عبارة عن شاشة مساحتها متر مربع، يضع على بعد منها سراجاً يعكس خيال تماثيل صغيرة من الكرتون أو الجلد، لكل منها شكل خاص يتميز به، أطلق عليها أسماء: كراكوز، عواظ، بكري المصطفى، المدلل، طرمان، قريطم وغيرهم..
   وكان الحاج محمود يروي قصصاً خيالية يمثل وقائعها الأبطال المذكورون ويحركهم بدوره حسبما تتطلبه القصة.
   وغالباً ما تكون القصة مضحكة ذات مغزى، وقد يتطرق الى انتقاد حاكم المدينة بطريقته الخاصة، فيقدم مشهداً يمثل بلداً ضل أهله واختاروا بكري المصطفى المشهور بجهله وسكره وعربدته، ليكون حاكماً عليه..
   وفي أحد الأيام توفي أحد الأهلين فطلب من بكري المصطفى أن يرثي الميت فوقف يحاول الكلام إلا أن لسانه خانه في النطق، فاقترب من الميت وهمس في أذنه: إذا سألوك في الآخرة عن أحوال البلد، فقل لهم ان بكري المصطفى حاكمه... وهم يعرفون من هم أهله!.. 
   وكان المدلل أكثر الممثلين شعبية لدى الجمهور، لصغر سنه، وخفة روحه، وسرعة جوابه، وكثيراً ما كان الكراكوزاتي يستغل هذه العاطفة، فلا يقدمه على الشاشة ليلة وليلتين وثلاثا.. فيضج عشاق المدلل ويسألون الحاج عن سبب غيابه، فيجيبهم بأنه مريض وبحاجة إلى بعض التغذية...
   وفي اليوم التالي تنهال على الحاج شرائح اللحم والحلويات والفواكه والخضار.. لتغذية المدلل...
   وفي المساء يظهر المدلل على الشاشة، معصباً رأسه يتوكأ على عصا... ولا ينسى أن يشكر أولاد الحلال الذين ساعدوه على استرجاع عافيته!..
   وكان الكركوزاتي أيضاً يقوم بالدعاية لبعض المحلات على شاشته، كما هو الحال في السينما اليوم، إذ كان يظهر المدلل مثلاً، يعتذر لمعلمه عن أسباب تأخيره عن عمله، لأنه عرج على محل فلان وأكل عنده صحن حمص، لم يتذوق مثله في حياته..
   وكانت شهادة المدلل هذه، كافية لان يزدحم محل المحمصاني المذكور في اليوم التالي بالزبائن..
   وللحكواتي رواد أوفر عدداً، إذ أن قصص عنترة والأميرة ذات الهمة والزير والملك سيف وغيرها، كانت تستهوي عدداً كبيراً من الناس، وكان الحكواتي يجلس على منصة عالية وبيده سيف من خشب، ويقرأ بصوت جهوري وكثيراً ما كان يندمج مع حوادثها ويأخذه الحال فيرغي ويزبد.. ويتوعد ويهدد.. ويضرب الطاولة بالسيف تارة، ويلوح به أخرى..
   لم يكن الحكواتي أقل ذكاء من زميله الكراكوزاتي، إذ أنه كان ينهي قصته كل يوم تاركاً بطلها في أحرج المواقف!
   وحدث أن الحكواتي توقف مرة أثناء قراءة قصة عنترة، عند أسره وزجه بالسجن، بعد تكبيله بالحديد والأغلال، وصعب على أحد الحاضرين الذين يهيمون بعنترة، أن يتركه سجيناً، ولما ذهب إلى بيته لم يستطع النوم، فرجع إلى منزل الحكواتي وأيقظه مهدداً إياه بالقتل إذا لم يخرج عنترة من السجن، ويفك قيوده في الحال.. فإضطر المسكين إلى أن يتابع له قراءة القصة أكثر من ساعة.. حتى أطلق له سراح أمير الفوارس!..
   ومن أطرف ما يروى أنه عندما كان يصل الحكواتي إلى زواج عنترة من حبيبته عبلة، يقوم عشاق عنترة بتزيين الحي وإقامة الأفراح وقرع الطبول والإحتفال بزواج عنترة إحتفالاً يليق بمكانته في عالم الفروسية...
* * *
   هذه لمحة خاطفة عن طراز الحياة في طرابلس ما قبل عام 1900، قد تبدو غريبة عنا، اليوم، كل الغرابة، ولكنها تحمل بين طياتها عادات وتقاليد أناس تميزوا بالصدق والوفاء والطيبة وحب الجار وإغاثة الملهوف... هذه المزايا قد لا نجدها اليوم، ولو ركبنا في أثرها... الصواريخ!.

http://www.tourathtripoli.org/index.php?option=com_content&view=article&id=255:1900&catid=24:2009-10-19-06-41-10
رياض فؤاد دبليز: طرابلس قبل عام 1900، كُتيب مطبوع من 38 صفحة (لا.د، لا.ت).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق