الأربعاء، 2 يناير 2013

مو يان.. كتابة الوجع الصينى وجدل الخيالى والواقعى

كتب المقال صبري حافظ ونشره في
http://tahrirnews.com/columns/view.aspx?cdate=02112012&id=8ccdff71-333e-4d8d-aa1d-c562443fc3d8
 بعد أن تناولت فى الأسبوع الماضى سياقات حصول الكاتب الصينى «مو يان» على جائزة نوبل للآداب هذا العام، والتناظرات بين الحالة الصينية والحالة العربية واختلافاتها. سأموضع الكاتب الطالع من إحدى أفقر مناطق الصين الريفية فى سياق ظهوره الثقافى، ثم أقدم للقارئ بعض ملامح عالمه الأدبى المتميز. فقد جاءت أعماله التى تعاقبت بوتيرة متسارعة منذ عام 1981، عام نشر روايته الأولى «مطر فى ليلة ربيعية» فى سياق مجموعة من المتغيرات الدالة فى الأدب الصينى الحديث. فبعد فترة من الازدهار النسبى فى بداية حكم ماو تسى تونج، نتيجة لدعوته الشهيرة «دع مئة زهرة تتفتح»، تراجعت حرية الكتّاب النقدية، وسادت المشهد الواقعية الاشتراكية بمنتجاتها الأدبية البليدة. وأحكم الحزب سيطرته على الحياة الثقافية عبر اتحاد الكتاب، وتأميم دور النشر.
لكن الفترة التى تلت التخلص من عصابة الأربعة بعد موت ماو تسى تونج عام 1976، وبداية التحولات السياسية والاقتصادية فى الصين مع انتصار دنج جياو بنج، مهندس التحول الصينى، وشعاره الشهير: «بلد واحد ونظامان» شهدت مجموعة من التحولات الثقافية المهمة. فقد اندلعت معها انفجارة أدبية كبيرة استعادت زخم حركة «الرابع من مايو» التجريبية فى بداية القرن العشرين. وهى الحركة التى أسهمت فى إرساء قواعد الأدب الصينى الحديث، وتكوين أشكاله السردية والدرامية الجديدة، ومكّنته من تحقيق حالة من الازدهار الكبير طوال الثلث الأول من القرن العشرين، وحتى الاحتلال اليابانى الذى أدخل البلاد فى دوامة من الصراعات والاضطرابات والحروب لم تنته إلا بهزيمة اليابان وقيام الثورة الصينية.
لكن الحزب سرعان ما استشعر الخطر الداهم لتلك الانفجارة المتسارعة التى لم يستطع السيطرة عليها، فشن حملاته الأيديولوجية ضدها. وكان من أبرزها حملتان: أولاهما ضد النزعة البرجوازية الليبرالية عام 1980/1981، وضد الخطاب الذى تحرر من قيود الواقعية الاشتراكية، ورؤية الحزب الثقافية التى كانت قد تزعزعت إبان الثورة الثقافية. وثانيتهما ضد ما عرف باسم «تلويث الروح الصينية» عام 1983 بسبب تدفق الأعمال الأدبية التى تُكتب بسرعة كوابيس مرحلة الثورة الثقافية، متشجعة باستمرار الهجوم الأيديولوجى عليها. وتعيد النظر فى تاريخ الصين الحديث، بعيدًا عن رؤية الحزب التبسيطية له، حيث من حارب مع ماو هم الأخيار، وكل من عداهم أشرار خونة. لكنهما كانتا حملتين قصيرتى العمر والتأثير.
■ حركتان أدبيتان: الطليعية والعودة للجذور
لأن زخم الانفجارة الأدبية سرعان ما تنامى. وانطلق الأدب وقد تشجع بنجاح سياسات دنج فى المجالات الاقتصادية والاجتماعية، وبرز كتاب مهمون مثل وانج مينج Wang Ming، وجانج زينزن Zhang Xinxin، وزونج بو Zong Po فى مجال الرواية، وجاو زينجيان فى مجال المسرح. وتبلورت خلال هذه الازدهارة مع سنوات الثمانينيات الأولى مدرستان/ جماعتان أدبيتان تجسدان على الصعيد الثقافى، شعار دنج: «بلد واحد ونظامان». أولاهما «حركة الأدب الطليعى» التى استعادت روح «الرابع من مايو» فى الانفتاح على أحدث أشكال الكتابة الغربية، والاهتمام بالتجريب فى اللغة والأشكال الأدبية، وتأسيس عدد من المجلات الطليعية ودور النشر الجديدة خارج سيطرة المؤسسة الرسمية. وبدأت هذه الحركة فى كتابة كوابيس مرحلة الثورة الثقافية، وما جرته على الصين من خراب. مستفيدة بذلك من تقنيات الحداثة الغربية، والإيغال فى الفانتازيا والمناجيات الداخلية. وبدأ جيل كان يكتب على استحياء، ويحتفظ بكتابته فى الأدراج نتيجة للثورة الثقافية، يمكن أن نسميه بجيل الستينيات، ينشر أعماله القديمة ذات الحساسية الأدبية المغايرة، ويفتح الأدب الصينى على الأساليب التجريبية الجديدة، وعلى كثير من تقنيات الحداثة الغربية مثل يو هان Yu Hua، وجى فاى Ge Fei وسو تونج Su Tong. بصورة جدّدت اللغة والأدب معًا، وأظهرت غياب الإيمان بأى نموذج أو مثال قديم.
وثانيتهما هى حركة أو جماعة «العودة للجذور»، وتزعمها هان شاجونج Han Shagong وزونج شينج Zhong Cheng، وضمت عددًا من الكاتبات البارزات مثل تشين ران Chen Ran، ووى هوى Wei Hui، ووانج آنييه Wang Anie، وهونج ينج Hong Ying. وقد سعت إلى إدارة حوار خصب بين تقنيات الحداثة الغربية التى روج لها كتّاب جيل الستينيات وجماعة الأدب الطليعى، والتقاليد الراسخة فى الأدب الصينى القديم، بنصوصه السردية الشيقة، واستراتيجياته النصية المتجذرة فى بنية اللغة والوجدان الشعبى معًا. وهذه هى الجماعة التى مال إليها كاتبنا مو يان، الذى تربى على حكايات قريته الشعبية وعوالمها الخيالية الخصيبة، وإن كان فى الوقت نفسه من أكثر كتابها استفادة من إنجاز الجماعة الأخرى، وتقنياتها التى تقترب فى عالمه من تقنيات الحداثة الأوروبية الأولى بسرياليتها الواضحة، وقد اكتسبت زخمًا جديدًا من تحرر الواقعية السحرية وإنجازاتها التى ولع بها مو يان، خصوصًا عند جابرييل جارسيا ماركيز.
فقد بدأ الكتابة فى مدينته النائية، بعيدًا عن مركز هذا الجدل الأدبى الدائر فى بكين وشنغهاى. واستفاد بمكر الفلاح الصينى العريق منهما معا. ألم ينصحه أبوه الفلاح من قبل بأن لا يتكلم؟! ألم يتعلم من قراءته لوليام فوكنر، وهو الكاتب الآخر الذى يقول إنه تأثر بها كثيرًا، بالإضافة إلى جابرييل جارسيا ماركيز أن باستطاعته أن يؤسس عالما خياليا، مثل يوكناباتوفا Yoknapatawpha، يتناول فيه كل ما يدور فى العالم الواقعى بحرية وقدرة أكبر على التأثير؟! وقد فعل ذلك فى أكثر من عمل من أعماله الروائية التى يتعمد أن لا تدور فى جغرافيا واقعية، بل متخيلة وشديدة الالتصاق بالواقع معًا، أقرب ما تكون إلى منهج فوكنر فى يوكناباتوفا. فقد شبّ مو يان عن الطوق إبان اندلاع عواصف الثورة الثقافية، وانتشار شراراتها فى كل الأقاليم. كان فى الحادية عشرة من عمره حينما انطلقت، وكان خوف أبيه عليه هو ما دفعه إلى أن يشدد عليه بأن لا يتكلم خارج البيت، وأن يتظاهر بأنه أبكم، وأن لا يعبر عن آرائه الحقيقية، لما قد يجلبه هذا عليه من عواقب وخيمة. لا تتكلم «مو يان»! هكذا كان يقول له الأب طوال الأعوام العشرين الأولى من حياته. وقد استحسن استخدام هذا الاسم أدبيًّا، حينما بدأ الكتابة بدلا من الكلام، بدلا من اسمه الحقيقى جوان موييه، لما ينطوى عليه من مفارقة. خاصة أنه بدأ الكتابة وهو مجند بجيش التحرير الشعبى، فكان فى حاجة إلى أن يذكِّر نفسه بدلالات هذا الاسم باستمرار، حتى لا يتورط فى ما لا تحمد عقباه. بل إنه استخدم نصيحة أبيه له، تظاهر بأنك أبكم، كاستراتيجية أدبية فى روايته الأولى التى يرويها طفل عازف عن الكلام. فحق عليه استخدام الاسم الأدبى إذن «مو يان» لكتابة ما رآه هذا الطفل وعاشه دون أى كلام، خاصة أنه يتناول فى كتاباته كثيرًا من القضايا السياسية، وينتهك فيها فى الوقت نفسه بعض المحرمات الجنسية. لذلك حافظ على الاسم، وواصل الكتابة به حتى اليوم، رغم تغير الظروف، وانفراج المناخ.
■ عالم الريف وعشيرة الذرة الحمراء
ومع أن مو يان كاتب خصب وفير الإنتاج، مثله فى ذلك مثل كاتبنا الكبير نجيب محفوظ، فإن مدار عالمه على العكس من محفوظ هو الريف الصينى، ومدنه الصغيرة، لا العاصمة أو المدن الصينية الضخمة. فهو كنجيب محفوظ لا يكتب إلا عن خبرة حميمة بما يكتب عنه، عما يعرفه عن كثب. وقد عاش القسم الأكبر من حياته فى قريته «جاومى»، لذلك يدير أغلب أعماله فى عالم قريب من عالمها. لأنه يقول إنه بعد أكثر من عشرين عاما من الصمت، والحرمان من الكلام، يريد أن ينقل للعالم كل ما عاشه وشاهده فى قريته ومدينته الصغيرة، يريد أن يحكى ولا يستطيع أن يتوقف عن الحكى، خاصة منذ قرر أن يتفرغ للكتابة بعد النجاح النسبى لروايته الثانية (فجل شفاف) عام 1983. وهو كاتب كما تقول حيثيات فوزه بجائزة نوبل «يمزج واقعية الهلاوس التخيلية بالتاريخ والحكايات الشعبية والوقائع المعاصرة». ولو أضفنا إليها، ويعتمد على الجدل الخصب بين الخيال والواقع بطريقة تهكمية ساخرة تتسم بمنطق القص العفوى والاستطرادات السلسة، والسرد التوليدى الذى تتناسل فى الحكايات، ويذكرك باستراتيجيات القص الشهرزادية فى (ألف ليلة)، لتحولت هذه الجملة الأطول إلى مفتاح لأسلوبه السردى المتميز.
لكن الرواية التى جلبت له الشهرة، وكرّست مكانته كواحد من أبرز كتاب جيله هى روايته الثالثة، أو الرابعة ربما، فليس ثمة معلومات دقيقة بعد عن كل مؤلفاته، (عشيرة الذرة الحمراء Red Sorghum Clan) عام 1987. والذرة Sorghum الصينية، أو الذرة الرفيعة كما ترجمها البعض، هى الزراعة الرئيسية فى المحافظة التى جاء منها مو يان، وهى عماد الحياة فيها. وتستخدم حبوبها الصغيرة، والتى تنمو فى عناقيد مثل عناقيد العنب أو مثل سباطة البلح، وليس ككيزان الذرة التى نعرفها، فى عمل الخبز و«الشعرية» الصينية، وهى الغذاء الأساسى، كما تستخدم أيضًا فى صناعة مشروب كحولى صينى بامتياز، بينما يستخدم النبات نفسه علفًا للماشية، لذلك توشك عشيرة هذه الذرة الصينية بامتياز أن تكون استعارة شفيفة للصين نفسها. وهذا هو سر نجاحها، واستجابة الكثير من القراء لرؤاها، إذ وجدوا أنفسهم وتواريخهم المنسية فيها. وقد تحولت فى العام التالى لصدورها إلى فيلم ناجح، فاز بجائزة الدب الذهبى فى مهرجان برلين السينمائى عام 1988. وتتكون الرواية من خمسة أجزاء «نبيذ الذرة الصينية»، و«جنازة الذرة»، و«طريق الكلب»، و«الميت الغريب»، و«الذرة الحمراء». وهى أشبه بالملحمة التاريخية التى تدون تاريخ عشيرته المنسى، أو تكتب التواريخ التحتية لمنطقته الريفية المتميزة والمهمّشة معا، بحكاياتها الشيقة وفلكلورها الثرى، وخيالاتها الجامحة.
■ تاريخ المهمشين ورؤاهم الخيالية الخصبة
لأن ما تكتبه الرواية ليس التاريخ الرسمى الذى تخصص المؤرخون الحزبيون فى كتابته، حتى جف وصار من المحفوظات الممجوجة، وإنما تاريخ البشر البسطاء المنسى، والمثير للتهكم والإعجاب معًا من خلال كتابة قصة ثلاثة أجيال من أسرة ريفية فى شمال شرق الصين، حيث يبدو أبطاله أشخاصًا من لحم ودم، يختلط فيهم الخير بالشر، والحكمة بالسذاجة، والحب بالرغبة فى الانتقام، والعنف بالشبق لمتع الحياة. ولكن يظل حبهم للوطن ورغبتهم فى تحريره هى دافعهم للجلد والحياة. فلـ«مو يان» جملة شهيرة، توشك أن تكون مفتاحًا لفهم الشخصيات التى يكتبها، وهى «إن حكمة الإنسان محدودة، ولكن حماقاته لا تعرف الحدود».
وتبدأ الرواية عام 1939، بعد عامين من اندلاع الحرب الصينية اليابانية الثانية (1937- 1945) وكانت الأولى قد دارت (1894- 1895). وكان شمال شرق الصين كله، بما فيه محافظته شاندونج، قد وقع تحت الاحتلال اليابانى. تبدأ الرواية فى ذروة فترة الاضطرابات التى عاشتها الصين عقب الغزو اليابانى، وبدايات الحروب التى لم تنته إلا بالزحف الكبير، وتأسيس الصين الشعبية. ويرويها راوٍ عن المرحلة التى شارك فيها أبوه حينما كان صغيرًا، أى الأب، وانضم وهو فى الرابعة عشرة من عمره إلى إحدى عصابات الإغارة على المدن، أو فرق مقاومة اليابانيين، فأنت لا تعرف حقًا الفرق فى هذه الرواية الساخرة بين قطّاع الطرق وعصابات الإغارة على المدن، وبين فِرق مقاومة اليابانيين الوطنية.
ولأن الابن هو الذى يروى الحكاية بعدما كبر، ويبدؤها من فترة صبا أبيه، فإنه يعرف مستقبل ما يرويه من أحداث، بصورة تمكنه بيسر من الانتقال الحر بين الأزمنة: هبوطًا من الحاضر إلى الماضى، وصعودًا منه إلى المستقبل فى بنية روائية شيقة تستخدم ببراعة ما أود دعوته بتقنيات الاستطرادات السردية التى تتوالد فيها الحكايات بعفوية دون أن يحكمها منطق التتابع السببى، لأن الابن يعرف مآلات كل ما يرويه من حكايات، ولا يطيق الصبر أحيانًا على الحكاية حتى تكتمل، بل يقفز منها إلى مستقبلها، أو إلى ما أثارته فى ما بعد من عواقب. وتتيح له هذه الحرية فى الحكى أن يتحرك بيسر فى الزمان، منتقلا من الحاضر إلى الماضى، ومن الماضى إلى المستقبل، دون أن يقطع خيط السرد المتدفق فى سلاسة. وإن كانت هذه التقنية المراوغة لا تصرف الكاتب عن هدفه الأساسى، وهو كتابة رواية تحكى تاريخ أسرته من ناحية/ وتاريخ منطقته الريفية فى شمال شرق الصين من ناحية ثانية/ وتاريخ الصين نفسها على مد فترة طويلة وحرجة من تاريخها من ناحية ثالثة.
إنها ملحمة تاريخية، تكتب تاريخ الوجع الصينى الفريد مع الاحتلال اليابانى أولا، ثم مع السنوات الأولى من الحكم الشيوعى ومعاناة الفلاحين فى هذه الفترة، وبدايات تأسيس بيروقراطية الحزب فى الريف الصينى. وتطرح تناقضات هذا التاريخ غير المكتوب، وغير المهتم به، بوقائعه التى توازى التاريخ الرسمى وتحيل بشكل مراوغ عليه، وأساطيره العامرة بالجن والأشباح، فى مواجهة المتخيل الوطنى الرسمى الذى يحيط مسيرة الصين التاريخية بهالة من القداسة والجمود. وتسخر من هذا المتخيل وهى ترويه فى مسيرة النضال المضطربة ضد الغزو اليابانى والكاشفة عن كل تناقضات الواقع السياسى وقتها، حيث تختلط بطولات المقاومة بنذالات قطّاع الطرق، وحكمة المحاربين الأشاوس بسذاجة الفلاحين البسطاء، وشجاعة الفرسان بجبن الخائفين ومكرهم. لكن الرواية تكتب أيضًا بعد هذا كله، أثر المعجزة الصينية والتحول إلى اقتصاديات السوق على الريف، وأوجاع التحول من الاقتصاد الاشتراكى الملتزم بالعدالة الاجتماعية، والذى تمتع فيه بيروقراطيو الحزب بالنفوذ والسلطة، إلى اقتصاد السوق الذى يعصف بالضعفاء ومن يتمسكون بالأخلاق والمثاليات، لصالح نهازى الفرص ومن لا خلاق لهم. ويزعزع سلطة البيروقراطية ومندوبى الحزب القديمة، لصالح بنية الفساد القوية الجديدة المدعومة بسطوة المال الجديد وأبهة الفجور والدعارة.
■ وجع التحول المدمر لاقتصاد السوق
وستظل أبهة الفجور والدعارة من الاستعارات التى يستخدمها مو يان فى أكثر من رواية تالية لتجسيد عملية مسخ القيم والأخلاقيات التى نتجت عن التحول السريع والمدمر أحيانًا نحو اقتصاد السوق. ورؤية المهمشين الذين يقع عليهم وزر هذا التحول ويعانون أوجاعه. فقد تواصلت روايات مو يان، الذى تفرغ كلية للكتابة، وأصبح عضوًا بارزًا فى اتحاد الكتاب، وصار قبل أعوام نائبًا لرئيسه، فصدرت روايته (مواويل الثوم The Garlic Ballads) عام 1988 و(أرض الخمر أو جمهورية النبيذ The Republic of Wine) عام 1992، وهى الرواية الأولى له بعد أحداث ميدان تيانمين الشهيرة عام 1989، وقد صادرتها السلطات، فنشرها فى تايوان، و(أثداء كبيرة وأرداف ثقيلة Big Breasts & Wide Hips) عام 1996، ولكنها صودرت هى الأخرى، لأنه تجاوز فيها كتابة تاريخ المنسيين والمهمشين إلى تناول شىء من التاريخ الرسمى، حيث يغطى السرد فيها مرحلة طويلة من تاريخ الصين تمتد من السنوات الأخيرة لأسرة كينج (انتهت عام 1911 وأخرج بيرتولوتشى فيلمًا جميلا عن إمبراطورها الأخير) وتستمر إلى ما بعد موت ماو تسى تونج، من خلال امرأة تسعى لإنجاب ولد، ولكنها تنجب ثمانى بنات متتابعات قبل أن يجيئها الولد، وهو عمل يقدم من خلال شخصية هذه المرأة الجبارة، التى تنجب أبناءها خارج مؤسسة الزواج، وتعانى من العنف. رؤية امرأة فريدة لتاريخ لا يقل عنفا وحدة عن حياتها اليومية، بصورة توشك معه أن تكون استعارة شفيفة للصين ذاتها وخيباتها المستمرة فى إنجاب الولد/ اقرأ النظام/ الذى تشتهى إنجابه. وهو ما أدى إلى مصادرة الرواية فى الصين، لسببين: أولهما أنها تخلت عن الانطلاق من المصادرة التقليدية بأن كل ما فعله الحزب الشيوعى الصينى خير، وكل ما قام به الكومنتانج، الذى انهزم فى الحرب الأهلية وفر زعيمه لفرموزا (تايوان) شر. كما أنها اعتبرت رواية مغرقة فى الحسية وتنتهك المحرم الجنسى، بسبب عرامة تلك المرأة القوية وحسيتها. فطبعت فى هونج كونج وترجمت لأكثر من لغة.
بعدها تتابعت روايات مو يان فجاءت روايته المهمة (مساخر شيفو Shifu You'll Do Anything for a Laugh) ١٩٩٩ والتى تكتب أوجاع عملية الخصخصة بصورة غير مسبوقة، والتى أوشك على الانتهاء من قراءتها وسوف أكتب عنها للقارئ فى ما بعد. و(موت خشب الصندل Sandalwood Death) عام 2001، و(الحياة والموت ينهكانى Life and Death Are Wearing Me Out) ٢٠٠٥، والتى ترجمت للفرنسية بعنوان مغاير هو (قانون كارما الثابت) وهى أكثر رواياته تجسيدًا لمنهجية حركة «العودة للجذور» واستخداماتها للموروث الثقافى الشعبى، و(تغيير Change) ٢٠٠٧ و(41 قنبلة Forty-One Bombs) ٢٠٠٦، و(تعذيب Torture) ٢٠٠٧ و(ضفادع Frogs) ٢٠٠٩، وهى آخر رواياته، والتى يتناول فيها ببراعة موضوع سياسة الطفل الواحد الصينية وعواقبه النفسية والاجتماعية، ويستخدم فيها بنية أبيسودية، أقرب إلى بنية الحلقات القصصية التى يوشك كل فصل فيها أن يكون قصة قصيرة مستقلة، ولكنها تترابط فى ما بينها برباط سردى مراوغ. وقد فازت بجائزة ماو تسى تونج للآداب عام 2011، وهى أرقى الجوائز الأدبية الصينية. وتوشك رواية (الحياة والموت ينهكانى/ أو قانون كارما الثابت) أن تكون تجسيدًا لمنهجه الروائى الذى يعمد إلى استخدام استراتيجيات الواقعية السحرية والسريالية، ولكن بعد تمريرها عبر رؤى الحكايات الشعبية والمعتقدات الدينية الصينية، من أجل بلورة نقده السياسى اللاذع لما دار ويدور فى بلاده، دون أن تتمكن السلطات التى لا يتصادم معها من أخذ هذا النقد عليه.
ولأننى غارق الآن فى قراءة عدد من رواياته، فقد أعود إلى بعضها بالتفصيل لأشرك القراء معى فيها فى مقالات قادمة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق