نشرت جريدة "أخبار الأدب" ترجمة لكلمة أديب نوبل "مو يان" في حفل تسلمه الجائزة ، وجاء في نص الترجمة التي قام بها الكاتب أحمد عبداللطيف ما يلي :
" أعضاء الأكاديمية المحترمين، السيدات والسادة:
ربما تعرّفتم بفضل التليفزيون والإنترنت علي قريتي ومسقط رأسي، منطقة دونجبي بجاومي، البعيدة جداً عن هنا.
وربما شاهدتم أبي، رجلاً في التسعين، أو أخوتي، وزوجتي، وبنتي، وحفيدتي التي تبلغ من العمر ستة عشر شهراً. مع ذلك، في هذه اللحظة المجيدة جداً، لا أفتقد إلا إلي شخص واحد، أمي. ويمكننا أن نراها الآن. عندما انتشر خبر فوزي بجائزة نوبل في أرجاء الصين، هنأني الكثيرون، غير أنها الوحيدة التي لم تستطع أن تفعل ذلك.
ولدت أمي في عام 1922 وماتت في 1994شرق قريتي. والسنة الماضية، وبسبب تشييد خط سكة حديد يعبر بهذا المكان، اضطررنا لنقل قبرها لمكان آخر بعيد عن القرية. انتبهتُ عند فتح القبر أن الصندوق الذي يضم الرماد قد اندثر، وصار جزءاً من الأرض. ولم يسعنا إلا أن نقبض علي قليل من التراب كذكري لوضعه في المقبرة الجديدة. شعرتُ، بداية من تلك اللحظة، بأن أمي كانت دوماً جزءاً من الأرض، وأنني عندما أقف فوقها لأقص الحكايات، أعرف أن أمي تنصت إليّ.
إحدي أولي ذكرياتي معها كانت عندما حملت الزجاجة الحرارية الوحيدة التي كنا نمتلكها لأملأها بماء ساخن من المطعم العام. ولأنني كنت جائعاً وخائر القوة، لم أستطع تحمل ثقل الزجاجة، فكُسرت. ولأن الخوف تملكني جداً، اختبأت في كومة قش طول اليوم دون أن أتجرأ علي الخروج. وحل الليل، وسمعت أمي تناديني بلقب العائلة. فخرجت من هناك متوقعاً أن تزجرني أو تضربني؛ إلا أنها لم تفعل، بل علي العكس ملّست علي رأسي وأطلقت تنهيدة طويلة.
وأقسي ذكري كانت اليوم الذي رافقتُ فيه أمي لنجمع القمح المتساقط في حقل تملكه الدولة. جاء حارس الحقل، فهرب الجميع ركضاً بأقصي سرعة، إلا أمي التي هرولت بالكاد بقدمين ملفوفتين بضمادة. فأمسك بها الحارس الذي كان طويلاً جداً وقوياً وسدد لها لكمة في وجهها. لم تستطع أمي أن تتحمّل الضربة فتهاوت علي الأرض. الحارس أخذ منا القمح الذي جمعناه وانصرف وهو يصفر كأن شيئاً لم يكن. بينما ظلت أمي تنزف من فمها وهي جالسة علي الأرض، ورُسم علي وجهها يأس لا يمكنني أن أنساه طيلة حياتي. وبعد ذلك بسنوات طوال، عندما صار الحارس الشاب مسناً وحل الشعر الأبيض محل الشعر الأسود كاملاً، رأيته بالصدفة في السوق. أردتُ أن انقض عليه لأضربه كثأر، غير أن أمي منعتني وسحبتني من يدي وقالت بسكينة: »يا بني، السيد الذي ضربني والسيد الذي تراه ليسا نفس الشخص الآن«.
ثمة ذكري أخري لا يمكن أن تُمحي من ذاكرتي، كنا ظهيرة حفل منتصف الخريف، واستطعنا بعد صعوبات كثيرة أن نصنع مكرونة باللحم والخضار؛ وكان نصيب كل منا قطعة صغيرة. وعندما كنا علي وشك الأكل، اقترب شحاذ مسن من بيتنا. أخذتُ قطعة وعدة شرائح من البطاطس الجافة وأعطيتها له، مع ذلك غضب وقال: »أنا رجل عجوز، وأنتم تأكلون المكرونة باللحم وتهبونني القليل من البطاطس الجافة، يا لقلوبكم الباردة«. أغضبتني كلماته فدافعت:"نحن لا نأكل المكرونة باللحم إلا عدة مرات في العام. وكل واحد فينا لا يأخذ إلا القليل، ما يملأ بالكاد نصف معدتنا. ولم يتبق منا إلا البطاطس الجافة، إن كنت لا تريدها، فاذهب إلي الجحيم!«. حينها زجرتني أمي. ثم قامت وأخذت نصف ما عندنا وأعطته كله للسيد.
أكثر الذكريات التي سببت لي ندماً كانت في يوم رافقتُ فيه أمي لنبيع الكرنب الصيني. بالصدفة، حصّلتُ عشر سنتات زيادة من رجل مسن. جمعتُ الحصيلة كلها وذهبتُ للمدرسة. وبانتهاء اليوم الدراسي عدتُ للبيت، فشاهدتُ أمي، وهي المرأة التي نادراً ما تبكي، تأن بحزن مفجع. كانت الدموع تكسي وجهها. لم تنهرني أمي، بل تركت الكلمات تهرب برقة: »ابني، أي خزي جلبته لي!«.
في طفولتي، أصيبت أمي بمرض رئوي. كان الجوع والمرض والإرهاق سحب أسرتنا لعمق هاوية يأس قاتمة. وكل يوم كانت تتضح أمامي نبوءة فظيعة، كان يبدو لي أن أمي قد تنتحر في أي لحظة، وكلما عدت إلي البيت من العمل، وعند دخولي من الباب، كنت أصرخ باسمها بصوت عال. وأهدأ بعد أن تجيبني وأكمل يومي؛ وفي حالة عكس هذه، كنت أضطرب، وأبحث عنها في كل ركن، بما فيها الغرفة الخارجية وغرفة المطحن لأجد أي أثر لها. وذات مرة، بعد أن مشطت كل الأماكن الممكنة، لم أتمكن من العثور عليها، هكذا جلست في الطرقة وشرعت في البكاء بكل قوتي. في تلك اللحظة تحديداً، رأيت أمي قادمة من بعيد ومعها حزمة حطب. عبّرت لي عن ضيقها من بكائي دون أن أستطيع أن أشرح لها كم أنا مشغول عليها. شعرتْ أمي بسر قلبي وقالت: »يا بني، لا تشغل بالك، حتي لو فقدت كل مباهج الدنيا، ولم يحن يومي، فلن
أرحل للعالم الآخر«.
أنا قبيح بالوراثة منذ ولدتُ، وكثيرون من أبناء قريتي كانوا يسخرون مني في وجهي؛ وبعض زملاء دراسة أشرار ضربوني حتي لهذا السبب. ذات يوم عدتُ للبيت، وبدأت أبكي بحزن كبير، فقالت أمي: »يا بني، لست قبيحاً. أنت ولد طبيعي، كيف تقول إنك قبيح؟ إضافة لذلك، لو ظللت شاباً بقلب أبيض وصنعت الخير، حتي لو كنت قبيحاً بالفعل، ستصير ولداً جميلاً«. عندما انتقلتُ للمدينة، بعض أشخاص قد تلقوا تعليماً جيداً كانوا يسخرون مني بالنكات الحمقاء حول وجهي، أحياناً من وراء ظهري وأحياناً أخري أمامي. في تلك اللحظات، كنت أستحضر كلمات أمي، فتهدئني، وأنتبهتُ أنني أنا من يتحتم عليه أن يطلب منهم المعذرة.
كانت أمي أمية، لذلك كانت تحترم بشكل مفرط كل من تلقي تعليماً. كانت حياتنا مليئة بالصعوبات، ولم يكن بوسعنا توفير ثلاث أكلات عادية يومياً، غير أنني كلما طلبت منها شراء كتاب أو ورق، لم تكن تتأخر. كانت امرأة جادة في العمل، وتكره الشباب الكسالي، لكنني كلما كرست وقتاً لقراءة الكتب ونسيت عملي، كانت تلتمس لي عذراً.
ذات مرة جاء حكاء إلي سوق قريتنا. فهربتُ من الأعمال التي كلفتني بها أمي وذهبت للسوق لأسمع الحكايات. نهرتني أمي علي ذلك. وبالليل، عندما بدأتْ في تجهيز المعاطف الشتوية تحت ضوء
مصباح الزيت الخافت، لم أستطع السيطرة علي نفسي وقصصت عليها الحكايات التي تعلمتها خلال اليوم. في البداية، لم تكن لديها رغبة لسماع أي كلمة لأن الحكاء كان لا يبدو لها مهنة عادية وأن الحكائين ليسوا إلا ثلة من الرجال الثرثارة والمهرجين؛ إضافة لذلك، فالحكايات التي يحكونها لا تقدم أشياءً مفيدة. مع ذلك، جذبتها رويداً رويداً الحكايات التي بدأت في روايتها. بعد ذلك، كلما أقيمت الاحتفالات، لم تكن أمي تكلفني بأي عمل؛ أعطتني بذلك إذناً ضمنياً بالذهاب لسماع الحكايات. ولكي أكافيء كرمها وأيضاً لأزهو بقوة ذاكرتي، كنت أقص عليها كل التفاصيل الخاصة بكل الحكايات التي سمعتها طوال اليوم.
بعد فترة قليلة، لم يعد يشبعني حكي الحكايات التي يحكيها الحكاء كما هي، هكذا شرعت في خلق تفاصيل أثناء القص. وبهدف أن تروق لأمي، كنت أضيف مقاطع وأحياناً أعدل النهايات. مع الوقت لم يقتصر المستمعون علي أمي وحدها، بل انضم لها أختي وخالاتي، وشكّلت جدتي جزءاً منهم. أحياناً كانت أمي تعبر عن قلقها بعد سماعها للحكاية. كان يبدو أنها توجه كلامها لي لكن أيضاً ربما توجه لنفسها. »يا بني، أي مهنة ستمتهن في المستقبل؟ أتريد أن تعمل في حكي الحكايات؟«.
أدركتُ قلق أمي لأنهم في قريتنا لم يكونوا يحترمون الولد المتكلم، فأحياناً ما يجلب المتاعب لنفسه والمشاكل لعائلته. في قصتي »الثور« أحكي عن ولد مرفوض في قريته لأنه يتحدث كثيراً، إنها حكاية صباي. كانت أمي تذكرني بتكرار أن أتحدث قليلاً لأنها تتمني أن أكون ولداً هادئاً وكريماً، وصامتاً. مع ذلك، برهنت أنني أتمتع بقدرة لغوية وميل كبير للحديث، وهو ما كان يمثّل خطورة واسعة. وكانت قدرتي علي حكي الحكايات يسبب لأمي بهجة. يا للمعضلة التي كانت تعيشها!
يقول المثل الصيني: »من الممكن أن تغير عائلتك الملكية، لكن من الصعب تغيير شخصيتك«، ورغم أن أبويّ قد ربياني بكثير من العناية، إلا أنهما لم يستطيعا تغيير كوني أحب التكلم. وهذا ما أعطي مغزي ساخر لاسمي مو يان، الذي يعني »لا تتحدث«.
لم أستطع أن أنهي دراستي وتحتم عليّ أن أترك المدرسة لأن حالتي الصحية، في طفولتي، كانت حساسة جداً؛ لم أكن أستطيع بذل مجهود كبير ولم يسعني إلا رعي غنمنا بمرج مهجور. وعندما
كنت أسوق البقر إلي المرج ونعبر من أمام باب المدرسة، كنت أري زملاء الدراسة يلعبون ويدرسون فأشعر كم أنا وحيد وبائس. بداية من تلك اللحظة أدركت الألم الذي من الممكن أن نسببه لأحد، حتي لطفل عندما يقصونه من وسط الجماعة التي يعيش بينها.
أطلقت الماشية في المرج وتركتها ترعي بحرية. تحت سماء بلون أزرق كثيف تبدو كمحيط لا نهائي، في هذا المرج الأخضر الرحب لدرجة أنه لا يمكن الوقوف علي حدوده في أي اتجاه، لم يكن هناك إلا أنا ولم يكن يُسمع لأحد إلا زقزقة العصافير. كنت أشعر بأنني منعزل جداً، كأن روحي قد هربت مني ليبقي جسدي فارغاً من الداخل. كنت أرقد أحياناً في المرج ناظراً إلي السحاب الذي كان يطفو فوقي بكسل وتأتيني صور كثيرة غير واقعية وبلا مغزي. كانت تنتشر في قريتي حكايات عن ثعالب قديمة قد تتحول لنساء جميلات. لهذا كنت أتخيل أن واحدة من تلك الجميلات قد تأتي وتصطحبني بينما أرعي الماشية، لكنها لم تظهر أبداً. مع ذلك رأيت ذات مرة ثعلباً بلون أحمر لافت يقفز من فوق شجيرات بمواجهتي. وقعتُ علي الأرض جراء الرعب. واختفي في الحال، غير أنني بقيت في مكاني جالساً ومرتعشاً خلال وقت طويل. وأحياناً كنت أجلس مقرفصاً بجانب ثور لأنظر لعينيه ذات اللون الأزرق السماوي وانعكاسي فيهما. وأحياناً كنت أحاكي زقزقة العصافير وأحاول التحدث معها؛ وأحياناً كنت أدع أسرار قلبي لشجرة. إلا أن العصافير لم تعبأ بي، ولا الأشجار. وبعد سنوات طوال، عندما أصبحت كاتباً، ضمّنت رواياتي كل الخيالات التي راودتني في صباي. وأشاد الكثيرون قدرتي علي التخيل. وبعض هواة الأدب سألوني عن السر وراء كل هذا الخيال. حينها كنت أجيبهم بابتسامة مُرّة.
كما قال جدنا الحكيم لوازي: »في السعادة تختبيء المصائب؛ وفي المصائب تكمن السعادة«. وخلال مراهقتي عانيت آلاماً كثيرة، مثل ترك المدرسة، الجوع، العزلة ونقصان الكتب. إلا أنني فعلتُ ما فعله كونجون شن، وهو كاتب كبير من جيل سابق: قراءة ما يمكن في المجتمع والحياة فكلاهما معاً يشكل كتاباً كبيراً غير مرئي. وما حكيته في البداية عن السوق واستماع الحكايات هو الصفحة الأولي في كتاب حياتي.
بعد أن تركتُ المدرسة، نفيتُ نفسي مع البالغين وبدأت مرحلة طويلة من »القراءة بالأذن«. من مائتي عام، كان يعيش في مسقط رأسي حكّاء عبقري: السيد سونجلينج بو. كثيرون من أهل قريتي، بمن فيهم أنا، أصبحنا ورثته. وفي الحقل التابع للحكومة، وفي مزرعة الإنتاج، وفي سرير أجدادي، والعربة المرتجفة التي يجرها ثور، سمعتُ مئات الحكايات عن الأشباح والأرواح، مئات الأساطير التاريخية، حكايات مثيرة مرتبطة بشكل وثيق بالطبيعة القروية والتاريخ العائلي، وقد أثارت فيّ شعوراً واضحاً بالواقع.
لم أكن أتصور أبداً ان تلك الاشياء قد تفيدني في المستقبل كمواد خام لكتاباتي. في تلك الفترة لم أكن سوي هذا الولد الذي تدهشه الحكايات والكلمات التي تستخدم في الحكي. في تلك الفترة كنت،
ويلقي النكات ويصرخ ويبكي، يصدمك بها عامل يحمل خشبة عجين، أو أقفاص العيش، ويتم الضحك عليك وأنت تلعب الدومينو أو الطاولة، حارة مجذوبة وعاقلة ومخبولة وعاهرة ومؤمنة وفاجرة، بها قطط تمؤ وكلاب تنبح وعناكب وصراصير تخرفش وفئران تنطلق من الشقوق علي الجدران، وثعبان يزحف لمقابلة عقربه أسفل عتبه سلم يقف فوقها حبيبان في قبله ساخنة.
حارة لئيمة وخبيثة وناعسة وحبيبة، تعلمك أنه لا يختفي بها وفيها سر أو شيء وإن طال كتمانه واختفاؤه، تعلمك أن العمر واحد والرب واحد والمكتوب حتما تشوفه العين، تعطيك نصيحتها الخالدة: نصيبك في الدنيا لازم يصيبك، وتضحك عليك وتسخر منك وأنت تعتقد أنك استطعت أن تفهمها وتمسكها وتقبض عليها، تفضحك وتجرّسك وتلم عليك العالم إذا غدرت بها أو كرهتها أو تزوجت عليها.
>>>
ولقد حمل نجيب محفوظ كل ذلك وخاض به الحياة، خاضها ببراءة الأطفال وطموح الملائكة ودهاء الشياطين وتقلبات الساسة وحكمة العجائز وتهور الفتوات، وكتب عليه المغامرة والمقامرة وامتطاء المستحيل، فتعلمنا منه أن الأدب مجاهدة وعزيمة وصبر وحب ودأب، لذا كان في محرابه ومكتبه وعمله كالمتصوف، فهو المثابر والمهابر والصابر، حتي تكتمل فكرته علي الأوراق، يقدم لنا فيها شخصيات من لحم ودم، وأماكن نراها لأول مرة في كل مرة نقرأه فيها مع أننا نمر علي تلك الأماكن كل يوم.
فهو الكاتب المدهش الفذ المُولع بتفاصيل ودقائق الحياة، وطقوسها، الصغيرة والكبيرة، التي نستطيع أن نمسكها والتي لا نستطيع أن نحس بها، انه يجسدها ويكتبها علي أوراقه، فتأخذك لغته الشعرية، وحواراته الذكية، وأسئلته العميقة، وشخصياته المحورية والثانوية والهامشية، الكل بطل، والكل تحت سيطرة قلمه وفكره، لا احد يشت أو يهرب، لذا جاءت رواياته مكتملة البناء، مكتملة بالفكر الذي يريد طرحه وتوصيله، للقارئ في رواياته وللمشاهد في أفلامه.
نجيب محفوظ مرتبط بالقاهرة القديمة ووفي للزمن القديم، دخل معه في احلي حالة عشق للماضي كي يري مستقبل مصيره ومصير أمته وشعبها، لذا ظلت القاهرة العتيقة محور حبه ومنبع إلهامه وسبب شهرته، ظل مشدودا إلي الحواري والأزقة والأقبية، يعشق العرق علي الأحجار والثرثرة علي درجات السلالم والجهاد علي تراب تلك الحواري، ويحب أن يتشمم أنفاس بشرها، لقد جعل من الحارة صميم الجوهر، وقلبا لجسد الوطن، وعقلا للامة العربية، تري فيها قدرة الخالق وعظمته وعبث وجنون عبيده، تري فيها أعماق بشرها وتقلبات مخلقاتها، لقد علمنا وجعلنا ندرك ونفهم ونشم ونحس بالواقع، وأن نري ما لا يمكن أن تلحظه عين أو يدركه سمع، ونشعر بالزمان ككائن، ذلك الزمان الذي يفرق ويجمع، يحب ويكره، يقف ويتطور وينمو، مع تطور الشخصيات وتطور طموحاتهم.
ونجيب محفوظ كان علي رأس المجاهدين الذين يؤمنون برسالة الأدب، فهو رجل يحب العلم ويحب الناس ويحب الحياة، والأدب عنده وسيلة من وسائل التحرير الكبري والعلم لديه أساس الحياة الحديثة، مؤمن بأنه ينبغي أن تكون الكتابة وسيلة محددة الهدف ويكون هدفها الأخير تطوير هذا العالم والصعود بالإنسان في سلم الرقي والتحرر، لذا كان حريصاً دائماً علي تطوير أدواته ولغته ومفرداته حيث يمزج العامي بالفصحي، والمرئي باللا مرئي والتراث بالواقع والخيال بالجنون.
نجيب محفوظ صاحب الوجه الذي طالع الدنيا لما يقرب المائة عام، ومع أن الدنيا لا تدع وجهاً سالماً قرن من الزمان، ألا انه ضحك علي الزمان برواياته كي تظل حية وشهية ومتجددة دائما، تقدم لك نفسها في كل مرة تقرأها فيها، وكل مرة تعطيك وجه وحكاية وروح جديدة، وهذه ميزة الإبداع وميزة نجيب محفوظ، انه متجدد دائما، يجعلك تعيش مع أبطاله وشخصياته وحواراتهم، يجعلك في مكان واضح ومتجسد، يجعل القارئ يعيش تلك اللحظات في أي مكان وزمان، داخل غرفة لوكانده ميرامار أو مع التجار والباعة الجائلين والميني فاتورة في حواري الحسين والأزهر والجمالية أو بين بشوات وبهوات قصور السكاكيني والعباسية والزمالك، أو وسط حجرات الموظفين في الدواوين الحكومية، أو تجار المخدرات في الباطنية والدراسة أو بين قصور قادة الأمة في المنيرة ولاظوغلي ومجلسي الشعب وقيادة الثورة، تعيش مع المسجونين والباحثين عن الحرية في معتقلات الكرنك والقلعة ووادي النطرون، أو وسط عوالم وآلاتية شارع محمد علي، لذا كان يضحك ويقول دائماً: كلما امتلأت الدنيا بالأطفال والمعتوهين والمجانين وتجار المخدرات والبائعين الجوالين والمتسولين وماسحي الأحذية: فالدنيا ما زالت بخير، ويكمل : وسوف ينصلح حال البلد عندما يؤمن أهلها بأن عاقبة الجبن أوخم من عاقبة السلامة.
واليوم لا تجد هذه الذكريات من يتذكرها أو يكتبها بتلك الرائحة وهذه الروح، رحلت الحارة لان كاتبها ومؤرخها رحل، فأصبحت الحارة حزينة لرحيله لأنه كان من عشاقها المخلصين، والحياة بها متوقفة لأنه كان حبيبها الأثير.
هذا الحبيب الذي أحبته الدنيا بصدق، لأنه كان يحب أن يكون أديباً وليس أي شيء آخر، فأعطته ما لم تعطه لأي أديب آخر، الشهرة والوصول إلي اكبر قاعدة من الجماهير والقراء، أمدته بشرايين التوصيل والتواصل عبر العين والأذن، عبر الورقة والشاشة، لم تبخل عليه، قدمت له كل شيء، الكتاب في يد القارئ والفيلم في السينما والمسلسل في التليفزيون والحدوتة في الإذاعة، المرئي والمكتوب والمسموع، وإذا كان محفوظ قد رحب بالموت وبالنهاية في معظم أعماله، لذا فإن الآخرة تعشقه بجدارة.
نجيب محفوظ المجاهد في محراب الأدب، المتعبد في معابد الكتابة وفروعها، المخلص كما لم يخلص أحد، المواظب عليها كما لم يواظب أحد، المنجب منها كماً من الروايات كما لم ينجبه أحد، والذي نال شهرة لم يسع إليها وكما لم يشتهر أحد، بل هي التي سعت إليه وطاردته.
ولأنه مؤمن بعمله فقد كان مؤمنا أن الأدب بقدر ما تعطيه وتحبه يعطيك أيضا ويمنحك ويحبك، إلا أنه ظل خلال أعماله يطرح الأسئلة التي كانت تشغل باله وفكره، أسئلة بسيطة وعميقة، فهو دائماً يتساءل: ما جدوي الحزن؟ وما فائدة السرور؟ وما مغزي القوة؟ وما معني الموت؟، لماذا يوجد مستحيل؟ وماذا يحدث بحارتنا اليوم نعم لقد اهلك الموت الحارة المصرية، لكنها باقية لنا في كتابته ورواياته وشخصياته التي نقرأها ونراها ليل نهار.
نجيب محفوظ : المُعلم الأول في درس الرواية العربية، معلم لا يعنيه في عمله وعلمه إلا الإتقان أولاً وأخيراً، فهو رزقه وهي زوجته وما يصنعه هم أبناؤه، ومن خلال هذا الإتقان كان يري المدارس الأدبية كلها ويري تحولاتها الكبري، لذا صنع أثاث وأعمدة الرواية العربية، ووضع الأساس القوي والحقيقي لها، أساس متين يتحمل كل أشكال البناء والزخرفة والحداثة وما بعد الحداثة الروائية، لقد أهّلَ محفوظ اللغة العربية لذلك فأصبحت كقوالب الطوب في البناء المعماري الروائي العربي كل، لأن الرواية تجربة لغوية وشكلية قبل أن تصبح تجربة في القص وفي الحكاية وفي المزيج الروائي، ليصبح لنا الرواية التي تكسر القيود وتحاول أن تصنع واقعا من حطام الواقع، ومنها اهدي لامته أعمالاً خالدة ورائدة في فن الرواية، من شأنها أن تجلو المضمر من تاريخ الحارة المصرية، والتي هي جزء لا يتجزأ من الحارة في كل مدينة عربية، فلا يوجد فرق بين حارة القاهرة أو الرباط أو بغداد أو دمشق، ومن هنا نبهنا مبكراً إلي خصوصيتنا العربية، ورائحتنا الخاصة، وأن الأدب هو كبد الحقيقة المرة، لذا أصلت رواياته للإبداع العربي، ورفعت عن كاهل الأدب العربي حالة الغبن والضعف والاستنساخ والاقتباس، وأصبح أدبه هدفاً يسعي إليه كل من يستخدم الحرف وسيلة للتعبير عن نفسه، والكلمات في صنع جملة لها خصوصيتها العربية.
نجيب محفوظ : صاحب الوجه الأسمر المتفائل الباسم، والذي لم تفارق النكتة شفتيه، يقدم النموذج العالي في قوة الاحتمال، وفي الصبر علي الاستماع وفي تشجيع الحوار، الذي يسأل أكثر مما يجيب، لذا اشتهر انه كان صامتاً ومقتصد افي الكلام، فهو مؤمن بأن الذين يتكلمون كثيراً يبددون طاقتهم في الثرثرة وفي التخلص مما كان من شأنه أن يتحول إلي أعمال إبداعية أو نقدية علي درجة عالية من الكمال، لذا كان لا يتحدث إلا علي الورق ومن خلال أماكنه وأبطاله وأشخاصه، يجسد صورة الإنسان الرقيق الحساس الذي يلوذ بأوراقه وكتبه ويقترب من عالم المتصوف بكل ما يزخر به ذلك العالم من إخلاص للعمل وزهد عن الملذات وعزوف عن المظاهر والتزييف والشهرة المجنونة، فلم يتطرق الغرور إلي نفسه يومًا.
نجيب محفوظ المتطور دائماً والذي استثمر في رواياته مختلف الأساليب والتقنيات، من تيار وعي إلي الفلاش باك السينمائي إلي الأصوات المتعددة في الرواية إلي طريقة وجه النظر، وإلي الحكاء المسيطر علي نصه وأبطاله، وإلي الأسلوب الغرائبي والعجائبي، وإلي استحضار التراث في العمل الروائي برؤية جديدة للواقع المعاش، فهو ومنذ البداية يتوجه برواياته إلي قارئ عربي قد لا تبهره الحداثة والتقنية بقدر ما تبهره صدق الرواية وواقعيتها، لقد جسد هذا الروائي الفذ بشكل دقيق عالم الطبقة الوسطي التي ينتمي إليها، مقرباً مناخها وملامحها من وجدان القارئ العربي في أي قطر كان، فأي قارئ في أي مكان عربي لا يشعر بالاغتراب وهو واقع ومنغمر في أجواء وأحداث رواياته.
انه قادر في اللحظة التي تفتح فيها غلاف احدي رواياته أن يأخذ بيد قارئه ويقوده وسط أزقه القاهرة ومقاهيها وأضرحتها وحواريها الشعبية، بل انه يجسد أجواء المدينة العربية الإسلامية بكل خصوصيتها، ليصبح ما فعله النموذج التطبيقي والأساسي لكل روائي عربي.
واعتقد أن روايات نجيب محفوظ سوف تكون الدليل والمرشد لمجموعة كبيرة من الأثريين وعلماء الآثار، لأنها بمثابة خرائط مصورة ورسومات توضيحية لاماكن حقيقة أخذة في الاندثار، إن التنقيب عن الحارة المصرية يبدأ وينتهي عند نجيب محفوظ، تلك الحارة التي بدأت تضمحل وتغيب شخصياتها وأماكنها، وتذوب ملامحها بفعل التطور والتمدن الحديث.
وإن تجسيد الحارة في أدب محفوظ هو تجسيد لظاهرة اجتماعية قديمة في الشرق، وهي قيام الإمبراطوريات وسقوطها بعوامل تظهر داخلها، لقد استطاع تسجيل هويتنا القومية روائياً، مما أدي إلي وصولها للعالمية، لذا كانت روايته محلية بنكهة شعبية بأنامل مصرية وروح عربية، روايات تري فيها رؤية كونية، ورؤية لتحولات حارة من الحارات في زمن منقرض، حيث تنمو قيم وتتبدل قيم، ويظهر بشر بدل آخرين، وتقام أماكن فوق خرائب، وتظهر زعامات جديدة بدلا من الآيلة للسقوط أو التي انسحقت بفعل وباء السلطة أو الانقلابات أو الثورات.
وفي النهاية نصل إلي حكمة واحدة من كل ذلك: أن كل من يحاول أن يقترب من عالم الرواية الآن، أن يضع تجربة نجيب محفوظ الروائية نصب عينيه"
" أعضاء الأكاديمية المحترمين، السيدات والسادة:
ربما تعرّفتم بفضل التليفزيون والإنترنت علي قريتي ومسقط رأسي، منطقة دونجبي بجاومي، البعيدة جداً عن هنا.
وربما شاهدتم أبي، رجلاً في التسعين، أو أخوتي، وزوجتي، وبنتي، وحفيدتي التي تبلغ من العمر ستة عشر شهراً. مع ذلك، في هذه اللحظة المجيدة جداً، لا أفتقد إلا إلي شخص واحد، أمي. ويمكننا أن نراها الآن. عندما انتشر خبر فوزي بجائزة نوبل في أرجاء الصين، هنأني الكثيرون، غير أنها الوحيدة التي لم تستطع أن تفعل ذلك.
ولدت أمي في عام 1922 وماتت في 1994شرق قريتي. والسنة الماضية، وبسبب تشييد خط سكة حديد يعبر بهذا المكان، اضطررنا لنقل قبرها لمكان آخر بعيد عن القرية. انتبهتُ عند فتح القبر أن الصندوق الذي يضم الرماد قد اندثر، وصار جزءاً من الأرض. ولم يسعنا إلا أن نقبض علي قليل من التراب كذكري لوضعه في المقبرة الجديدة. شعرتُ، بداية من تلك اللحظة، بأن أمي كانت دوماً جزءاً من الأرض، وأنني عندما أقف فوقها لأقص الحكايات، أعرف أن أمي تنصت إليّ.
إحدي أولي ذكرياتي معها كانت عندما حملت الزجاجة الحرارية الوحيدة التي كنا نمتلكها لأملأها بماء ساخن من المطعم العام. ولأنني كنت جائعاً وخائر القوة، لم أستطع تحمل ثقل الزجاجة، فكُسرت. ولأن الخوف تملكني جداً، اختبأت في كومة قش طول اليوم دون أن أتجرأ علي الخروج. وحل الليل، وسمعت أمي تناديني بلقب العائلة. فخرجت من هناك متوقعاً أن تزجرني أو تضربني؛ إلا أنها لم تفعل، بل علي العكس ملّست علي رأسي وأطلقت تنهيدة طويلة.
وأقسي ذكري كانت اليوم الذي رافقتُ فيه أمي لنجمع القمح المتساقط في حقل تملكه الدولة. جاء حارس الحقل، فهرب الجميع ركضاً بأقصي سرعة، إلا أمي التي هرولت بالكاد بقدمين ملفوفتين بضمادة. فأمسك بها الحارس الذي كان طويلاً جداً وقوياً وسدد لها لكمة في وجهها. لم تستطع أمي أن تتحمّل الضربة فتهاوت علي الأرض. الحارس أخذ منا القمح الذي جمعناه وانصرف وهو يصفر كأن شيئاً لم يكن. بينما ظلت أمي تنزف من فمها وهي جالسة علي الأرض، ورُسم علي وجهها يأس لا يمكنني أن أنساه طيلة حياتي. وبعد ذلك بسنوات طوال، عندما صار الحارس الشاب مسناً وحل الشعر الأبيض محل الشعر الأسود كاملاً، رأيته بالصدفة في السوق. أردتُ أن انقض عليه لأضربه كثأر، غير أن أمي منعتني وسحبتني من يدي وقالت بسكينة: »يا بني، السيد الذي ضربني والسيد الذي تراه ليسا نفس الشخص الآن«.
ثمة ذكري أخري لا يمكن أن تُمحي من ذاكرتي، كنا ظهيرة حفل منتصف الخريف، واستطعنا بعد صعوبات كثيرة أن نصنع مكرونة باللحم والخضار؛ وكان نصيب كل منا قطعة صغيرة. وعندما كنا علي وشك الأكل، اقترب شحاذ مسن من بيتنا. أخذتُ قطعة وعدة شرائح من البطاطس الجافة وأعطيتها له، مع ذلك غضب وقال: »أنا رجل عجوز، وأنتم تأكلون المكرونة باللحم وتهبونني القليل من البطاطس الجافة، يا لقلوبكم الباردة«. أغضبتني كلماته فدافعت:"نحن لا نأكل المكرونة باللحم إلا عدة مرات في العام. وكل واحد فينا لا يأخذ إلا القليل، ما يملأ بالكاد نصف معدتنا. ولم يتبق منا إلا البطاطس الجافة، إن كنت لا تريدها، فاذهب إلي الجحيم!«. حينها زجرتني أمي. ثم قامت وأخذت نصف ما عندنا وأعطته كله للسيد.
أكثر الذكريات التي سببت لي ندماً كانت في يوم رافقتُ فيه أمي لنبيع الكرنب الصيني. بالصدفة، حصّلتُ عشر سنتات زيادة من رجل مسن. جمعتُ الحصيلة كلها وذهبتُ للمدرسة. وبانتهاء اليوم الدراسي عدتُ للبيت، فشاهدتُ أمي، وهي المرأة التي نادراً ما تبكي، تأن بحزن مفجع. كانت الدموع تكسي وجهها. لم تنهرني أمي، بل تركت الكلمات تهرب برقة: »ابني، أي خزي جلبته لي!«.
في طفولتي، أصيبت أمي بمرض رئوي. كان الجوع والمرض والإرهاق سحب أسرتنا لعمق هاوية يأس قاتمة. وكل يوم كانت تتضح أمامي نبوءة فظيعة، كان يبدو لي أن أمي قد تنتحر في أي لحظة، وكلما عدت إلي البيت من العمل، وعند دخولي من الباب، كنت أصرخ باسمها بصوت عال. وأهدأ بعد أن تجيبني وأكمل يومي؛ وفي حالة عكس هذه، كنت أضطرب، وأبحث عنها في كل ركن، بما فيها الغرفة الخارجية وغرفة المطحن لأجد أي أثر لها. وذات مرة، بعد أن مشطت كل الأماكن الممكنة، لم أتمكن من العثور عليها، هكذا جلست في الطرقة وشرعت في البكاء بكل قوتي. في تلك اللحظة تحديداً، رأيت أمي قادمة من بعيد ومعها حزمة حطب. عبّرت لي عن ضيقها من بكائي دون أن أستطيع أن أشرح لها كم أنا مشغول عليها. شعرتْ أمي بسر قلبي وقالت: »يا بني، لا تشغل بالك، حتي لو فقدت كل مباهج الدنيا، ولم يحن يومي، فلن
أرحل للعالم الآخر«.
أنا قبيح بالوراثة منذ ولدتُ، وكثيرون من أبناء قريتي كانوا يسخرون مني في وجهي؛ وبعض زملاء دراسة أشرار ضربوني حتي لهذا السبب. ذات يوم عدتُ للبيت، وبدأت أبكي بحزن كبير، فقالت أمي: »يا بني، لست قبيحاً. أنت ولد طبيعي، كيف تقول إنك قبيح؟ إضافة لذلك، لو ظللت شاباً بقلب أبيض وصنعت الخير، حتي لو كنت قبيحاً بالفعل، ستصير ولداً جميلاً«. عندما انتقلتُ للمدينة، بعض أشخاص قد تلقوا تعليماً جيداً كانوا يسخرون مني بالنكات الحمقاء حول وجهي، أحياناً من وراء ظهري وأحياناً أخري أمامي. في تلك اللحظات، كنت أستحضر كلمات أمي، فتهدئني، وأنتبهتُ أنني أنا من يتحتم عليه أن يطلب منهم المعذرة.
كانت أمي أمية، لذلك كانت تحترم بشكل مفرط كل من تلقي تعليماً. كانت حياتنا مليئة بالصعوبات، ولم يكن بوسعنا توفير ثلاث أكلات عادية يومياً، غير أنني كلما طلبت منها شراء كتاب أو ورق، لم تكن تتأخر. كانت امرأة جادة في العمل، وتكره الشباب الكسالي، لكنني كلما كرست وقتاً لقراءة الكتب ونسيت عملي، كانت تلتمس لي عذراً.
ذات مرة جاء حكاء إلي سوق قريتنا. فهربتُ من الأعمال التي كلفتني بها أمي وذهبت للسوق لأسمع الحكايات. نهرتني أمي علي ذلك. وبالليل، عندما بدأتْ في تجهيز المعاطف الشتوية تحت ضوء
مصباح الزيت الخافت، لم أستطع السيطرة علي نفسي وقصصت عليها الحكايات التي تعلمتها خلال اليوم. في البداية، لم تكن لديها رغبة لسماع أي كلمة لأن الحكاء كان لا يبدو لها مهنة عادية وأن الحكائين ليسوا إلا ثلة من الرجال الثرثارة والمهرجين؛ إضافة لذلك، فالحكايات التي يحكونها لا تقدم أشياءً مفيدة. مع ذلك، جذبتها رويداً رويداً الحكايات التي بدأت في روايتها. بعد ذلك، كلما أقيمت الاحتفالات، لم تكن أمي تكلفني بأي عمل؛ أعطتني بذلك إذناً ضمنياً بالذهاب لسماع الحكايات. ولكي أكافيء كرمها وأيضاً لأزهو بقوة ذاكرتي، كنت أقص عليها كل التفاصيل الخاصة بكل الحكايات التي سمعتها طوال اليوم.
بعد فترة قليلة، لم يعد يشبعني حكي الحكايات التي يحكيها الحكاء كما هي، هكذا شرعت في خلق تفاصيل أثناء القص. وبهدف أن تروق لأمي، كنت أضيف مقاطع وأحياناً أعدل النهايات. مع الوقت لم يقتصر المستمعون علي أمي وحدها، بل انضم لها أختي وخالاتي، وشكّلت جدتي جزءاً منهم. أحياناً كانت أمي تعبر عن قلقها بعد سماعها للحكاية. كان يبدو أنها توجه كلامها لي لكن أيضاً ربما توجه لنفسها. »يا بني، أي مهنة ستمتهن في المستقبل؟ أتريد أن تعمل في حكي الحكايات؟«.
أدركتُ قلق أمي لأنهم في قريتنا لم يكونوا يحترمون الولد المتكلم، فأحياناً ما يجلب المتاعب لنفسه والمشاكل لعائلته. في قصتي »الثور« أحكي عن ولد مرفوض في قريته لأنه يتحدث كثيراً، إنها حكاية صباي. كانت أمي تذكرني بتكرار أن أتحدث قليلاً لأنها تتمني أن أكون ولداً هادئاً وكريماً، وصامتاً. مع ذلك، برهنت أنني أتمتع بقدرة لغوية وميل كبير للحديث، وهو ما كان يمثّل خطورة واسعة. وكانت قدرتي علي حكي الحكايات يسبب لأمي بهجة. يا للمعضلة التي كانت تعيشها!
يقول المثل الصيني: »من الممكن أن تغير عائلتك الملكية، لكن من الصعب تغيير شخصيتك«، ورغم أن أبويّ قد ربياني بكثير من العناية، إلا أنهما لم يستطيعا تغيير كوني أحب التكلم. وهذا ما أعطي مغزي ساخر لاسمي مو يان، الذي يعني »لا تتحدث«.
لم أستطع أن أنهي دراستي وتحتم عليّ أن أترك المدرسة لأن حالتي الصحية، في طفولتي، كانت حساسة جداً؛ لم أكن أستطيع بذل مجهود كبير ولم يسعني إلا رعي غنمنا بمرج مهجور. وعندما
كنت أسوق البقر إلي المرج ونعبر من أمام باب المدرسة، كنت أري زملاء الدراسة يلعبون ويدرسون فأشعر كم أنا وحيد وبائس. بداية من تلك اللحظة أدركت الألم الذي من الممكن أن نسببه لأحد، حتي لطفل عندما يقصونه من وسط الجماعة التي يعيش بينها.
أطلقت الماشية في المرج وتركتها ترعي بحرية. تحت سماء بلون أزرق كثيف تبدو كمحيط لا نهائي، في هذا المرج الأخضر الرحب لدرجة أنه لا يمكن الوقوف علي حدوده في أي اتجاه، لم يكن هناك إلا أنا ولم يكن يُسمع لأحد إلا زقزقة العصافير. كنت أشعر بأنني منعزل جداً، كأن روحي قد هربت مني ليبقي جسدي فارغاً من الداخل. كنت أرقد أحياناً في المرج ناظراً إلي السحاب الذي كان يطفو فوقي بكسل وتأتيني صور كثيرة غير واقعية وبلا مغزي. كانت تنتشر في قريتي حكايات عن ثعالب قديمة قد تتحول لنساء جميلات. لهذا كنت أتخيل أن واحدة من تلك الجميلات قد تأتي وتصطحبني بينما أرعي الماشية، لكنها لم تظهر أبداً. مع ذلك رأيت ذات مرة ثعلباً بلون أحمر لافت يقفز من فوق شجيرات بمواجهتي. وقعتُ علي الأرض جراء الرعب. واختفي في الحال، غير أنني بقيت في مكاني جالساً ومرتعشاً خلال وقت طويل. وأحياناً كنت أجلس مقرفصاً بجانب ثور لأنظر لعينيه ذات اللون الأزرق السماوي وانعكاسي فيهما. وأحياناً كنت أحاكي زقزقة العصافير وأحاول التحدث معها؛ وأحياناً كنت أدع أسرار قلبي لشجرة. إلا أن العصافير لم تعبأ بي، ولا الأشجار. وبعد سنوات طوال، عندما أصبحت كاتباً، ضمّنت رواياتي كل الخيالات التي راودتني في صباي. وأشاد الكثيرون قدرتي علي التخيل. وبعض هواة الأدب سألوني عن السر وراء كل هذا الخيال. حينها كنت أجيبهم بابتسامة مُرّة.
كما قال جدنا الحكيم لوازي: »في السعادة تختبيء المصائب؛ وفي المصائب تكمن السعادة«. وخلال مراهقتي عانيت آلاماً كثيرة، مثل ترك المدرسة، الجوع، العزلة ونقصان الكتب. إلا أنني فعلتُ ما فعله كونجون شن، وهو كاتب كبير من جيل سابق: قراءة ما يمكن في المجتمع والحياة فكلاهما معاً يشكل كتاباً كبيراً غير مرئي. وما حكيته في البداية عن السوق واستماع الحكايات هو الصفحة الأولي في كتاب حياتي.
بعد أن تركتُ المدرسة، نفيتُ نفسي مع البالغين وبدأت مرحلة طويلة من »القراءة بالأذن«. من مائتي عام، كان يعيش في مسقط رأسي حكّاء عبقري: السيد سونجلينج بو. كثيرون من أهل قريتي، بمن فيهم أنا، أصبحنا ورثته. وفي الحقل التابع للحكومة، وفي مزرعة الإنتاج، وفي سرير أجدادي، والعربة المرتجفة التي يجرها ثور، سمعتُ مئات الحكايات عن الأشباح والأرواح، مئات الأساطير التاريخية، حكايات مثيرة مرتبطة بشكل وثيق بالطبيعة القروية والتاريخ العائلي، وقد أثارت فيّ شعوراً واضحاً بالواقع.
لم أكن أتصور أبداً ان تلك الاشياء قد تفيدني في المستقبل كمواد خام لكتاباتي. في تلك الفترة لم أكن سوي هذا الولد الذي تدهشه الحكايات والكلمات التي تستخدم في الحكي. في تلك الفترة كنت،
ويلقي النكات ويصرخ ويبكي، يصدمك بها عامل يحمل خشبة عجين، أو أقفاص العيش، ويتم الضحك عليك وأنت تلعب الدومينو أو الطاولة، حارة مجذوبة وعاقلة ومخبولة وعاهرة ومؤمنة وفاجرة، بها قطط تمؤ وكلاب تنبح وعناكب وصراصير تخرفش وفئران تنطلق من الشقوق علي الجدران، وثعبان يزحف لمقابلة عقربه أسفل عتبه سلم يقف فوقها حبيبان في قبله ساخنة.
حارة لئيمة وخبيثة وناعسة وحبيبة، تعلمك أنه لا يختفي بها وفيها سر أو شيء وإن طال كتمانه واختفاؤه، تعلمك أن العمر واحد والرب واحد والمكتوب حتما تشوفه العين، تعطيك نصيحتها الخالدة: نصيبك في الدنيا لازم يصيبك، وتضحك عليك وتسخر منك وأنت تعتقد أنك استطعت أن تفهمها وتمسكها وتقبض عليها، تفضحك وتجرّسك وتلم عليك العالم إذا غدرت بها أو كرهتها أو تزوجت عليها.
>>>
ولقد حمل نجيب محفوظ كل ذلك وخاض به الحياة، خاضها ببراءة الأطفال وطموح الملائكة ودهاء الشياطين وتقلبات الساسة وحكمة العجائز وتهور الفتوات، وكتب عليه المغامرة والمقامرة وامتطاء المستحيل، فتعلمنا منه أن الأدب مجاهدة وعزيمة وصبر وحب ودأب، لذا كان في محرابه ومكتبه وعمله كالمتصوف، فهو المثابر والمهابر والصابر، حتي تكتمل فكرته علي الأوراق، يقدم لنا فيها شخصيات من لحم ودم، وأماكن نراها لأول مرة في كل مرة نقرأه فيها مع أننا نمر علي تلك الأماكن كل يوم.
فهو الكاتب المدهش الفذ المُولع بتفاصيل ودقائق الحياة، وطقوسها، الصغيرة والكبيرة، التي نستطيع أن نمسكها والتي لا نستطيع أن نحس بها، انه يجسدها ويكتبها علي أوراقه، فتأخذك لغته الشعرية، وحواراته الذكية، وأسئلته العميقة، وشخصياته المحورية والثانوية والهامشية، الكل بطل، والكل تحت سيطرة قلمه وفكره، لا احد يشت أو يهرب، لذا جاءت رواياته مكتملة البناء، مكتملة بالفكر الذي يريد طرحه وتوصيله، للقارئ في رواياته وللمشاهد في أفلامه.
نجيب محفوظ مرتبط بالقاهرة القديمة ووفي للزمن القديم، دخل معه في احلي حالة عشق للماضي كي يري مستقبل مصيره ومصير أمته وشعبها، لذا ظلت القاهرة العتيقة محور حبه ومنبع إلهامه وسبب شهرته، ظل مشدودا إلي الحواري والأزقة والأقبية، يعشق العرق علي الأحجار والثرثرة علي درجات السلالم والجهاد علي تراب تلك الحواري، ويحب أن يتشمم أنفاس بشرها، لقد جعل من الحارة صميم الجوهر، وقلبا لجسد الوطن، وعقلا للامة العربية، تري فيها قدرة الخالق وعظمته وعبث وجنون عبيده، تري فيها أعماق بشرها وتقلبات مخلقاتها، لقد علمنا وجعلنا ندرك ونفهم ونشم ونحس بالواقع، وأن نري ما لا يمكن أن تلحظه عين أو يدركه سمع، ونشعر بالزمان ككائن، ذلك الزمان الذي يفرق ويجمع، يحب ويكره، يقف ويتطور وينمو، مع تطور الشخصيات وتطور طموحاتهم.
ونجيب محفوظ كان علي رأس المجاهدين الذين يؤمنون برسالة الأدب، فهو رجل يحب العلم ويحب الناس ويحب الحياة، والأدب عنده وسيلة من وسائل التحرير الكبري والعلم لديه أساس الحياة الحديثة، مؤمن بأنه ينبغي أن تكون الكتابة وسيلة محددة الهدف ويكون هدفها الأخير تطوير هذا العالم والصعود بالإنسان في سلم الرقي والتحرر، لذا كان حريصاً دائماً علي تطوير أدواته ولغته ومفرداته حيث يمزج العامي بالفصحي، والمرئي باللا مرئي والتراث بالواقع والخيال بالجنون.
نجيب محفوظ صاحب الوجه الذي طالع الدنيا لما يقرب المائة عام، ومع أن الدنيا لا تدع وجهاً سالماً قرن من الزمان، ألا انه ضحك علي الزمان برواياته كي تظل حية وشهية ومتجددة دائما، تقدم لك نفسها في كل مرة تقرأها فيها، وكل مرة تعطيك وجه وحكاية وروح جديدة، وهذه ميزة الإبداع وميزة نجيب محفوظ، انه متجدد دائما، يجعلك تعيش مع أبطاله وشخصياته وحواراتهم، يجعلك في مكان واضح ومتجسد، يجعل القارئ يعيش تلك اللحظات في أي مكان وزمان، داخل غرفة لوكانده ميرامار أو مع التجار والباعة الجائلين والميني فاتورة في حواري الحسين والأزهر والجمالية أو بين بشوات وبهوات قصور السكاكيني والعباسية والزمالك، أو وسط حجرات الموظفين في الدواوين الحكومية، أو تجار المخدرات في الباطنية والدراسة أو بين قصور قادة الأمة في المنيرة ولاظوغلي ومجلسي الشعب وقيادة الثورة، تعيش مع المسجونين والباحثين عن الحرية في معتقلات الكرنك والقلعة ووادي النطرون، أو وسط عوالم وآلاتية شارع محمد علي، لذا كان يضحك ويقول دائماً: كلما امتلأت الدنيا بالأطفال والمعتوهين والمجانين وتجار المخدرات والبائعين الجوالين والمتسولين وماسحي الأحذية: فالدنيا ما زالت بخير، ويكمل : وسوف ينصلح حال البلد عندما يؤمن أهلها بأن عاقبة الجبن أوخم من عاقبة السلامة.
واليوم لا تجد هذه الذكريات من يتذكرها أو يكتبها بتلك الرائحة وهذه الروح، رحلت الحارة لان كاتبها ومؤرخها رحل، فأصبحت الحارة حزينة لرحيله لأنه كان من عشاقها المخلصين، والحياة بها متوقفة لأنه كان حبيبها الأثير.
هذا الحبيب الذي أحبته الدنيا بصدق، لأنه كان يحب أن يكون أديباً وليس أي شيء آخر، فأعطته ما لم تعطه لأي أديب آخر، الشهرة والوصول إلي اكبر قاعدة من الجماهير والقراء، أمدته بشرايين التوصيل والتواصل عبر العين والأذن، عبر الورقة والشاشة، لم تبخل عليه، قدمت له كل شيء، الكتاب في يد القارئ والفيلم في السينما والمسلسل في التليفزيون والحدوتة في الإذاعة، المرئي والمكتوب والمسموع، وإذا كان محفوظ قد رحب بالموت وبالنهاية في معظم أعماله، لذا فإن الآخرة تعشقه بجدارة.
نجيب محفوظ المجاهد في محراب الأدب، المتعبد في معابد الكتابة وفروعها، المخلص كما لم يخلص أحد، المواظب عليها كما لم يواظب أحد، المنجب منها كماً من الروايات كما لم ينجبه أحد، والذي نال شهرة لم يسع إليها وكما لم يشتهر أحد، بل هي التي سعت إليه وطاردته.
ولأنه مؤمن بعمله فقد كان مؤمنا أن الأدب بقدر ما تعطيه وتحبه يعطيك أيضا ويمنحك ويحبك، إلا أنه ظل خلال أعماله يطرح الأسئلة التي كانت تشغل باله وفكره، أسئلة بسيطة وعميقة، فهو دائماً يتساءل: ما جدوي الحزن؟ وما فائدة السرور؟ وما مغزي القوة؟ وما معني الموت؟، لماذا يوجد مستحيل؟ وماذا يحدث بحارتنا اليوم نعم لقد اهلك الموت الحارة المصرية، لكنها باقية لنا في كتابته ورواياته وشخصياته التي نقرأها ونراها ليل نهار.
نجيب محفوظ : المُعلم الأول في درس الرواية العربية، معلم لا يعنيه في عمله وعلمه إلا الإتقان أولاً وأخيراً، فهو رزقه وهي زوجته وما يصنعه هم أبناؤه، ومن خلال هذا الإتقان كان يري المدارس الأدبية كلها ويري تحولاتها الكبري، لذا صنع أثاث وأعمدة الرواية العربية، ووضع الأساس القوي والحقيقي لها، أساس متين يتحمل كل أشكال البناء والزخرفة والحداثة وما بعد الحداثة الروائية، لقد أهّلَ محفوظ اللغة العربية لذلك فأصبحت كقوالب الطوب في البناء المعماري الروائي العربي كل، لأن الرواية تجربة لغوية وشكلية قبل أن تصبح تجربة في القص وفي الحكاية وفي المزيج الروائي، ليصبح لنا الرواية التي تكسر القيود وتحاول أن تصنع واقعا من حطام الواقع، ومنها اهدي لامته أعمالاً خالدة ورائدة في فن الرواية، من شأنها أن تجلو المضمر من تاريخ الحارة المصرية، والتي هي جزء لا يتجزأ من الحارة في كل مدينة عربية، فلا يوجد فرق بين حارة القاهرة أو الرباط أو بغداد أو دمشق، ومن هنا نبهنا مبكراً إلي خصوصيتنا العربية، ورائحتنا الخاصة، وأن الأدب هو كبد الحقيقة المرة، لذا أصلت رواياته للإبداع العربي، ورفعت عن كاهل الأدب العربي حالة الغبن والضعف والاستنساخ والاقتباس، وأصبح أدبه هدفاً يسعي إليه كل من يستخدم الحرف وسيلة للتعبير عن نفسه، والكلمات في صنع جملة لها خصوصيتها العربية.
نجيب محفوظ : صاحب الوجه الأسمر المتفائل الباسم، والذي لم تفارق النكتة شفتيه، يقدم النموذج العالي في قوة الاحتمال، وفي الصبر علي الاستماع وفي تشجيع الحوار، الذي يسأل أكثر مما يجيب، لذا اشتهر انه كان صامتاً ومقتصد افي الكلام، فهو مؤمن بأن الذين يتكلمون كثيراً يبددون طاقتهم في الثرثرة وفي التخلص مما كان من شأنه أن يتحول إلي أعمال إبداعية أو نقدية علي درجة عالية من الكمال، لذا كان لا يتحدث إلا علي الورق ومن خلال أماكنه وأبطاله وأشخاصه، يجسد صورة الإنسان الرقيق الحساس الذي يلوذ بأوراقه وكتبه ويقترب من عالم المتصوف بكل ما يزخر به ذلك العالم من إخلاص للعمل وزهد عن الملذات وعزوف عن المظاهر والتزييف والشهرة المجنونة، فلم يتطرق الغرور إلي نفسه يومًا.
نجيب محفوظ المتطور دائماً والذي استثمر في رواياته مختلف الأساليب والتقنيات، من تيار وعي إلي الفلاش باك السينمائي إلي الأصوات المتعددة في الرواية إلي طريقة وجه النظر، وإلي الحكاء المسيطر علي نصه وأبطاله، وإلي الأسلوب الغرائبي والعجائبي، وإلي استحضار التراث في العمل الروائي برؤية جديدة للواقع المعاش، فهو ومنذ البداية يتوجه برواياته إلي قارئ عربي قد لا تبهره الحداثة والتقنية بقدر ما تبهره صدق الرواية وواقعيتها، لقد جسد هذا الروائي الفذ بشكل دقيق عالم الطبقة الوسطي التي ينتمي إليها، مقرباً مناخها وملامحها من وجدان القارئ العربي في أي قطر كان، فأي قارئ في أي مكان عربي لا يشعر بالاغتراب وهو واقع ومنغمر في أجواء وأحداث رواياته.
انه قادر في اللحظة التي تفتح فيها غلاف احدي رواياته أن يأخذ بيد قارئه ويقوده وسط أزقه القاهرة ومقاهيها وأضرحتها وحواريها الشعبية، بل انه يجسد أجواء المدينة العربية الإسلامية بكل خصوصيتها، ليصبح ما فعله النموذج التطبيقي والأساسي لكل روائي عربي.
واعتقد أن روايات نجيب محفوظ سوف تكون الدليل والمرشد لمجموعة كبيرة من الأثريين وعلماء الآثار، لأنها بمثابة خرائط مصورة ورسومات توضيحية لاماكن حقيقة أخذة في الاندثار، إن التنقيب عن الحارة المصرية يبدأ وينتهي عند نجيب محفوظ، تلك الحارة التي بدأت تضمحل وتغيب شخصياتها وأماكنها، وتذوب ملامحها بفعل التطور والتمدن الحديث.
وإن تجسيد الحارة في أدب محفوظ هو تجسيد لظاهرة اجتماعية قديمة في الشرق، وهي قيام الإمبراطوريات وسقوطها بعوامل تظهر داخلها، لقد استطاع تسجيل هويتنا القومية روائياً، مما أدي إلي وصولها للعالمية، لذا كانت روايته محلية بنكهة شعبية بأنامل مصرية وروح عربية، روايات تري فيها رؤية كونية، ورؤية لتحولات حارة من الحارات في زمن منقرض، حيث تنمو قيم وتتبدل قيم، ويظهر بشر بدل آخرين، وتقام أماكن فوق خرائب، وتظهر زعامات جديدة بدلا من الآيلة للسقوط أو التي انسحقت بفعل وباء السلطة أو الانقلابات أو الثورات.
وفي النهاية نصل إلي حكمة واحدة من كل ذلك: أن كل من يحاول أن يقترب من عالم الرواية الآن، أن يضع تجربة نجيب محفوظ الروائية نصب عينيه"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق