الخميس، 1 أكتوبر 2015

سرّاق آدمي


كنت قد قرأت مرّة عبارة لحكيم صينيّ يجيب فيها عن سؤال طُرح عليه وهو: هل اللصّ صاحب أخلاق؟ سؤال قد يظنّ السامع أنّ جوابه في متناول الفم، وانه سؤال معروفٌ جوابُه سلفاً ولكنّ جواب الحكيم الصينيّ كان مخالفاً لمألوف الأجوبة. إذ أجاب بالإيجاب مردفاً جوابه بالقول: لا يخلو مخلوق بشريّ، حتى ولو كان لصّاً، من الأخلاق الحميدة! ألا يمارس اللصّ العدل حين يقوم بتوزيع الحصص المنهوبة بالعدل بينه وبين عصابته؟ هل كان من الممكن أن يقسم الحصص بالتساوي لو لم يكن يعرف مفهوم العدل؟ بهت السائل لأنّه كان يعتقد أنّ اللصّ بعيد عن الأخلاق بعد السماء عن الأرض.
تذكرت هذه العبارة وأنا أقرأ كتاباً طريفاً مترجماً عن اللغة الفارسية بعنوان "كتاب النصيحة المعروف باسم قابوس نامه" (أصدرت ترجمته دار الشروق في القاهرة ) وكلمة "نامه" ليست غريبة عن الأذن العربية وهي كثيرة التداول من غير أن ينتبه المرء ربما إلى استعمالها في حياته اليوميّة من خلال إدراجها في مفردة "روزنامة" الفارسية الأصل. الكتاب، في أيّ حال، رسالة كتبها الأمير عنصر المعالي كيكاوس ( من شخصيّات القرن الخامس للهجرة) إلى ولده الذي سيرث الحكم من بعده. كتبها " بموجب الحبّ الأبويّ " كما قال، وهو في أخريات أيامه. والكتاب أشبه بوصية مديدة ومتشعبّة كتبها من وحي حكْمه وحكمته، تتناول شتى أمور الحياة الجادّ منها واللاهي. فثمة باب في العشق وآخر في ترتيب تناول الطعام وثالث في الحذر من العدوّ ورابعٌ في الأمانة، إلخ. والحكاية التالية وردت في باب الأمانة إذ إنّ الكاتب يطعّم وصاياه ونصائحه لولده بالحكايات المشوقّة كما يؤكد الأمير بعض أقواله التي تثير في السمع استغراباً بتلك الحكايات التي تفتّت عوامل الاستغراب وهي شواهد حية رآها أو رواها له من عاش غرائب فصولها.
الحكاية التي أسردها أخذها الأمير كما قال سماعاً من أفواه بعض عارفيه. تروي الحكاية أنّ رجلاً ذهب، ذات يوم، من بيته وقت السحر قبل أن يطوي الليل ألوانه إلى حمّام السوق أي في الوقت الذي لا تتبيّن العين فيه الخيط الأبيض من الخيط الأسود، والوقت هنا جزء من حبكة الحكاية وأحداثها. رأى الرجل في الطريق صديقاً له فاقترح عليه أن يرافقه إلى الحمّام فقال له صديقه: أرافقك إلى باب الحمّام، ولا أستطيع الدخول لأنّ عندي عملاً ووقتي ضيّق وسار معه حتى وصلا إلى مفترق طرق ثمّ عاد الصديق أدراجه من دون أن يُعلم الرجل بانصرافه. كان نشّال يسير وراء هذا الرجل ليذهب إلى الحمّام ليس بهدف الاستحمام وإنما بهدف اغتنام الفرصة لنشل ثياب زبائن الحمّام. التفت الرجل فرأى النشّال وكانت الدنيا لا تزال ملثّمة بسواد السحَر مما أمّن الأجواء المريحة لألاعيب الالتباس في الحكاية فظنّ الرجل أنّ الذي بجواره هو صديقه ولم يستغرب الأمر، كان الذاهب إلى الحمام معه في كمّه مائة دينار، فوجد أنه من الأفضل أنْ لا يدخلها معه خوفاً من نشّالي الحمّامات، وفكّر في أنْ يستأمنها صديقه فتكون دنانيره في مأمن من النشل، فأخرجها من كمّه وأعطاها لذلك النشّال وهو يظنّ انه يناولها صديقه وقال: أي أخي، خذ هذه الأمانة حتى أخرج من الحمام فتردّها إليّ. فأخذ النشّال منه المال ولم ينبس ببنت شفة، وقع ذهن النشّال في حيرة إثر هذه الثقة الغريبة التي منحه إيّاها الرجل وليس بينهما سابق معرفة أو صحبة. انتهى الرجل من الاستحمام وارتدى ثيابه بعد أن كانت الدنيا قد ارتدت أضواءها، وما إن أطلّ الرجل من باب الحمام حتى ناداه النشّال وقال: أيها الرجل تعال استردَّ مالك وامضِ، فإنّي قد تخلّفت اليوم عن شغلي بسبب الأمانة الرنّانة التي حمّلتني إياها. تحيّر الرجل فهو لا يعرف هذا الذي يناديه ولم يسبق لهما أن التقيا، ولا بدّ أن ثمة سوء تفاهم وقع بينهما، فهو لم يسلّم "النشّال" المجهول أيّ أمانة. اقترب الرجل من النشّال مستفهماً: عن أيّ مال تتكلّم؟ ومن أنت؟ أجاب النشّال غير هيّاب من الاعتراف بحرفته: أنا نشّال، كنت أسعى لرزقي، وأنت أعطيتني هذا الذهب أمانة إلى وقت خروجك من الحمّام، فاضطررت أن أعلّق أعمالي بسببك؟ فقال الرجل: إذا كنت نشّالاً بحسب ما تقول فَلِمْ لَمْ تسلبْه منّي، والغنيمة وصلت، باردةً، إلى يديك؟ فقال النشّال للرجل الذي لم تستوعب أذناه ما تسمعان: لو كنت سلبت هذا المال بصناعتي ومهارتي لأخذته، ولو كان ألف دينار ولما كنت أردّ منه شعيرة، ولكنّك سلمته لي واستودعته مستأمناً، وليس من المروءة أن أخونك، حتّى ولو كنت لا أعرف من أنت، وقد جئتني مستأمناً.
أليس لدى هذا اللصّ إحساسٌ حادّ بالمروءة والأمانة وهو إحساس قد يحسده عليه من لا تظهر على هندامه أو في كلامه ذرّة من علامات اللصوصيّة؟ ويبدو أنّ سلوك هذا اللصّ الأمين والآدميّ يضيف تفصيلاً لطيفاً إلى تفاصيل ما ورد في جواب الحكيم الصيني.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق