الجمعة، 2 أكتوبر 2015

في حضرة الجنرال


لكلّ حضارة نصوصها، الدينيّة أو الدنيويّة. وكلّ حضارة حاضرةٌ وفاعلةٌ لا تكتفي بنصوصها مهما كانت هذه النصوص رائعة وغنيّة. لا يمكن لأيّ نصّ أنْ يجُبَّ ما قبله من نصوص إلاّ إذا قرّر استئصال بعض خلايا ذاكرته، بل كلّ حضارة قويّة وواثقة من هويّتها ترى أنّ نصوصها تحتاج ( دون أن يشكّل لها ذلك عقدة خوف أو نقص) إلى معاشرة نصوص الحضارات الأخرى بغضّ النظر عن مكانة هذه الحضارة أو تلك في السلّم الحضاريّ. وإلاّ ما معنى التفات الدول المتحضرة الراهنة إلى ترجمة حتّى نصوص القبائل في إفريقيا أو أميركا اللاتينيّة؟ ( ولنا أسوة حسنة في الفيلسوف الأنتروبولوجيّ الفذّ كلود ليفي استراوس الذي كرّس شطراً كبيراً من كتاباته لثقافات الهنود الحمر في أميركا اللاتينية). أليس هذا ما أدركته الحضارة العربية في عصرها العبّاسيّ أثناء فترتها الزاهرة حين انفتحت على نصوص الفرس والإغريق؟
ولكن لا تتعامل كلّ الحضارات مع نصوص الآخرين بالجدّية المطلوبة. ومن معايير التخلّف، بحسب ما أرى، الاستهتارُ بنصوص الآخرين، واعتبارُ أن ليس هناك حاجة أو مبرّر لترجمتها. كنت قد عبّرت عن وجهة نظري حول الترجمة في مقال سابق بعنوان: " تَرْجِموا قبل أن تُرْجَموا" معتبراً الترجمة ضرورة حياتيّة لكلّ حضارة تتوق إلى أنْ يكون لها مكان أو مكانة تحت الشمس.
وجهة نظري أنّ أهمّ ما يجب ترجمته من الحضارات ليس فقط ما يلائم حضارتنا، أو يسدّ النقص - وهو عارم- في المجالات العلميّة والتكنولوجية، وإنّما أيضاً ما تعتبره الحضارات الأخرى من أمّهات نصوصها الكلاسيكيّة. وسوف أعطي مثالاً واحداً، وهو عن نصّ روائيّ من التراث الصينيّ الكلاسيكيّ، عنوانه "الممالك الثلاث" (سانْ غْوُو يانْ يِي) للكاتب لْوُو غْوانْ دْجْونْغْ (1330-1400) والنصّ، بحسب النقّاد الصينيين، من أعاجيب دنيا النصوص الصينيّة. الرواية يعرفها الكبير والصغير في الصين. يكفي النظر إلى كيفيّة تعامل الصين مع هذه الرواية حتى نفقه قيمتها السياسيّة والدينيّة والأخلاقية والاجتماعيّة والاستراتيجيّة في حياة الصينيين. لا توجد وسيلة فنيّة إلاّ واستثمرت في ترسيخ هذه الرواية في أذهان الصينيين، تراها في شكل مسلسل تلفزيونيّ، وفي شكل مسرحيّة، وفي شكل أوبرا، وفي شكل ألعاب فيديو للأولاد، وينهل من معينها المخرجون السينمائيّون لتجسيد شخصيّاتها وأحداثها في أفلام سينما، وتراها في المكتبات على هيئة شرائط مصوّرة للصغار بحيث إنّه من المستحيل أن تجد صينياً لا يعايش أحداثها الحافلة. الرواية رائعة جدًّا وغنيّة بالحكمة، لن أخوض في تفاصيلها، وإنما أقول إنّ هذه الرواية التاريخيّة الضخمة مترجمة إلى الفرنسيّة والإنكليزيّة والألمانيّة واليابانيّة، واخترْ أيّ لغة حضاريّة أخرى تجد أنّها مترجمة إليها، فمصيرها المكتوب لا يختلف، في غناه وتشعبّه، كثيراً عن مصير كتاب "ألف ليلة وليلة" من حيث انتماؤه إلى الكلاسيكيّات العالميّة ومن حيث تحرّره من لغته الأمّ.
ولكنّ اللسان العربيّ يفتقر إلى حضور رواية "الممالك الثلاث" التي هي بمثابة تطبيق عمليّ وحيّ للاستراتيجيّات التي وضعها المنظّر الاستراتيجيّ الأوّل في العالم "سْوِنْ تْزِه" في كتابه المثير" فنّ الحرب". وهذا يعني أنّ القارىء العربيّ، حين يوجد! لا يمكنه إذا ما رغب في قراءتها إلاّ الاستعانة بلسان غير لسانه. هل من الممكن معرفة حضارة نجهل نصوصها التي تمثّل، بشكلٍ من الأشكال، سيرة هذه الحضارة الذاتية بأبعادها الروحيّة والفكريّة؟
سأتناول من هذه الرواية البديعة، هنا، مشهداً واحداً ذا صلة بالتواضع الفاتن الذي تعمّد المخرج "جون وو" إدراجه في فيلمه المأخوذ من رواية "الممالك الثلاث" لغايات تتعدّى شاشة العرض. مشهد لا يحتلّ حيّزاً كبيراً من الفيلم ولكنّه ذو دلالة على الاستراتيجيّة المتّبعة في الصين الراهنة والمتمثّلة بـ"القوة الناعمة". المشهد هو فلاح عجوز فقير سُرقت بقرته الوحيدة، وشاءت المصادفات أن يلتقي هذا الفلاح بنائب الملك فينتهز الفرصة لإخباره بأنّ فرداً من عناصر جيشه سرق له بقرته التي هي "الحيلة والفتيلة". كان نائب الملك يحضر تدريبات عسكرية لجيشه الذي يستعدّ لخوض معركة فاصلة سوف تغيّر مجرى التاريخ الصينيّ بحسب ما يقول المؤرّخون، يأتي نائب الملك برفقة الفلاح العجوز إلى مكان العرض العسكريّ ويطلب من السارق الإعلان عن نفسه، ولكن لا يبدو أن السارق يملك القدرة على الاعتراف بالسرقة التي قام بها وخصوصاً أنّه يعرف أنّ عقوبة الموت هي التي تنتظره بمجرّد أن يتفوّه بالاعتراف، هنا يبدأ أفراد الجيش بمناداة السارق ليعلن عن نفسه، ولكن السارق يظلّ متخفّياً عن الأنظار وسط صفوف الجند. ثمّ يتغيّر المشهد ونرى قائد الجيش يتقدم نحو نائب الملك والفلاّح وهو يقود، بيديه، البقرة المسروقة ويسلمها للفلاّح معتذراً عن فعلة جنده، ولكن ليس أيّ اعتذار. الاعتذار يتطلّب، أحياناً، أكثر من مجرّد كلمة تخرج من الفم، يتطلّب حركة ما قد تكون غير متوقّعة، ولا سيّما ممّن هو في مقام الجنرال، نراه، بخفر وأدب جمّ، يركع وهو ببزّته العسكريّة المهيبة أمام الفلاّح العجوز الذي لا يصدّق ما يرى وتتلعثم عيناه وشفتاه أمام مشهد الجنرال وهو يركع طالباً منه المعذرة والمغفرة لأنّه أساء تربية عناصر جيشه، ولا يجد أفراد الجيش أنفسهم إلاّ وهم يركعون أمام الفلاّح العجوز الذي يستعيد في ختام مشهد الركوع بقرته المسروقة.
لا أعرف لماذا استدعى مشهد الجنرال الراكع، بكلّ تواضع وانكسار، في ذهني سير وسلوك جنرالات الحروب اللبنانية الجوّالة بتداعياتها العبثيّة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق