السبت، 3 أكتوبر 2015

المروحة والشاعر


لا تقلّ سيرة حياة الأشياء أهميّة عن سيرة الأشخاص. وتلفت نظري السِّيَر، سيرُ الأشخاص وسير الأشياء على السواء، فأشياؤك قد تقول عنك ما لا تقوله أنت عن نفسك، وتشي بما لا تودّ الافصاح عنه. ومن الكتب التي وقعت تحت نظري كتاب عن دور" المروحة في الثقافة الصينيّة"، ولكم أتمنّى العثور على كتاب عربيّ الروح يحمل عنوان "السُّبْحة في الثقافة العربيّة" على سبيل المثال.
ليست المروحة اليدويّة من نسيج حياتنا اليومية، ولكنّها من يوميّات الصينيّ وحميميّاته، وهي لا تستخدم فقط لطرْد الحرّ واستدرار عطف الهواء العليل وإنْ كانت التهوئة هي وظيفتها الأولى. والانسان، لكونه إنساناً، يطلق سراح الأشياء من وظائفها الأولى أو يضيف إليها دلالات نمّامة. فاللباس، مثلاً، وظيفته الأساس الاتّقاء من لسْع البرد أو لذْع الحرّ، ولكن هل تنظر الموضة إلى اللباس من منطلق وظيفته وحسب؟ أليست الموضة، بشكل من الأشكال، تمرّداً، مادّياً وفنيّاً، على انحباس اللباس في وظيفته الأهمّ؟ وهنا أحبّ الإشارة الى كتاب فاتن كتبه الناقد الفرنسيّ الكبير رولان بارت ودرس فيه الحضارة الفرنسيّة من خلال لغة الأزْياء وهو "نسق الموضة".
وجدت الكتاب عن المروحة شديد الطَّرافة، وهو يتناول المرْوحة اليدويّة الصغيرة الدارجة في الصين، كما يتكلّم على مراوح الأدباء والسياسيّين والرسّامين والخطّاطين من أمثال الكاتب المسرحيّ المميّز "لاوْ شِهْ" أو مؤسّس الصين الحديثة "ماو تسي تونغ". فالمراوح الصينية متحف للنظر واللمس، وهي أرشيفٌ شعريّ وألبومُ منمنماتٍ حريريّة، ومكان يمارس فيه الخطّاطون هواياتهم في كتابة الحكم والأمثال والأشعار.
أعجبتني في الكتاب حكاية حدثت مع شاعر وناثر عميق الغوْر من عصر سلالة تانْغْ وهو العصر الذهبيّ للشعر الصينيّ ولا يختلف، عصر هذه السّلالة، كثيراً عن العصر العبّاسيّ الذي شهد ولادة عمالقة الشعر العربيّ. اسم الشاعر " لْيو تْزوْنْغْ يْوانْ " (773-819)، جاءه، ذات يوم، أحد خدّامه وهو ممسك بمروحة صغيرة ثمّ قال: "يا سيّد ليو، يريد أحد بائعي المراوح أنْ يهديك هذه المروحة". تناول ليو المروحة فوجد أنها رديئة الصنع، ثم سأل الخادم مستهجناً ومستغرباً: "أيريد أن يهديني مثل هذه المروحة؟" فردّ الخادم: "نعم، إنّ بضاعته جميعها من هذا الطراز". اشتدّت حيرة ليو تْزوْنْغْ يوان ممّا يدور في خلد بائع المراوح ثم سأل الخادم ثانية: "وهل له أيّة مطالب مقابل إهدائي هذه المروحة؟" أجاب الخادم: "لا، وأنا أيضاً لم أسألْه". فقال ليو للخادم: "حسناً، فلتنصرفْ أنت الآن". ثمّ أخذ ليو تزونغ يوان المروحة وراح يتمشّى كعادته في حديقة قصره.
من حسن حظّ بائع المراوح أنّه عندما كان ليو يتمشّى في الحديقة ممسكاً بالمروحة، رآه أحد الخدم الذي ما إنْ رأى المروحة حتى اهتزّ قلبه وراح يكلّم نفسه: " عندما كنت أتنزّه بالأمس رأيت هذه المروحة وكنت قد فكّرت أنْ أشتري واحدة، ولكن ما إنْ تحقّقت أنّها رديئة الصّنْع حتى عدلت عن فكرتي، والآن أرى السيّد ليو يستخدمها رغم خبرته بالمراوح الجيّدة، لا شكّ في أنّني أخطأت النظر إليها- والحواسّ خدّاعة- عليّ أنْ أسارع في شراء مجموعة منها وأهديها لأقربائي وأصدقائي، فإنّ ثمنها رخيص وسيسعد الجميع بها".
وصل الخادم الى مكان بيع المراوح واشترى مجموعة منها، بل وراح يتفاخر أمام الجميع أنّ السيد ليو بنفسه يستخدم مثل هذه المروحة، فما إن سمع الحاضرون حتى هبّوا يتنافسون على شراء نفس النوع من المروحة المذكورة، وفجأة امتلأ مكان بيع المراوح بالمشترين حتى أصبح البائع في سعادة غامرة وهو يرى كيف تنهال طلبات الشراء على مراوحه الرديئة.
في اليوم التالي كان معظم العاملين في القصر ممسكين بأيديهم مراوح من نفس النوع. فسأل السيد ليو خادمه مستغرباً أوان حمل المراوح: "وهل جاء موسم المراوح؟" فردّ الخادم:" إنّ الجميع يقلّدونك فقط يا سيّدي، وقد أصبح استخدام المروحة موضة شائعة". فطلب السيد ليو من الخادم الذهاب الى السوق والتقصّي عن طريقة البائع في عرض وبيع هذه المراوح.
حين وصل الخادم إلى السوق سمع البائع وهو ينادي بأعلى صوته: "هذه المروحة الصغيرة الساحرة فعالة جدّاً في الوقاية من حرارة الصيف، وهل تعلمون أنّ الشاعر لْيو تْزونْغْ يْوانْ نفسه يستخدم مروحتي هذه؟ لقد اشتراها بخمسين فلساً، والآن يستخدمها جمع كبير من العاملين في قصره". فما إنْ سمع الخادم هذا الحديث حتى تبلبلتْ أذناه وأسرع الى السيد ليو ليخبره بما سمع ورأى وما إنْ سمع الشاعر "ليو تزونغ يوان" هذا الحديث حتى اشتعل غيظاً. أخذ المروحة وأعطاها للخادم قائلاً: "إنّ هذا البائعَ الخبيثَ يربط الرديءَ بالجيّد، ويستعير اسمي ليخدع الناس فلترجّع هذه المروحة المشبوهة إليه فوراً وأبلغه أنّي أرفض أنْ يتّخذ من اسمي غلافاً لبضاعة سيّئة السّمعة".
افتضح أمر البائع فجمع مراوحه وطوى ذيله، كما يقال، وغادر المكان، خافض الرأس، على مرأى ومسمع من الزبائن الذين كانوا ينتظرون دورهم للحصول على المروحة .
العبْرة في النهاية، كما يقول المثل العربيّ، وهذا ما غاب، فيما يبدو، عن بال بائع المراوح الجوّال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق