الاثنين، 4 فبراير 2013

شيء من تاريخ الملك ” أبجد” والكتابة العربية

كتبهابلال عبد الهادي ، في 30 تشرين الثاني 2010 الساعة: 22:01 م




قلت: شيء. وأقصد بذلك الشيء نقطة خرافيّة وردت في كتاب الإمام جلال الدين السيّوطي في كتابه اللغوي الهام "المزهر في علوم اللغة وأنواعها". وعن أهمية الكتاب سوف احكي في تدوينة أخرى أو إدراج آخر. اما هنا فسأتناول الكتابة. ومتى وجدت وكيف وجدت، ومن اين أتت كلمة الأبجديّة؟
غلاف المجلّد الأوّل من كتاب "المزهر"
علّمت فترة من الزمن مادّة جميلة في الجامعة اسمها "المدارس النحويّة"، وكان من الطبيعيّ أن أقرأ في كتب اللغة وكتب النحو لتقميش معلومات حول المادّة، وكان من الطبيعي ان اتناول كتب السيوطي النحوية ليس لأنه صاحب مدرسة نحويّة، إذ لم يعد في وقته ولادة لمدارس جديدة بعد ان رست ورسخت المدارس البصرية والكوفية والبغدادية والأندلسية والمصرية… إلخ. ولكن كتبه كانت مرجعا، لغويا ونحويا، ولا سيّما كتاباه "المزهر" و"الاقتراح في أصول النحو".كان التجوال في كتابيه أشبه برحلة صيد لا يعود الواحد منهما خالي الوفاض أو بخفّي حنين. وكنت ولوعا باصطياد الطرائف لا الطرائد. كما ان تخصصي العلميّ وعو علم اللغة الحديث يدفعني الى التعرّف على نظرات العرب اللغوية لأقارن بينها وبين النظريّات اللغوية الغربية. وهذا ما امارسه وأدرّسه في مادة " الألسنية والفكر اللغويّ العربي"، وعليه فلا بدّ من التنقل بين التراث اللغوي العربي والتراث الغربي والراهن الغربي في مجال العلوم اللغوية على تعدّد اتجاهاتها. والدرس اللغوي لا يعني كما يتبادر الى أذهان كثير من الناس النحو فقط. فالنحو شعبة واحدة من شعب اللسان، وثمّة شعب أخرى فيها من المتعة ما قد لا يوجد في النحو المحض.
وحين يتكلّم المرء على اللغة فهو مضطر أيضا لتناول الكتابة، فالكتابة، في العمق، هي تفكير عملي في اللغة. ان مجرد نقل اللغة من الفم الى الورق او الجلد او العظم او لحاء الشجر أو جريدة النخل هو انتقال من حيّز العفوية الى حيّز المكتسب.
امور كثيرة صادفت حياتي اللغوية كان منها هذه النصوص" السيوطية" البديعة، وحين اقول السيوطيّة اقصد اني قرأتها في كتبه وليست من عندياته انما هي نقل من كتب سابقة منسوبة لأصحابها من العلماء وتحكي حكايات يظنّها البعض من وقائع الماضي ويظنها آخرون من اساطير الأولين.في أي حال، أقول، إنّ بين الاسطورة والتاريخ، أحياناً، تنبت شعرة معاوية! والفصل بينهما ليس دائما سهلا لإنّ تقنية الفصل لم تتوفّر بعد. والمرء قد يتخلّى، أحياناً، عن أشياء كثيرة من حياته ولكن لا يتخلّى بسهولة عن أساطيره التاريخية والروحية .
حروف الأبجدية حين تصير أرقاما "حروف الجمّل"
وليس من الضروري ان يتعامل من يقوم بالتأريخ الانترولوجيّ والأركيولوجيّ، تحديدا، لحضارة ان يلغي مفعول الاساطير في تكوين الانسان. فانا من المؤمنين ان الانسان المعاصر كما الانسان القديم تلذّ له الاسطورة، ويقتات منها ويعتمد عليها في ممارسة حياته اليومية.ويستعين بها على تمرير كثير من أزماته الروحية والنفسيّة والمادّية.
لا تخلو حضارة قديمة أو معاصرة، في أي حال، من أسطورة تزيّن وقائع ايامّه.
نحن نعرف ان ترتيب الكتابة العربية الأساس هو ابجد هوز …الخ. وليس التسلسل الألفبائي. التسلسل الابجدي هو اقدم من التسلسل الالفبائي. وهو موجود عند اليهود وعند الفينيقيين ويمكن القول انه ترتيب ساميّ، اما الترتيب الالفبائي فهو ترتيب حديث هو وليد شكل الحرف لا صوته، شكل الحرف العربي المكتوب. فنجد " ب ت ث ج ح خ " وضعت مترافقة بناء للشبه الشكليّ. اللغة العبريّة، الى اليوم، تعتمد الأبجديّ لا الألفبائيّ في معاجمها مثلا. وكذلك الأمر في اللغة اليونانية التي تعتمد على الترتيب الأبجدي لا الألفبائي. ولا يزال، الى اليوم، في كلّ "الالفبائيات" بقايا من "الأبجديات"، وأجدها طريفة، وهذه البقايا ذات صلة بالكلام، وهي جذر الكلام، وقد لا ينتبه لها المرء من الوهلة الأولى.
الترتيب الابجدي العربي والعبري
إذا راح المرء يعدد الاحرف الالفبائية فانه يصل في اللاتينية الى "KLM " وإذا قام بالأمر نفسه في التعداد الألفبائي فانّ يصل بعد القاف الى " ك ل م". واذا رجع الى التعداد الابجدي ايضا سيصل الى" ك ل م" في "كلمن". كان يلفتني رسوخ الكلام في التعدادين. والكلام هو الميزة الانسانية التي يمتاز بها الانسان عن سائر المخلوقات ( وان كان ثمّة اليوم من يدرس كلام المخلوقات غير البشرية ولكن الكلام شيء، والتواصل شيء آخر ولن استفيض في هذه المسألة الآن.)
هناك دراسات جفريّة تربط مصائر البشر بالحروف وأقصد بالجفريّة ما هو وليد ّكتاب الجفر"، ويحلو الاطلاع على هذا الكتاب ولو اطلاع عاجل. ولا يبخل "جوجل google " على الراغبين بالاطلاع . ثمّة اساطير حول قضيّة الحروف الأبجدية. وان هذه الحروف انما اكتسبت اسماءها وترتيبها من اسماء اشخاص عاشوا وماتوا في زمن قديم. وليس في القِدم لغير الأسطورة موطىء قًدم.!
صفحة من كتاب الجفر حيث الرقم نبوءة، والحرف مصير
بالنسبة لأبجد ، لا نعرف ان كانت الكلمة منحوتة ام لا، اي هل هناك شجص اسمه "ابجد" ام كان لهذا الشخص ولد اسمه جاد فكان يكنى بأبي جاد.ونحن نعرف ولع العرب بإخفاء اسمهم وراء اسم ابنهم الذكر الأوّل غالبا، اسم الذكر الموجود او المعدوم، فالتقنية تكون قبل اب يبلغ الصبيّ سنّ المقدرة على الأنجاب. وعليه ابن المكنّى بأبي فلان ابن افتراضيّ قد يأتي وقد لا يأتي. فأنا اعرف شخصا مثلا بكنيته لا باسمه. الناس يقولون له "ابو سمير" وهو كبير في السنّ اي يفترض بسمير " من حيث المبدأ، ان يكون من عمري. ولكن سمير لم يأت، ولم يعد ابو سمير ينتظره اذ رزقه الله بسميرة وليس بسمير، وعليه فان سمير كائن افتراضي يعيش يوميا مع ابيه الافتراضي. كان يحلم بسمير، التصق سمير بابيه، ولكنه حضور الوهم او الذكر في حياة"ابو سمير".
هذا التعليق فقط كرمى لعيني "جاد" وهو غير اسم جاد الجديد في التسميات العربية الذي هو تعريب لكلمة JADE الفرنسية. وليس اسم فاعل "جادّ" لمن هو مجدّ في حياته مثلا. التشابه لا يتعدّى الجناس اللفظيّ غير الكلّي الا على مستوى الشكل لا الصوت. إذ جيم العربيّة"جادّ" مرققة في حين جيم "جاد" المعرّبّة فيها من التفخيم الغربي. ومسألة التفخيم والترقيق للأصوات العربية في هذاالزمن تستأهل من يقول بدراستها من وجهة "عقدة النقص العربية" الراهنة.
ثمّة من يعتبر ان الكتابة تعود الى سيدنا آدم، وهي كانت على شاكلة آدم من طين، تقول الاسطورة ان آدم قال بطبخ ما كتبه في الطين، وكان آدم بحسب هذه الأسطورة عليما بكل اللغات،فآدم ليس أبا البشر فقط وانّما أبا اللغات كلّها. وإليك نصّ السيوطي في باب القول على الخط العربي وأول من كتب به :
"يروى أن أوّل من كتب الكتاب العربيّ والسريانيّ والكتب كلها آدمُ عليه السلام قبل موته بثلثمائة سنة، كتبها في طين وطبخه فلما أصاب الأرضَ الغرقُ وجد كل قوم كتاباً فكتبوه فأصاب إسماعيل عليه السلام الكتاب العربي".
وكلمة "يروى " هنا لا تختلف كثيرا عن كلمة "يحكى" التي نراها في كتاب "كليلة ودمنة" وغيره من الكتب. فعل يريح فاعل الكلام أو ناقل النصّ، يريح ذمّته مما يقول او يحكي أو يكتب. صيغة "المجهول" في السرد العربي القديم لها وظيفتان: أولى، انك ، هنا ، في ارض الغرابة لا في أرض المألوف، وثانية: انّ لا احمّل ضميري صدق ما أقول. فناقل الخرافة ليس مخرفّا او مصابا بالخرف وإلا ّ لتوقفت انماط كثيرة من الكتابة خوفا من تلويث سمعة من يكتبها. الكاتب يختبىء أو يختفي وراء "يروى أو يحكى". كلمة يحكى تريح الكاتب من العنعنة! انتقل الى اقتباس النصّ الثاني من كتاب جلال الدين السيوطي، ذي العلاقة بـ"ابا جاد" وهو:
"وقيل : أول من وضعه { أي الخطّ العربيّ} أبجدّ وهوّز وحطي وكلمن وسعفص وقرشت وكانوا ملوكاً فسمي الهجاء بأسمائهم" . الكتابة ليست مسألة عاديّة، من يضع الحروف لا يمكن أن يكون انسانا عاديا، فهو اما ان يكون أبا الخليقة، وامّا ان يكون ملكا من الملوك. نجد ان العربية لم يرضِها ملك واحد، وابجديتها ملوكية من الطراز الرفيع. وهذا ما يقوله النصّ السيوطيّ في اي حال. والكلام ليس من عندياتي. انتقل الى النص الأبجدي الثالث في كتاب السيوطي وهو من كتاب المسعودي "مروج الذهب ومعادن الجوهر" وهو كتاب لطيف جدّا، في التاريخ والجغرافيا والأسطورة والأدب:

"وقال المسعودي في تاريخه { مروج الذهب ومعادن الجوهر} : قد كان عدّة أمم تفرقوا في ممالك متصلة، منهم المسمى بـ"أبي جاد" و"هوَّز" و"حطي" و"كلمن" و"سعفص" و"قرشيات" وهم بنو المحصن بن جندل بن يصعب بن مدين بن إبراهيم الخليل عليه السلام. وأحرف الجُمَّل هي أسماء هؤلاء الملوك وهي الأربعة والعشرون حرفاً التي عليها حساب الجُمَّل وقد قيل في هذه الحروف غير ذلك، فكان "أبجد" ملك مكة وما يليها من الحجاز، وكان "هوز" و"حطي" ملكين بأرض الطائف وما اتصل بها من أرض نجد، و"كلمن و"سعفص" و"قرشيات" ملوكاً بمدين، وقيل : ببلاد مضر وكان "كلمن" على أرض مدين وهو ممّن أصابه عذاب يوم الظُلَّة مع قوم شعيب، وكانت جارية ابنته بالحجاز ، فقالت ترثي "كلمن" أباها بقولها : [ من مجزوء الرمل ]



( كلَمُونٌ هدَّ رُكني … هلكه وَسْط المحلَّه )
( سيد القوم أتاه الحتف … ثَاوٍ وَسْطَ ظُلَّهْ )
( كونت ناراً فأضحت … دار قومي مُضْمَحله )









وقال المنتصر بن المنذر المديني : [ من الطويل ]



( ألاَ ياشعيب قد نطقت مقالة … أتيت بها عمراً وحيّ بني عمرو )




( هُمُ ملكوا أرض الحجاز بأوْجُهٍ … كمثل شعاع الشمس في صورة البدر )
( وهُمْ قَطنوا البيت الحرام وزينوا … قطوراً وفازوا بالمكارم والفخر )
( ملوك بني "حطي" و"سعفص" في الندي … و"هوّز" أرباب الثَّنية والحجر )
ولمن يرغب في متابعة الحكاية أن يذهب الى كتب أخرى غير كتاب السيوطي.فثمّة في كتب التاريخ والأخبار ما يشفي الغليل. إذ في كتب التاريخ، تقعد الأسطورة جنبا إلى جنب مع الحقيقة. بل قل: ان الأسطورة هي رافعة تاريخيّة تقوم بوظيفة الغواية للسامع ان يستمع وللقارىء ان يقرأ.فهي كان لها مفعول المؤثراث الصوتية والضوئية واللونيّة في السينما المعاصرة.
قد يختلف التاريخ ولكن لا تختلف الأسطورة في وظائفها التي لا تنتهي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق