كتبهابلال عبد الهادي ، في 18 نيسان 2012 الساعة: 13:41 م
أمتع الله بك وأبقى نعمه عندك؛ وجعلك
ممن إذا عرف الحق انقاد له، وإذا رأى الباطل أنكره وتزحزح عنه.
قد قرأت كتابك فيما وصفت من فضيلة الصمت، وشرحت من مناقب السكوت، ولخصت من وضوح أسبابهما، وأحمدت من منفعة عاقبتهما وجريت في مجرى فنون الأقاويل فيهما، وذكرت أنك وجدت الصمت أفضل من الكلام في مواطن كثيرة وإن كان صوابا، وألفيت السكون أحمد من المنطق في مواضع جمة، وإن كان حقاً.
وزعمت أن اللسان من مسالك الخنا، الجالب على صاحبه البلا وقلت: إن حفظ اللسان أمثل من التورط في الكلام.
وسميت الغبي عاقلاً، والصامت حليماً، والساكت لبيباً، والمطرق مفكراً. وسميت البليغ مكثاراً والخطيب مهذاراً والفصيح مفرطاً، والمنطيق مطنباً.
وقلت: إنك لم تندم على الصمت قط، وإن كان منك عياً، وأنك ندمت على الكلام مراراً وإن كان منك صواباً.
واحتجاجك في ذلك بقول كسرى أنو شروان، واعتصامك فيها بما سار من أقاويل الشعراء والمتسق من كلام الأدباء، وإفراطهم في مذمة الكلام، وإطنابهم في محمدة السكوت.
وأتيت - حفظك الله - على جميع ما ذكرت من ذلك، ووصفت ولخصت، وشرحت وأطنبت فيها وفرطت بالفهم، وتصفحتها بالعلم، وبحثت بالحزم، ووعيت بالعزم، فوجدتها كلام امرىء قد أعجب برأيه وارتطم في هواه، وظن أنه قد نسج فيها كلاماً، وألف ألفاظاً ونسق له معاني على نحو مأخذه.
ومقصده أن لا يلفي له ناقضاً في دهره بعد أن أبرمها، ولا يجد فيها مناوياً في عصره بعد أن أحكمها. وأن حجته قد لزمت جميع الأنام، ودحضت حجة قاطبة أهل الأديان، لما شرح فيها من البرهان، وأوضح بالبيان. وحتى كان القول من القائل نقضاً، ورفع الوصف من الواصف تغلباً، وكان في موضع لا ينازعه فيه أحد، وقلما يجد من يخاصمه، ولا يلفي أبداً من يناضله، وصار فلجاً بحجته أوحدياً في لهجته، إذ كان محله محل الوحدة، والأنس بالخلوة، وكان مثله في ذلك مثل من تخلص إلى الحاكم وحده فلج بحجته.
وإني سأوضح ذلك ببرهان قاطع، وبيان ساطع، وأشرح فيه من الحجج ما يظهر، ومن الحق ما يقهر، بقدر ما أتت عليه معرفتي، وبلغته قوتي، وملكته طاقتي، بما لا يستطيع أحد رده، ولا يمكنه إنكاره وجحده. ولا قوة إلا بالله، وبه أستعين، وعليه أتوكل وإليه أنيب.
إني وجدت فضيلة الكلام باهرة، ومنقبة المنطق ظاهرة، في خلال كثيرة، وخصال معروفة.
منها: أنك لا تؤدي شكر الله ولا تقدر على إظهاره إلا بالكلام.
ومنها: أنك لا تستطيع العبارة عن حاجاتك والإبانة عن ماربك إلا باللسان. وهذان في العاجل والآجل مع أشياء كثيرة لو ينحوها الإنسان لوجدها في المعقول موجودة، وفي المحصول معلومة وعند الحقائق مشتهرة، وفي التدبير ظاهرة.
قد قرأت كتابك فيما وصفت من فضيلة الصمت، وشرحت من مناقب السكوت، ولخصت من وضوح أسبابهما، وأحمدت من منفعة عاقبتهما وجريت في مجرى فنون الأقاويل فيهما، وذكرت أنك وجدت الصمت أفضل من الكلام في مواطن كثيرة وإن كان صوابا، وألفيت السكون أحمد من المنطق في مواضع جمة، وإن كان حقاً.
وزعمت أن اللسان من مسالك الخنا، الجالب على صاحبه البلا وقلت: إن حفظ اللسان أمثل من التورط في الكلام.
وسميت الغبي عاقلاً، والصامت حليماً، والساكت لبيباً، والمطرق مفكراً. وسميت البليغ مكثاراً والخطيب مهذاراً والفصيح مفرطاً، والمنطيق مطنباً.
وقلت: إنك لم تندم على الصمت قط، وإن كان منك عياً، وأنك ندمت على الكلام مراراً وإن كان منك صواباً.
واحتجاجك في ذلك بقول كسرى أنو شروان، واعتصامك فيها بما سار من أقاويل الشعراء والمتسق من كلام الأدباء، وإفراطهم في مذمة الكلام، وإطنابهم في محمدة السكوت.
وأتيت - حفظك الله - على جميع ما ذكرت من ذلك، ووصفت ولخصت، وشرحت وأطنبت فيها وفرطت بالفهم، وتصفحتها بالعلم، وبحثت بالحزم، ووعيت بالعزم، فوجدتها كلام امرىء قد أعجب برأيه وارتطم في هواه، وظن أنه قد نسج فيها كلاماً، وألف ألفاظاً ونسق له معاني على نحو مأخذه.
ومقصده أن لا يلفي له ناقضاً في دهره بعد أن أبرمها، ولا يجد فيها مناوياً في عصره بعد أن أحكمها. وأن حجته قد لزمت جميع الأنام، ودحضت حجة قاطبة أهل الأديان، لما شرح فيها من البرهان، وأوضح بالبيان. وحتى كان القول من القائل نقضاً، ورفع الوصف من الواصف تغلباً، وكان في موضع لا ينازعه فيه أحد، وقلما يجد من يخاصمه، ولا يلفي أبداً من يناضله، وصار فلجاً بحجته أوحدياً في لهجته، إذ كان محله محل الوحدة، والأنس بالخلوة، وكان مثله في ذلك مثل من تخلص إلى الحاكم وحده فلج بحجته.
وإني سأوضح ذلك ببرهان قاطع، وبيان ساطع، وأشرح فيه من الحجج ما يظهر، ومن الحق ما يقهر، بقدر ما أتت عليه معرفتي، وبلغته قوتي، وملكته طاقتي، بما لا يستطيع أحد رده، ولا يمكنه إنكاره وجحده. ولا قوة إلا بالله، وبه أستعين، وعليه أتوكل وإليه أنيب.
إني وجدت فضيلة الكلام باهرة، ومنقبة المنطق ظاهرة، في خلال كثيرة، وخصال معروفة.
منها: أنك لا تؤدي شكر الله ولا تقدر على إظهاره إلا بالكلام.
ومنها: أنك لا تستطيع العبارة عن حاجاتك والإبانة عن ماربك إلا باللسان. وهذان في العاجل والآجل مع أشياء كثيرة لو ينحوها الإنسان لوجدها في المعقول موجودة، وفي المحصول معلومة وعند الحقائق مشتهرة، وفي التدبير ظاهرة.
ولم أجد للصمت فضلاً على الكلام مما يحتمله القياس، لأنك تصف
الصمت بالكلام، ولا تصف الكلام به. ولو كان الصمت أفضل والسكوت أمثل لما عرف
للآدميين فضل على غيرهم، ولا فرق بينهم وبين شيء من أنواع الحيوان وأخياف الخلق في
أصناف جواهرها واختلاف طبائعها، وافتراق حالاتها وأجناس أبدانها في أعيانها
وألوانها. بل لم يمكن أن يميز بينهم وبين الأصنام المنصوبة والأوثان المنحوتة، وكان
كل قائم وقاعد، ومتحرك وساكن، ومنصوب وثابت، في شرع سواء ومنزلة واحدة، وقسمة
مشاكلة؛ إذ كانوا في معنى الصمت بالجثة واحداً، وفي معنى الكلام بالمنطق متبايناً.
ولذلك صارت الأشياء مختلفة في المعاني، مؤتلفة الأشكال، إذ كانت في أشكال خلقتها
متفقة بتركيب جواهرها، وتأليف أجزائها، وكمال أبدانها، وفي معنى الكمال متباينة عند
مفهوم نغماتها، ومنظوم ألفاظها، وبيان معالمها وعدل شواهدها.
مع أني لم أنكر فضيلة الصمت، ولم أهجن ذكره إلا أن فضله خاص دون عام، وفضل الكلام خاص وعام، وأن الاثنين إذا اشتمل عليهما فضل كان حظهما أكثر، ونصيبهما أوفر من الواحد. ولعله أن يكون بكلمة واحدة نجاة خلق، وخلاص أمة.
ومن أكثر ما يذكر للساكت من الفضل، ويوصف له من المنقبة أن يقال يسكت ليتوقى به عن الإثم، وذلك فضل خاص دون عام.
ومن أقل ما يحتكم عليه أن يقال غبي أو جاهل، فيكون في ذلك لازم ذنب على التوهم به، فيجتمع مع وقوع اسم الجاهل عليه ما ورط فيه صاحبه من الوزر.
والذي ذكر من تفضيل الكلام ما ينطق به القرآن، وجاءت فيه الروايات عن الثقات، في الأحاديث المنقولات، والأقاصيص المرويات، والسمر والحكايات، وما تكلمت به الخطباء ونطقت فيه البلغاء أكثر من أن يبلغ آخرها، ويدرك أولها، ولكن قد ذكرت من ذلك على قدر الكفاية، ومن الله التوفيق والهداية.
ولم نر الصمت - أسعدك الله - أحمد في موضع إلا وكان الكلام فيه أحمد، لتسارع الناس إلى تفضيل الكلام، لظهور علته، ووضوح جليته، ومغبة نفعه.
وقد ذكر الله جل وعز في قصة إبراهيم عليه السلام حين كسر الأصنام وجعلها جذاذاً، فقال حكاية عنهم: " قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم. قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون " . فكان كلامه سبباً لنجاته، وعلة لخلاصه، وكان كلامه عند ذلك أحمد من صمت غيره في مثل ذلك الموضع، لأنه عليه السلام لو سكت عند سؤالهم إياه لم يكن سكوته إلا على بصر وعلم، وإنما تكلم لأنه رأى الكلام أفضل، وأن من تكلم فأحسن قدر أن يسكت فيحسن، وليس من سكت فأحسن قدر أن يتكلم فيحسن.
واعلم - حفظك الله - أن الكلام سبب لإيجاب الفضل، وهداية إلى معرفة أهل الطول.
ولولا الكلام لم يكن يعرف الفاضل من المفضول، في معان كثيرة، لقول الله عز وجل، في بيان يوسف عليه السلام وكلامه عند عزيز مصر، لما كلمه فقال: " إنك اليوم لدينا مكين أمين " . فلو لم يكن يوسف عليه السلام أظهر فضله بالكلام، والإفصاح بالبيان، مع محاسنه المونقة، وأخلاقه الطاهرة، وطبائعه الشريفة، لما عرف العزيز فضله، ولا بلغ تلك المنزلة لديه، ولا حل ذلك المحل منه، ولا صار عنده بموضع الأمانة، ولكان في عداد غيره ومنزلة سواه عند العزيز. ولكن الله جعل كلامه سبباً لرفع منزلته، وعلو مرتبته، وعلة لمعرفة فضيلته، ووسيلة لتفضيل العزيز إياه.
ولم أر للصمت فضيلة في معنى ولا للسكوت منقبة في شيء إلا وفضيلة الكلام فيها أكثر، ونصيب المنطق عندها أوفر، واللفظ بها أشهر. وكفى بالكلام فضلاً، وبالمنطق منقبة، أن جعل الله الكلام سبيل تهليله وتحميده، والدال على معالم دينه وشرائع إيمانه، والدليل إلى رضوانه. ولم يرض من أحد من خلقه إيماناً إلا بالإقرار، وجعل مسلكه اللسان، ومجراه فيه البيان، وصيره المعبر عما يضمره والمبين عما يخبره، والمنبىء عن ما لا يستطيع بيانه إلا به. وهو ترجمان القلب. والقلب وعاء واع.
ولم يحمد الصمت من أحد إلا توقياً لعجزه عن إدراك الحق والصواب في إصابة المعنى. وإنما قاتل النبي صلى الله عليه وسلم المشركين عند جهلهم الله تعالى وإنكارهم إياه، ليقروا به، فإذا فعلوه حقنت دماؤهم، وحرمت أموالهم، ورعيت ذمتهم. ولو أنهم سكتوا ضناً بدينهم لم يكن سبيلهم إلا العطب.
فاعلم أن الكلام من أسباب الخير لا من أسباب الشر.
مع أني لم أنكر فضيلة الصمت، ولم أهجن ذكره إلا أن فضله خاص دون عام، وفضل الكلام خاص وعام، وأن الاثنين إذا اشتمل عليهما فضل كان حظهما أكثر، ونصيبهما أوفر من الواحد. ولعله أن يكون بكلمة واحدة نجاة خلق، وخلاص أمة.
ومن أكثر ما يذكر للساكت من الفضل، ويوصف له من المنقبة أن يقال يسكت ليتوقى به عن الإثم، وذلك فضل خاص دون عام.
ومن أقل ما يحتكم عليه أن يقال غبي أو جاهل، فيكون في ذلك لازم ذنب على التوهم به، فيجتمع مع وقوع اسم الجاهل عليه ما ورط فيه صاحبه من الوزر.
والذي ذكر من تفضيل الكلام ما ينطق به القرآن، وجاءت فيه الروايات عن الثقات، في الأحاديث المنقولات، والأقاصيص المرويات، والسمر والحكايات، وما تكلمت به الخطباء ونطقت فيه البلغاء أكثر من أن يبلغ آخرها، ويدرك أولها، ولكن قد ذكرت من ذلك على قدر الكفاية، ومن الله التوفيق والهداية.
ولم نر الصمت - أسعدك الله - أحمد في موضع إلا وكان الكلام فيه أحمد، لتسارع الناس إلى تفضيل الكلام، لظهور علته، ووضوح جليته، ومغبة نفعه.
وقد ذكر الله جل وعز في قصة إبراهيم عليه السلام حين كسر الأصنام وجعلها جذاذاً، فقال حكاية عنهم: " قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم. قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون " . فكان كلامه سبباً لنجاته، وعلة لخلاصه، وكان كلامه عند ذلك أحمد من صمت غيره في مثل ذلك الموضع، لأنه عليه السلام لو سكت عند سؤالهم إياه لم يكن سكوته إلا على بصر وعلم، وإنما تكلم لأنه رأى الكلام أفضل، وأن من تكلم فأحسن قدر أن يسكت فيحسن، وليس من سكت فأحسن قدر أن يتكلم فيحسن.
واعلم - حفظك الله - أن الكلام سبب لإيجاب الفضل، وهداية إلى معرفة أهل الطول.
ولولا الكلام لم يكن يعرف الفاضل من المفضول، في معان كثيرة، لقول الله عز وجل، في بيان يوسف عليه السلام وكلامه عند عزيز مصر، لما كلمه فقال: " إنك اليوم لدينا مكين أمين " . فلو لم يكن يوسف عليه السلام أظهر فضله بالكلام، والإفصاح بالبيان، مع محاسنه المونقة، وأخلاقه الطاهرة، وطبائعه الشريفة، لما عرف العزيز فضله، ولا بلغ تلك المنزلة لديه، ولا حل ذلك المحل منه، ولا صار عنده بموضع الأمانة، ولكان في عداد غيره ومنزلة سواه عند العزيز. ولكن الله جعل كلامه سبباً لرفع منزلته، وعلو مرتبته، وعلة لمعرفة فضيلته، ووسيلة لتفضيل العزيز إياه.
ولم أر للصمت فضيلة في معنى ولا للسكوت منقبة في شيء إلا وفضيلة الكلام فيها أكثر، ونصيب المنطق عندها أوفر، واللفظ بها أشهر. وكفى بالكلام فضلاً، وبالمنطق منقبة، أن جعل الله الكلام سبيل تهليله وتحميده، والدال على معالم دينه وشرائع إيمانه، والدليل إلى رضوانه. ولم يرض من أحد من خلقه إيماناً إلا بالإقرار، وجعل مسلكه اللسان، ومجراه فيه البيان، وصيره المعبر عما يضمره والمبين عما يخبره، والمنبىء عن ما لا يستطيع بيانه إلا به. وهو ترجمان القلب. والقلب وعاء واع.
ولم يحمد الصمت من أحد إلا توقياً لعجزه عن إدراك الحق والصواب في إصابة المعنى. وإنما قاتل النبي صلى الله عليه وسلم المشركين عند جهلهم الله تعالى وإنكارهم إياه، ليقروا به، فإذا فعلوه حقنت دماؤهم، وحرمت أموالهم، ورعيت ذمتهم. ولو أنهم سكتوا ضناً بدينهم لم يكن سبيلهم إلا العطب.
فاعلم أن الكلام من أسباب الخير لا من أسباب الشر.
والكلام - أبقاك الله - سبيل التمييز بين الناس والبهائم،
وسبب المعرفة لفضل الآدميين على سائر الحيوان، قال الله عز وجل: " ولقد كرمنا بني
آدم وحملناهم في البر والبحر " . كرمهم باللسان وجملهم بالتدبر.
ولو لم يكن الكلام لما استوجب أحد النعمة، ولا أقام على أداء ما وجب عليه من الشكر سبباً للزيادة، وعلة لامتحان قلوب العباد. والشكر بالإظهار في القول، والإبانة باللسان. ولا يعرف الشكر إلا بهما. والله تعالى يقول: " لئن شكرتم لأزيدنكم " ، فجعل الشكر علة لوجوب الزيادة، عند إظهاره بالقول، والحمد مفتاحاً للنعمة.
وقد جاء في بعض الآثار: لو أن رجلاً ذكر الله تعالى وآخر يسمع له كان المعدود للمستمع من الأجر، والمذكور له من الثواب واحداً وللمتكلم به عشرة أو أكثر.
فهل ترى - أبقاك الله - أنه وجب لصاحب العشر ذلك وفضل به على صاحبه إلا عند استعماله بالنطق به لسانه. ولم يلزم الصمت أحد إلا على حسب وقوع الجهل عليه.فأما إذا كان الرجل نبيها مميزاً، عالماً مفوها فالصمت مهجن لعلمه وساتر لفضله. كالقداحة لم يستبن نفعها دون تزنيدها. ولذلك قيل: " من جهل علماً عاداه " .فصل منها
ولم أجد الصامت مستعاناً به في شيء من المعاني، ولا مذكوراً في المحافل.
ولم يذكر الخطباء ولا قدمتهم الوفود عند الخلفاء إلا لما عرفوه من فضل لسانهم وفضيلة بيانهم. وإن أصح ما يوجد في المعقول، وأوضح ما يعد في المحصول للعرب من الفضل، فصاحتها وحسن منطقها، بعد فضائلها المذكورة، وأيامها المشهورة.
ولفضل الفصاحة وحسن البيان بعث الله تعالى أفضل أنبيائه وأكرم رسله من العرب، وجعل لسانه عربياً، وأنزل عليه قرآنه عربياً، كما قال الله تعالى: " بلسان عربي مبين " . فلم يخص اللسان بالبيان، ولم يحمد بالبرهان إلا عند وجود الفضل في الكلام، وحسن العبارة عند المنطق، وحلاوة اللفظ عند السمع.
واعلم أن الله تعالى لم يرسل رسولاً ولا بعث نبياً إلا من كان فضله في كلامه وبيانه كفضله على المبعوث إليه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم أفصح العرب لساناً، وأحسنهم بياناً، وأسهلهم مخارج للكلام وأكثرهم فوائد من المعاني؛ لأنه كان من جماهير العرب، مولده في بني هاشم، وأخواله من بني زهرة، ورضاعه في بني سعد بن بكر، ومنشؤه في قريش، ومتزوجه في بني أسد بن عبد العزى، ومهاجره إلى بني عمرو، وهم الأوس والخزرج من الأنصار. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أنا أفصح العرب بيد أني من قريش، ونشأت في بني سعد بن بكر " .
ولو لم يكن مما عددنا من هؤلاء الأحياء إلا قريش وحدها لكان فيها مستغنىً عن غيرها، وكفاية عن من سواها، لأن قريشاً أفصح العرب لساناً وأفضلها بياناً، وأحضرها جواباً، وأحسنها بديهة، وأجمعها عند الكلام قلبا.
ثم للعرب أيضاً خصال كثيرة، ومشاهد كثيرة، مما يشاكل هذا الباب، ويضارع هذا المثال، حذفت ذكرها خوف التطويل فيها.
فصل منها
فهذه كلها دلائل على دحض حجتك ونقض قضيتك. وإنما أرسل الله تعالى رسله مبشرين ومنذرين الأمم، وأمرهم بالإبلاغ ليلزمهم الحجة بالكلام لا بالصمت، إذ لا يكون للرسالة بلاغ ولا للحجة لزوم ولا للعلة ظهور إلا بالنطق.
فصل منها في صفة من يقدر على الإبانة
وليس يقوى على ذلك إلا امرؤ في طبيعته فضل عن احتمال نحيزته وفي قريحته زيادة من القوة على صناعته، ويكون حظه من الاقتدار في المنطق فوق قسطه من التغلب في الكلام، حتى لا يضع اللفظ الحر النبيل إلا على مثله من المعنى، ولا اللفظ الشريف الفخم إلا على مثله من المعنى. نعم، وحتى يعطي اللفظ حقه من البيان، ويوفر على الحديث قسطه من الصواب، ويجزل للكلام حظه من المعنى، ويضع جميعها مواضعها، ويصفها بصفتها، ويوفر عليها حقوقها من الإعراب والإفصاح.
فصل منها
وبعد، فأي شيء أشهر منقبة وأرفع درجة وأكمل فضلاً، وأظهر نفعاً، وأعظم حرمة، من شيء لولا مكانه لم يثبت لله ربوبية ولا لنبي حجة، ولم يفصل بين حجة وشبهة، وبين الدليل وما يتجلى في صورة الدليل.
ثم به يعرف فضل الجماعة من الفرقة، والشبهة من البدعة، والشذوذ من الاستفاضة.
والكلام سبب لتعرف حقائق الأديان، والقياس في تثبيت الربوبية وتصديق الرسالة، والامتحان للتعديل والتجوير والاضطرار والاختيار.
ولو لم يكن الكلام لما استوجب أحد النعمة، ولا أقام على أداء ما وجب عليه من الشكر سبباً للزيادة، وعلة لامتحان قلوب العباد. والشكر بالإظهار في القول، والإبانة باللسان. ولا يعرف الشكر إلا بهما. والله تعالى يقول: " لئن شكرتم لأزيدنكم " ، فجعل الشكر علة لوجوب الزيادة، عند إظهاره بالقول، والحمد مفتاحاً للنعمة.
وقد جاء في بعض الآثار: لو أن رجلاً ذكر الله تعالى وآخر يسمع له كان المعدود للمستمع من الأجر، والمذكور له من الثواب واحداً وللمتكلم به عشرة أو أكثر.
فهل ترى - أبقاك الله - أنه وجب لصاحب العشر ذلك وفضل به على صاحبه إلا عند استعماله بالنطق به لسانه. ولم يلزم الصمت أحد إلا على حسب وقوع الجهل عليه.فأما إذا كان الرجل نبيها مميزاً، عالماً مفوها فالصمت مهجن لعلمه وساتر لفضله. كالقداحة لم يستبن نفعها دون تزنيدها. ولذلك قيل: " من جهل علماً عاداه " .فصل منها
ولم أجد الصامت مستعاناً به في شيء من المعاني، ولا مذكوراً في المحافل.
ولم يذكر الخطباء ولا قدمتهم الوفود عند الخلفاء إلا لما عرفوه من فضل لسانهم وفضيلة بيانهم. وإن أصح ما يوجد في المعقول، وأوضح ما يعد في المحصول للعرب من الفضل، فصاحتها وحسن منطقها، بعد فضائلها المذكورة، وأيامها المشهورة.
ولفضل الفصاحة وحسن البيان بعث الله تعالى أفضل أنبيائه وأكرم رسله من العرب، وجعل لسانه عربياً، وأنزل عليه قرآنه عربياً، كما قال الله تعالى: " بلسان عربي مبين " . فلم يخص اللسان بالبيان، ولم يحمد بالبرهان إلا عند وجود الفضل في الكلام، وحسن العبارة عند المنطق، وحلاوة اللفظ عند السمع.
واعلم أن الله تعالى لم يرسل رسولاً ولا بعث نبياً إلا من كان فضله في كلامه وبيانه كفضله على المبعوث إليه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم أفصح العرب لساناً، وأحسنهم بياناً، وأسهلهم مخارج للكلام وأكثرهم فوائد من المعاني؛ لأنه كان من جماهير العرب، مولده في بني هاشم، وأخواله من بني زهرة، ورضاعه في بني سعد بن بكر، ومنشؤه في قريش، ومتزوجه في بني أسد بن عبد العزى، ومهاجره إلى بني عمرو، وهم الأوس والخزرج من الأنصار. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أنا أفصح العرب بيد أني من قريش، ونشأت في بني سعد بن بكر " .
ولو لم يكن مما عددنا من هؤلاء الأحياء إلا قريش وحدها لكان فيها مستغنىً عن غيرها، وكفاية عن من سواها، لأن قريشاً أفصح العرب لساناً وأفضلها بياناً، وأحضرها جواباً، وأحسنها بديهة، وأجمعها عند الكلام قلبا.
ثم للعرب أيضاً خصال كثيرة، ومشاهد كثيرة، مما يشاكل هذا الباب، ويضارع هذا المثال، حذفت ذكرها خوف التطويل فيها.
فصل منها
فهذه كلها دلائل على دحض حجتك ونقض قضيتك. وإنما أرسل الله تعالى رسله مبشرين ومنذرين الأمم، وأمرهم بالإبلاغ ليلزمهم الحجة بالكلام لا بالصمت، إذ لا يكون للرسالة بلاغ ولا للحجة لزوم ولا للعلة ظهور إلا بالنطق.
فصل منها في صفة من يقدر على الإبانة
وليس يقوى على ذلك إلا امرؤ في طبيعته فضل عن احتمال نحيزته وفي قريحته زيادة من القوة على صناعته، ويكون حظه من الاقتدار في المنطق فوق قسطه من التغلب في الكلام، حتى لا يضع اللفظ الحر النبيل إلا على مثله من المعنى، ولا اللفظ الشريف الفخم إلا على مثله من المعنى. نعم، وحتى يعطي اللفظ حقه من البيان، ويوفر على الحديث قسطه من الصواب، ويجزل للكلام حظه من المعنى، ويضع جميعها مواضعها، ويصفها بصفتها، ويوفر عليها حقوقها من الإعراب والإفصاح.
فصل منها
وبعد، فأي شيء أشهر منقبة وأرفع درجة وأكمل فضلاً، وأظهر نفعاً، وأعظم حرمة، من شيء لولا مكانه لم يثبت لله ربوبية ولا لنبي حجة، ولم يفصل بين حجة وشبهة، وبين الدليل وما يتجلى في صورة الدليل.
ثم به يعرف فضل الجماعة من الفرقة، والشبهة من البدعة، والشذوذ من الاستفاضة.
والكلام سبب لتعرف حقائق الأديان، والقياس في تثبيت الربوبية وتصديق الرسالة، والامتحان للتعديل والتجوير والاضطرار والاختيار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق