كتبهابلال عبد الهادي ، في 3 نيسان 2011 الساعة: 10:23 ص
أما بعد فإن جماعات أهل
الحكمة قالوا: واجب على كل حكيم أن يحسن الارتياد لموضع
البغية، وأن يتبين أسباب الأمور، ويمهد لعواقبها.فإنما حمدت العلماء بحسن التثبت في أوائل
الأمور، واستشفاقهم بعقولهم ما تجيء به العواقب، فيعلمون عند استقبالها ما تؤول به
الحالات في استدبارها.
وبقدر تفاوتهم في ذلك تستبين
فضائلهم.فأما معرفة الأمور عند تكشفها، وما يظهر من
خفياتها. فذلك أمر يعتدل فيه الفاضل والمفضول،
والعالم والجاهل.وإني قد عرفتك - أكرمك الله - في أيام الحداثة، وحيث سلطان الهوى المخلط
للأعراض أغلب على نظرائك، وسكر الشباب والجدة المتحيفين للدين والمروءة مستول على
لداتك، ففقتهم ببسطة المقدرة، وحميا الحداثة، وفضل الجدة، مع ما تقدمتهم به من
الوسامة في الصورة، والجمال في الهيئة.وهذه أسباب تكاد أن توجب الانقياد للهوى،
وتلجج في المهالك ولا يسلم معها إلا المنقطع القرين في صحة الفطرة، وكمال
العقل.فاستعبدتهم الشهوات حتى أعطوها أزمة
أديانهم، وسلطوها على مروءاتهم وأباحوها أعراضهم، فآلت بأكثرهم الحال إلى ذل العدم،
وفقد عز الغني في العاجل، مع الندامة الطويلة والحسرة في الآجل.
وخرجت نسيج وحدك أوحدياً في نفسك، حكمت وكيل
الله عندك - وهو عقلك - على هواك، وألقيت إليه أزمة أمرك، فسلك بك
طريق السلامة، وأسلمك إلى العاقبة المحمودة، وبلغ بك من نيل اللذات أكثر مما بلغوا،
ونال بك من الشهوات أكثر مما نالوا، وصرفك من صنوف النعم في أكثر مما تصرفوا، وربط
عليك من نعم الله التي خولك ما أطلقه من أيديهم إيثار اللهو، وتسليطهم الهوى على
أنفسهم فخاض بك تلك اللجج، واستنقذك من تلك المعاطب، فأخرجك سليم الدين، وافر
المروءة، نقي العرض، كثير الشراء، بين الجدة. وذلك سبيل من كان ميله إلى الله أكثر من
ميله إلى هواه.فلم أزل في أحوالك كلها تلك بفضيلتك عارفاً،
ولك بنعم الله عندك غابطاً، أرى ظواهر أمرك المحمودة تدعوني إلى الانقطاع إليك،
وأسأل عن بواطن أحوالك فيزيدني رغبة في الاتصال بك، ارتياداً مني لموضع الخيرة في
الأخوة، والتماساً لإصابة الاصطفاء في المودة، وتخيراً لمستودع الرجاء في
النائبة.فلما محصتك الخبرة، وكشف الابتلاء عن
المحمدة، وقضت لك التجارب بالتقدمة، وشهدت لك قلوب العامة بالقبول والمحبة، وقطع
الله عذر من كان يطلب الاتصال بك، طلبت الوسيلة إليك والاتصال بحبلك، ومتت بحرمة
الأدب وذمام كرمك.وكان من نعمة الله عندي أن جعل أبا عبد الله
- حفظه الله - وسيلتي إليك، فوجدت المطلب سهلاً، والمراد
محموداً، وأفضيت إلى ما يجوز الأمنية ويفوت الأمل. فوصلت إخاي بمودتك، وخلطتني بنفسك، وأسمتني
في مراعي ذوي الخاصة بك تفضلا لا مجازاة، وتطولاً لا مكافاة، فأمنت الخطوب، واعتليت
على الزمان، واتخذتك للأحداث عدة، ومن نوائب الدهر حصناً منيعاً.فلما جرت المؤانسة، وتقلبت من فضلك في صنوف
النعمة، وزاد تصرفي في مواهبك في السرور والحبرة، أردت خبرة المشاهدة فبلوت أخلاقك،
وامتحنت شيمك، وعجمت مذاهبك، على حين غفلاتك، وفي الأوقات التي يقل فيها تحفظك،
أراعي حركاتك، وأراقب مخارج أمرك ونهيك، فأرى من استصغارك لعظيم النعمة التي تنعم
بها، واستكثارك لقليل الشكر من شاكريك، ما أعرف به وبما قد بلوت من غيرك وما قد
شهدت لي به عليك التجارب، أن ذلك منك طبع غير تكلف.هيهات ما يكاد ذو التكلف أن يخفى على أهل
الغباوة، فكيف على مثلي من المتصفحين؟
فصل منه
ولم أزل - أبقاك الله - بالموضع الذي عرفت من جمع الكتب ودراستها
والنظر فيها. ومعلوم أن طول دراستها إنما هو تصفح عقول
العالمين، والعلم بأخلاق النبيين - صلوات الله تعالى عليهم أجمعين - وذوي الحكمة من الماضين والباقين من جميع
الأمم، وكتب أهل الملل.فرأيت أن أجمع لك كتاباً من الأدب، جامعاً
لعلم كثير من أمر المعاد والمعاش، أصف لك فيه علل الأشياء، وأخبرك بأسبابها، وما
اتفقت عليه محاسن الأمم.
وعلمت أن ذلك من أعظم ما أبرك
به، وأرجح ما أتقرب به إليك.وكان الذي حداني إلى ذلك ما رأيت الله تعالى
قسم لك من العقل والفهم، وركب فيك من الطبع الكريم.وقد اجتمعت الحكماء على أن العقل المطبوع
والكرم الغريزي، لا يبلغان غاية الكمال إلا بمعاونة العقل المكتسب، ومثلوا ذلك
بالنار والحطب، والمصباح والدهن، وذلك أن العقل الغريزي آلة والمكتسب مادة، وإنما
الأدب عقل غيرك تزيده في عقلك.ورأيت كثيراً من واضعي الأدب قبلي، قد عهدوا
إلى الغابرين بعدهم في الآداب عهوداً قاربوا فيها الحق، وأحسنوا فيها
الدلالة. إلا أني رأيت أكثر ما رسموا من ذلك فروعاً
لم يبينوا عللها، وصفات حسنة لم يكشفوا أسبابها، وأموراً محمودة لم يدلوا على
أصولها.فإن كان ما فعلوا من ذلك روايات رووها عن
أسلافهم، ووراثات ورثوها عن أكابرهم فقد قاموا بأداء الأمانة، ولم يبلغوا فضيلة من
طب لمن استطب، وإن كانوا تركوا الدلالة على علل الأمور، التي بمعرفة عللها يوصل إلى
مباشرة اليقين فيها، وينتهى إلى غاية الاستبصار منها، فلم يعدوا في ذلك منزلة الظن
بها.ولم تجد وصايا أنبياء الله تعالى أبداً إلا
مبينة بالأسباب، مكشوفة العلل، مضروبة معها الأمثال.
فصل منه
ولن أدع من تلك المواضع الخفية موضعاً إلا
أقمت لك بها بإزاء كل شبهة منه دليلاً، ومع كل خفي من الحق حجة ظاهرة، تستنبط بها
غوامض البرهان، وتستثير بها دفائن الصواب، وتستشف بها سرائر القلوب، فتأتي بما تأتي
عن بينة، وتدع ما تدع عن خبرة، ولا يكون بك وحشة إلى معرفة كثير ما يغيب عنك إذا
عرفت العلل والأسباب، حتى كأنك مشاهد لضمير كل امرىء لمعرفتك بطبعه وما ركب
عليه.
فصل منه
اعلم أنك إذا أهملت ما
وصفت لك عرضت تدبيرك إلى الاختلاط، وإن آثرت الهوينى، واتكلت على الكفاية في الأمر
الذي لا يجوز فيه إلا نظرك، وزجيت أمرك على رأي مدخول، وأصل غير محكم، رجع ذلك عليك
بما لو حكم فيه عدوك كان ذلك غاية أمنيته وشفاء غيظه.واعلم أن إجراءك الأمور مجاريها، واستعمالك
الأشياء على وجوهها، يجمع لك ألفة القلوب، فيعاملك كل من عاملك بمودة، وأخذ وإعطاء،
وهو على ثقة من بصرك بمواضع الإنصاف، وعلمك بموارد الأمور.
فصل منه
فإن ابتليت في بعض
الأوقات بمن يتقرب بحرمة، ويمت بدالة، يطلب المكافأة بأكثر مما يستوجب، فدعاك الكرم
والحياء إلى تفضيله على من هو أحق به، إما خوفاً من لسانه، أو مداراة لغيره، فلا
تدع الاعتذار إلى من هو فوقه من أهل البلاء والنصيحة وإظهار ما أردت من ذلك لهم؛
فإن أهل خاصتك والمؤتمنين على أسرارك، هم شركاؤك في العيش، فلا تستهينن بشيء من
أمورهم، فإن الرجل قد يترك الشيء من ذلك اتكالاً على حسن رأي أخيه، فلا يزال ذلك
يجرح في القلب وينمو، حتى يولد ضغناً ويحول عداوة.فتحفظ من هذا الباب، واحمل إخوانك عليه
بجهدك.وستجد من يتصل بك ممن يغلبه إفراط الحرص،
وحميا الشره، ولين جانبك له، على أن ينقم العافية، ويطلب اللحوق بمنازل من ليس
مثله، ولا له مثل دالته، فتلقاه لما تصنع به مستقلاً. ولمعروفك مستصغرا.وصلاح من كانت هذه حاله بخلاف ما فسد عليه
أمره.فاعرف طرائفهم وشيمهم، وداو كل من لا بد لك
من معاشرته، بالدواء الذي هو أنجع فيه، إن ليناً فليناً، وإن شدة فشدة، فقد قيل في
مثل:من لا يؤدبه الجمي … ل ففي عقوبته صلاحه
فصل منه
واعلم أن المقادير ربما
جرت بخلاف ما تقدر الحكماء، فينال بها الجاهل في نفسه، المختلط في تدبيره، ما لا
ينال الحازم الأريب الحذر، فلا يدعونك ما ترى من ذلك إلى التضييع والاتكال على مثل
تلك الحال؛ فإن الحكماء قد اجتمعت على أن من أخذ بالحزم وقدم الحذر، فجاءت المقادير
خلاف ما قدر، كان عندهم أحمد رأياً، وأوجب عذراً ممن عمل بالتفريط، وإن اتفقت له
الأمور على ما أراد.ولا تكونن بشيء مما في يدك أشد ضناً، ولا
عليه أشد حدباً منك بالأخ الذي قد بلوته بالسراء والضراء فعرفت مذاهبه، وخبرت شيمه،
وصح لك غيبه، وسلمت لك ناحيته، فإنه شقيق روحك، وباب الروح إلى حياتك، ومستمد رأيك
وتوأم عقلك.ولست منتفعاً بعيش مع الوحدة، ولا بد من
المؤانسة.وكثرة الاستبدال يهجم بصاحبه على
المكروه.فإن صفا لك أخ فكن به أشد ضناً منك بنفائس
أموالك، ثم لا يزهدنك فيه أن ترى خلقاً أو خلقين تكرههما، فإن نفسك التي هي أخص
النفوس بك لا تعطيك المقادة في كل ما تريد، فكيف بنفس غيرك.وبحسبك أن يكون لك من أخيك
أكثره. وقد قالت الحكماء: " من لك بأخيك كله " . و: " أي الرجال المهذب " .
فصل منه
واعلم أنك موسوم بسيما
من قارنت، ومنسوب إليك أفاعيل من صاحبت. فتحرز من دخلاء السوء، وأظهر مجانبة أهل
الريب، وقد جرت لك في ذلك الأمثال، وسطرت فيه الأقاويل، فقالوا: " المرء حيث يجعل نفسه " .وقالوا: " يظن بالمرء ما يظن بقرينه " .وقالوا: " المرء بشكله " ، و " المرء بأليفه " .ولن تقدر أن تتحرز من الناس، ولكن أقل
المؤانسة إلا بأهل البراءة من كل دنس.واعلم أن المرء بقدر ما يسبق إليه يعرف،
وبالمستفيض من أفعاله يوصف.
فإن كان بين ذلك كثير من
أخلاقه ألغاه الناس، وحكموا عليه بالغالب من أمره.فاجهد أن يكون أغلب الأشياء على أفعالك كل
ما يحمده العوام ولا تذمه الجماعات، فإن ذلك يعفي على كل خلل إن كان.فبادر ألسنة الناس واشغلها بمحاسنك، فإنهم
إلى كل سيىء سراع، واستظهر على من دونك بالتفضل، وعلى نظائرك بالإنصاف، وعلى كل من
فوقك بالإجلال، تأخذ بوثائق الأمور وبأزمة التدبير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق