الجمعة، 8 فبراير 2013

الكناية من كتاب ابن فارس الصاحبيّ

الكناية
الكناية لها بابان:

الباب الأول من الكناية


أن يُكنى عن الشيء فيذكر بغير اسمه تحسيناً للفظ أو إكراماً للمذكور، وذلك كقوله جلّ ثناؤه: "وقالوا لجلودهم: لِمَ شَهدْتم علينا?" قالوا: إن الجلود في هذا الموضع كناية عن آراب الإنسان. وكذلك قوله جلّ ثناؤه: "ولكن لا تواعِدُوهنَّ سِرّاً" إنه النكاح. كذلك: "أو جاء أحد منكم من الغائِط" والغائط: مطمَئِن من الأرض. كل هذا تحسين اللفظ والله جلّ ثناؤه كريم يكُنِي كما قال في قصة عيسى وأمه عليهما السلام: "ما المسيح بنُ مريمَ إلا رسولٌ قد خَلَت من قبله الرُّسلُ، وأُمّه صِدّيِقة، كانا يأكلان الطّعامَ" كنايةٌ عما لا بدّ لآكل الطعام منه.
الكنايةُ التي للتبجيل قولهم: أبو فلان صيانة لاسمه عن الابتذال.
والكُنى مما كان للعرب خصوصاً. ثم تشبَّه غيرهم بهم في ذَلِكَ.


الباب الثاني من الكناية


الاسم يكون ظاهراً مثل: زيد. وعمرْو. ويكون مَكْنّياً وبعض النحويين يسميه مضمَراً، وذلك مثل هو. وهي. وهما. وهنَّ.
وزعم بعضُ أهل العربية أن أول أحوال الاسم الكناية، ثم يكون ظاهراً. قال: وذلك أن أوّل حال المتكلم أن يخبر عن نفسه ومخاطَبِهِ فيقول: أنا. وأنت وهذان لا ظاهر لهما. وسائر الأسماء تظهر مرة ويكنْى عنها مرة.
والكناية متصلة منفصلة ومسْتجِنَّة. فالمتصلة التاء في حملتُ. وقمتُ" والمنفصلة قولنا: إياهُ أردْتُ. والمستجنَّة قولنا: قام زيدٌ فإذا كَنَيْنا عنه قلنا قام فَتَسَتَّر الاسم في الفعل.
وربما كني عن الشيء لم يجر له ذكر، في مثل قوله جلّ ثناؤه: "يؤفَك عنه" أي يؤفك عن الدين أو عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. قال أهل العلم: وإنما جاز هذا لأنه قد جرى الذّكر في القرآن. قال حاتم:





أمَاويَّ ما يُغني الثَّراءُ عن الفـتـى إذا حَشرَجَتْ يوماً وضاقَ بها الصدْرُ

فكنى عن النفس فقال حشرجت.
ويقولون:


إذا اغُبرَّ أُفْقٌ وهَبَّتْ شَمالاً

أضمرَ الريح ولم يجرِ لها ذكر.
ويكنى عن الشيئين والثالثة بكناية الواحد. فيقولون: هو أنْتَنُ الناس وأخْبَثُه وهذا لا يكون إلا فيما يقال هو أفعل، قال الشاعر:


شَرُّ يومَيها وأشقاهُ لهـا رَكِبتْ عَنزٌ بِحمْلٍ جَملا

ولم يقل: أشقاهما وتكون الكناية متصلة باسم وهي لغيره، كقوله جلّ ثناؤه: "ولقد خلقنا الإنسان من سُلالَة من طين" - فهذا آدم عليه السلام ثم قال - "جعلناه نُطْفة" فهذا لِوَلده لأن آدم لم يُخلق من نُطفة. ومن هذا الباب قوله جلّ ثناؤه: "لا تَسْأَلوا عن أشياءَ إنْ تُبدَ لكم تَسؤْكم" قيل: إنها نزلت في ابن حُذَافَة حين قال للنبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: من أبي? فقال: حُذافة. وكان يَسبُّ به فساؤَهُ ذلك، فنزلت: "لا تسألوا عن أشياء إن تُبدَ لكم تسؤكُم". وقيل: نزلت في الحج حين قال القائل: أفي كلّ عام مرةً? ثم قال: "وإن تَسألوا عنها" يريد أن تسألوا عن أشياء أُخرَ من أمر دينكم وديناكم بكم إلى علمها حاجة تبد لكم ثم قال: "قد سألها" فهذه الهاء من غير الكنايتين لأن معناها: قد طلبها، والسؤال ها هنا طلب، وكذلك كقول عيسى عليه السلام حين سألوه المائدةَ، وكقول موسى عليه السلام حين قالوا: "أرِنا الله جَهرَة" فالسؤال ها هنا طلب والكناية مُبتدأةٌ.
وربما كُني عن الجَماعة كناية والحد كقوله جلّ ثناؤه: "قُلْ أرأيْتم إنْ أخذَ اللهُ سمعَكم وأبصاركم وخَتَم على قلوبكم مَنْ إله غيرُ الله يَأيتكم به?" أراد والله أعلم: بهذا الذي تقدّم ذكره.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق