كتبهابلال عبد الهادي ، في 22 كانون الأول 2011 الساعة: 09:57 ص
النوع التاسع والثلاثون معرفة الملاحن والألغاز
وفتيا فقيه العرب
والثلاثة متقاربة،
وفي النوع ثلاثة فصول
الفصل الأول في الملاحن
وقد ألف في ذلك ابن دُريد تأليفاً لطيفاً وألّف فيه أيضاً.وقد كانت العرب تتعمَّد ذلك وتقصده إذا أرادت التَّوْرية أو التعمية.
قال القالي في أماليه: قرأتُ على أبي عمر المطَرِّز قال: حدثني أحمد بن يحيى، عن ابن الأعرابي قال: أَسَرَت طيئ رجلاً شابّاً من العرب، فقدم أبوه وعمُّه ليَفْدياه، فاشتطُّوا عليهما في الفداء، فأعطيا لهم به عطيَّة لم يَرْضوْها، فقال أبوه: لا والذي جعل الفَرْقَدين يُمْسِيان ويُصْبحان على جَبَلي طَيّئ لا أزيدكم على ما أعطيتكم، ثم انصرفا.
فقال الأب للعم: لقد ألقيتُ إلى ابني كُلَيمة، لئن كان فيه خير لَيَنْجُونَّ، فما لبث أن نجا وأطْرَد قِطعة من إبلهم. فكأن أباه قال له: الزم الفَرْقدين على جبلي طيئ فإنهما طالعان عليهما وهما لا يغيبان عنه.
قال ابن دريد في كتاب الملاحن: هذا كتاب ألّفناه ليفزع إليه المجبَرُ، المُضْطََهد على اليمين، المُكْرَه عليها؛ فيعارِض بما رسمناه، ويضمر خلافَ ما يظهر، ليَسْلَم من عادية الظالم، ويتخلَّص من جَنف الغاشم، وسمّيناه الملاحن واشتَقَقْنَا له هذا الاسم من اللغة العربية الفصيحة التي لا يشوبُها الكدَر، ولا يستولي عليها التكلّف.
قال أبو بكر: معنى قولنا الملاحن، لأنّ اللحن عند العرب: الفِطْنة، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: لعلَّ أحدَكم أن يكون ألحنَ بحجته من بعض، أي أفطن لها وأغوص عليها؛ وذلك أن أصل اللحن أن تريد شيئاً فتورّي عنه بقولٍ آخر كقول العنبري وقد كان أسيراً في بكر بن وائل، حين سألهم رسولاً إلى قومه، فقالوا له: لا تُرْسل إلاَّ بحضرتنا؛ لأنهم كانوا قد أزمعوا غَزْوَ قومه؛ فخافوا أن يُنْذرهم، فجيء بعبدٍ أسود، فقال له: أتعقلُ? قال: نعم، إني لعاقل. قال: ما أراك كذلك. فقال: بلى، فقال: ما هذا? - وأشار بيده إلى الليل - فقال: هذا الليل، قال: ما أراك عاقلاً. ثم ملأ كفّيه من الرمل، فقال: كم هذا? فقال: لا أدري، وإنه لكثير، قال: أيما أكثر النجوم أم التراب? قال: كلٌّ كثير. قال: أبلغ قومي التّحية، وقل لهم: لِيُكْرِموا فلاناً - يعني أسيراً كان في أيديهم من بكر، فإن قومَه لي مكرمون، وقل لهم: إنَّ العَرْفَج قد أدْبى، وقد شكّتِ النساء، وأمْرُهم أن يُعْروا ناقتي الحمراء، فقد أطالوا ركوبها، وأن يركبوا جملي الأصْهب، بآية ما أكلتُ معكم حَيْساً، واسْألوا الحارث عن خَبرِي.
فلما أدّى العبدُ الرسالةَ قالوا: لقد جُنَّ الأعور، واللّه ما نعرف له ناقةً حمراء، ولا جملاً أصْهب؛ ثم سرَّحوا العبد، ودعُوا الحارث فقصّوا عليه القصة؛ فقال: قد أنذركم؛ أما قوله: قد أدْبى العَرْفج: يريد أن الرجال قد اسْتَلأَموا ولبسوا السلاح، وقوله: شَكَّت النساء، أي اتخذن الشّكاء للسفر، وقوله: الناقة الحمراء، أي ارتحلوا عن الدَّهْناء واركبوا الصَّمَّان وهو الجمل الأصهب، وقوله: آية ما أكلت معكم حَيْساً، يريد أن أخلاطاً من الناس قد غَزْوكم؛ لأن الحَيْس يجمع التمر والسمن والأَقِط.
فامتثلوا ما قال، وعرفوا لَحْن كلامه، وأخذا هذا المعنى أيضاً رجل كان أسيراً في بني تميم، فكتب إلى قومه شعراً:
حُلُّوا عن الناقة الحمراء أرحُـلَـكـم | والبازِلَ الأصهَب المعقول فاصْطَنِعُوا | |
إن الذِّئَابَ قد اخضَرَّت بَـرَاثِـنُـهـا | والناسُ كلُّهم بـكْـرٌ إذا شَـبِـعُـوا |
وقال أبو عبيدة في كتاب أيام العرب: أخبرنا فراس بن خندف قال: جَمَعت اللَّهازِم لتُغيرَ على بني تميم وهم غارّون، فرأى ذلك ناشب الأعور بن بشامة العَنْبري، وهو أسيرٌ في بني سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة، فقال لهم: أَعْطُوني رسولاً أُرْسِله إلى أهلي أُوصيهم في بعض حاجتي، وكانوا اشتروه من بني أبي ربيعة، فقالت بنو سعد: تُرْسله ونحنُ حضور؛ وذلك مخافة أن يُنْذِر قومَه، فقال: نعم. فأرسلوا له غلاماً مولّداً لهم. فقال لهم لما أتوه به: أتيتموني بأحمق، فقال الغلام: واللّه ما أنا بأحمق، فقال الأعور: إني أراك مجنوناً، قال: ما أنا بمجنون، قال: فالنّيران أكْثر أم الكواكب? قال: الكواكب، وكلٌّ كثير.
وقال آخر: إنه قال له: واللّه ما أنا بأحمَق، فقال الأعور: إن لك لَعَينَي أحمق، وما أراك مبلِّغاً عني! قال بلى لعمري لأُبَلِّغَنّ عنك، فملأ الأَعور كفّه من الرمل. فقال: كم في كفّي? قال: لا أدري وإنه لكثير لا أُحْصيه، فأومأ إلى الشمس بيديه فقال: ما تِلك? قال: الشمس. قال: ما أراك إلا عاقلاً شريفاً، اذْهب إلى أهلي فأبْلغهم عني التحيّة وقل لهم: لِيُحْسنوا إلى أسيرهم ويُكْرموه، فإني عند قوم محسنين إليّ مكرمين لي، وقل لهم: فَلْيعروا جملي الأحمر، ويركبوا ناقتي العَيْساء، وليرعوا حاجتي في بني مالك، وأخْبِرهم أن العَوْسَج قد أوْرَق، وأن النساء قد اشتكت، وليعصوا همَّام بن بشامة فإنه مشؤوم مَحْدود، وليطيعوا هُذَيل بن الأخنَس، فإنه حازم ميمون.
فقال له بنو قيس: ومن بنوا مالك هؤلاء? قال: بنو أخي. وكره أن يعلَم القوم.
وزعم سليمان بن مزاحم أنه قال: وإذا أتيتَ أمّ قدامة فقل لها: إنكم قد أسأتم إلى جملي الأحمر وأنْهَكْتُموه ركوباً فاعْفوه، وعليكم بناقتي الصَّهباء العافية فاقْتَعدوها.
فلما أتاهم الرسول فأبلغهم لم يَدْر عمرو بن تميم ما الذي أرسل به الأعور، وقالوا: ما نعرف هذا الكلام، ولقد جُنّ الأعور بَعدنا! فقال هذيل للرسول: اقتص عليّ أول قصته، فقصّ عليه أول ما كلمه به الأعور وما رجعه إليه، حتى أتى على آخره، قال هذيل: أبْلِغه التحية إذا أتيته، وأخبره أنّا نَسْتَوْصي بما أوْصى به. فشخص الرسول، فنادى هذيل بَلْعَنبر فقال: قد بيّن لكم صاحبُكم: أما الرملُ الذي جَعلَ في يده فإنه يُخبركم أنه قد أتاكم عددٌ لا يُحصى، وأما الشمسُ التي قد أومَأ إليها فإنه يقول: ذلك أوضح من الشمس، وأما جَملُه الأحمر فهو الصمّان، وأما ناقته العَيْساء أو قال الصهباء فهي الدَّهناء يأمركم أن تتحرَّزوا فيها، وأما بَنو مالك فإنه يأمركم أن تُنْذِروهم ما حذَّركم وأن تُمسكوا بحِلْف ما بينكم وما بينهم، وأما إيراق العَوْسج فإنَّ القوم قد اكتسوا سلاحاً، وأما اشتكاء النّساء فإنه يُخبركم أنهن قد عملن لهم عِجَلاً يَغْزُونَ بها، والعِجَلَ: الرِّوايا الصَّغار.
وقال ابن دريد في الجمهرة والقالي في أماليه: قال صبيٌّ لأمه - وعندها أُمُّ خِطْبه: يا أمّاه: أَأَدَّوِي? فقالت: اللّجَام مُعلَّقٌ بعمود البيت! تورّي بذلك لئلا يستصغر، وتُرِي القوم أنه إنما سألها عن اللّجام، وأنه صاحب خَيْلٍ وركوب، وهو إنما قَصَد أخْذَ الدُِّواية، وهي الجِلْدَة الرقيقة التي تَرْكَبُ اللبن، يقال: دَوَّى اللبن يدوّي، وأقبل الصبْيان على اللبن يدَّوُونه، أي يأخذون ما عليه من الجِلد.
ذكر أمثلة من ذلك: قال ابن دريد تقول: واللّه ما سألت فلاناً في حاجةٍ قطّ، والحاجة: ضربٌ من الشَّجر له شوك، والجمع حاج.
وما رَأيتُه: أي ما ضَرَبْتُ رِئته.
ولا كلَّمته: أي جَرَحته، وما بطنتُ فلاناً، أي ضربت بطنه.
ولا أعْلمته: أي ما جعلْتُه أعلم، أي ما شققت شَفته العليا.
ولا أخذتُ منه خُفّاً ولا نعْلاً، فالخَفّ من أخفاف الإبل، والنعل: القطعة الغليظة من الأرض.
وتقول: واللّه ما أملك كَلْباً وهو المسمار في قائم السيف.
ولا فَهْداً: وهو المِسمار في وَسَط الرَّحْل، ولا جارية وهي السفينة.
ولا شَعِيرة: وهي رأس المسمار من الفضة.
ولا صَقْراً: وهو دِبْس الرطب.
ولا كسرت له سِنّاً: وهي قطعة من العشب تتفرّق في الأرض.
ولا ضِرْساً: وهي قطعة من المطر تقعُ مُتَفرِّقة في الأرض.
ولا خربت له رحى: وهو من الأضراس.
ولا لبست له جُبّة: وهي جُبة السنان، وهو الموضع الذي يدخل فيه رأس الرمح.
ولا كَتبْتُ من قولهم: كتبت الإدواة وغيرها إذا خرزتها.
ولا ظلمتُ فلاناً، أي ما سقيتُه ظليماً، وهو اللبن قبل أن يَروب.
ولا أعرف لفلان ليلاً ولا نهاراً، فالليل: ولدُ الكَرَوان، والنهار: ولد الحُبارى.
ولا حماراً، وهو أحدُ الحَجَرين اللذين تنصب عليهما العَلاة، وهي صَخْرَة رقيقة يجفّف عليها الأَقِط.
ولا أتَاناً، وهي الصَّخْرة تكون في بطن الوادي تسمى أتان الضَّحْل، والضَّحْل: الماء الذي تَبين منه الأرض.
ولا جَحْشَة، وهي الصوف الملفوف كالحَلْقة يجعلها الرجل في ذراعه ثم يغزِلها.
ولا دجاجة، وهي الكُبَّة من الغزل.
ولا فروجاً، وهي الدُّرَّاعة.
ولا بَقَرَة، وهي العيال الكثير.
ولا ثَوْراً، وهو القِطعة العظيمة من الأَقِط.
ولا عَنْزاً، وهي الأَكَمَة السوداء.
ولا سببت لفلان أُمّاً، وهي أمُّ الدماغ.
ولا جَدّاً، وهو الحظ.
ولا خالاً، وهو السّحاب الخليق للمطر.
ولا خالة، وهي الأكمة الصغيرة.
ولا ضربت له يداً، وهي واحدة الأيادي المصطنعة.
ولا رجْلاً، وهي القطعة العظيمة من الجَرَاد.
ولا أخْبَرْته؛ أي ما ذبحتُ له خُبْرَة: وهي شاةٌ يشتريها قوم يَقْتسمون بينهم.
ولا جلست له على حَصير: وهي اللَّحْمة المعترضة في جنب الفرس.
ولا أخذت له قَلوصاً: وهو فرخ الحبارى. ،ولا كرْماً، وهو القِلادة.
ولا رأيت سَعْداً: وهو النجم.
ولا سعيداً: وهو النَّهر يسقي الأرض منفرداً بها.
ولا جعفراً: وهو النهر الكبير.
ولا رَبيعاً: وهو حظّ الأرض من الماء في كل ربع ليلة أو ربع يوم.
ولا عَمراً: وهو واحد عُمور الأسنان.
ولا قَطَناً ولا أباناً: وهما جبلان معروفان.
ولا أوْساً ولا أُوَيْساً: وهما من أسماء الذئب.
ولا حَسَناً: وهو كثيبٌ معروف.
ولا سَهْلاً: وهو ضد الحزن، ولا سُهيلاً: وهو نجمٌ معروف.
وما وَطِئت لفلان أرضاً: وهو باطن حافر الفرس.
ولا أخذت له جراباً: وهو ما حول البئر من باطنها.
ولا بَيْضَة: وهي بَيضة الحديد.
ولا فَرْخاً: وهو فَرْخ الهامة، وهو مستقرّ الدماغ.
ولا عَسَلاً: وهو عَدْوٌ من عَدْوِ الذئب.
ولا خَلاًّ: وهو الطريق في الرمل.
وما عرفت لكم طَريقاً: وهو النخل الذي يُنال باليد.
ولا أحْبَبْت كذا من قولك: أحَبَّ البَعِيرُ إذا بَرَك فلم يَثرُ.
ولا أكْرَيْتُ: أي تأخَّرت.
ولا رأيت فلاناً راكعاً ولا ساجداً، فالراكع: العاثر الذي قد كَبا لوَجْهه، والساجد: المُدْمِن النظر في الأرض.
وما عند فلان نَبيذ: وهو الصبيُّ المنبوذ.
ولا أتلفت لفلان ثَمَرَة وهي طَرَف السوط.
وما رَوَيت هذا الحديثَ ولا دريته؛ فرَوَيْت: أي شَدَدت بالرِّواء وهو الحَبْل، ودَرَيته: أي خَتَلْتُه.
ولا أخذت لفلان جَوْزاً، وهو الوسط.
ولا مَسَسْت له خدّاً، وهو الأخدود في الأرض.
ولا كسرت له ظفْراً، وهو ما قدام معقد الوتر من القوس العربية.
ولا كسرت ساقَه، وهو الذَّكر من الحمام.
وما أنا بصاحب مَكْر، وهو ضرب من النبت.
ولا أخذت لفلان فَرْوة وهي جلدة الرأس.
ولا كشفت لفلانة قناعاً، ولا عرفت لها وجهاً، فالقناع: الطّبق، والوَجه: القصد.
وما لي مركوب، وهو ثنية في الحجاز معروفة.
وما لي في هذا الكتاب خَطَّ، وهو سِيف البحر.
وما لي فَرْش: وهو الصِّغار من الإبل.
وما رأيت لفلان بَطْناً ولا فخذاً، وهما من العرب.
وما لعبت: أي ما سال لُعابي.
وما جلست من قولهم: جلس فلانٌ إذا دخل الجَلْس، وهو نَجْدٌ وما والاه.
وما عرفت لفلانة بعلاً، وهو النخل المستبعل الذي يشرب ماء السماء.
ولا زوجاً: وهو النَّمَط طُرح على الهَوْدَج.
وما أبصرته: أي لم أقشر بُصْره، والبُصْر: قشر أعلى الجِلد.
وما لي حمل: وهو سمكة من سمك البحر.
وما طرقت فلاناً، أي لم أضْربْه بمطرقة. والمطرقة: العصا التي يضرب بها الصوف.
وما لي تين، وهو جبل معروف، قال النابغة الذبياني:
صُهبا فلما أَتَيَن التِّين عن عُرُض | يُزْجِين غَيْماً قليلاً ماؤه شبمـا |
وفيها: قالت امرأة لصاحبة لها: انشري وأبشري، أي انشري سُيُورك وشُدّي بها الهودج. فظنت أنها قالت لها: انشري وأَبْشري من البُشْرَى فأَسَرَت الهودج بسُيُوره ولم تبشرها فلما طلبت أجرتها قالت: إنّما أمرتك أن تبشري السيور.
وقال القالي في أماليه حدثنا أبو بكر بن الأنباري قال: قال أبو العباس ثعلب: ذكر أعرابيٌّ رجلاً فقال: ما له لَمَجَ أمَّه؛ فرفعوه إلى السلطان فقال: إنما قلت: مَلَجَ أمه. قال ثعلب: لمَجَها نكحها، ومَلَجها رضعها.
قال القالي: وقرأتُ على أبي عمر الزاهد، عن أبي العباس: عن ابن الأعرابي، قال: اختصَم شيخان غنوي وباهلي: فقال أحدهما لصاحبه: الكاذب مَحَجَ أمه، أي جامع أمه. فقال الغنوي: كذب: ما قلتُ له هكذا. إنما قلتُ: الكاذبُ ملَج أمه يقال: ملج إذا رضع.
قال القالي يقال: مَحَجها ومَخَجها وهو مأخوذ من قولهم: مخجت الدلو في البئر إذا حركتها لتمتلئ ونخجها أيضاً.
الفصل الثاني في الألغاز
وهي أنواع ألغاز قصدتها العربُ وألغازٌ قصدَتها أئمة اللغة، وأبيات لم تَقْصد العرب الإلغاز بها، وإنما قالتها فصادف أن تكون ألغازاً؛ وهي نوعان: فإنها تارة يقع الإلغاز بها من حيث مَعانيها، وأكثرُ أبيات المعاني من هذا النوع، وقد ألّف ابن قتيبة في هذا النوع مجلّداً حسناً، وكذلك ألّف غيره، وإنما سموا هذا النوع أبيات المعاني لأنها تحتاج إلى أن يسأل عن معانيها ولا تفهم من أول وَهْلة، وتارة يقع الإلغاز بها من حيث اللفظ والتركيب والإعراب، ونحن ذاكرون من كل نوع من هذه الأربعة عدّة أمثلة على غير ترتيب: فمن الأبيات التي قصدت العربُ الإلغاز بها. قال القالي في أماليه أنشدنا أبو بكر بن الأنباري قال أنشدنا أبو العباس ثعلب:ولقد رأيت مطيةً مـعـكـوسة | تمشي بكلكلها وتزجيها الصـبـا | |
ولقد رأيت سبيئة من أرضـهـا | تسبي القلوب وما تنيب إلى هوى | |
ولقد رأيت الخيل أو أشباهـهـا | تثنى معطفةً إذا مـا تـجـلـى | |
ولقد رأيت جـوارياً بـمـفـازة | تجري بغير قوائم عند الـجـرا | |
ولقد رأيت مكـفـراً ذا نـعـمة | جهدره في الأعمال حتى قدوني |
وقال القالي: حدّثني أبو بكر بن دريد: أن أبا حاتم أنشدهم عن أبي زيد:
وزَهرَاء إن كَفَّنْتُها فهْوَ عَيْشُها | وإن لم أكفِّنْها فموتٌ مُعَجَّـل |
وقال القالي: قرأت على أبي عمر عن أبي العباس أن ابن الأعرابي أنشدهم في صفة القدر:
أَلْقَتْ قَوائمَها خَساً وتَرَنَّمَتْ | طَرَباً كما يَتَرَنَّمُ السَّكْرَان |
وأنشد الجوهريّ في الصحاح:
وما ذَكرٌ فإنْ يَكْبُر فـأُنـثـى | شديدُ الأَزْمِ ليس بذي ضُرُوس |
وأنشد الجوهريّ - على أن الأُدعية مثل الأُحْجِية:
أُدَاعيكَ ما مُسْتَحْقَباتٌ مع السُّرَى | حِسانٌ وما آثارهـنَّ حِـسـان |
وفي الصحاح قال الكميت:
وذات اسمَين والألوانُ شتَّى | تُحَمَّق وهي كَيِّسة الحَوِيل |
وفي المثل: أعزُّ من بَيْض الأَنُوق.
وفي الصحاح: قال الراجز:
يا عَجَباً للعَجَب العُـجـابِ | خَمسةُ غِرْبانٍ على غُرابِ |
وأنشد ابنُ الأعرابي في نوادره:
وحاملة ولم تحمل لِـحـينٍ | ولم تلقحْ وليس لها حَلِـيل | |
أتمّت حملَها في نصف شهرٍ | وحمْلُ الحاملاتِ أَنى طَويل | |
أتت بعصابة ليست بـإنـسٍ | ولا جنٍّ فكيف بهم تقـول | |
إذا ولدت تباشر كـلَّ حـيّ | وإن ماتت فباكِيها قـلـيلُ |
وأنشد أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأضداد لأبي داود الإيادي:
رب كَلْب رأيته في وثاق | جُعل الكَلْب للأمير جَمالا |
ربّ ثور رأيتُ في جُحْر نمل | وقَطَاة تحـمِـل الأثـقـالا |
وفي شرح المقامات لسلامة الأنباري: مما يتحاجّون به قول أبي ثروان في أحجية له:
ما ذو ثــلاثٍ آذانْ | يسبقُ الخيل بالرَّدَيانْ |
وقال ابن درستويه في شرح الفصيح: أنشد الخليل لأبي مقدام الخزاعي:
وعـجـوزاً رأيتُ بـاعـــت دجـــاجـــاً | لم تُـفَـرّخْــن قـــد رأيتُ عُـــضَـــالاَ | |
ثم عاد الدَّجاج من عَجَب الدَّهْر فَرَاريجَ صِبْيةً أَبْذَالا |
وفي المشاكهة للأزدي قال بعضهم:
وأشعث كفار غدَا وهو مُؤْمِن | وراح ولم يُؤْمِن بربّ محمد |
ومن أبيات المعاني قول حسان رضي اللّه عنه:
أتانا فلم نَعْدِلْ سِواه بـغـيره | نبيّ أتى في ظُلْمَة الليل هاديا |
قال الشيخ بدر الدين الزركشي في كراسة سمّاها عمل من طب لمن حب: ولا حاجة إلى هذا التكلّف؛ فإن سواه في هذا البيت بمعنى نفسه، نصّ على ذلك الأزهري في التهذيب، وأنشد عليه البيت، ونقله عنه وأقرّه عليه الشيخ جمال الدين ابن مالك في كتاب المقصور والممدود.
ومن أبيات المعاني قول الأول في رجل طُفَيليّ:
أراك تظهر لي ودّاً وتكرمنـي | وتستطير إذا أبصرتني فرحـا | |
وتستحلّ دمي إن قلت من طرب | يا ساقي القوم باللّه اسقني قدحا |
ومحجوبة أزْعَجْتها عن فِراشها | تحَامَى الحوامي دونها والمناكِب | |
وخَفَّاقة الأعْطاف باتت معانقـي | تُجاذِبني عن مِئْزَري وأُجـاذَب |
وأنشد أيضاً:
وشَـعَـثـاءَ غَـبْـرَاء الــفـــروع مُـــنِـــيفة | بهـا تُـوصَـفُ الـحـسـنـاءُ أو هـي أجْــمَـــلُ | |
دعوتُ بها أبناءَ ليل كأنهموقد أبصروها مُعطِشون قد انْهلوا |
ومن أبيات المعاني قول الراعي:
قتلوا ابنَ عفّان الخليفة مُحْرِماً | وَدَعا فلم أرَ مثله مَـخْـذُولا |
قتلوا كسرى بليلٍ مُحْرماً | فتولَّى لم يُمتَّع بكَـفَـنْ |
وفي أمالي الزجاجي في البيت قولان: أحدهما: المحرم الممسك عن قتاله، قاله أبو العباس المفضل بن محمد اليزيدي، فقيل للمفضل: أعندك في هذا شعر جاهلي? قال: نعم، أنشدني محمد بن حبيب لأخضر بن عباد المازني وهو جاهلي:
فلست أراكم تُحْرِمون عن التي | كَرِهْتُ ومنها في القلوب نُدُوب |
وفي الغريب المصنف قال الأصمعي: أحْرَم الرجل فهو محرم إذا كانت له ذمّة وأنشد البيت.
وقال ابن خالويه في شرح الدريدية أنشدني أبو عبد اللّه بن خوشيريد عن أبي حنيفة الدينوري قال أحسن ما قيل في أبيات المعاني قول الشاعر:
إذا الـقـوسُ وتّـرهـا أيِّد | رمى فأصاب الذُّرا والكُلـى | |
فأصْبَحْتُ والليلُ مُسْحَنْـكِـك | وأصْبَحْتِ الأرضُ بَحْراً طَما |
فأصبحت: أي أسرجت المصباح، والليل مُسْحَنْكِك: أي شديد السواد، وأصبحت الثاني من الصّباح، والأرض بحر طما من كثرة المطر.
وقال ابن دريد قال الشاعر يصف ظليماً:
على حَتِّ البُرَاية زَمْخَريّ السَّ واعِد ظَلَّ في شَرْيٍ طِوَالِ |
كأنَّ مُلاءتيَّ على هِجَفٍّ | يَعِنُّ مع العَشِيّة للرِّئالِ |
أتاني عن أبي أنـس وَعِـيد | ومعصوب تخُبّ به الرّكاب | |
وعيد تَحْـدِج الآرام مـنـه | وتكره بُنَّةَ الغنـم الـذئاب |
ومن الأبيات التي وقع الإلغاز بها من حيث اللفظ والتركيب والإعراب: قال القالي في أماليه أنشدنا أبو بكر بن الأنباري، قال أنشدنا أبو العباس ثعلب للفرزدق:
يُفَلّقْن ها مَنْ لم تَنَلْه سُيوفنا | بأسيافنا هامَ الملوك القماقمِ |
قال أبو بكر وسمعتُ شيخنا يعيبُ هذا الجواب ويقول: يفلِّقن هاماً، جمع هامَةٍ، وهامُ الملوك مردُودٌ على هاماً كقوله تعالى: "إلى صِراطٍ مُستقيم صِراطِ اللّه". قال أبو علي رحمه اللّه: فاحتججتُ عليه بقوله: لم تَنَلْهُ، وقلت: لو أراد الهامَ، لقال: لم تنلها، لأن الهام مؤنثة لم يُؤْثر عن العرب فيها تذكير،ولم يقل أحدٌ منهم: الهامُ فَلَقْتُه؛ كما قالوا: النخلُ قطعتُه، والتذكيرُ والتأنيثُ لا يعْمَل فيه قياساً، إنما يُبنى فيه على السماع واتِّباع الأثر.
ومن ذلك قوله:
عافتِ الماءَ في الشتاء فقلنا | برِّديه تُصادفيه سَخِـينـا |
ونظيره قول الآخر:
لما رأيت أبا يزيد مقاتـلاً | أدعَ القتالَ وأشهد الهيجَاء |
أيها السائلون لي عن عَويصٍ | حار فيه الأفكار أن يَسْتبينا | |
إن لاماً في الراء ذات إدغامٍ | فافْصِلْهَا ترى الجوابَ يقينا |
ويقرب من البيت في هذه اللفظة قول عمرو بن كلثوم من مُعَلِّقته المشهورة:
مُشَعْشَعَةً كأنَّ الحُصَّ فيها | إذا ما الماء خالَطَها سَخِينا |
تَرَى اللَّحِزَ الشحيح إذا أُمِرَّت | عليه لمالِه فيها مُـهـينـا |
أقولُ لعبد اللّه لما سِـقـاؤنـا | ونحنُ بوادي عبد شمس وهاشم | |
على حالة لو أنّ في القوم حاتماً | على جُوده لضَنَّ بالماء حاتـم |
وقال القالي في أماليه: حدثنا أبو بكر بن دريد قال: حدثنا الرِّياشي عن العمري عن الهيثم قال قال لي صالح بن حسّان: ما بيتٌ شَطْرُهُ أعْرابي في شَمْلة، والشَّطْر الآخر مُخَنَّث يَتَفَكَّك? قلتُ: لا أدْري. قال: قد أَجَّلْتُك حَوْلاً. قلتُ: لو أَجَّلْتني حولين لم أعرف، قال: أُفٍّ لك قد كنت أحْسَبُك أجْوَدَ ذِهْنَاً مما أرى قلت: ما هو? قال: أما سمعتَ قول جميل:
ألاَ أيها النُّوَّامُ وَيْحَكُمُ هُبُّوا |
نُسَائِلكم هَلْ يَقْتُلُ الرجلَ الحبُّ |
وقال القالي حدثنا أبو بكر قال حدثنا أبو عثمان الأُشْنانْدَاني قال: كنا يوماً في حلقة الأصمعي إذ أقبل أعرابي يرفل في الخُزُوز، فقال: أين عميدُكم? فأشَرْنا إلى الأصمعي، فقال: ما معنى قول الشاعر:
لا مَالَ إلاَّ العِطَافُ تُوزرُه | أُمُّ ثلاثينَ وابْنَةُ الجَـبَـلِ | |
لا يَرْتَقِي النَّزُّ في ذَلاَذِلـهِ | ولا يُعَدِّي نَعْلَيْه عن بَلَـلِ |
عُصْرَتُه نُطْفَةٌ تَضَمنَّـهَـا | لِصْبٌ تَلَقَّى مَوَاقِعَ السَّبَـلِ | |
أو وَجْبَةٌ من جَناةِ أَشْـكَـلَةٍ | إن لم يُرِغْها بالقَوْس لم تُنَلِ |
قال أبو بكر: هذا يصف رجلاً خائفاً لجأ إلى جبل، وليس معه إلا قوسُه وسيفُه، والسيف: هو العِطاف.
وأنشدنا:
لا مال إلاَّ عِطافٌ ومِدْرَعٌ لكم | طَرَفٌ منه حديدٌ ولي طَرَفْ |
فصل - وأما إلغاز أئمة اللغة فالأصل فيه ما قاله أبو الطيب في كتاب مراتب النحويين: حدّثنا عبد القدوس بن أحمد حدثنا أحمد بن يحيى قال حدثني جماعة عن الأصمعي عن الخليل قال: رأيتُ أعرابيّاً يسألُ أعرابياً عن البَلَصُوص ما هو? فقال: طائر، قال: فكيف تجمعه? قال: البَلَنْصَى، قال الخليل: فلو ألغز رجل فقال:
ما البَلَصُوص يَتْبَعُ البَلَنْصَى |
ومن محاسن الألغاز ما رأيت في ديوان رسائل الشريف أبي القاسم على بن الحسين المصري من تلامذة أبي أسامة اللغوي جمع تلميذه عبد الحميد بن الحسين قال: ولما مَضَتْ أيام من مقامه بواسط حضره في جملة من كان يَغْشَاهُ لمشاهدَةِ فَضْله وبراعة أدبه عند انتشار ذِكْره رجلٌ يُعرف بأبي منصور بن الربيع من أهل الأدب، وأحضره قصيدة قد بُنيت على السؤال عن ألفاظ من اللغة على جهة الامتحان لمعرفته، وهي:
يا أفـــضـــل الأدبـــاء قَــــوْ | لاً لا تـعـارضـه الــشُّـــكـــوكْ | |
وابن الجحاجحة الذين نمت مساعيهم ملـوك | ||
لا العلم ناب عن حجا | ك إذا نــطـــقـــت ولا تـــروك | |
عضت مسائل أنت للفتوى بمشكلهـا دروك | ||
ما الحي والحيوت أو | ما جـلـبـح قـــضـــو بـــروك | |
أم مـا تـــرى فـــي بـــرقَـــع | رقـشـاء مـحـصـدهـا حــبـــيك | |
أم ما الصرنقح والرزيز وما الملمعة النهوك | ||
ولك الجدراية ما البصيرة في مداحيها السهوك | ||
وأبن لنا ماخطمط | أبـدا بـأمــرغـــه مـــعـــيك |
أم ما اغتـنـانة فـوهـد | فيه الملامة لا تـحـيك | |
أم ما ترى في مـطـره | ف حبه حـب نـهـيك | |
أم ما تقـلـب قـلـفـع | في كف عكموز تحـيك | |
أم ما تـوقـل هـبـرج | يرتب مرسنة هـلـوك | |
ولـرب ألـفـاظ أنـت | ك وفي مطلويها حلـوك | |
فارفق بنشـرك طـيهـا | وانظر بذوقك ما تلـوك | |
هذا وقـد لـذمـت فـؤا | دي خرمل هرط ضحوك | |
دعـكـنة نـظـرتــه | في خيس غانطها شبوك | |
تغدو وخربعهـا الـمـي | ل في طرائفـه سـدوك | |
وأراك مالـك مـشـبـه | فيما علمت ولا شـريك | |
حقاً لقد حزت الـعـلـو | م حيازة العدم الضـريك |
كتبه لوقته مُقْتِضباً واستنابني فيه محرّراً: بسم اللّه الرحمن الرحيم، اللهم إنّا نحمدك على تمْحِيص البَلوَى، كما نعوذُ بك من إطغاء النِّعما، ونَسْألك أن تجعل ثوابَ أقلِّ حسناتنا لدَيك، كما نسألك أن توجِّهَ بعوائد الشكر وسائلَنا إليك، ونَرْغَبُ إليك في حُسن المعرفة بعيوبنا من مَعْصِيتك، كما نَسْتَوْهبك غضَّ الأبصار عن عيوب إخواننا في طاعتك، ونَسْترْزقك إلهاماً لما في العَبَثِ من تضييع الأصول، ولما في سرعان القَوْلِ من عِصْيان العقول، ونجتدي فَضْلك أن تسلِّمنا وتُسَلِّم منا، وتشغلنا بعبادتك، وتشغل أهل الخَطَل عنّا، متوجّهين بإخْلاص اليقين، والصلاة على سيدنا محمد النبيّ وآله الطاهرين.
وقفتُ على ما كتبتَ به، وذكرتَ أن بعض أهل الأدب كلّفك المسألة عنه، وأعلمتني توجّه ظنّك في إبانة مُشكله، وإيضاح سُبُله، وتأملتُه فوجدتُه شعراً لا أحب أن أقول في صناعته شيئاً مشتملاً على ألفاظٍ من حوشيّ اللغة لا يتشاغلُ بمثلها أهل التحصيل، ولا يتوفّر على طلبها إلا كلّ ذي تأمّل عليلٍ، لخروجها عما ينفعُ في الأديان، ويعترض في تفسير القرآن، ولمباينتها ما تجري به المذاكرة، وتُسْتَخدم فيه المحاورة؛ وزاد في عجبي منها صدورُها عن النطيحة، وفيها من الأستاذ الفاضل أبي القاسم هبة اللّه بن عيسى أدام اللّه تأييده بحر الأدب الذي عَذُبت مواردُه، وشِهاب العلم الذي التهبت مَطالِعُه، وريّ العقول الظِّماء، وطبِّ الجهل المُسْتفحِل الدّاء، والباب الذي يفتح عن الدهر تجربةً وعلماً، والمرآة التي تتصفح بها أوجه الأنام إحاطةً وفهماً.
وبعد فهو الرجلُ الذي سلَّم له أهلُ بلده أنه شعلةُ الذكاء، ووارثُ محاسن الأدباء، وملتقى شُذَّان العلوم، وقاطعُ تجاذب الخصوم، فإن كان الغرضُ - في هذه الأبيات الخِرابِ المقْفِرةِ من الصواب - طلبَ الفائدة، فقد كان يجب أن يُناخَ عليه بمُثْقلها، ويقصدَ إليه بمعضلها، فعنده مفتاحُ كلِّ مسألة مُقْفَلة، ومِصْباح كل داجية مُشكلة؛ بل لستُ أشكُ أن هذا السائل لو جاوره صامتاً عن استخباره، وعكف على ذلك الجناب كاتماً لِما في طيِّ مضماره لأَعْداه رِقّة نسيم أرَجه، وهذَّب خواطره التقاطُ فرائد لَفظِه، ولهَدَاه قُرْبه منه من ضَلالته، ولشفاه دنوّه منه من جهالته، حتى يغنيَه الجوار عن الجور، والاقتراب عن رجع الجواب، وحتى يعودَ مُلْهَماً ينطق بالحكمة، ولو لم يقصد إظهارها، ويجيب عن المسائل ولو لم يعرف أصولها واستقرارَها.
هذا إن كان يريد الفائدة، وإن كان قصدَ الامتحان للمسؤول وتعرّض لهذا الموقف المدخول، فذلك أعجبُ? كيف لم يتأدَّب بآدابه الصالحة? ويَعْشُ إلى هدايته الواضحة، ويعلم أن هذا خُلُق أهْوَج، ومَذْهبٌ أعْوَج، وسجيّة لا تليقُ بأهل العلم، ولا يُؤثر مثلُها عن ذوي النظر الصحيح والحزم? وكيف لم يعلم هذا القريض المتكلف بما أعطاه اللّه تعالى من سعادة مُكاثرته، وساقَ إليه من بَركةِ صُحْبته؛ إن هذا القريض- كما قال المخزومي لعبد الملك بن مروان وقد لقيه في طريق الحج بعد ما أنكره وكرهه، فقال: بئست التحيةُ من ابن العم على النَّأْي - وهذا لعمري بئست تحيةُ الغريب من القاطنين ولَؤُمَت هَديَّة الوافد من المقيمين وقد كان حقّ الغريب أن يكثَّر قليلُه، ويسدَّد زَيْفه، ويثبَّت زَلَله، ويُعار من معالي الصفات ما يُؤْنِسُ غُرْبته، ويصدق مخيلته، ويعلم أن قد حلَّ على أشباه القعقاع بن شور الذين لا يَشْقَى بهم جَليس، ولا يذُمّ دخلتهم أنيس، ولا يزورهم نازح الدار إلا سَلا عن وَطنِه، ولا يسكن إلى قربهم شاكٍ لنَبْوَة الحظِّ إلا صلح ما بينه وبين زَمَنِه، إلى أن يبدوا عن تباينه، ويجثوا عما وراء ظهره، يأخذوا بعادة أهل الأثر، ويحملوا نفوسهم معه على ما في الجواب من الغَرَر.
على أن هذا الطارئ عليهم رجلٌ كان أرَبه من العلم ما فيه حظُّ نَفْسِه، وتهذيب خلائقه، والاقتداءُ بهذه الآداب الزاكية على تقويم أوَده، والاستعانة بقليل هذه الحكم المصلحة على إصلاح فِكره، مخدوماً بالعلم لا خادماً، ومتبوعاً بمُلَح غرائب الآداب لا نابعاً، وعلى أنه لو كان قد احتبى للجدال، وركب للنِّزال، وتحدَّى بعلمه تحدِّيَ المعجز، وتعرَّض لكافَّة العلماء تعرّض الواثق المتحرّز لما كان في غروب كلماته من حوشيِّ اللغة عن فهمه ما يدل على قصر باعه وقلة متاعه.
ويا عجباً للفراغ كيف سوَّغ لهذا المغترّ أن يجاريَ بحَلَق دِرعه تقسَّم أفكاري? وكيف أنساه اجتماعُ شَمْله بعدَ دياري? وكيف أذهله حضور أحبَّته عن مَغِيب أفلاذِ كَبدي? وكيف طرفت ناظره سكرة الحظِّ عن تضوّر ما يجنّ خَلَدي? وكيف لم يدرِ ما لي من ألْحاظٍ مقسّمة، وظنون مرَجَّمة، والتفات إلى ولدٍ ينتهب الشوق إليه تصبّري وينبِّه الإشفاق عليه حذَري? وكيف لم يخطرْ بباله أني قريبُ عَهْدٍ بمحلٍ عزٍّ وثروةٍ كانا أوحشاني من الأكْفاء، وخلَطاني بين الأعداء والأصدقاء.
وقد تكلفت الإجابة عما تضمَّنَتْه الأبيات انقياداً لمُرادك، ومُقْتَسراً رأَيي على إسعادك، أجرُّ أقلامي جرّاً وهنّ ثواكل، وأنبِّه قرائحي وهنّ في غمرات الهموم ذَواهل، وما توفيقي إلا باللّه عليه توكلت وإليه أنيب: قال هذا السائل: إن المسؤول دَرُوك لتلك الفَتْوى؛ ومستحقٌّ بها الرتبة العليا، فقال شيخ من شيوخنا - عزفته لنا الأيامُ عن كل فائت فوفَّت وزادت، وعوَّضَتْناه من كل مُخْتَرم فأحسنَت وأفادت، وكان لحظَ الأبيات قبلي ولاءَم مشكله في التعجب منها مشكلي: أن دَروكاً هاهنا لا يجوزُ؛ لأن فعولاً لا يكون من أفعل.
قال: ولو جازَ هذا لجاز حسون وجَمُول ونعوم، من أحْسن وأجْمل وأنْعَم؛ وما نحبُّ استيفاء القول في هذا الزَّلَل، ولا نستفتحُ كلامنا بالمنُاقشة في هذا السهو والخَطل؛ ولعل القائل وهم حَمْلاً على قراءة حَفْص "في الدَّرْك الأسْفَل مِنَ النّار" فظنَّ أن الدَّرك بوزن فَعْل، وأن فعْلاً مصدر فَعَل يَفْعَل، ولم يجعله من الدَّرَك لأن الفتحَ عندهم لا يخفّف، فلا يقولون في جَمَل جَمْل؛ وذهب عليه أنه قد يكون اسماً مبنياً مثله وإن لم يكن مخفَّفاً منه، كما قالوا دِرْكة ، ودركة: في حَلْقة الوَتَر التي تقع في فُرْض القَوْس، فخفَّفوا وحرَّكوا.
وعلى أنهمَا لو كانا مصدرين لجاز أن يجيئا على الشُّذوذ، ولا يُحْمل عليهما ما يُبنى من الفعل؛ لأن الشذوذ ليس بأصل يُقاس عليه، ولعله اغترَّ بقولهم دَرَّاك، ودَرَّاك أيضاً شاذّ؛ لأنهم قد نقلوا أفْعل يُفْعِل، وهو قليل فقالوا: فطّرتُه فأفْطَر وبَشَّرته فأبْشَر، فجاء على هذا دَركْتُه فأدْرَك؛ قال سيبويه: وهذا النَّحْوُ قليل في كلامهم، أو لعله ذهب إلى قولهم: دَرَاك مثل نَزَال، فظن أنه يقال منه دَرّاكِ كما يقال: مَناعِ ونَزالِ من مَنَع ونزل، وذهب عنه أنه قد جاء الرّباعيُّ في هذا الباب، كما قالوا قَرْقارِ وعَرْعارِ في معنى قَرْقَر وعَرْعَر، فأما الفرق بين الرباعي والثلاثي فهو أن سيبويه يرى إجازة فعال في موضع فعل الأمر في الثلاثي كلّه، ويمنعه في الرّباعي إلا مسموعاً، وقال غيره من النحويين: بل هما ممنوعان إلاّ مَسموعين، واعتمد سيبويه في الفَرق على كثرة ما جاء في الثلاثي وقلّة ما جاء في الرباعي، أو لعله أصغى إلى قول الراجز:
إن يكشف اللَّه قناع الشك | بظَفَرٍ إذاً بحاجتي ودَرْكِ | |
فهو أحقّ مَنزل بترْك |
إذا قلت أوفي أدركـتـه دروكة | فيا موزع الخيرات بالعُذْر أدركْ |
ثم بدأ السائل، فسأل عن الحِيّ والحَيّوت، ولم أقف على صحّة سُؤَاله، لأني وجدتُ الأبيات مكتوبةً بخطٍ يئنّ سَقَماً، ويتخيّل بأبي براقش تصحيفاً وتغيّراً، فإن كان سأل عن الحِيّ بكسر الحاء، فقد أنشد أهل العلم قول العجَّاج:
وقد نرى إذ الحياة حِيُّ | وإذْ زَمَانُ النَّاس دَغْفَلِيَُّ |
قال الأخفش: وإنما أجزتُ ذلك في الجمع لثقل الجمع وخفَّة الواحد، وسيبويه يرى كسر أوله لأجل الياء وثقلها على كلّ حال، فأما إذا كان جمعاً فهو شاذ إن حملناه على فُعْل وأشذّ شذوذاً إن جعلناه فَعْل، لأنه قد جاء في الجموع فُعْل مثل عُوط وإن كان جمع عائط، فإن الفاعل والفَعل يتجاوران ويتقاربان لأنهما مصدر واسم فاعل لفعل واحد ولأن فَعْلاً قد يقع موقع فاعل، فيقال للعادل: عَدْل وللزائر: زَوْر، فهذا من شذوذ الجمع على أي وَجْهيه كان، ومعنى الشِّعر يتوجه على أن يكونَ الحِيّ بمعنى الحياة أكثر وأقوى، كما تقول: إذ الزمان زَمان وإذ الناسُ ناس، فإذا جعلناه في موضع الأحياء كان كأنا قلنا: إذ الإنسانيةُ ناس وإذ الفتوة فتيان، وهو بعيد.
وسأل عن الحيُّوتِ، وهي الحيّة وزنه فعلوت، والتاء فيه زائدة، وكثيراً ما تزاد خامسة، مثل عِفريت ، وهو عِفْرِي.
وسأل عن الجِلْبِح ، وهي العجوز الكبيرة، وأنشد:
إني لأَقلِي الجِلْبِحَ العجوزا | وأَمِقُ الفَتِيَّة العُكْمُـوزا |
وكان بِرْقَع والملائكَ حَوْلَها | سَدِرٌ تَوَاكلَه قوائم أَرْبَـع |
وليسوا بأسواء فمنـهـنّ رَوضة | تهيج الرِّياح غَيْرُهـا لا يَصَـوّح | |
ومنهنّ غُلٌّ مُقْـفَـلٌ لا يفـكّـه | من القوم إلا الشَّحْشَحَان الصَّرَنْقح |
وأما المُلَمَّعة، فهي الفَلاَة التي يَلمَعُ فيها السراب، ومثلٌ من أمثالهم: أكذبُ من يَلمع وهو السَّراب، ومنه الألمعي، وكأنه تَلْمع له العواقب لدقّة فِطنته، فأما اللّوذعي فالذي كأنه يتلذّع من شدّة ذكائه، وكل مفعلة من اللمع ملمعة.
ويقال: ألْمَعت الوحشيَّة وغيرها إذا بان لضرعها صقال وبَرِيق باللبن فيه، قال الأعشى:
مُلْمِعٍ لاَعَةِ الفُؤَاد إلى جَحْشٍ فَلاَه عنها فبئس الفالِي |
وفي الحديث: هَاعٍ لاَعٍ مبنية من شدة تأثير الحُزن في القلب، فكأنه مأخوذ من اللَّوْعة، وقيل: بل لاعة بوزن فاعلة، كأن الأصل لاعية من اللعو، وهو أشد الحِرْص، وبين الخليل وجماعة من النحويين في هذا خلف لا نحبُّ الإطالة بذِكره.
وأما قوله: النَّهوك فليس يحتاج النَّهوك ولا النّهيك والنَّهاكة إلى تفسيرٍ لظهور أمره.
وسأل عن البصيرة وهي التُّرْس، قال الأشْعَر الجُعْفيّ - وليس بالأشعر المازني:
رَاحُوا بصائرُهم على أكْتافهم | وبصيرتي يَعْدُو بها عَتِدوَأى |
غدا ورداؤه لَهِـق حـجـير | ورُجْتُ أجرّ ثَوْبَي أرجوان | |
كِلانا اختار فانظرْ كيف تبقَى | أحاديثُ الرجال على الزّمانِ |
ونقاتل الأبطال عن آبـائنـا | وعلى بَصائرنا وإن لم نُبصرِ |
والمداحي: مفاعل من الدَّحْو، والدّحو معروف يريد به البَسْط، والدَّحو أيضاً: النكاح، وأنَشد:
لما دَحاها بمَتلّ كالصَّقْـب | وأوغفته مثل إيغاف الكَلْبِ |
والسَّهوك: فعول من السَّهَك، ويقال: ريح سَهُوك وسَيْهُوج وسَيْهَج: إذا كانت شديدة المرور قويَّة الهبوب، وسَيْهوك وسَيْهوج: ثابتان، وسَيْهك وسيهج: قليلان لم يثبتهما جميعُ أصحابنا.
وسأل عن الخطمط وهو كالكُحْكُح: الشيخُ الكبير، والمَرْغُ: الرِّيق، يقال: أحْمَقُ ما يَجْأَى مَرْغَه أي ما يمسك ريقه، والمَرْغُ: التراب في غير هذا.
وقوله: مَعِيك فَعيل بمعنى مفعول من المَعْك، وهي اللَّيّ.
وسأل عن الفَوْهد، فالفَوْهَد والثَّوهَد هو الغُلام الممتلئ شباباً، وأنشدوا:
لمحت فيها مُطْرَهِفّاً فَوْهَدَا | عِجْزَةَ شَيْخَينِ غُلاماً أمْرَدَا |
وسأل عن القِلْفِع، وما كنتُ أُحبُّ له أن يدلَّ على قصور عِلْمه بكون مثل هذه اللفظة، وما تقدم من أشباهها، من جملة الحُوشيّ عنده، وهو الطين الذي ينقلع عن الكمأة، وفيه خُلْف يقال: قِلْفِع وقِلْفَع والصحيح قلفِع وبه قال أبو أسامة.
وسأل عن العُكموز، وهي الفتاة التَّارَّة ، وقد تقدم الشاهد عليه.
وقال: تَحِيك ومعناه تَتَبَخْترُ، وأنشد يعقوب وغيره:
جارية من شَعْبِ ذِي رُعَيْنِ | حَيَّاكَة تمشي بعُلْطَـتـيْن | |
قد خَلَجَتْ بحاجِبٍ وعَـيْن | يا قَوْم خَلّوا بينها وبينـي | |
أشَدَّ ما خُلّيَ بَين اثْـنـينِ |
وسأل عن الهَبْرَج، وهو من صفة بَقر الوحش، قال العجَّاج:
يتبعن ذَيَّالاً مُوشَّى هَبْرَجا |
والمَرْسِن: موضع الرسن. والهلوك إن كان أرادَ به الفاجرة، لأنها تتهالك في مِشْيتها أي تتمايل وتتهادى وأصله أنها تميلُ على أحدِ جانبيها كالضعيف الهالك الذي لا يستطيع تماسكاً، وذلك لحسْنِ دلّها وتأوّد خطرتها، فجائز فيه، وإن كان أراد من هَلَك فهو من بدائعه، وإن كان أراد من أهلك فهو أبدع وأغرب.
ولذم بالمكان وألْذَم مثل لَزم وألْزَم، فإن الذال فيه بدل من الزاي على مذهب أهل اللغة، لا النّحويين، فتقول أهل اللغة: إن العربَ تقول في الأرنب حُذَمَةٌ لُذَمَة تسبق الجميع بالأكمةِ يعني تلزم العدو، ورجل لُذَمَة: لا يفارق البيت.
وذكر الخِرْمِل، وهي في الأصل: المرأة الفاجرة في قول بعضهم، وقال آخرون: هي الحمقاء، قال المزرّد:
فطوَّف في أصحابه يستبينهـم | فآب وقد أكْدَت عليه المسـائلُ | |
إلى صِبْيَةٍ مثل السّعالي وخِرْمِل | رَواكِد من شرِّ النساء الخَرَامِل |
وسأل عن الضَّحُوك، وهو فَعول من الضَّحِك، وهو العَسَل، وهو الغدير الصافي، وهو طَلْع النَّخْل، والثَّلْج.
وقال: دِعْلِنة أو دِعْكِنة، والصحيح فيه بالكاف وهو السمن والقوة، وهذا مما لا يسأل عنه، لأن جميع ما زيدت فيه النون في هذا الموضع يدل لفظه على اشتقاقه، كما يدل سِمْعَنّة ونِظْرَنّة على السمع والنظر، ودِعْكِنَة من الجلادة كأنه من الدَّعك، فاما نِظْرَنّة فهو من النظر، وأنشدوا:
إنَّ لَنَـا لَـكَـنَّـهْ | مَعِـنَّةً مِـفَـنَّـه | |
سِمْعَنَّةً نِظْـرَنَّـه | ما لا تَرَه تَظُنّـهْ | |
كالذئب فوق القُنَّه |
وذَكر الخِيْسَ، وهو الغابة، وأصلُه من التخييس لِلُزُوم الأسَدِ له، والخِيْسُ في غير هذا الموضع: اللِّحية، قال الشاعر:
فاتَه المجدُ والعلاء فأَضْحَـى | يفرج الخِيْسَ بالنَّحِيت المفْرِج |
وذكر الغانظ، وهو الفاعل من الغَنْظ، وهو الكرب.
وقال عمر بن عبد العزيز في ذكر الموت: غَنْظٌ ليس كالغَنْظ، وكظٌّ ليس كالكَظِّ. وهما الكَرْب، ويقال: غَنَظته وأغْنَظته.
وشَبوك: فَعُول من التَّشبيك، والجُزَيْعَة: القليل من كلِّ شيء، والمُذَيّل: المتبَذّل، والطرائف: الأيدي والأرجل: قال الهذلي:
ويحمل في الآباط بيضاً صوارماً | إذا هي صالت بالطَّرائف قَرّت |
هذا ما حضرنا من القولِ بخاطرٍ عند اللَّه عِلمُ تشعّبه، وتذكّر قد أبْعَدت الأيامُ تذاكر تعليقاته وكتبه، فإن كان صواباً فبتوفيق اللَّه تعالى لنا، وباطِّلاعه على حُسن النية منا، وإِن كان زَلَلاً فغير ضائر ولا مُستنكر إن شاء اللَّه تعالى. ولولا أننا لا نَنهى عن خُلُقٍ ونأتي مثله، ولا نأمرُ بمعروف ونخالف فِعْله لَسَألْنا مستفيدين، ولقُلنا متعلّمين نثراً، لِما فيه من شفاء البيان لا نَظْمَاً، لما فيه من التَّعاصي والطُّغيان، فسألنا من اللغة - إِن كانت عنده مهما كما قال السائل - عن العَلافق بالعين فإنه بالغين معروف، وعن المِرَضَّة بكسر الميم فإنه بفتحها معروف، وعن هند لا مضافاً إلى الأَحامس، فإِنه بالإضافة معروف.
وعن شكري بضم الشين فإنه بفَتحها معروف.
وعن الزئير فإنّه بالنون معروف.
وعن الدُّقْرورة فإن الدِّقْرَارة بالألف معروف.
وعن اشتقاق قولهم: أفناء الناسِ لا على أن فِعَال يجمع على أفعال، وإن كان فيه على هذا الوجه كلام، ولكنّه معروف.
وعن الحرَج في الأسماء، فإنه في المصادر معروف.
وعن الوَغد لا في صفة الرجل الساقط، فإنه معروف.
وعن الورون بالواو فإنه بالياء معروف.
وعن رِبْقَة وهل الصحيح فيه بالباء أو بالنون? وما الحجّة علي كل واحد منهما? لا في معنى الجِنْس، فإنه على هذا الوَجْه معروف.
وكم في الكلام أفعَل اسماً? فإنه في الصِّفات معروف.
وما النَّاق غير جمع ناقةٍ ولا ترخيمها فإنه فيهما معروف ? وما اختلاف أهل اللغة في عِفْرِية لا على ما قاله أبو عبيد فإنه معروف?
وما الفَهد في الناس? فإنه في الحيوان معروف.
وما الشاهدُ على جواز أصْلخ، فإنه بالحاء معروف ? وما فعلٌ من الخماسي يجري مجرى ألْفَج فهو مُلْفج في فتح ما يجب كسره من اسم فاعله، غير الرباعيات المذكورة فإن باب تلك معروف? وما الصحيح في الجَوْشَن هل الحاء أو الجيم أو الخاء? وما الشاهد على كل منها، لا نسأل عن التفسير بل عن الصحيح من الثلاثة، والشاهد عليه، فإن التفسير معروف.
وما قول تفرَّد به ابنُ الأعرابي في القَوْس لم أجد أحداً نقله غيره? وما قول تفرّد به ابن دريد في الشُّقَّارَى خالف فيه النَّحويين لم يَقُلْه غيره? وما قولٌ تفرّد به ثعلب في الزلاقة والبرادة لم يقله غيره? وما قول تفرّد به ابن التيمي في التنفيذ لم يقله غيره? وما قول تفرد به أبو عمرو بن العلاء في اليَد لم يقلْه غيره? وما قول تفرّد به خالد في وزن طاقة لم يَقُلْه غيره? هذا إن كانت اللغة عنده مهما.
فإن قال: إن النحو هو المهمّ، قلنا له : أرْشدَك اللَّه فما جمع أفْعلة أغفله سيبويه ولم يلحقه بكتابه أحدٌ من النحويين? وهل ذلك الجمعُ إن كنت عارفاً به مطَّرداً ومحمول على مجانسه في اللفظ? وعلى أي شيء خُفِض وقِيلِه يا ربِّ في قراءة حفص، لا على ما أوْرده أبو علي الفارسي، فإنه لم يَسْلُك فيه مذهبَه في التَّدْقيق? ولم مَنَع سيبويه من العطف على عاملين وهو في سورة الجاثية بنصب آيات ورفعه لا يتَّجه إلا عطفاً على عاملين? فإن كان أخطأ وأصاب الأخفش فمن أين زلَّ? وإِن كان أصاب فكيفَ يجوزُ له مخالفةُ الكتاب ? وهل قولُ سيبويه في النسبة إلى أمية أموي بفتح الهمزة صوابٌ أم سَهْو واستمرَّ عليه وعلى جميع النحويين بعدَه? ولم قيل معدي كرب? ولم تحمل الياء في لغة من أضاف ولا مَن جعله اسماً واحداً، لا على ما أورده النحويون فلهم فيه أقاويل مسطورة? وهل مذهبُهم في أن هُدَى وسُرَى مصدران صحيح أم لا ? وهل يوجد فعل زائد على ما ذكره سيبويه واستدركه الأخفش عليه أم لا? وكم حرف يوجد إن وجد? وهل بِيض في قولهم: حمزة بن بِيض عَلَم أم لا? وما معناه في اللغة ? ووزنه في النحو? مقيساً لا مسموعاً، على ما ذكرناه نحن في هذه الرسالة? ولم اختاروا أنْ مع عَسى وكرهوها مع كادَ.
فإن قال: لستُ أتشاغل بعلوم المعلمين? وإنما آخذ بمذهب الجاحظ، إذ يقول: علمُ النسب والخبر علم الملوك.
قلنا له: فمَنْ أبو جلدة، فإن أبا خلدة معروف? وما العاص ? وما اشتقاقه? فإن العاص معروف، ومَن جِنسه بالتخفيف لا بالتشديد مفتوح الأوّل، فإنه بالتشديد وضمِّ أوله معروف? ومَنْ مَعْدِي كرب غير صاحب:
أمِن رَيْحانة الدَّاعي السَّمِيع |
وما اسمُ امرئ القيس على الصحة لا على الظَّاهر? وعلى أن في اشتقاقِه كلاماً طويلاً فإنه معروف.
ومن شَهْل غير الفِنْد الزِّمَّاني? فإنَّ الزِّمَّانيّ معروف.
ومن شَهْم بالشين فإنه بالسين معروف? ومن الزُّبير غير الأسدي واليهودي، فكلاهما معروف? ومن الزَّبير بفتح الزاي، فإنه بضمِّها على ما قدَّمْناه معروف? ومن القائل:
وقافية لججـتـهـا فـرددتـهـا | لذي العرش لو نهنهتها قطرت دما |
ومن ذو طِلاَل بالتشديد، فإنه بالتخفيف معروف، وكذلك ذو ظلال? وما خوعي فإن خوعي معروف? وهل أخطأ ابن دريد في هذه اللفظة أو أصاب? وما تقول في عَدْنان غير الذي ذكره مولى بني هاشم فإنه معروف? وهل يخالف فيه أم لا? وهل حبيب والد ابن حبيب العالم رجل أم امرأة، وهل هو لِغيَّة أو لرِشْدة? ومن أجمد بالجيم فإنه بالحاء كثير? ومن زَبْد بالباء? فأما زند بالنون فمعروف.
ومَن روى عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وعلى آله: لا يمنع جار جاره أن يجعل خشبةً في حائطه فقال خشبة واحدة، وقالوا كلهم: خشبهُ مضافاً.
ومن يُكْثر ذكر الحَضْرمي في شِعر من العرب?
والنَّبيذُ هذا المشروب هل كان معروف الاسم أم لا عند العرب? ومن روى عن ظِئْر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وعلى آله أنها قالت في شاتها وكانت لا تعدي أحداً وما معناه? ومن تَفَرَّد من أهل العلم بنصرة ذي الرّمة وتغليط الأصمعي في تغليطه في قوله: إيه عَن أمِّ سالمِ، لا على ما قاله النحويون من التعريف والتنكير، فإن ذلك معروف.
ومَن قال في المتنبئة أنها سَجَاح مثل قَطَام? ومن قال سَجَاحٍ مثل غَمَامٍ غير مبني.
ولم سمّي خليد الشاعر عيسى? ومن عميّ الذي تنسبُ إليه الصّكة فيقال: صَكّةُ عميّ? وهل ذكر في شِعْر? ومَن ذَكره? ومن غَوِيّ الذي تنسبُ العربُ إليه الضلال? ومن ذكره من أصحاب رسول اللَّه صلى الله وسلم عليه وعلى آله? وما كرب المنسوب إلى معدي كرب وهل أصابَ المبرد في نسبة الأبيات الجيمية:
لمّا دَعا الدَّعوةَ الأولى فأَذكرنـي | أخذت بُرْدَيَّ واسْتَمْرَرتُ أدْراجي |
وما معنى قوله صلى الله عليه وعلى آله تسحَّروا فإنّ في السَّحور بركة? ونحن نراه ربما هاض وأتْخَم وضرّ وأَبْشم.
وما معنى قوله صلى اللَّه عليه وعلى آله: اتّقوا النار ولو بشقّ تمرة? ولو سرق سارق جلّة تمْر فتصدَّق بنصفها كان مستحقاً للنار عند المسلمين! وما معنى قوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله: لا تزال الأنصار يقلون وتكثر الناسَ? ولو شِئنا لعَدَدْنا أشخاصهم أكثر مما كانت في البادية والحضَر.
وما معنى قوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه: إنَّ امرأَ القيس حامل لواء الشعراء إلي النار وهل ثبت هذا الخبر أم لا? ولِم قال: إن من الشعرِ لحِكمة ثم قال صلى الله عليه وسلم وعلى آله: أوتيت جوامعَ الكلم، فهل تخرج الحكمة من جوامع الكلم? فإن قال: إنما أفنيتُ عمري في القرآن وعلومه وفي التأويل وفنونه.
قلنا: إذاً يكون التوفيق دليلُك والرَّشاد سبيلك، صِفْ لنا كيف التحدِّي بهذا المعجز ليتمَّ بوقوعه الإعجاز? وأخْبرنا عن صفة التحدِّي، هل كانت العربُ تعرفه أم كان شيئاً لم تجْرِ عادتها به? وكان إقصارها عنه لا لِعَجْز، بل لأنه التماس ما لم تجر المعاملة بينهم بِمثله، ثم نسأل عن التحدِّي هل أوفى بمعارضَة بانَ تقصيرُها عنه أو لم يلق بمعارضة، ولكن القوم عدلوا إلى السيف كما عدل المسلمون مع تسليمه ولم يُعارضوه به.
ثم نسأل عن قول اللَّه تعالى: "لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً". وفيه من الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه ما لا يكون أشدَّ اختلافاً منه.
ثم نسأل عن قوله تعالى: "وغَرَابِيبَ سُودٍ". وما معنى هذه الزيادة في الكلام? والغرابيب هي السود. فإن قال: تأكيد، فقد زلّ، لأن رجحان بلاغة القرآن إنما هو بإبلاغ المعنى الجليل المستوعب إلى النفس باللفظ الوجيز وإنما يكون الإسهاب أبلغ في كلام البشر الذين لا يتناولون تلك الرتبة العالية من البلاغة، على أنه لو قال: تأكيد لخرجَ عن مذهب العرب، لأن العرب تقول: أسود غِرْبيب، وأسود حلكوك، وحالك، فتقدم السواد الأشهر ثم تؤكده، وهذه الآية تخالفُ ذلك، وإذا بطل التأكيد فما المعنى? وما معنى قوله تعالى "فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفَ مِنْ َفْوقِهِمْ"? وهل يكون سقفٌ من تحتهم فيقع، ليس يحتاج إلى ايضاحه بذكْر فوق ونحوه: "يخافون ربَّهم من فوقهم"? وهل لهم ربٌّ من تحتهم? وما معنى قوله فوق هاهنا? وهل يدلّ على اختصاص مكان? وما معنى قوله عز وجل "كَلَمْحِ الْبَصَرِ أو هُوَ أَقْرَبُ"? وما هذا الأقرب? وما معنى قوله تعالى "فَهِيَ كَالْحِجَارةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةٍ"? وهل شيءٌ أشدّ قَسْوة من الحجارة? وما مَعنى قوله : "إلَهَيْنِ اثْنَيْنِ" وهل بعد قوله: إلهين إشكال بأنهم أربعة، فنستفيد بقوله اثنين بيانَ المعنى? وما معنى قوله تعالى: "وَمنْ دَخَله كَانَ آمِناً" وقد رأينا الناسَ يُذبحون بين الحِجْر والمقام في الفِتن التي لا تخلو منها تلك البلاد.
وما معنى قوله تعالى: "أَنْ تَضِلَّ إحْدَاهُما فَتُذَكِّر إحْدَاهُما الأُخْرَى" وما الفائدة في ذكر إحداهما الأخرى? ولو قال تعالى: فتذكرها الأخرى لكان أوجز وأشبه بالمذهب الأشرف في البلاغة.
وما معنى قوله تعالى: "أوْ يَأْخُذُهُمْ عَلَى تَخوّف فَإنّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيْمٌ" ومن أين تُناسبُ الرأفة والرحمة هذا الأخْذَ الشديد على التخوّف الذي يقتضي العفوَ والغُفران? وعلى أن هذا السائل لو سأل عن الصّناعة التي أنا بها مُرتَسِم ولشروطها ملتزم، لا في الترسل فإني ما صَحِبت بها مَلِكاً، ولكن في صناعة الخراج لكان يجب أن يقولَ لي: ما الباب المسمى المجموع من الجماعة? وأين موضِعُه منها? وأي شيء يكون فيه ولا يحسن ذِكره في غيره? وأن يقول: ما الفائدةُ في إيراد المستخرج في الجماعة? ومِن كم وَجْهٍ يتطرّق الاختلالُ عليها بالغاية منها? وأن يقولَ: ما الحكُم في متعجّل الضمان قبل دخول الضامن? وأي شيء يجب أن يوضع منه إذا أراد الكاتب الاحتساب به للضَّامن من النفقات وخلصه من جاري العمل? وفيه أقوال تحتاجُ إلى بحث ونظر. وأن يقول: إن عاملاً ضمن أن يرفع عَمله بارتفاع مال إلا أنه لم يضمن استخراجَ جميعه، وضمن استخراجَ ما يزيد على ما استخرج منذ خمس سنين، وإلى سنته بالقسط كيف يصحُّ اعتبار ذلك? ففيه كمين يحتاج إلى تقصّيه وتأمّله. وأن يقول: لم يقدم المبيع على المستخرج والمبيع إنما هو من المستخرج وكيف يصحُّ ذلك? وأن يقول: كم من موضع تتقدّم الجمل على التفصيل? وفي أي مَوضع لا يجوز إلا تأخيرها عنه? وأن يقول: أيّ غلط يلزم الكاتب? وأي غلط لا يلزمه? وأن يقول: متى يجبُ الاستظهار له في صِناعةِ الكتابة? ومتى لا يجوزُ الاستظهار له? وأن يقول: متى يكون النّقص في مال السلطان أشدّ في صناعة الكتابة من الزيادة? وليس يعني نقص بالارتفاع مع العَدْل وعاجل زيادته مع الجَوْر، فذلك ما لا يُسْأَل عنه، وأن يقول: ما باب من الارتفاع إذا كثر دلَّ على قلةِ الارتفاع وإذا قلّ دلّ على كمال الارتفاع? وأن يقول: متى يكون مشاهدة الغلط أحسن في صناعة الكتابة من عَدَمه? وأن يقول: كم نسبة جاري العمل من مبلغ الارتفاع? وأول من قرّره ورتّبه? وأن يقول ما رُتْبتان من رُتَب الكتابة إذا اجتمعتا لكاتبٍ بطل أكثر احتساباته? وأن يقول هل يطَّرد في جميع أحكام الكتابة حَمْلُها على مناسبة أحكام الشريعة أم لا? وهل كان يذهب إلى هذا أحد من متقدمي الكتاب? وما الحجة فيه? وباللَّه التوفيق.
الفصل الثالث في فتيا فقيه العرب
وذلك أيضاً ضربٌ من الألغاز، وقد ألَّف فيه ابن فارس تأليفاً لطيفاً في كرّاسة، سماه بهذا الاسم، رأيتُه قديماً، وليس هو الآن عندي، فنذكر ما وقع من ذلك في مقامات الحريري، ثم إن ظَفِرت بكتاب ابن فارس ألحقتُ ما فيه:قال الحريري في المقامة الثانية والثلاثين: قال الحارث بن همّام: أَجْمَعْتُ حين قضيتُ مَناسِكَ الحج، وأقمت وظائف العَجِّ والثَّجِّ، أن أقصدَ طَيْبَة، مع رُفْقَةٍ من بني شَيْبَة، لأزورَ قبرَ النبيِّ المُصْطفى، وأخْرُج من قبيل مَن حجَّ وجَفا، فَأُرْجِفَ بأنَّ المسالِك شاغِرَة، وعرَبَ الحرَمَيْن مُتَشَاجرَة، فحِرْتُ بين إشْفاقٍ يُثَبِّطُني، وأََشواق تُنَشِّطُني، إلى أنْ أُلْقي في رُوعي الاسْتِسْلاَم، وتغليبُ زيارةِ قبرِ النبي عليه السلام، فأَعْتَمْتُ القُعْدَة، وأعْدَدْتُ العُدَّة، وسِرْت والرُّفْقَةَ لا نَلْوي على عُرْجَة، ولاَنني في تأْويب ولا دُلْجَة، حتى وافينا بني حَرْب، وقد آبُوا من حَرْب، فأَزْمَعْنا أنْ نُقَضِّيَ ظلَّ اليوم في حلَّةِ القَوْم، وبينما نحن نتخَيَّرُ المُناخ، ونَرُود الوِرْدَ النُّقَاخ إذ رأيناهم يَركُضُون كأنهم إلى نُصُبٍ يُوفِضون، فرابنا انْثيالهم، وسألْنا ما بالُهُم? فقيل: قد حضَر نادِيَهم فقيهُ العرب، فإهْرَاعُهم لهذا السبب. فقلت لرُفْقَتي: ألا نشهَدُ مَجمَعَ الحيِّ، لَنَتَبَيَّنَ الرُّشْدَ منَ الغيِّ? فقالوا: لقد أسْمَعْتَ إذْ دعوتَ، ونصحت وما ألَوْتَ. ثم نهضنا نَتَّبع الهادي، ونَؤُمُّ النَّادي، حتى إذا أظْلَلْنا عليه، واستَشْرَفْنا الفقيهَ المَنْهودَ إليه، ألفيتُه أبا زَيْدٍ ذا الشُّقَر والبُقَر، والفَواقِر والفِقَر، وقد اعتَمَّ القَفْدَاء، واشتملَ الصَّمَّاءَ، وقَعَدَ القُرْفُصَاء، وأعيانُ الحيِّ به مُحْتَفون، وأَخْلاَطُهُم عليهم مُلتَفّون وهو يقول: سَلوني عن المُعْضِلات، واستوضحوا مني المُشْكِلات، فو الذي فَطَر السماء، وعَلم آدمَ الأسماء، إني لفقيهُ العرب العَرْباء، وأعلمُ مَن تحت الجَرْباء، فصََمدَ له فتًى فَتيقُ اللسان، جَرِيُّ الجَنان، فقال: إني حاضَرْتُ فقهاء الدُّنيا حتى انْتَخَلْتُ منهم مائة فُتْيا، فإن كنتَ ممن يَرْغَبُ عن بنات غَيْر، ويرغب منَّا في مَيْر، فاستمِع وأجب لتُقابَل بما يجب. فقال: اللَّه أكبر سَيبينُ المَخْبَر، وينكشف المُضْمَر، فاصدعْ بما تُؤْمَر. فقال: ما تقول فيمن توضَّأَ، ثم لمس ظَهْر نََعْله? قال: انتقضَ وُضوؤه من فِعلِه. قال: فإن تَوضَّأ ثم أتْكَأَهُ البَرْدُ? قال: يجدد الوضوء من بعد. البرد: النوم قال: أيمسح المُتوضِّئ أنْثَيَيْه? قال: قد نُدِبَ إليه ولم يجب عليه، الأنثييان: الأذنان، قال: أيجوز الوضوء مما يَقْذِفُه الثعبان? قال: وهل ماء أنظف منه للعُرْبان. قال: أيستباح ماءُ الضَّرير ? قال: نعم. ويُجْتنَب ماءُ البَصير? قال: أيحلّ التطوّف في الربيع ? قال: يكره ذلك للحدث الشنيع، قال: أيجبُ الغُسْل على مَن أَمْنى ? قال: لا، ولو ثَنّى. قال: فهل يجب على الرجل غسل فَرْوَته? قال: أجل وغسل إبْرَته قال: أيجب عليه غَسْل صحيفته ? قال: نعم، كغسل شفته. قال: فإن أخلَّ بغَسْل فَأْسِه ? قال: هو كما لو ألغى غَسْل رأسه. قال: أيجوزُ الغُسْلُ في الجِراب ? قال: هو كالغُسْل في الجِباب، قال: فما تقول فيمن تيمّم ثم رأى رَوْضاً? قال: بَطَل تَيَمُّمه فليتوضأ، قال: أيجوزُ أن يسجدَ الرّجل في العَذِرة? قال: نعم. ولْيُجانِب القَذِرة. قال: فهل له السجود على الخِلاف? قال: لا، ولا على أحد الأطرَاف. قال: فإن سَجَد على شِماله? قال: لاَ بأْس بِفعاله، قال: أَيُصَلَّى على رأس الكَلْب? قال: نعم كسائر الهَضْب، قال: فهل يجوز السجودُ الكُراع? قال: نعم دون الذِّراع. قال: أيجوزُ للدارس حِملُ المصاحف? قال: لا، ولا حملُها في الملاحف. قال: ما تقولُ فيمن صَلى وعانَتُه بارزَة? قال: فصلاته جائزة، قال: فإن صلّى وعليه صومٌ ? قال: يُعيد ولو صلّى مائة يوم، قال: فإن حَمل جِرْواً) وصلَّى? قال: هو كما حَمل باقِلَّى، قال: أتصِحّ صلاةُ حامِل القَرْوة? قال: لا، ولو صلَّى فوق المَرْوَة، قال: فإن قَطَر على ثَوْبِ المصلِّي نَجْو ? قال: يَمضي في صلاته ولا غَرْو، قال: أيجوزُ أن يَؤُمَّ الرَّجالَ مُقَنَّع? قال: نعم ويؤمُّهم مُدَرَّع، قال: فإن أمَّهم مَنْ في يده وَقْفٌ ? قال: يُعيدون ولو أنهم أَلْف. قال: فإن أَمَّهم مَن فَخذُه بادية? قال: فَصَلاته وصلاتُهم ماضيَة. قال: فإن أَمَّهم الثَّورُ الأَجَمّ? قال: صَلِّ وخلاك ذمّ، قال: أيدخلُ القَصرُ في صلاةِ الشاهد? قال: لا، والغائبِ الشاهد. قال: أيجوزُ للمََعذور أن يُفْطِر في شهر رَمضان? قال: ما رُخِّصَ فيه إلا للصِّبيان، قال: فهل للمعرِّس أن يأكلَ فيه? قال: نعم بملءِ فيه? قال: فإن أفْطَر فيه العُرَاة قال: لا تُنكِر عليهم الوُلاة، قال: فإن أكل الصائِم بعدما أَصْبَحَ. قال: هو أحْوط له وأصْلح، قال: فإن عَمَد لأنْ أكل ليلاً? قال: يُشَمِّر للقضاء ذَيْلاً، قال: فإنْ أكل قبل أن تتوارى البَيضاء? قال: يلزمه واللَّه القَضاء، قال: فإن اسْتثار الصائمُ الكَيْد? قال: أفطر ومَن أحَلَّ الصيد، قال: فهل يفطر بإلْحاحِ الطّابخ? قال: نعم، لا بِطاهي المطابخ، قال: فإن ضَحِكت المرأةُ في صَوْمها? قال: بطلَ صومُ يومها، قال: فإن ظهر الجُدَريّ على ضَرَّتها قال: تُفْطر إن آذن بمَضَرَّتها، قال: مايجب في مائة مصباح? قال: حِقّتان يا صاح، قال: فإن مَلَك عَشْر خَناجر? قال:يُخْرج شاتين ولا يُشَاجر، قال: فإنْ سَمح للساعي بحَميمَتهِ ? قال: يا بُشرَِى له يوم قيامته، قال: أيَسْتَحِقّ حَمَلةُ الأوزار من الزَّكاة جُزَّاً? قال: نعم، إذا كانوا غُزّى، قال: فهل يجوزُ للحاجِّ أن يَعتَمِرْ? قال: لا، ولا أن يَخْتمِر، قال: فهل له أن يقتل الشُّجاع? قال: نعم كما يَقتُل السِّباع، قال فإن قتل زَمَّارةً في الحرَم? قال عليه بَدَنة من النَّعم، قال: فإن رَمى ساقَ حُرٍّ فجدّله? قال: يُخْرِج شاةً بَدَله، قال: فإنْ قتل أمّ عَوْف بعد الإحرام? قال: يتصدَّق بقُبضَةٍ من الطعام، قال: أيجبُ على الحاجّ استصحابُ القارب? قال: نعم، ليسُوقَهم إلى المشَارب، قال: ما تقول في الحرام بعد السَّبْت? قال: قد حلَّ في ذلك الوقت، قال: ما تقولُ في بَيْع الكُمَيْت? قال: حرامٌ كبيع المَيْتِ، قال: أيجوزُ بيع الخلّ بلحم الجَمل? قال: لا، ولا بلحم الحمل.
قال: أيجوزُ بيع الهديّة ? قال: لا ولا بيع السبّية.
قال: ما تقول في بيع العَقيقة ? قال: مكروه على الحقيقة.
قال: أيجوز بيع الدّاعي على الرَّاعي? قال: لا، ولا على الساعي.
قال: أيُباع الصّقْر بالتّمر? قال: لا، ومالكِ الخلق والأمر.
قال: أيشتري المُسْلم سَلَبَ المسلمات? قال: نعم، ويُورَث عنه إذا مات.
قال: فهل يجوزُ أن يُبْتاع الشَّافِع ? قال: نعم، ما لِجَوازه من دافِع.
قال: أيُباع الإبريق على بني الأصفر ? قال: يُكره كبيع المِغْفر.
قال: ما تقولُ في مَيْتة الكافر ? قال: حِلٌّ للمقيم والمسافر.
قال: أيجوزُ أن يضحَّى بالحُول ? قال: هو أجدرُ بالقَبول.
قال: فهل يُضَحّى بالطالِق? قال: نعم، ويُقْرَى منها الطَّارق.
قال: فإن ضَحّى قبل ظهور الغَزَالة? قال: شاةُ لحمٍ لا محالة.
قال: أيحلّ التكسّب بالطَّرْق? قال: هو كالقِمار بلا فَرْق.
قال: أيسلِّم القائمُ على القاعد? قال: محظور على الأباعد.
قال: أينامُ العاقلُ تحت الرقيع? قال: أحْبِب به في البَقيع.
قال: أيُمنع الذمّي من قَتْل العَجوز? قال: معارَضتُه في العجوز لا تجوز.
قال: أيجوزُ أن ينتقل الرجل عن عمارة أبيه? قال: ما جُوِّزَ لخاملٍ ولا نبيه.
قال: ما تقولُ في التهوُّد ? قال: هو مِفْتاح التزهّد.
قال: ما تقولُ في صَبْر البَليّة ? قال: أعْظِم به من خَطِيّة.
قال: أيحلُّ ضَرْب السَّفِير ? قال: نعم، والحَمْلُ على المُسْتَشِير.
قال: أيجوزُ أن يبيعَ الرجلُ صَيْفِيّه ? قال: لا، ولكنْ لِيَبِعْ صفِيّه.
قال: فإن اشترى عَبْداً فَبَان بأُمِّه جِراح? قال: ما في رَدِّه من جُناح.
قال: أتثبتُ الشُّفْعة للشريك في الصَّحْراء? قال: لا، ولا للشريك في الصفراء.
قال: أيحلّ أن يُحْمَى ماء البئر والخَلاَ? قال: إن كان في الفَلاَ فَلاَ.
قال: أيُعَزِّرُ الرجلُ أباه? قال: يفعله البَرُّ ولا يأباه.
قال: ما تقولُ فيمن أفْقر أخاه? قال: حبَّذا ما توخَّاه.
قال: فإن أعْرَى ولدَه? قال: ياحُسْنَ ما اعتمدَه.
قال: فإن أصْلى مملوكه النار? قال: لا إثم عليه ولا عار.
قال: أيجوز للمرأة أن تَصْرم بَعْلها? قال: ما حظَر أحدٌ فِعْلَها، قال: أتؤدَّبُ المرأةُ على الخَجَل? قال: أجَل.
قال: ما تقولُ فيمن نَحَت أَثْلة أخيه? قال: أثِم ولو أذِن له فيه.
قال: أيَحجر الحاكم على صاحب الثّوْر? قال: نعم، ليَأْمن غائلة الجَوْر، قال: فهل له أن يضرب على يد اليتيم? قال: نعم، إلى أن يستقيم.
قال: فهل يجوزُ أن يتَّخِذ له رَبَضاً? قال: لا، ولو كان له رِضاً.
قال: فمتى يبيعُ بدَنَ السَّفِيه? قال: حين يرى الحظّ له فيه.
قال: فهل يجوزُ أن يبتاعَ له حشّا? قال: نعم إذا لم يكن مُغَشّى.
قال: أيجوزُ أن يكون الحاكم ظالمًا? قال: نعم ، إذا كان عالماً.
قال: أيُسْتَقْضَى من ليست له بصيرة? قال: نعم، إذا حَسُنت منه السيرة.
قال: فإن تعرَّى من العَقْل? قال: ذاك عُنوان الفَضْل.
قال: فإن كان له زَهْوُ جَبّار? قال: لا إنكار عليه ولا إكبار.
قال: أيجوزُ أن يكون الشاهدُ مُرِيبًا? قال: نعم، إذا كان أَريباً.
قال: فإن بانَ أنه لاَط ? قال: هو كما لو خاط.
قال: فإن عُثر على أنه غَرْبَل ? قال: تُردّ شَهادَته ولا تُقْبل.
قال: فإن وَضح أنه مائن ? قال: هو وصفٌ له زَائن.
قال: ما يجبُ على عابد الحقّ? قال: يحلفُ بإلَه الخلْق.
قال: ما تقولُ فيمن فقأ عينَ بُلْبل عامداً? قال: تُفقأَ عينُه قولاً واحداً.
قال: فإن جَرَحَ قَطاة امرأةٍ فماتت? قال: النفسُ بالنفس إذا فاتتْ.
قال: فإن ألقَت المرأة حشيشاً من ضَرْبه? قال: ليكفِّرْ بالإعتاق عن ذَنْبه.
قال: ما يجب على المختَفي في الشَّرْع? قال: القَطْعُ لإقامة الرَّدْع.
قال: ما يُصنَع بمن سرق أساودَ الدار? قال: يُقْطع إن ساوَِيْنَ رُبْع دينار.
قال: فإنْ سرَق ثميناً من ذَهَب? قال: لا قَطْع كما لو غَصَب.
قال: فإن بانَ على المرأة السَّرَق? قال: لا حرَج عليها ولا فرَق.
قال: أينعقدُ نكاحٌ لم تشهده القَوَاري? قال: لا، والخالق الباري.
القواري: الشهود، لأنهم يقرون الأشياء أي يتتبَّعونها، والقواري: اسم طيور خُضْر تتشاءمُ بها العرب.
قال: فما تقول في عروس باتت بليلة حُرّة، ثم ردت في حافرتها بسُحْرة? قال: يجبُ لها نِصْفُ الصداق ولا يجب عليها عدَّة الطلاق.
يقال: باتت العروس بليلة حرة: إذا لم يفتضها زوجها فإن افتضّها قيل: باتت بليلة شيباء.
وفي فتاوى فقيه العرب: سُئل عن بِرّ سقطت في هِلال، قال: نجس، البِرّ: الفأْرة، والهِلال: بقيّةُ الماء في الحوض.
وقال الإمام فخر الدين الرازي في مناقب الشافعي رضي اللَّه عنه: سُئل الشافعي عن بعض المسائل بألفاظ غريبة ، فأجاب عنها في الحال.
من ذلك: قيل له: كم قِرا أمّ فلاح? فأجابَ على البديهة: من ابن ذُكاء إلى أم شملة، القرا: الوقت، وأم فلاح: الفَجْر، وهو كنية للصلاة، وابن ذُكاء: الصُّبْح، وأم شَمْلَة: كنية الشمس.
وسُئل : نسِي أبو دِرَاس درسه قبل غَيْبة الغزالة بلَحْظة، ماذا يجب? قال: قضاء وظيفة العصرين، قال السائل: بجناية جَناها أبو دِرَاس? قال الشافعي: لا، بل لكرامةٍ استحقّتها أمه.
أبو دِراس: كُنية فَرْج المرأة ، والدَّرس: الحيض، وقوله نسي دَرسه: أي ترك حيضه. والغزالة: الشمس، وأم دِراس: المرأة، والعصران: الظهر و العصْر.
وسئل: هل تسمع شهادة الخالق? قال: لا، ولا روايته، الخالق: الكاذب.
وسُئل: فارسُ المعركة إذا قَضَى على أبي المَضَاء قبل أن يَحْمَى الوَطيس، هل يستحق السهم? قال: نعم، إذا أدرك الوَقْعة، قَضى: مات، وأبو المَضَاء: كُنْية الفَرس.
وسئل: هل مِنْ وضوء على من حَنِقه الحَنَق فاستشاطه? قال: لا، وأحب له الوضوء، الحنَق: شدَّة الحقد، والاستشاطة: شدة الغضب.
وسئلَ: أخضر ابنُ ذُكاء، والزوجان في الحركة، هل ضرّ صَوْمهما? فقال: إن نزع من غير مَكْث لم يضره - يعني طلُوع الفَجْر.
وفي الدرة الأدبيّة لابن نبهان: من فُتْيا فقيه العرب: يجوز السجود على الخدّ إن كان طاهراً - يعني الطريق، يُفْسِد لُعابُ البَصير الماءَ القليل - يعني الكلب. يكره أن تطوف بالبيت عاتِكة - وهي المتضمّخة بالطيب.
يحر م قتل العِكْرِمة، وعليه شاة - يعني الحمامة.
وفي شرح المنهاج للكمال الدميري: سئل فقيه العرب عن الوضوء من الإناء المُعوَّج، فقال: إن أصاب الماء تَعْويجه لم يَجُز، وإلاَّ جاز. والمراد بالمعُوَّج المضبّب بالعاج، وهو ناب الفِيلة، ولا يُسَمى غيرها عاجاً.
قال: وليس مراد ابن خالويه والحريري بفقيه العرب شخصاً معيَّناً، إنما يذكرون ألغازاً ومُلَحاً ينسبونها إليه، وهو مجهول لا يُعرف، ونَكِرَة لا تتعرّف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق