فضل الغناء من كتاب المختار من كتاب اللهو والملاهي لابن خرداذبة
كتبهابلال عبد الهادي ، في 23 أيار 2012 الساعة: 06:48 ص
فضل الغناء على المنطق كفضل المنطق على الخرس،
والبرؤ على السقم، والدينار على الدرهم. وفضل العود على جميع الملاهي كفضل الإنسان
المميز على سائر الحيوان. وأول من اتخذ العود لمك بن متوشيل بن محويل بن عبرد بن
أخنوخ بن قينان بن آدم.
كان له ابناً كذا يحبه حباً شديداً فمات. فعلّقه بشجرة
وقال: انظر إليه أبداً فتقطعت أوصاله حتى بقي منه فخذه والساق والقدم والأصابع.
فأخذ خشباً فرقّقه وألزقه فجعل صورة العود كالفخذ وعنقه كالساق والبنجك كالقدم
والملاوي كالأصابع والأوتار كالعروق. ثم ضرب به وناح عليه فنطق العود. قال الحمدوي:
وناطقٍ بلسان لا ضمـيرَ لـه
كأنَّه فخذ نيطت إلـى
قـدم
يُبدي ضمير سواه في الحـديث
يُبدي ضمير سواه منطق القلم
وعمل توبل ابن لمك الطبول والدففة. وعملت صلا
ابنة لمك المعازف. ثم عمل قوم لوط الطنابير يستميلون بها الغلمان. ثم اتخذ الرعا
والأكراد أنواعاً مما يصفّر به. كانت أغنامهم إذا تفرقت صفروا لها فاجتمعت.
ثم
سوّت الفلاسفة العود. قال فيذرس الرومي: جُعلت الأوتار الأربعة بازاء الطبائع
الأربعة. فجعل الزير بازاء المرّة الصفراء والمثنى بازاء الدم والمثلث بازاء البلغم
والبمّ بازاء السوداء. فالزير للخنصر والمثنى للبنصر ووزنه ضعف وزن الزير والمثلث
للوسطى ووزنه ضعفا وزن الزير والبم للسبابة ووزنه ثلاثة أضعاف وزن الزير. واتخذت
الفرس الناي للعود والزنامي للطنبور والسرناي للطبل والمتج للصنج. وكان غناء الفرس
بالعيدان والصنوج وهي لهم ولهم النغم والإيقاعات والمقاطع والكروف وهي ثمانية.
بندستان ثم بهار وهو أفصحها ثم إبرين وهو أكثرها استعمالاً لسفلى الأوتار ثم أبرينه
وهو أجمعها لمحاسن النغَم وأكثرها تصعيداً وتحدراً طبقة إلى طبقة ثم ماذرواسبان وهو
أثقلها وأشدها تأنياً وخروجاً من نغمة إلى أخرى. ثم شسم وهو المختلس بالأصابع
المثقل ثم القبة وهو المحثوث بالإدراج، المستدير في معاطف ألحانه ثم أسبراس وهو
المُدرج الموقوف على نغمه. وكانت الملوك تنام على الغنا ليسري السرور في عروقها.
قال الشاعر:
وغناء مُسْمِعَةٍ تعللنـا
حتى ننام تناوم العجم
وقال كسرى: العود أجلّ الملاهي وودت أني افتديت
اصلاحه بماية ألف درهم.
وللفرس الونج وعليه سبعة أوتار وإيقاعه يشبه إيقاع الصنج
وبه كان غناء أهل خراسان وما والاها.
وكان غناء أهل الري وطبرستان والديلم
بالطنابير. وكانت الفرس تقدم الطنبور على كثير من الملاهي.
وكان غناء النبط
والجرامقة بالغندورات وإيقاعها يشبه إيقاع الطنابير.
وكان أكبر مغن للفرس أيام
كسرى أبرويز بهلبذ وكان مروزيَّاًًًًً ضارباً بالعود حاذقاً فايقاً يغني بكالم
موزون يركب له الألحان وكان إذا حدث ما يجبن الكُتّاب وأصحاب الأخبار عن أنهايه إلى
الملك، أعلموه فغنى فيه وضرب عليه ضرباً يسكن من الغضب. وكان ما غناه من هذا الضرب
ومن أصواته المعروفة في المديح وفي التهنية وما أشبه ذلك خمسة وسبعون صوتاً منها
صوته.
عسا زيارة قيصر وخاقان كسرى أبرويز
قيصر ماه مانـذ وخـاقـان
خـرشـيد
أي قيصر يشبه القمر وخاقان
الشمـس
إن من خذاي أدرما نـذكـا
مـغـاران
أي الذي هو مولاي يشبه الغيم
المتمكـن
كخاهذ ماه بوشد كـخـاهـذ
خـرشـيد
أي إذا شاء غطا القمر وإذا شاء الشمس وكان له مع
غنائه ظرف وأدب فطرب له أبرويز في ليله باردة، فدعا به وعنده سيرين.
فقال له:
اشتقت إليك وأحببت أن أقطع بك ليلتي.فشربنا وغنا حتى سكر بهلبذ وخرج ليبول فسقط عند
أصل سدرة فنام فقال أبرويز لسيرين: قد أبطا ضيفنا وخرج فرآه نايماً فطرح عليه جزر
سمور كان عليه. فلما كان وجه الصبح قال أبرويز لسيرين: ما ترين حال ضيفنا. قالت:
الملك أعلم.
قال: أراه هبّ من نومه فرأى ثوبي عليه فعرفه فأجلّه فنزعه ونزع قباه
فبسطه ووضع ثوبي عليه وكفر قائماً عنده. فقالت سيرين إن كان هكذا فالملك ينظر بنور
الله. قال: قومي فقاما فوجداه كذلك فأمر له بمال وأقطعه براز الروز وقطائعاً
بالريّ.
ثمّ مرّ أبرويز في طريق فرأى غلاماً فارسياً يقال له شركاس معه بقرة
عليها سماد وهو يغني فأعجبه حسن خلقه. فضمه إلى بَهْلبذ وأمره بتعليمه الغناء. فحذق
وفاقه فحسده بهلبذ فقتله. ودعا به أبرويز قال: هو عليل. ثم بلغه خبره فقال لبهلبذ
أبي حسد صدرك ونغل جوفك إلا قتله وقد علمت أني كنت أستريح منك إليه ومنه إليك فذهبت
بشطر طربي. وأمر بإلقائه تحت الفيلة.
فقال: أيها الملك إذا قتلت أنا شطر طربك
وقتلتني فقتلت أنت الشطر الآخر.
ألاتكون جنايتك على طربك أكثر من
جنايتي.
فقال كسرى. ما دله عليّ هذا الكلام إلا ما جعل الله له من المدة وأمر
بتخليته. وبقي بهلبذ بعد كسرى دهراً.
وللروم من الملاهي الأرغن وعليه ستة عشر
وتراً وله صوت بعيد المذهب وهو من صنعة اليونان والسلياني وله أربعة وعشرون وتراً
وتفسيره ألف صوت. ولهم اللورا وهي الرباب وهو من خشب وله خمسة أوتار ولهم القيثارة
ولها اثنا عشر وتراً ولهم الصلنج من جلود العجاجيل وكل هذه معازف مختلفة
الصنعة.
وللهند الكركله وهي وتر واحد يمدّ على قرعةٍ فيقوم مقام العود والصنج.
وكان الحداء في العرب قبل الغناء.
روي أن مضر بن نزار خرج في مال له فوجد غلامه
قد تفرقت عنه الإبل فشد عليه فضربه على يده بعصاً فعدا الغلام وهو يصيح وايداه
وايداه. فسمعت الإبل صوته فتعطَّفت عليه، فقال مُضر لو اشتق من الكلام مثل هذا لكان
يشا تجتمع عليه الإبل.
فاشتقّ حينئذ الحدا هادياً هادياً على قوله وايداه
وايداه. فكان الحدا أول السماع والترجيع في العرب. ثم اشتق الغناء من الحداء حباب
بن عبد الله الكلبي فغنى النصب وتمن نساء العرب على موتاهن ولم أرَ أمه بعد الفرس
والروم أولع بالملاهي ولا أطرب من العرب. وكان غناءهم النصب ثلاثة أجناس: الركباني
والسناد الثقيل والهزج الخفيف. فأول من غنى من العرب العاربة الجرادتان وكانتا
قينتين على عهد عاد لمعوية بن بكر العملقي وكانت تسمّى القينة الكرينة والعود
المزمر. قال لبيد:
أغلى السباء بكل أدكن
عاتـقٍ
أوجونةٍ قدحت وفض ختامها
بصبوح صافيةٍ وجذب كرينةٍ
بموتّر تأتالهُ
إبـهـامـهـا
ثم غنى جُذيمة الخزُاعي بن سعد بن عمرو بن ربيعة
بن حارثة بن عمر بن عامر وكان من أحسن الناس صوتاً فسمي المصطلق وهو الحسن الخلق في
كلام العرب غناء النصب.
ثم غنى بعده ربيعة وهو ضبيس الخُزاعي بن حزام بن حيشة بن
سلول بن كعب بن عمرو بن عامر.
ثم غنى زمام بن خطام الكلبي الذي يقول فيه الصمة
القشيري:
دعوت زماماً للهوى فأجابني
واي فتى للّهو بعد
زمـام
كتبهابلال عبد الهادي ، في 23 أيار 2012 الساعة: 06:48 ص
فضل الغناء على المنطق كفضل المنطق على الخرس،
والبرؤ على السقم، والدينار على الدرهم. وفضل العود على جميع الملاهي كفضل الإنسان
المميز على سائر الحيوان. وأول من اتخذ العود لمك بن متوشيل بن محويل بن عبرد بن
أخنوخ بن قينان بن آدم.
كان له ابناً كذا يحبه حباً شديداً فمات. فعلّقه بشجرة وقال: انظر إليه أبداً فتقطعت أوصاله حتى بقي منه فخذه والساق والقدم والأصابع. فأخذ خشباً فرقّقه وألزقه فجعل صورة العود كالفخذ وعنقه كالساق والبنجك كالقدم والملاوي كالأصابع والأوتار كالعروق. ثم ضرب به وناح عليه فنطق العود. قال الحمدوي:
وعمل توبل ابن لمك الطبول والدففة. وعملت صلا
ابنة لمك المعازف. ثم عمل قوم لوط الطنابير يستميلون بها الغلمان. ثم اتخذ الرعا
والأكراد أنواعاً مما يصفّر به. كانت أغنامهم إذا تفرقت صفروا لها فاجتمعت.
ثم سوّت الفلاسفة العود. قال فيذرس الرومي: جُعلت الأوتار الأربعة بازاء الطبائع الأربعة. فجعل الزير بازاء المرّة الصفراء والمثنى بازاء الدم والمثلث بازاء البلغم والبمّ بازاء السوداء. فالزير للخنصر والمثنى للبنصر ووزنه ضعف وزن الزير والمثلث للوسطى ووزنه ضعفا وزن الزير والبم للسبابة ووزنه ثلاثة أضعاف وزن الزير. واتخذت الفرس الناي للعود والزنامي للطنبور والسرناي للطبل والمتج للصنج. وكان غناء الفرس بالعيدان والصنوج وهي لهم ولهم النغم والإيقاعات والمقاطع والكروف وهي ثمانية. بندستان ثم بهار وهو أفصحها ثم إبرين وهو أكثرها استعمالاً لسفلى الأوتار ثم أبرينه وهو أجمعها لمحاسن النغَم وأكثرها تصعيداً وتحدراً طبقة إلى طبقة ثم ماذرواسبان وهو أثقلها وأشدها تأنياً وخروجاً من نغمة إلى أخرى. ثم شسم وهو المختلس بالأصابع المثقل ثم القبة وهو المحثوث بالإدراج، المستدير في معاطف ألحانه ثم أسبراس وهو المُدرج الموقوف على نغمه. وكانت الملوك تنام على الغنا ليسري السرور في عروقها. قال الشاعر:
وقال كسرى: العود أجلّ الملاهي وودت أني افتديت
اصلاحه بماية ألف درهم.
وللفرس الونج وعليه سبعة أوتار وإيقاعه يشبه إيقاع الصنج وبه كان غناء أهل خراسان وما والاها.
وكان غناء أهل الري وطبرستان والديلم بالطنابير. وكانت الفرس تقدم الطنبور على كثير من الملاهي.
وكان غناء النبط والجرامقة بالغندورات وإيقاعها يشبه إيقاع الطنابير.
وكان أكبر مغن للفرس أيام كسرى أبرويز بهلبذ وكان مروزيَّاًًًًً ضارباً بالعود حاذقاً فايقاً يغني بكالم موزون يركب له الألحان وكان إذا حدث ما يجبن الكُتّاب وأصحاب الأخبار عن أنهايه إلى الملك، أعلموه فغنى فيه وضرب عليه ضرباً يسكن من الغضب. وكان ما غناه من هذا الضرب ومن أصواته المعروفة في المديح وفي التهنية وما أشبه ذلك خمسة وسبعون صوتاً منها صوته.
أي إذا شاء غطا القمر وإذا شاء الشمس وكان له مع
غنائه ظرف وأدب فطرب له أبرويز في ليله باردة، فدعا به وعنده سيرين.
فقال له: اشتقت إليك وأحببت أن أقطع بك ليلتي.فشربنا وغنا حتى سكر بهلبذ وخرج ليبول فسقط عند أصل سدرة فنام فقال أبرويز لسيرين: قد أبطا ضيفنا وخرج فرآه نايماً فطرح عليه جزر سمور كان عليه. فلما كان وجه الصبح قال أبرويز لسيرين: ما ترين حال ضيفنا. قالت: الملك أعلم.
قال: أراه هبّ من نومه فرأى ثوبي عليه فعرفه فأجلّه فنزعه ونزع قباه فبسطه ووضع ثوبي عليه وكفر قائماً عنده. فقالت سيرين إن كان هكذا فالملك ينظر بنور الله. قال: قومي فقاما فوجداه كذلك فأمر له بمال وأقطعه براز الروز وقطائعاً بالريّ.
ثمّ مرّ أبرويز في طريق فرأى غلاماً فارسياً يقال له شركاس معه بقرة عليها سماد وهو يغني فأعجبه حسن خلقه. فضمه إلى بَهْلبذ وأمره بتعليمه الغناء. فحذق وفاقه فحسده بهلبذ فقتله. ودعا به أبرويز قال: هو عليل. ثم بلغه خبره فقال لبهلبذ أبي حسد صدرك ونغل جوفك إلا قتله وقد علمت أني كنت أستريح منك إليه ومنه إليك فذهبت بشطر طربي. وأمر بإلقائه تحت الفيلة.
فقال: أيها الملك إذا قتلت أنا شطر طربك وقتلتني فقتلت أنت الشطر الآخر.
ألاتكون جنايتك على طربك أكثر من جنايتي.
فقال كسرى. ما دله عليّ هذا الكلام إلا ما جعل الله له من المدة وأمر بتخليته. وبقي بهلبذ بعد كسرى دهراً.
وللروم من الملاهي الأرغن وعليه ستة عشر وتراً وله صوت بعيد المذهب وهو من صنعة اليونان والسلياني وله أربعة وعشرون وتراً وتفسيره ألف صوت. ولهم اللورا وهي الرباب وهو من خشب وله خمسة أوتار ولهم القيثارة ولها اثنا عشر وتراً ولهم الصلنج من جلود العجاجيل وكل هذه معازف مختلفة الصنعة.
وللهند الكركله وهي وتر واحد يمدّ على قرعةٍ فيقوم مقام العود والصنج. وكان الحداء في العرب قبل الغناء.
روي أن مضر بن نزار خرج في مال له فوجد غلامه قد تفرقت عنه الإبل فشد عليه فضربه على يده بعصاً فعدا الغلام وهو يصيح وايداه وايداه. فسمعت الإبل صوته فتعطَّفت عليه، فقال مُضر لو اشتق من الكلام مثل هذا لكان يشا تجتمع عليه الإبل.
فاشتقّ حينئذ الحدا هادياً هادياً على قوله وايداه وايداه. فكان الحدا أول السماع والترجيع في العرب. ثم اشتق الغناء من الحداء حباب بن عبد الله الكلبي فغنى النصب وتمن نساء العرب على موتاهن ولم أرَ أمه بعد الفرس والروم أولع بالملاهي ولا أطرب من العرب. وكان غناءهم النصب ثلاثة أجناس: الركباني والسناد الثقيل والهزج الخفيف. فأول من غنى من العرب العاربة الجرادتان وكانتا قينتين على عهد عاد لمعوية بن بكر العملقي وكانت تسمّى القينة الكرينة والعود المزمر. قال لبيد:
ثم غنى جُذيمة الخزُاعي بن سعد بن عمرو بن ربيعة
بن حارثة بن عمر بن عامر وكان من أحسن الناس صوتاً فسمي المصطلق وهو الحسن الخلق في
كلام العرب غناء النصب.
ثم غنى بعده ربيعة وهو ضبيس الخُزاعي بن حزام بن حيشة بن سلول بن كعب بن عمرو بن عامر.
ثم غنى زمام بن خطام الكلبي الذي يقول فيه الصمة القشيري:
كان له ابناً كذا يحبه حباً شديداً فمات. فعلّقه بشجرة وقال: انظر إليه أبداً فتقطعت أوصاله حتى بقي منه فخذه والساق والقدم والأصابع. فأخذ خشباً فرقّقه وألزقه فجعل صورة العود كالفخذ وعنقه كالساق والبنجك كالقدم والملاوي كالأصابع والأوتار كالعروق. ثم ضرب به وناح عليه فنطق العود. قال الحمدوي:
وناطقٍ بلسان لا ضمـيرَ لـه | كأنَّه فخذ نيطت إلـى قـدم | |
يُبدي ضمير سواه في الحـديث | يُبدي ضمير سواه منطق القلم |
ثم سوّت الفلاسفة العود. قال فيذرس الرومي: جُعلت الأوتار الأربعة بازاء الطبائع الأربعة. فجعل الزير بازاء المرّة الصفراء والمثنى بازاء الدم والمثلث بازاء البلغم والبمّ بازاء السوداء. فالزير للخنصر والمثنى للبنصر ووزنه ضعف وزن الزير والمثلث للوسطى ووزنه ضعفا وزن الزير والبم للسبابة ووزنه ثلاثة أضعاف وزن الزير. واتخذت الفرس الناي للعود والزنامي للطنبور والسرناي للطبل والمتج للصنج. وكان غناء الفرس بالعيدان والصنوج وهي لهم ولهم النغم والإيقاعات والمقاطع والكروف وهي ثمانية. بندستان ثم بهار وهو أفصحها ثم إبرين وهو أكثرها استعمالاً لسفلى الأوتار ثم أبرينه وهو أجمعها لمحاسن النغَم وأكثرها تصعيداً وتحدراً طبقة إلى طبقة ثم ماذرواسبان وهو أثقلها وأشدها تأنياً وخروجاً من نغمة إلى أخرى. ثم شسم وهو المختلس بالأصابع المثقل ثم القبة وهو المحثوث بالإدراج، المستدير في معاطف ألحانه ثم أسبراس وهو المُدرج الموقوف على نغمه. وكانت الملوك تنام على الغنا ليسري السرور في عروقها. قال الشاعر:
وغناء مُسْمِعَةٍ تعللنـا | حتى ننام تناوم العجم |
وللفرس الونج وعليه سبعة أوتار وإيقاعه يشبه إيقاع الصنج وبه كان غناء أهل خراسان وما والاها.
وكان غناء أهل الري وطبرستان والديلم بالطنابير. وكانت الفرس تقدم الطنبور على كثير من الملاهي.
وكان غناء النبط والجرامقة بالغندورات وإيقاعها يشبه إيقاع الطنابير.
وكان أكبر مغن للفرس أيام كسرى أبرويز بهلبذ وكان مروزيَّاًًًًً ضارباً بالعود حاذقاً فايقاً يغني بكالم موزون يركب له الألحان وكان إذا حدث ما يجبن الكُتّاب وأصحاب الأخبار عن أنهايه إلى الملك، أعلموه فغنى فيه وضرب عليه ضرباً يسكن من الغضب. وكان ما غناه من هذا الضرب ومن أصواته المعروفة في المديح وفي التهنية وما أشبه ذلك خمسة وسبعون صوتاً منها صوته.
عسا زيارة قيصر وخاقان كسرى أبرويز |
قيصر ماه مانـذ وخـاقـان خـرشـيد |
أي قيصر يشبه القمر وخاقان الشمـس |
إن من خذاي أدرما نـذكـا مـغـاران |
أي الذي هو مولاي يشبه الغيم المتمكـن |
كخاهذ ماه بوشد كـخـاهـذ خـرشـيد |
فقال له: اشتقت إليك وأحببت أن أقطع بك ليلتي.فشربنا وغنا حتى سكر بهلبذ وخرج ليبول فسقط عند أصل سدرة فنام فقال أبرويز لسيرين: قد أبطا ضيفنا وخرج فرآه نايماً فطرح عليه جزر سمور كان عليه. فلما كان وجه الصبح قال أبرويز لسيرين: ما ترين حال ضيفنا. قالت: الملك أعلم.
قال: أراه هبّ من نومه فرأى ثوبي عليه فعرفه فأجلّه فنزعه ونزع قباه فبسطه ووضع ثوبي عليه وكفر قائماً عنده. فقالت سيرين إن كان هكذا فالملك ينظر بنور الله. قال: قومي فقاما فوجداه كذلك فأمر له بمال وأقطعه براز الروز وقطائعاً بالريّ.
ثمّ مرّ أبرويز في طريق فرأى غلاماً فارسياً يقال له شركاس معه بقرة عليها سماد وهو يغني فأعجبه حسن خلقه. فضمه إلى بَهْلبذ وأمره بتعليمه الغناء. فحذق وفاقه فحسده بهلبذ فقتله. ودعا به أبرويز قال: هو عليل. ثم بلغه خبره فقال لبهلبذ أبي حسد صدرك ونغل جوفك إلا قتله وقد علمت أني كنت أستريح منك إليه ومنه إليك فذهبت بشطر طربي. وأمر بإلقائه تحت الفيلة.
فقال: أيها الملك إذا قتلت أنا شطر طربك وقتلتني فقتلت أنت الشطر الآخر.
ألاتكون جنايتك على طربك أكثر من جنايتي.
فقال كسرى. ما دله عليّ هذا الكلام إلا ما جعل الله له من المدة وأمر بتخليته. وبقي بهلبذ بعد كسرى دهراً.
وللروم من الملاهي الأرغن وعليه ستة عشر وتراً وله صوت بعيد المذهب وهو من صنعة اليونان والسلياني وله أربعة وعشرون وتراً وتفسيره ألف صوت. ولهم اللورا وهي الرباب وهو من خشب وله خمسة أوتار ولهم القيثارة ولها اثنا عشر وتراً ولهم الصلنج من جلود العجاجيل وكل هذه معازف مختلفة الصنعة.
وللهند الكركله وهي وتر واحد يمدّ على قرعةٍ فيقوم مقام العود والصنج. وكان الحداء في العرب قبل الغناء.
روي أن مضر بن نزار خرج في مال له فوجد غلامه قد تفرقت عنه الإبل فشد عليه فضربه على يده بعصاً فعدا الغلام وهو يصيح وايداه وايداه. فسمعت الإبل صوته فتعطَّفت عليه، فقال مُضر لو اشتق من الكلام مثل هذا لكان يشا تجتمع عليه الإبل.
فاشتقّ حينئذ الحدا هادياً هادياً على قوله وايداه وايداه. فكان الحدا أول السماع والترجيع في العرب. ثم اشتق الغناء من الحداء حباب بن عبد الله الكلبي فغنى النصب وتمن نساء العرب على موتاهن ولم أرَ أمه بعد الفرس والروم أولع بالملاهي ولا أطرب من العرب. وكان غناءهم النصب ثلاثة أجناس: الركباني والسناد الثقيل والهزج الخفيف. فأول من غنى من العرب العاربة الجرادتان وكانتا قينتين على عهد عاد لمعوية بن بكر العملقي وكانت تسمّى القينة الكرينة والعود المزمر. قال لبيد:
أغلى السباء بكل أدكن عاتـقٍ | أوجونةٍ قدحت وفض ختامها | |
بصبوح صافيةٍ وجذب كرينةٍ | بموتّر تأتالهُ إبـهـامـهـا |
ثم غنى بعده ربيعة وهو ضبيس الخُزاعي بن حزام بن حيشة بن سلول بن كعب بن عمرو بن عامر.
ثم غنى زمام بن خطام الكلبي الذي يقول فيه الصمة القشيري:
دعوت زماماً للهوى فأجابني | واي فتى للّهو بعد زمـام |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق