كتبهابلال عبد الهادي ، في 30 تموز 2011 الساعة: 16:42 م
أنت تكره المقابلات
الصحفية لأن وسائل الإعلام، كما تقول، تعرض للمشكلات التي تثير اهتمامك بتأخير يبلغ
عشرين عاما عن الأحداث نفسها. فهل تشذ المنافسة بين المكتوب والصورة عن هذه
القاعدة؟
أمبرتو ايكو: أبدا!
والدليل هو أنكم تسألون عما إذا كان المكتوب قد خسر الحرب في مواجهة السمعي- البصري
في اللحظة التي ينتصر فيها بشكل مطلق لأول مرة في التاريخ بفضل الحاسوب الذي يقلب
علاقاته بالصورة- بما أنه توجد كلمات على شاشة الكمبيوتر، وهو أمر لم يكن بالطبع
موجود على شاشة التلفاز. إننا نعيش تحولا في النوع سوف ألخصه على هذا النحو: اليوم،
صار يمكن لأي موظف أن يقرأ معلومات على شاشة صغيرة بسرعة فائقة. إن الحاسوب يمثل
حضارة الأبجدية، مثلما كانت الحضارات، من الهرم إلى الكنيسة الباروكية، حضارات صورة
إذن، والأسئلة التي سوف تطرح من الآن فصاعدا هي أسئلة مختلفة، مثلا: هل ينشط نشر
المعرفة عبر الكمبيوتر نشر المعرفة من خلال الكتاب أم لا؟ ثم كيف تؤثر السرعة في
كيفية امتصاصنا للمعلومة؟ وهل يولد الإفراط في المكتوب (المطبوعات والمنشورات
بمختلف أنواعها، والإفراط الجنوني في النسخ الإلكتروني للوثائق، و الهجوم المطلق
لهذه المنشورات الذاتية التي تخرج للهواء الطلق من الفاكس)، هل يولد ذلك أمراضا
جديدة مثلما قد يحدث عند الإفراط في الأكل بعد قرون من المجاعة؟
- كيف تفسر النمو المتزامن
لاستهلاك الصور (سينما وتلفزيون، إشهار) واستهلاك الأعمال المكتوبة؟
أمبرتو ايكو:
يمكننا أن نكتفي بتفسير تكنولوجي وهو أن آلات جديدة تبهر مستهلكين مختلفين بشكل
مواز. لكن غالبا ما يكون نفس الأشخاص هم الذين يستخدمون هذه الوسائط المتعددة.
ويبدو لي أن المعلومة التي تمررها الصورة لا تلغي الحاجة إلى المعلومة التي تصل عبر
المكتوب إلا لدى الأشخاص العاديين الذين يشكلون بعض الخطورة. لكن لدى أكثرية
الأشخاص العاديين يحدث هذا النوع من المعلومات بالعكس فضولا لما هو مطبوع. وأعتقد
أن هناك دافعين متناقضين. الأول هو الحاجة الطفولية إن لم نقل المرضية للتكرار،
فأنا أعلم عن طريق التلفاز أن السيد فلان قد سقط من النافذة وقراءة ذلك في الغد في
الجريدة يطمئنني ويجعلني واثقا من نفسي، إنها الطقوس والإيقاع. والدافع الآخر هو
الحاجة إلى التعمق والتفكير، لأن السمعي،-البصري يخلف إحساسا بعدم الاكتفاء. وليس
صدفة أن يوجد اليوم هذا الكم الهائل من الجرائد والكتب وهذه الجموع الغفيرة في
المكتبات. وهنا أكرر أن الحديث عن حرب بين المرئي والمكتوب يبدو لي أمرا قد تجاوزته
الأحداث كليا. بل يجب، على العكس، تحليل التكامل القائم بين الاثنين وهو قوي
ومتواصل لدرجة أن متعهدي إعلانات "بينيتون" Benetton كانوا على حق عندما وظفوه.
- بأي معنى؟
إمبرتو إيكو: إن
هذا المولود الجديد الملطخ بالدم قد أحدث ثورة في تاريخ الإشهار وقد كانت الصحافة
المكتوبة وحدها هي التي حققت له القبول لدى الرأي العام، وذلك بانتقادها المستمر
لهذه الصورة المقرفة وبإعطائها بعدا جنونيا أو مجتمعيا. وكان ذلك هو ما أراده أهل
الإشهار الذين يبحثون دائم عن تقنيات جديدة ويستمعون للعالم الذي يحيط بهم. لقد
اختاروا، منذ البداية، صورة يعرفون جيدا أنها لن تبقى معروضة إلا زمنا وجيزا في
البلدان التي يوجد بها "بينيتون" واختاروا تنمية مبيعاتهم عبر الخطابات الصحفية
المطبوعة التي لم تكلفهم، فضلا عن ذلك، فلسا واحدا، يا لها من ضربة!
- هذا التكامل بين المكتوب
والصورة هل يبدو لك أمرا حسنا أم سيئا بالنسبة لحضارتنا؟
أمبرتو إيكو:
يتعين علينا أن نرفع التباسا يطغى على حديثنا. فأنا أرفض الموقف المانوي لأشباه
المثقفين الذين يمثل المكتوب بالنسبة إليهم الخير وتمثل الصورة الشر، الأول يمثل
الثقافة والثاني يمثل الفراغ. ودعنا نذكر أن الصورة كانت، أو أنها "دا فنشي" أو
"رفائيل" وأنهما يقولان لنا أشياء لا تستطيع الكلمات قولها. والحال أن النشر، الذي
يفترض أن يكون المكان الحقيقي للمطبوعة، صار هو نفسه أداة لنشر الصورة. وحتى الصحف
والمجلات الأسبوعية صارت تهدي كتيبات حول "فان غوغ"!
كلا، إن ما يثير اهتمامي
في هذا التكامل هو الشكل الذي ينخرط به في تسجيل ذاكرة النوع. ففي مرحلة أولى،
حافظت الإنسانية على آثار تجربتها الماضية عبر التقليد الشفهي. ثم ظهرت الكتابة
التي قامت المكتبة بتضخيم وتعميم طابعها الثوري، فبظهورها مررنا من الخطية الزمنية
للخطاب الملفوظ إلى خطية مكانية تسمح بالسعي لاستعادة المعلومة السابقة بشكل
متواصل. فأنا أستطيع العودة من "ت" إلى "ب" و من ‘ب" إلى "ت". ثم يأتي القرن
العشرون ومعه السينما والتلفزيون. فماذا يحدث؟ إن هذه الحضارة تقترح علينا الوضعية
السابقة لوضعية المطبوعة، وهي وضعية تمتزج فيها الصورة مع الشفهي و يتعاضدان. وهاأن
الحاسوب قد أتى في نهاية القرن ليقلب كل شيء رأسا على عقب بإعادة تشكيله لحضارة
ليست فقط أبجدية وإنما تسلسلية أيضا. بل وأكثر من ذلك، يخول لنا ما نسميه بالنص
المتعالق الحصول في نفس الوقت على معلومات مختلفة متأتية من فضاءات مختلفة من القرص
على الشاشة. وهو في الحقيقة أشبه بكتاب يمكنك أن تستعيد في الآن نفسه الفصول 1 و 3
و 17 و أن تتحصل عليها أمام عينيك في الوقت نفسه.
كيف ستكون ردة فعل الإنسان
إزاء هذا المعطى الثقافي الجديد؟
أمبرتو إيكو:
بأن يثبت أن لديه المرونة اللازمة للتكيف مع هذا النوع من المعلومات الذي يجمع بين
التصور والحدسي. ويرجح أننا سوف نحتاج من أجل ذلك لاستخدام نصفي مخنا عوضا عن تفضيل
أحدهما على حساب الآخر، مثلما مازلنا نفعل إلى حد الآن.
- كل هذا يبعث على الدوار.
فما الذي سنفعله بهذا الكم الهائل من المعلومات؟
أمبرتو إيكو: في
الواقع، نحن نواجه خطر الكثرة وانتصار المكتوب يساهم في ذلك. إنها مأساة. فالإفراط
في المعلومات يعادل الضجيج. وقد فهمت السلطة السياسية في بلداننا ذلك جيدا. فلم تعد
الرقابة تمارس عبر الاحتجاز أو الإقصاء، وإنما عبر الإفراط، إذ يكفي اليوم لتدمير
خبر إرسال خبر آخر خلفه تماما. وأحسن مثال عن ذلك هو ما حدث خلال حرب الخليج. ولكن
يمكننا أن نسوق أمثلة أخرى، في ميادين أخرى. ماذا سيحدث حين تصبح الذاكرة الإنسانية
بأكملها محفوظة في الحاسوب؟ إن بيبليوغرافيا تحتوي على عشرين عنوانا هي مفيدة جدا
ما دام الإنسان سيستبقي منها في النهاية ثلاثة كتب يقرأها. لكن ماذا نفعل
ببيبليوغرافيا تحتوي على 10000 عنوان تظهر بمجرد الضغط على زر بجهاز الكمبيوتر؟
أنلقي بها في سلة المهملات! وبنفس الطريقة يقتل النسخ الإلكتروني القراءة، وبالتالي
المعرفة. في الماضي كنت أذهب إلى المكتبة وآخذ ملاحظات حول الكتب التي تهمني.
والآن، صرت سعيدا جدا بأن
أحمل معي إلى المنزل هذا المخزون من المعرفة الذي قمت بنسخه الكترونيا-لأنه سهل-
لدرجة أنني لا أقوم حتى بفتحه.
كل المشكلة إذن تتمثل في
التوصل لتصفية هذا الإعلام المفرط وأن يتم ذلك فوريا لأنه لم يعد لدينا، للقيام
بهذه التصفية، الوقت الكافي للتفكير الذي كنا نملكه في الماضي.
- إنك بهذا تضع تعريفا
للإنسان الأعلى؟
أمبرتو إيكو:
نعم، ولكن لما كان وجود الإنسان الأعلى مستحيلا فإنه يتعين علينا أن نوجه اهتمامنا
نحو الغزارة المفرطة. ويرجح أننا سوف نبتكر آليات تشبه تلك التي نستخدمها عند
قيادتنا لسيارة لاستبعاد ما لا يناسبنا، وإننا سوف نمارس مسؤوليتنا الشخصية بنفس
الشكل تماما.
-لنعد إلى الكتب التي هي
بمثابة الخزائن التي تودع فيها المعرفة والذاكرة. هل أنت قلق بشأن مستقبلها، أنت
الذي لا تعيش إلا عبر الكتب ومن أجلها؟
أمبرتو إيكو: في
البداية، ألاحظ أننا نعيش في مجتمع تجمع فيه الساعات التي يفترض أن يلقي بها بعد
الاستعمال ويلقى فيه بالكتب في سلة المهملات وهي التي ينبغي أن يحتفظ بها. لكن تلك
ليست المشكلة الأهم. فأخطر من ذلك هو تدمير الكتب لنفسها بنفسها، وذلك عبر الإفراط
في الإنتاج والتكديس. ثم، وبقطع النظر عن كل ذلك، ثمة ما يقلقني أكثر في حياتي، وهي
مسألة حفظ الكتب، فكل مفكر وكل كاتب يسأل نفسه هذا السؤال الجوهري: ما العمل إزاء
الخلود؟ وأنا أشعر بالرعب لمجرد التفكير بأن كل الكتب التي ظهرت على ورق السلولوز
منذ القرن التاسع عشر معرضة للاندثار من شدة هشاشتها. فمعدل عمرها هو سبعون عاما!
وأنا عندما أمسك بين يدي بكتاب نشرته دار غاليمار في الخمسينات، يخالجني انطباع
أنني أمسك بشريحة من خبز القربان المقدس ستتهشم. إنني أضع ملاحظات على جميع كتبي،
فتلك هي ذاكرتي. ولا أعرف ماذا سأفعل بنسخة من طبعة جديدة لأحد الكتب التي قرأتها.
إننا نواجه خيارا حضاريا.
فالمكتبة الفرنسية تدرس جميع طرق الحفظ، ويكلفها ذلك مبالغ طائلة وبالطبع، ثمة
إمكانية التسجيل الإلكتروني أو عبر الميكروفيلم. لكن هذه الطريقة القبرية في الحفظ،
ذات الأسلوب الفرعوني، والتي لا يحسن فك رموزها إلا تقنيون قلائل، لا تبعث على
الرضا. وماذا عن إعادة الطباعة؟ لكن من وما هي السلطة التي سوف تقرر الكتب التي يجب
استبقاؤها؟ إن أفلاطون ودانتي قد عرفا فترات فقدا خلالها الحظوة، ومع ذلك فقد
خلدهما الزمن. فهل سيكون ذلك ممكنا غدا؟
- ما الثقافة بالنسبة
إليك؟
أمبرتو إيكو: إنها حاجة بيولوجية للنوع. ولن تتوصل
أي شاشة أو تكنولوجيا لإلغاء الحاجة التقليدية للقراءة. في الفصل الرابع من
"عوليس"، يشير "جويس" إلى هذه الحاجة بشكل رائع، فعندما يتبول "ليوبولد" يقوم
بقراءة الجريدة، ويرافق إيقاع القراءة إيقاع تقلص العضلة العاصرة، وليس هذا أمر
حكائيا ولا هامشيا. فالكل يذهب إلى المرحاض متأبطا كتابا أو مجلة. إذ أننا نقرأ عبر
ثقب مؤخرتنا. إنها حاجة ملحة جدا لدرجة أن الطابعة لا غنى عنها للحاسوب. إنك تكتب
على الكمبيوتر لكنك في لحظة معينة تحتاج لأن تطبع وتعيد قراءة ما كتب على الصفحة.
الطابعة سوف تدوم ألف عام على الأقل: إنه شبح الكتاب ينبعث من جديد.
- إنك تكتب على الحاسوب،
فهل استغنيت عن قلم الحبر؟
- أمبرتو إيكو: على
الإطلاق فأنا أستعمل الأداتين، ليس اعتباطيا ولكن تبعا للحالة النفسية التي أكون
فيها وتبعا للسياق، إن القطار وغرفة النزل لا يثيران الحاجة نفسها التي يثيرها
المكتب. فثمة من المواضيع ما يتطلب بطء الكتابة باليد إذ أن الورق يقاوم سرعة
أفكارنا. وهناك مواضيع أخرى قد أخذت حظها من التفكير ويلائمها أكثر أن ترقن على
الشاشة، ذلك أننا نحتاج أن نلقي بها خارج أنفسنا بأتم ما في الكلمة من معنى.
- ما هو التغيير الذي
يحدثه الحاسوب في الكتابة؟
أمبرتو إيكو: أشياء كثيرة: أولها أن الإمكانية التي
يوفرها للإنسان عندما يكتب، من أن يوظف ويمزج كتابات سابقة (وهو ما كنا نسميه في
الماضي بالملاحظات والجذاذات)، ومن أن يقوم بنقل كتل من المعلومات من أماكنها، أقول
أن هذه الإمكانية تضع الإنسان دفعة واحدة في التناص اللغوي الذي هو في صميم التفكير
الفلسفي لمسيرة الأدب المعاصر. ثم، ولأول مرة في تاريخ الكتابة صار يمكننا أن نكتب
بنفس السرعة التي نفكر بها تقريبا، وذلك دون أن نقلق بشأن الأخطاء. وهذا التحول من
الأهمية بحيث يمكن مقارنته بطريقة تسمح بتسجيل آلي للأحلام، وهذا من شأنه أن يقلب
التحليل النفسي رأسا على عقب! بفضل الحاسوب يمكنك أن تسجل على الشاشة كل أفكارك حول
موضوع معين آنيا. إنها الكتابة الآلية للسرياليين وقد تحققت أخيرا! فماذا يحدث إذن؟
إنك في مواجهة فكرك الخام. و يقوم الكمبيوتر بنسف هذا الستار الذي يقف، عن طريق
الريشة والورق، بينك وبين نفسك. فهو بهذا المعنى روحاني. وهكذا يعيد لي حاسوبي
روحانيتي الكاثوليكية كرجل تربى لدى الفرنسيسكانيين. وبديهي أن يبدو ذلك النص مثل
مونولوغ داخلي لشخص مجنون. ولكن حينئذ تأتي المرحلة الثانية وهي مرحلة المراقبة
العقلانية والتنقيح التي تسمح بها الآلة إلى ما لا نهاية له. فهناك إذن صراع في
الكتابة بين فكري المتوحش وفكري المتحضر.
وحينئذ يكون علي أن أقرر
أيهما أود أن أختار، فلدي التحكم الذهني الكامل فيما أنتجه.
- إنك تتحدث عن هذه
العملية وكأنك تتحدث عن مخدر؟
أمبرتو إيكو: الحاسوب استمنائي. ويبلغ افتتاني به
حدا أنه يحدث أحيانا أن أكتب عليه لمجرد لذة استخدام هذه الآلة. وعندما اتصلتم بي
هاتفيا لطلب هذه المقابلة، كان رد فعلي الأول هو أن أقترح عليكم مقالة، بسبب هذه
اللذة. وهكذا فأنا أمارس على نفسي انضباطا ذاتيا، أو لنقل إنني اتبع حمية. فأقرر أن
أظل خمسة عشر يوما دون أن أرى الكمبيوتر، ودون أن أتحدث مع أصدقائي الذين حرموا
مثلي من اكتشافاتهم الأخيرة وعادتهم المستهجنة، بل أني أهرب الى الريف لكي أنجو من
الغواية!
- كثير ما يقال ان الحاسوب
مختزل للغة. فما رأيك في ذلك؟
أمبرتو إيكو:
لقد علمتني تجربتي العكس. وأعتقد أن الحاسوب الذي يحتوي على قاموس يمكن مراجعته
آنيا، هو على العكس يعرض لخطر الغزارة المعجمية، ذلك أننا نميل للبحث المنظم عن
المرادف. وفي المقابل، هو يثري تركيب الجملة ويسهل تعريجاتها، هناك من يزعم أنه
"همنغواوي" (نسبة إلى همنغواي) و أنه يخلق جمل جافة وقصيرة. وهذا ليس صحيحا. إذ أنه
"بروستي" (نسبة إلى بروست) ويمكنك من تقويم جميع التناقضات، وذلك حتى في النحو. ومع
الأجهزة الأخرى عموما، لا يكون لديك الوقت ولا الشجاعة الكافيان لأن تفعل ذلك.
وسواء بالنسبة للموقف الفكري أو للإبداع بحصر المعنى يجعلك الحاسوب أكثر حرية في
معالجة أدق المعني وفي توليد الأفكار إنه يجعلك أقل وثوقية.
- أنت لديك القوة لأن
تتخلص من الآلة، و أن تتبع نظاما لكن الجميع ليست لديهم هذه القدرة؟
- أمبرتو إيكو: هناك حمقى الحاسوب مثلما هناك
حمقى "الووكمان" الذين نراهم يتراقصون ويصيحون في حفلات الروك. ولكن هل هم أكثر
حماقة من أناس القرون الوسطى الذين كانوا يجلدون أنفسهم بالسياط؟ إن أشكال تدمير
الإنسان لنفسه تتغير عبر العصور. ثم انه لا يجب إرجاع كل شيء إلى هذه الحماقة. إذ
أننا نجد بين أولئك الذين يستمعون إلى "الووكمان" من يقرأ أفلاطون ويقوم ببحوث
علمية. ففي مجتمع الثرثرة الذي هو مجتمعنا، هناك الغبي، ولكن هناك أيضا من يعيش
تحولا متواصلا، وهو ذلك الذي يستطيع العيش ضمن التعددية في اللغات المعاصرة بشكل
مثير للاهتمام. وأنا لست مجبرا على إصدار حكم على ذلك، إذ أنني أكتفي بالنظر.
- ألا يخلق هذا التعدد
والتداخل والتزامن بين اللغات (المكتوب، والصورة، والصوت) قطيعة جوهرية؟
- أمبرتو إيكو: إذا نظرنا الى التاريخ نظرة هيغلية،
فإن ذلك يكون مؤكدا. فلم يعد ممكنا اليوم أن نفكر في اللغة والفن باعتبارهما سلسلة
من التحولات التدريجية، حيث كل لحظة جديدة تدمر التي سبقتها. والحال أننا لو نظرنا
بإمعان أكثر ألا نجد أن الانطباعيين كانوا يتجاورون مع المتحذلقين، والتكعيبيين مع
الواقعيين الجدد؟ لقد اخترع الإنسان كلمة "ما بعد الحداثة" هذه ما أفضل أن أسميه
بالتعدد اللغوي المعمم للثقافة. فبديهي إذن أن تدهشنا الأشياء التي لا نفهمها
حولنا-إذا اعتبرنا ذلك صدى لهذه الصيحة الجديدة- مثلما كان "بيكاسو" صيحة جديدة
بالنسبة للانطباعيين. حسنا، إنني أعتقد ببساطة أنه لا يجب انتظار ذلك أبدا.
إن ما يميز حضارتنا التي
يختلط فيها التلفزيون مع السينما والصحافة و"البيتلز" و"شتوكهاوسن" هو بالضبط ذلك
التعدد اللغوي للصيحة. والخطر يكمن بالطبع فيما يشبه العي اللامسؤول الذي يمكن أن
يؤدي إليه كل هذا أو إلى تلك الثرثرة التي كنت أتحدث عنها منذ قليل.
- لو نطبق كلامك على
الإبداع هل ينبغي أن نستنتج أننا نخلط بين نهاية الرواية ونهاية الأدب؟
- أمبرتو إيكو: إن السردية تمثل بعدا أساسيا
للكائن الإنساني. فالكاتب المقدس، و"الإلياذة" و"الأوديسة" ما هي إلا أعمال سردية.
وكذلك الصور التي نجدها في مقابر الأهرامات، وأيضا "بيرو ديلا فراشيسكا". منذ
البداية، امتزجت السردية الشفهية بالسردية المرئية. وهذا الانصهار يبلغ ذروته في
السينما والقصة المصورة BD. وفي الأثناء لنقل انه من "مدام دي لافاييت" إلى "بروست"
وجد شكل خاص من السردية ألا وهو البرجوازية، حيث تتحدث طبقة عن نفسها، وتبرر سلوكها
أمام نفسها. وكان "بروست" قد اختار بالفعل طرقا أخرى، ثم قرع "جويس" الجرس. إن
الفصل المركزي في "عوليس" يقدم نوعا من لعبة المنظور يتم النظر عبرها إلى نفس الحدث
من وجهات نظر مختلفة، فالسردية المكتوبة تستحوذ هنا على تقنيات المرئي. وانطلاقا من
هذه اللحظة تكون الرواية التي تتحدثين عنها قد ماتت. لكن الأعمال السردية التي يتم
فيها السرد بشكل مختلف، ما زالت تواصل الظهور. والحقيقة أنني لا أعرف كيف يمكن لها
أن تتوقف مادام الناس جائعين بهذا الشكل للسردية وماداموا يبحثون عنها في كل مكان:
في الصحف والمسلسلات التلفزيونية والسينما…والكتب…
- خلاصة القول هو أنك مطمئن جدا إزاء هذا
التحول الذي تشهده الحضارة؟
- أمبرتو إيكو: لقد قضيت حياتي في تحرير
الكتب، وأنا أعيش في عالم المكتوب والنشر، إذ أنني أنتج المكتوب، وأفقي تؤسسه مواد
مكتوبة، كما أنني أجمع الكتب القديمة وأكتب كتبا جديدة. ويمكن أن أشعر بالضيق في
زمني هذا. ولكن محاولة فهم ما يحدث هي الطريقة الوحيدة بالنسبة لي للخروج من هذا
القلق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق