كتبهابلال عبد الهادي ، في 1 أيار 2011 الساعة: 14:40 م
الباب الرابع في المضحكات المطولات
كان المأمون جالساً مع ندمائه ببغداد، مشرفاً على دجلة، وهم يتذاكرون أخبار الناس، فقال المأمون: ما طالت لحية إنسان قط، إلا ونقص من عقله، بمقدار ما طال من لحيته، وما رأيت قط عاقلاً طويل اللحية، فقال له بعض جلسائه: ولا يرد على أمير المؤمنين، قد يكون في طول اللحى أيضاً عقل، فبينما هم يتذاكرون في هذا، إذ أقبل رجل كثير اللحية، حسن الهيئة والثياب، فقال المأمون: ما تقولون في هذا الرجل? فقال بعضهم: هذا رجل عاقل، وقال آخر: يجب أن يكون هذا قاضياً، فقال المأمون لبعض الخدم: علي بالرجل، فلم يلبث إلا وصعد إليه، ووقف بين يديه، فسلم، فأجاد السلام، فأجلسه المأمون واستنطقه فأحسن النطق فقال له المأمون: ما اسمك? فقال: أبو حمدونة، قال: والكنية? علويه، فضحك المأمون، وغمز جلساءه، ثم قال: ما صنعتك? فقال: أنا فقيه أجيد الشرع في المسائل، فقال له: نسألك عن مسألة، فقال له الرجل: سل عما بدا لك، فقال المأمون: ما تقول في رجل اشترة شاة من رجل، فلما أخذها المشتري خرجت من استها بعرة، فقأت عين رجل، على من تجب دية العين? قال: فأطرق طويلاً ينظر بالأرض ثم قال: تجب على البائع دون المشتري? قال: إنها لما باعها لم يشترط أن في استها منجنيقاً، قال: فضحك المأمون حتى استلقى على قفاه، وضحك كل من حضر، وأنشأ المأمون يقول:ما أحد طالت له لـحـية | فزادت اللحية في هيئته | |
إلا وما ينقص من عقلـه | أكثر مما زاد في لحيته |
ولما خرجت الخيزران إلى الحج، تلقاها أبو دلامة، فصاح: الله، الله، في أمري، فسألته عن أمره، فقال: إني شيخ كبير، وأجرك في عظيم، تهبين لي جارية؛ تؤنسني وترفق بي، وتريحيني من عجوز عندي، قد أكلت رفدي، وأطالت كدي، وعاف جلدها جلدي، وتمنيت بعدها، وتشوقت فقدها، فوعدته بها، فلما قدمت الخيزران من الحج، دخل أبو دلامة على أم عبيدة حاضنة موسى وهارون، فرفع إليها رقعة، فدفعتها إلى الخيزران، وفيها:
أبلغني سيدتي، إن شئ | ت، يا أم عـبــيدة | |
أنها، أرشدها الـلـه، | وإن كانـت رشـيدة | |
وعدتني قبـل أن تـخ | رج للـحـج ولـيدة | |
إننـي شـيخ كـبـير | ليس في بيتي قعـيدة | |
غير عجفاء عـجـوز | ساقها مثل الـقـديدة | |
وجهها أقبح من حـو | ت طري في عصيدة | |
ما حياتي مع أنـثـى | مثل عرسي بحمـيدة |
وأقبل دلامة إلى أبيه في محفل، فجلس بين يديه، وقال للجماعة: إن شيخي كما ترون قد كبرت سنه، ورق جلده، ورق عظمه، وبنا إلى حياته حاجة، ولا أزال أشير عليه بالشيء يمسك رمقه، ويبقي قوته، فيخالفني، وأسألكم أن تسألوه قضاء حاجة، فيها صلاح جسمه، فقالوا: حباً وكرامة، فأخذ أبو دلامة بألسنتهم، فقال وقولوا: للخبيث: ليقل ما يريد، فستعلمون أن لم يأت إلا ببلية، فقال: إنما يقتله كثرة النكاح، ولا يقطعه عنه إلا الخصا، فتعاونونني عليه حتى أخصيه، فضحكوا منه، ثم قالوا لأبيه: قد سمعت، فما عندك? قال: قد عرفتكم أنه لم يأت بخير، وقد جعلت أمه حكماً بيني وبينه، فدخلوا إليها وقصوا القصة عليها، فأقبلت على الجماعة، وقالت: إن ابني - أبقاه الله - قد نصح أباه وأبره، وأنا إلى بقاء أبيه، أحوج منه إليه، إلا أن هذا أمر لم تقع به تجربة عندنا، ولا جرت به عادة، وهو قد ادعى معرفة هذا، فليبدأن بنفسه، فإذا هو عوفي، ورأينا ذلك قد أبقى عليه أثراً محموداً، استعمله أبوه على علم، فجعل القوم يعجبون من اتفاقهم في الخبث.
وقال الفقيه أبو عمرو بن حكم: خرج رجلان من بلدهما من الضياعة والفقر، فلما وصلا إلى بلد آخر، وجدا بخارج تلك البلدة وادياً فيه أشجار كثيرة، فقطعا منها، وصنعا بيتاً في خارج البلدة، ونادى مناديهما: من أراد أن ينظر شيئاً ما رآه قط، فليأت الموضع الفلاني، فاجتمع الناس إليهما، وقعد أحدهما في داخل البيت، ووقف الآخر خارج البيت، وقال للناس: من أراد أن يرى عجباً يعطي درهماً ويدخل البيت، فتشوق الناس إلى ذلك، فدخل شخص، فرأى الرجل وبين يديه رجل حمار، فقال له: هذا في است من يقول لأحد ما رأى فخرج وهو يضحك، فقال له الناس: ما رأيت? قال: ادخلوا تروا ما رأيت ومضى، فلم يزل الناس يدخلون كذلك إلى آخرهم، واجتمعت له جملة كبيرة من دراهم.
ودخل أبو العيناء على عبيد الله، وبين يديه شطرنج يلعب به، مع بعض أولاده، فقال له عبيد الله: من أي الحزبين تريد أن تكون? قال: معك، فلم يكن بأسرع من أن قال: قد غلبنا، ولزمك من القمار عشرون رطلاً من الثلج، قال: احضره أيها الأمير، ولكن تأذن لي أن أمضي إلى داري أوصيهم بما أحتاج إليه، حتى يدرك الطعام، وأوافيك بالثلج، فقال: امض، ولا تتأخر، فركب حماره، ومضى لأبي العباس بن ثوابة، فقال له: الأمير يدعوك الساعة، فلبس ابن ثوابة ثيابه، وركب دابته وصار معه أبو العيناء، فما شعر عبيد الله إلا بأبي العيناء مع ابن ثوابة قد وافى، فسر بذلك، فقال أبو العيناء: كلفونا أربعين رطلاً من الثلج، وقد جئتك بثلج مذاب كله، فخذ منه ما شئت، فضحك عبيد الله حتى استلقى.
ودخل عبادة المغني دار المتوكل، فرأى فيها رطباً قد تساقطت، فجعل يلتقطها، فمد أحد أولاد المتوكل يده إلى است عبادة، وقال له: يا عبادة، من فتح لك هذه الثقبة? قال عبادة: الذي فتح لأمك ثقبتين، فشكاه إلى أبيه، فأمر أن يؤتى به فخرج عبادة فاراً بنفسه، فبينما هو يسير، إذ رأى غاراً فدخل فيه، وبنى عليه بحجارة، ودخل إلى قعره فإذا بأسد الفتح بن خاقان متصيداً، فمر بذلك الموضع، فسمع صوت الطنبور، في داخل الغار، فقال: اهدموه، فلما فتح خرج الأسد عليهم فاراً بنفسه، وعبادة من خلفه، فقال: ما هذا يا عبادة? قال: إن أمير المؤمنين جعلني هنا أعلم هذا الأسد ضرب الطنبور، وقد نفرتموه علي، وأنا أحشى عقوبته، ولا آمن أن يقتلني عليه، فقال الفتح: لا تخف، أنا أستوهب ذنبك، وأنسب الذنب في ذلك إلى نفسي، فرجع معه إلى المتوكل، فقال الفتح: يا أمير المؤمنين، إني استوهبتك عبادة؛ فقد ضمنت له النجاة، وإن الذنب الذي أذنب، أنا أذنبته، قال: والله ما غرضي إلا أن أقتله؛ لأن ذنبه كبير، حمله عليه كثرة الدالة علينا، حتى تعرض لحرمنا، فقال الفتح: وكيف ذلك? فقال له: ما تقدم من قوله، فقال الفتح: العفو يا أمير المؤمنين، والله ما علمت بذلك، ولكن اتفق لي معه كذا وكذا، فضحك المتوكل عند ذلك، وأمر بإحضاره.
وكان محمد بن جعفر بخيلاً، فجلس يوماً مع ندمائه، فقال بعضهم: ما في الأرض أمشى مني، فقال ابن جعفر: وما يمنعك من ذلك وأنت تأكل أكل عشرة أنفس، وهل يحمل الرجلين إلا البطن، فقال آخر: أنا والله لا أقدر أن أمشي، فقال له: وكيف تستطيع المشي، وأنت تحمل في بطنك ما يثقل ثلاثين رجلاً، وهل ينطلق مشي الإنسان إلا بخفته، فقال الآخر: أما أنا فما نمت البارحة من وجع ضرس، فقال: وكيف لا تشتكي، وأي ضرس يصبر على الدق والطحن مثل ضرسك? فقال آخر: ما اشتكيت قط ضرسي، وما تخلخل من موضعه، فقال له: ذلك من كثرة المضغ? فإنه يشد الأسنان، ويقوي اللثة، وقال آخر: ما أظن أحداً أكثر شرباً للماء مني، وما أروى منه، فقال: لابد للبطن من الماء حتى يبله ويرويه، وأما أنت والله لو شربت الفرات ما استكثرته لك؛ لما أرى من كثرة أكلك، فقال آخر: وأنا لا أشرب ماء، فقال: لكثرة ما تأكل؛ لأن البطن إذا امتلأ لم يحتج لشيء، فقال آخر: والله ما أنام من الليل إلا قليلاً، فقال له: وكيف تدعك التخمة تنام? أتدري أن من أكل كثيراً وشرب غزيراً لا يكون ليله كله إلا يسحل ويبول? فقال آخر: أما أنا فإني أنام الليل كله، قال: أمارة على الشبع؛ لأن الطعام إذا كثر في البطن يسكن البدن والأعضاء، ويملأ العروق، فيسترخي منه كل شيء، وقال آخر: أصبحت لا أشتهي شيئاً، فقال: إياك أن تأكل قليلاً ولا كثيراً؛ فإن القليل على غير شهوة أضر من الكثير على شهوة، وإياك من الأكل الكثير؛ فإنه يتخم، وأكثر ما يكون الموت من التخمة، فعليكم بالإقلال من الطعام والشراب في كل الأزمان.
وكان بالكوفة رجل يقال له مصلح، فبلغه أن بالبصرة رجلاً من المصلحين مقدماً في شأنه، فسار الكوفي إلى البصرة، فلما قدم عليها قال له: من أنت? قال: أنا مصلح، جئتك من الكوفة؛ لما بلغني خبرك، فرحب به، وأدخله موضعه، وخرج يشتري له ما يأكل، فأتى جباناً فقال له: أعندك جبن? قال: عندي جبن كأنه سمن، فقال في نفسه: لم لا أشتري سمناً حين هو يضرب به المثل? فذهب إلى من يبيع السمن، فقال له: أعندك سمن? قال: عندي سمن كأنه زيت، فقال في نفسه: لم لا أشتري زيتاً حين هو يضرب به المثل? فذهب إلى زيات، وقال: أعندك زيت? فقال: عندي زيت صاف كأنه الماء، فقال في نفسه: لم لا آخذ ماء حين يضرب به المثل? فرجع إلى بيته، وأخذ صحفة وملأها ماء، وقدمها للضيف مع كسيرات يابسة، وعرفه كيف جرى له، فقال الكوفي: أنا أشهد أنك بالإصلاح أحق من أهل الكوفة.
وحكى المدائني قال: خطب رجل من بني كلاب امرأة، فقالت أمها: دعني أسأل عنك، فانصرف الرجل، فسأل عن أكرم الحي، فدل على شيخ منهم، كان يحسن المحض في الأمر، فأتاه وسأله أن يحسن عليه الثناء وانتسب له فعرفه، ثم إن العجوز غدت عليه، فسألته عن الرجل، فقال: أنا أعرف الناس به، قالت له: كيف لسانه? فقال: مدره قومه وخطيبهم، قالت: فكيف شجاعته? قال: منيع الجار، حامي الذمار، قالت: فكيف سماحته? قال: ثمال قومه وربيعهم، وأقبل الفتى، فقال الشيخ: ما أحسن - والله - سلم، ما دار ولا بار، ثم جلس فقال: ما أحسن - والله - ما جلس ما دنا ولا نأى، وذهب الفتى ليتحوط، فأخرج ريحاً فقال: ما أحسن - والله - ما أغنها، وما أطنها، ولا بربرها، ولا فرفرها، ونهض الفتى خجلاً، فقال: ما أحسن - والله - ما نهض، ما أبطأ ولا أسرع، فقالت المرأة: حسبك بهذا، وجه إليك من يرده، فوالله، لو سلح في ثيابه لزوجناه.
وسمع بعض الملوك أن ملك الروم المجاور له عزم على أن يدخل أرضه ويحصر بعض بلاده، فأراد أن يبعث إليه رسولاً، يطلب منه الصلح، فشاور وزراءه، ونبهاء فرسانه فيمن يبعث إليه، فأشار عليه كل واحد منهم برجل من كبار خدامه، ونبهاء فرسانه، وسكت منهم واحد، فقال له الملك: لم سكت? قال: لا أرى أن ترسل واحداً ممن ذكروا، قال: فمن ترى أن ترسل? فقال له: فلان، وذكر له رجلاً غير وجيه، ولا مشهور بنباهة ولا بفصاحة، فقال له الملك: أتهزأ بي في مثل هذا? وظهر عليه الغضب، فقال له: معاذ الله يا مولاي، ولكنك تريد أن تبعث إليه من نرجو رجوعه، مقضي الحاجة، قال: وذلك مرادي، قال: وإني فكرت ونظرت فلم أجد غير ذلك الرجل؛ لأنك وجهته في كذا فأنجح، وفي كذا فقضيت حاجته، وما ذلك إلا بنجحته، لا بفصاحته، ولا نباهته ولا شجاعته، فقال له: صدقت، وأمر أن يوجه عنه، فجاءه، وأمر أن يدفع إليه كل ما يحتاج إليه في السفر، فدفع إليه، وخرج، فسمع ملك الروم أن يأتيه رسول، فقال لخدامه: إن هذا الرسول الذي هو يأتي من أكبر من عند المسلمين، فإذا وصل فأدخلوه قبل إنزاله، فإن فهم عني ما أقوله له أنزلته، وقضيت حاجته، وإن لم يفهم عني، لم أنزله، ورددته غير مقضي الحاجة، فلما وصل أدخل عليه، فلما سمع عليه أشار إليه ملك الروم بأصبعه الواحد إلى السماء، فأشار ذلك الرجل بأصبعه إلى السماء والأرض، فأشار النصراني بأصبعه قبالة وجه الرجل، فأشار الرجل بأصبعين قبالة وجه النصراني، فأخرج النصراني زيتونة من تحت بساطه، وأشار بها إلى الرجل، فأخرج الرجل بيضة من تحته وأشار بها إليه، فطابت نفس النصراني وأمر بإنزاله وإكرامه، ثم سأله: فيم جاء? فأخبره، فقضى حاجته وصرفه، فقيل للنصراني: ما قلت له حتى فخمك، وقضيت حاجته? فقال: ما رأيت أفهم منه ولا أحذق، أشرت له بأصبعي إلى السماء، أقول له: الله واحد في السماء، فأشار لي بأصبعه إلى السماء وإلى الأرض يقول لي: هو في السماء وفي الأرض، ثم أشرت له بأصبعي قبالته أقول له: جميع ما ترى من الناس إنما أصلهم واحد وهو آدم، فأشار إلي بأصبعين يقول لي: أصلهم آدم وحواء، ثم أخرجت له زيتونة أقول له: انظر، ما أغرب حال هذه، فأخرج هو بيضة، وقال: حال هذه أغرب من تلك؛ لأنه يخرج منها حيوان، فهي أعجب، فلذلك قضيت حاجته، فقيل بعد ذلك للرجل: ما الذي قال لك النصراني حين أشار إليك وفهمته? قال: والله، ما رأيت أثقل روحاً، ولا أجهل من ذلك النصراني ساعة وصولي إليه، يقول لي: آخذك في طرف أصبعي وأرفعك هكذا، فقلت له: أنا أرفعك بأصبعي هكذا، وأنزلك في الأرض هكذا، فقال لي: أخرج عينك بأصبعي هكذا، فقلت له: أنا أخرج عينيك الاثنتين بأصبعي هذين، فقال: ليس معي ما أعطيك إلا هذه الزيتونة، بقيت من غدائي، قلت له: يا محروم، وأنا أخير منك، فإني بقي لي من غدائي هذه البيضة، ودفعتها له، ففزع مني وقضى حاجتي.
وكان بالكوفة رجل مشهور بالبرد. فسمع أن بالبصرة رجلاً آخر أبرد منه، فقال: لابد أن أختبره، حتى أرى من أبرد منا، فأخذ كراريس من الكاغد كثيرة، وصنع منها سفراً كبيراً وسفره وكتب فيه: سلام عليكم، وفرق الحروف في بعض الأوراق وترك سائرها بياضاً، ودفعه لميار، وقال: تدفعه بالبصرة لفلان، وتطلب منه الجواب، فأخذه الميار، وذهب إلى البصرة، وسأل عن الرجل، فدل عليه، فأتاه، ودفع إليه السفر وقال له: أريد جواب ما فيه، قال: نعم، غداً إن شاء الله، ثم فتحه فوجد أوراقه بيضاً، فجعل يحول الأوراق، فوجد السين ثم اللام حتى كمل سلام عليكم، ولم يجد غير ذلك، ففكر في نفسه، فعلم أن ذلك من فعل بارد مثله يرى أن يقيسه فذهب إلى نجار، وقال له: اعمل لي تابوتاً كبيراً، فعمله له، فلما عاد الميار يطلب الجواب، قال له: تأتي غداً، وتأخذ هذا التابوت وتحمله للذي لك الكتاب وتقول له: هذا جوابك، وهذا مفتاح التابوت تدفعه له، ثم دفع أجرته، وقال: إني أسافر الليلة، فإذا كان غداً فأت إلى هنا، وخذ التابوت، فيه ما يحتاج من المأكول والمشروب، وغلقه، وإذا بالميار قد جاء، فأخذ التابوت وذهب، فلما وصل إلى الكوفة أتى الرجل الذي دفع له الكتاب: فقال: هذا التابوت جواب كتابك، ثم دفع له المفتاح ففتحه، فخرج منه الرجل، وقال وعليكم السلام ورحمة الله، فقال له: أشهد أنك أبرد مني ومن جميع الناس.
وحكى أبو عبد الله بن عبد البر المدني بمصر قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم عن الهيثم بن عدي قال: كان بالمدينة رجل من بني هاشم، وكانت له قينتان يقال لإحداهما: رشأ وللأخرى جؤذر، وكان يعجبه السماع، وكان بالمدينة مضحك، لا يكاد يفارق مجالس المتظرفين، فأرسل الهاشمي إليه ذات يوم ليضحك به، فلما أتاه قال له المضحك: أصلحك الله، أنت في لذتك، ولا لذة لي، قال: وما لذتك? قال: تحضر لي نبيذاً؛ فإنه لا يطيب لي عيش إلا به، فأمر الهاشمي بإحضار نبيذ، وأمر أن يطرح فيه سكر، فلما شربه المضحك، تحركت عليه بطنه، وتناوم عنه الهاشمي، وغمز جاريتيه عليه، فلما ضاق عليه الأمر، واضطر إلى البراز، قال: ما أظن هاتين المغنيتين إلا يمانيتين، وأهل اليمن يسمون الكنف المراحض، فقال لهما: يا حبيبتي، أين المرحاض? فقالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول? قالت: يقول غنياني:
رحضت فؤادي فخليتـنـي | أهيم من الحب في كل واد |
خرجت بها من بطن مكة، بعد ما | أقام المنادي بالعشاء فأعتـمـا |
ذهبت من الهجران في كل مذهب | ولم يك حقاً كل هذا التجـنـب |
خلى علي أخو الأحزان إذ ظعنا | من بطن مكة، ألتسهيد والحزنا |
أوحش الخبران فالربع منها | فمناها، فالمنزل المعمور |
تكنفني الهوى طفلا | فشيبني، وما اكتهلا |
وقال إسحاق بن إبراهيم: قال لي ابن وهب الشاعر: والله لأحدثنك حديثاً، ما سمعه أحد مني قط، وهو أمانة أن يسمعه أحد منك ما دمت حياً، قلت: (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا)، قال لي: يا أبا محمد، إنه حديث ما طن في أذنك أعجب منه، قلت: كم هذا التعقيد بالأمانة? آخذه على ما أحببت، قال: بينما أنا بسوق الإبل بمكة بعد أيام الموسم، إذا أنا بامرأة من نساء مكة معها صبي يبكي، وهي تسكته، فيأبى أن يسكت، فسفرت وأخرجت من فيها كسر درهم، فدفعته إلى الصبي فسكت، فإذا وجه رقيق كأنه دري، وإذا شكل رطب ولسان طويل، فلما رأتني أحد النظر إليها قالت: اتبعني، قلت: إن شرطي الحلال، قالت: ارجع، ومن يريدك على الحرام? فخجلت، وغلبتني نفسي على رأيي، فتبعتها، فدخلت في زقاق العطارين، فصعدت درجة، وقالت: اصعد، فصعدت، فقالت: أنا متزوجة، وزوجي رجل من بني مخزوم ولكن عندي جارية، عليها وجه أحسن من العافية، في مثل خلق ابن سريج، وترنم معبد، وتيه ابن عائشة، أجمع لك هذا كله في بدن واحد بأصغر سليم، قلت: وما أصغر سليم? قالت: بدينار واحد في يومك وليلتك، فإذا قمت جعلت الدينار وظيفة، وتزويجها صحيحاً، قلت: فذلك لك إن اجتمع لي ما ذكرت، قال: وصفقت بيديها إلى جارتها، فاستجابت لها، فقالت: قولي لفلانة: البسي عليك ثيابك، وبحياتي عليك لا تمسي طيباً؛ فحسبنا بدلالك وعطرك فإذا جارية قد أقبلت من أجمل ما يرى، فسلمت وقعدت كالخجلة، فقالت لها الأولى: إن هذا الذي ذكرتك له، وهو في هذه الهيئة التي ترين، قالت: حياه الله، وقرب داره، قالت: وقد بذل لك من الصداق ديناراً، قالت: أما أخبرته شرطي? قالت: لا، والله يا بنية، لقد نسيت، ثم نظرت إلي فغمزتني، وقالت: أتدري ما شرطي? قلت: لا، قالت: أقول لك بحضرتها، وما أظنها تكرهه، هي والله، أفتك من عمرو بن معدي كرب، وأشجع من ربيعة بن مكدم، ولست بواصل إليها حتى تسكر، ويغلب عليها السكر، فإذا بلغت تلك الحال، ففيها مطمع، فقلت: ما أهون هذا وأسهله، قالت الجارية: وتركت شيئاً آخر، قالت: نعم، والله اعلم أنك لن تصل إليها حتى تتجرد لها، وترى مجرداً مقبلاً ومدبراً، قلت: وهذا أيضاً أفعله، قالت: هلم دينارك، فدفعته إليها قالت: فصفقت بيديها مرة أخرى، فأجابتها امرأة، فقالت لها: قولي لأبي الحسن وأبي الحسين: هلما الساعة، فإذا بشيخين نبيلين، قد أقبلا، فصعدا، فقصت عليهما القصة، فخطب أحدهما، وأجاز الآخر، وأقررت بالتزويج، وأقرت المرأة، ودعوا بالبركة، ثم نهضنا، فاستحييت أن أحمل المرأة شيئاً من المثونة فأخرجت ديناراً آخر، ودفعته إليها، وقلت: هذا لطيبك، قالت: لست ممن يمسي طيباً لرجل، إنما أتطيب لنفسي إذا خلوت، قلت: فاجعلوه لغدائنا اليوم، قالت: أما هذا فنعم، فنهضت الجارية، فأمرت بإصلاح ما يحتاج إليه، ثم عادت فتغدينا، ثم جاءت بوسادة وقضيت وقعدت، ودعت بنبيذ فأعدته، واندفعت تغني بصوت لم أسمع قط مثله، وإني ألفت بيوت القيان نحواً من ثلاثين سنة، فما سمعت مثل ترنمها قط، فكدت أخر سروراً وطرباً، فجعلت أروم أن تدنو مني، فتأبى، إلى أن تغنت بشعر لم أعرفه، وهو:
راموا يصيدون الظباء وإنـي | لأرى تصيدها علي حراما | |
أعزر علي بأن أروع مثلهـا | أو أن يذقن على يدي حماما |
كأني بالمجرد قـد عـلـتـه | نهال القوم أو خشب البراري |
ولو علم المجـرد مـا أردنـا | لحاذرنا المجرد في الصحارى |
وحكى أبو سويد عن أبي العتاهية عن دعبل بن علي الشاعر قال: بينما أنا ذات يوم بباب الكرخ، وأنا سائر، وقد استولى الفكر على قلبي في أبيات شعر نطق بها اللسان، فقلت:
دموع عيني لها انبساط | ونوم عيني له انقباض |
كأنما أفرغت في قشر لؤلـؤة | في كل جارحة منها لها قمر |
هذا قليل لمـن دعـتـه | بلحظها الأعين المراض |
فهل لمولاي عطف قـلـب | أو للذي في الحشا انقراض |
إن كنت تبغي الوداد منا | فالود مني ديننا قراض |
لا يمنعنـك مـن مـحـذرة | قول تغلظه، وإن جـرحـا | |
عسر النساء إلى مـياسـرة | والصعب يمكن بعدما جمحا |
أترى زمان يسرنا بـتـلاق | ويضم مشتاقاً إلى مشتاق? |
ما للزمان يقال فيه، وإنما | أنت الزمان فسرنا بتلاق |
بت في درعها، وبات رقيبـي | جنب القلب، طاهر الأطراف |
وحكى أبو بكر الوراق قال: حدثني الحسن بن هانئ قال: حججت مع الفضل بن الربيع، حتى إذا كنا ببلاد بني فزارة، وذلك في أول أيام الربيع نزلنا بإزاء باديتهم، إذا روض أريض، ونبت عريض، تخضع لبهجته الزرابي المبثوثة، والنمارق المصفوفة، فقرت بنظرتها العيون، وارتاحت إلى حسنها القلوب، وانفرجت لبهائها الصدور، فلم نلبث أن أقبلت السماء، فأسفت غمامها، وتدانى ركامها حتى إذا كان كما قال أوس بن حجر:
دان مسف، فويق الأرض هيدبه | يكاد يدفعه من قام بـالـراح |
إذا بارك الله في ملـبـس | فلا بارك الله في البرقع | |
يريك عيون المهـا غـرة | ويكشف عن منظر أشنع |
أر حي ركبي معشر قد أراهما | أطالا، ولما يعرفا مبتغاهمـا | |
هما استسقيا ماء على غير ظمأة | ليستمتعا باللحظ ممن سقاهمـا |
على وجه مي مسحة من ملاحة | وتحت الثياب الشين لو كان باديا |
منعمة حوراء، يجري وشاحـهـا، | على كشح مرتج الروادف أهضم | |
خزاعية الأطراف، مرية الحشـا | فزارية العينين، طـائية الـفـم | |
لها بشر صاف، وعـين مـريضة | وأحسن إيماء بأحسن معـصـم |
فلا تعبن يوماً محياً مبرقعـاً | فربتما أشجاك ما أنت عائب |
يا حسرتي مما يحـن فـؤادي | أزف الرحيل بغربتي وبعادي |
وقال السندي بن شاهد قائد الخليفة: بعث إلي المأمون، وأنا بخراسان، فطويت المراحل، حتى أتيت باب أمير المؤمنين، وقد هاج بي الدم، فوجدته نائماً، فأعلمت قصتي الحاجب، وقدمت إليه عذري، وما هاج بي من الدم، وانصرفت إلى منزلي، فقلت: ائتوني بحجامي، فقالوا: هو محموم، قلت: فهاتوا حجاماً غيره، ولا يكون فضولياً، فآتوني به، فما هو إلا أن دارت يداه على وجهي، فقال: هذا وجه ما أعرفه، فمن أنت? قلت: السندي بن شاهد، قال: ومن أين قدمت? فإني أرى أثر السفر عليك، قلت: من خراسان، قال: وأي شيء أقدمك? وكم لك في الطريق? قلت: وجه أمير المؤمنين إلي، ولكن إذا فرغت سأخبرك بالقصة على وجهها إن شاء الله، قال: وتعرفني بالمنازل التي جئت عليها? قلت: نعم، قال: فما هو إلا أن فرغ ودخل رسول أمير المؤمنين، ومعه كركي، فقال: أمير المؤمنين يقرئك السلام، وهو يعذرك فيما هاج بك من الدم، وقد أمرك بالتخلف في منزلك حتى تغدو عليه إن شاء الله، ويقول: ما أهدي إلينا اليوم شيء غير هذا الكركي، فقال الحجام: يصنع كذا وكذا، فقلت: يصنع كما قال: وعزمت على الحجام ألا يبرح، فحضرت الغداء فتغدينا وهو معنا، ثم قدم الشراب، فلما دارت الأقداح قلت: يعلق الحجام في العقابين فعلق، ثم قلت له: إنك سألتني عن المنازل التي قدمت عليها، وأنا مشغول في ذلك الوقت، وأنا أقصها عليك الآن فاسمع: خرجت من خراسان وقت كذا، فنزلت بموضع كذا، يا غلام: أوجع، فاضربه عشرة أسواط، ثم خرجت إلى موضع كذا، يا غلام: أوجع، فاضربه عشرة أسواط مرة أخرى، فلم يزل يضربه لكل منزلة عشرة أسواط، حتى انتهى إلى سبعين سوطاً، فالتفت إلى الحجام وقال: يا سيدي، أين تريد تبلغ? قلت: سألتني بالله إلى بغداد، قال: ليس تبلغ والله إلى الري حتى تقتلني، قلت: فأتركك على ألا تعود? قال: والله لا عدت أبداً، قال: فتركته، وأمرت له بسبعين ديناراً، فلما دخلت على المأمون أخبرته الخبر، قال: وددت أنك بلغت به إلى الري على أن تأتي على نفسه.
وحكى الزبير بن بكار قال: كان بمكة رجل يجمع بين الرجال والنساء ويعمل لهم الشراب، فشكي إلى عامل مكة، فصرفه إلى عرفات، فبنى بها منزلاً، وأرسل إلى إخوانه وقال: فما يمنعكم من أن تعودوا لما كنتم فيه? قالوا: وأين بك وأنت في عرفات? قال: حمار بدرهمين، وقد صرتم إلى الأمن والنزهة، ففعلوا، فكانوا يركبون إليه، حتى أفسد أحداث مكة، فعاودوا شكايته إلى والي مكة، فأرسل فيه، فأتي به، فقال: يا عدو الله، طردناك من حرم الله، فصرت بفسادك إلى المشعر الأعظم? قال: يكذبون علي، أصلح الله الأمير، فقالوا: بذلك أصلحك الله على ما نقول، أن تأمر بحمير مكة وتجمع، وترسل بها أميناً إلى عرفات، فإن لم تقصد إلى منزله من بين المنازل لعادتها إذا ركبها سفهاؤنها فنحن مبطلون، فقال الوالي: إن في هذا دليلاً عدلاً، فأمر بحمير من حمير الكراء، فجمعت، ثم أرسلت، فسارت إلى منزله، حتى كأنها دلها عليه دليل، فأعلمه بذلك أمناؤه فقال: ما بعد هذا شيء، جردوه، فلما نظر إلى السياط قال: لابد، أصلحك الله، من ضربي? قال: نعم، يا عدو الله، قال: ما في ذلك شيء هو أشد علي من أن يشمت بنا أهل العراق، ويضحكون منا، ويقولون: أهل مكة يجيزون شهادة الحمير، فضحك الوالي، وخلى سبيله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق