الثلاثاء، 6 أكتوبر 2015

تمتعني جدا مشاويري في اللغة الصينية، في رموزها واصواتها ودلالاتها المتوارية.

احيانا ينسى المرء ان يكون فضوليا، تسحبه الرتابة أو الألفة الى التقاعس عن ممارسة الفضول بشكل يوميّ، بل لحظويّ. 
تمتعني جدا مشاويري في اللغة الصينية، في رموزها واصواتها ودلالاتها المتوارية. 
تنسى وانت تتعلم الصينية الحديثة ان تلتفت الى مكنون خفيّ في الرموز التقليدية التي لا تزال حية ترزق في تايوان وهونغ كونغ وماكاو.
يأخذك جهدك الى الرموز البسيطة التي انتشرت في الصين، فهي تتطلب جهدا يوميا حتى لا تتسرب من ذاكرتك، فالرمز كالزئبق، موّار، يزلق عن سطح ذاكرتك، فتخزين المعلومة في الذاكرة اشبه بالسير على بلاط مدلوق عليه الزيت!
اتخيل الرمز الصيني او الخنزة او " الخان تزه" ، يزحط ويسقط وينعطب وعليك ان تداويه باستمرار، أن تعالج جراحه الصوتية او الكتابية، فقد تنسى خطا من الخطوط فيضيع المعنى وتجد نفسك امام معنى آخر، ان الأمر يشبه نسيان نقطة في كلمة عربية احيانا، فأن تنسى النقطة على العين المعجمة هذا يعني ان تجعل من الغمّ عمّا، ومن أخوالك احوالك، الخ، فتخيّل البلبلة التي تقع فيها عينك، بلبلة يسقط معها الفهم، ويضطرب القول.
كل هذا ممتع، ممتع على ما فيه من مشقة وبلبلة وتعب!
ممتع ربما لأن السياحة تعب، والسفر في الأسفار كالسفر في الاقطار ويستحيل على سفر ان ينيلك الاوطار، الولع بالمعرفة عطش لا يرتوي، قد تعطش حقيقة فتشرب كوبا وثانيا وثالثا ورابعا ربما، وبعدها يستحيل على شفتيك ان تستقبل نقطة واحدة، الارتواء أمر لا تعرفه المعرفة ولا تحب ان تتعرف عليه.
ايها الوقت انت عدو الانسان الوحيد واللدود!
الشيطان هو الزمان، والوسواس الخناس هو الوقت، الوقت مهما طال قصير، والوقت لعوب، كجسم دودة، يمط او يتقلّص، يزمّ او يتمدد.وفي كل الاحوال يلعب بك. حاول على ما اذكر ابن سينا ان يهرب من مخاتلة الوقت، ولكن الاجل جاءه او باغته باكرا.
احب ان اترك نفسي وانا اكتب احيانا على سجيتها، اتركها تأخذ حريتها ووقتها! هذا اذا قدرت أن تأخذ وقتها. وتتسكع في حديقة الكتابة على ذوقها، أليس هذا ما يفعله بنا الوقت، يتركنا نتسكع على ذوقنا، ولكن من قال انه لا يشرف على حركاتها من بعد من وراء حجاب كجاسوس مهووس بمراقبة الناس والأنفاس.
في اي حال كلمة معرفة الصينية هي التي كانت وراء هذه التدوينة .
كلمة المعرفة بحسب الكتابة التقليدية، الكتابة التقليدية الصينية هي التي تملك مفتاح سرّ كثير من الرموز الصينية، الرموز الصينية البسيطة غامضة على شفافيتها، ودالة ، وجميلة، ولكن احيانا تتلعثم تفقد القدرة على النطق.
البساطة ايجاز، والايجاز غموض.
كلما قل الكلام زاد المعنى، وكلما ضاق الكلام اتسع المعنى اتساعا قد لا تقوى عيناك على التقاطه!
تبسطت الكتابة الصينية ، والبساطة حذف، والحذف غياب، والغياب حجاب!
تقلص عدد خطوط الرمز ولكن في الوقت نفسه تقلّص احتمال رؤيتك للبعد الفكري الذي كان يحيط بالرمز، فتشعر وانت امام بعض الرموز انك اضعت خارطة الطريق، والعنوان، والطريق!
الرمز الجديد لمعنى المعرفة هو 认 ، لا اقول انه أخرس، او لا يعرف ان يفصح عن مقصوده، ولكنه معنى نثري جدا مقابل الرمز التقليدي، فالرمز الجديد مؤلف من مفتاحين، مفتاح القول ومفتاح الانسان   (讠人) ، لكأنّ المعنى هو ان المعرفة مسألة انسانية ولسانية، المعرفة ينقلها لسان الانسان، لا لسان الحيوان ما طار منه او زحف او دبّ.
سوف تتضح فكرتي حين ادرج الرمز التقليدي واقوم بالمقارنة والتشريح، والمعرفة تتطلب التشريح، والتشريح يحتاج الى مبضع والمبضع جاهز في الرمز الصيني التقليدي للمعرفة وهو (認 )، ليس في الرمز التقليدي اي اثر للإنسان، ولكن الانسان يوجد ايضا حيث لا يوجد، الادوات مجاز مرسل للانسان.
الانسان لم يصبح انسانا الا حين حوّل الحجر الى سكين، والغصن الى قبضة فأس.
وهل الانسان انسان الا بفضل ادواته.
الانسان صانع ادوات بخلاف الحيوان، ادوات يعي التعامل معها.
لا اعرف ان كان الفارق بين الانسان والحيوان هو ان الحيوان يعيش في الحقيقة بينما الانسان يعيش في المجاز.
فانسانية الانسان في مجازيته لا في حقيقيته.
لماذا قلت ان الانسان متوار في الرمز العتيق رغم عدم وجود مفتاح دلالي يشير اليه بخلاف الرمز البسيط او الجديد حيث نرى للانسان حضورا بارزا ويسير على قدمين!
ان  رمز ( 人) وهو مفتاح الانسان انما هو في صورته عبارة عن رِجلَي رجل ، وقلت رجلي رجل لأظهر القربى بين الرجولة والرجل في العربية وهي قربى لا تغيب عن الرمز الصيني ايضا، وهذا ما لفتني في اول احتكاك بصري لي مع هذا الرمز! وهو موضوع شيق يدخلنا في المجتمع الذكوري المديد من بابه الشرقي الواسع.
قلت: للانسان حضور في الرمز الجديد وغياب في الرمز القديم، ولكن غياب الانسان كمفتاح لا يعني غياب الانسان. فالرمز القديم يتألف من ثلاثة مفاتيح بدلا من مفتاحين، تم الاحتفاظ بمفتاح اللسان في الرمزين، ولكن تمّ استبدال المفتاحين الباقيين من الرمز القديم بمفتاح جديد في الرمز الصيني الجديد، فبدلا من مفتاح القلب ومفتاح السكين(刃心 ) اختار واضع الكتابة المبسطة مفتاح الانسان، اي بدلا من سبع خطوط اختار مفتاحا من خطين، وهذا توفير بالغ في عدد الخطوط، دون ان ننسى ان مفتاح الكلام ايضا تم اختصار عدد خطوطه، فهو في الاصل من سبع خطوط ( 言) تم تنحيله وزمّه الى خطين (讠) اي انتقل الرمز من رمز ذي اربعة عشر خطا الى رمز من اربعة خطوط فقط. وهذا تبسيط كبير، تبسيط ريّح الذاكرة ولكن بلبل الذهن الصينيّ.

الرنمز الصيني حكيم جدا، قوّال، بليغ، يقول اشياء كثيرة، ولا اظن ان واضع الرموز الصينية كان غبيا او مستهترا بالمعنى، اذكر دائما ان واضع الكتابة الصينية كان، اسطوريا، رجل يتمتع بعيون اربع! وهو صانغ دجيه 仓颉
ما هي المعرفة من منظور الرمز الصينيّ؟
انها لسان وسكين وقلب، سكّين مرهفة الشفرة، سكين لها قدرة على شقّ القلب ورؤية ما في القلب، كيف تعرف من تعرف اذا كنت لا تعرف نيّة من تعرف، اللسان خدّاع!
هل شققت عن قلبه؟
سؤال عربيّ قديم، اجابته نفي، وتقريع!
ولكن السؤال العربيّ المقّرع اجابته ايجاب ، وشقّ، كل معرفة لا تسبر القلب معرفة معرضة للتصدّع والانهيار والتلاشي.
ان تعرف انسانا ما هذا يعني ان تستطيع الدخول الى دهاليز قلبه وتجاويف قلبه، وهو أمر ليس سهلا.
ولكن من قال ان المعرفة هي شربة ماء  ؟
كل هذه الدلالات التي ذكرتها يضاف اليها دلالة اخرى وهي دلالة صوتية وهو ان لفظ المعرفة يتجانس مع لفظ الرمز الذي يجمع بين السكين والقلب (忍 rěn النغمة الهابطة الصاعدة) باختلاف في النغمة، فالصبر هو النغمة الثالثة بينما المعرفة هي النغمة الرابعة ( الهابطة rèn).
والرمز 忍 يعني الصبر، والصبر حزّ سكين للقلب!
في التوراة تعبير ورد على لسان سليمان وهو ان المعرفة وجع!
الوجع الصيني حاضر ناضر في الرمز الصيني القديم (認)، والعلم يتطلب الصبر والصبر مرّ وموجع.
ولكن من قال ان مرارة الصبر لا تنقلب، مع الوقت، عسلا بشهده في الفم  تماما كما تنقلب ورقة التوت، مع الوقت،  خيط حرير؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق