الثلاثاء، 6 أكتوبر 2015

شهوة السفن، كلمات عابرة للقارات، وعملت لايك



تجري الرياح بما لا تشتهي السفن


هذا شطر من بيت شعر  للمتنبي، وهذا يعني انه من قصيدة للمتنبي.أغلب العرب يستعملون هذا الشطر من الشعر في مناسبات كثيرة، وقد يستعملون البيت كاملاً، فيسبقونه بشطره الأول: ما كلّ ما يتمناه المرء يدركه. اذا سألت من يستعمل هذا البيت من هو قائله فستنخفض النسبة، فكثيرون ممّن يستشهدون لا يعرفون من القائل، ولا يعنيهم من القائل، وهم في ذلك محقّون فليس المطلوب معرفة من القائل. ومن حسنات أغلب الأمثال انها انفصلت عن قائليها وانفصلت عن مناسبات قولها فتحرّرت من أغلال الزمان والمكان، وراحت تسير في الأفواه ( أليست أقوالا " سائرة"؟(.
واذا سألت من يعرف هذا البيت ومن يعرف أنّه للمتنبي عن مطلع القصيدة التي ورد فيها هذا البيت لانخفضت النسبة أكثر وأكثر. وهذا يعني ان بيت الشعر لا يحتاج ليعيش إلى شجرة عائلته وجوّه اذا اعتبرنا القصيدة هي عائلته ومسكنه، أليست القصيدة أبياتاً وهو مع آخر مرادفا لكلمة "بيوت"؟

لا ننسى ان تسمية بيت الشعر، في العربية، بالـ"بيت" لا تخلو من حميمية، فالانسان لا يرتاح على ما يقال الا في بيته!

أنهي بالملاحظة التي اريد الحديث عنها وهي أنّ كلّ النصوص الكبرى هي فتافيت نصوص، هي كقطع لوحة البازل، كلّ النصوص الشعرية والدينيّة والنثرية.

تتمزق النصوص الكبرى الى نصوص صغرى ( شواهد، اقتباسات، أقوال مأثورة، حكم(. وحين تتمزّق النصوص الى قطع بازل تتفاوت حظوظ استعمالها. فهذا البيت للمتنبي هو أكثر استعمالا من قصيدته ككلّ، هو كالولد في البيت الواحد الذي يبرز أكثر من اخوته، ولا قيمة هنا للبكر الشعري اي لمطلع القصيدة.

جردة بسيطة في المستعمل المكتوب والمنطوق في حياة الناس اللغوية العادية تعطي الأولوية لهذا البيت. خذ الأمر نفسه في أسماء الله الحسنى هل لها الاستعمال نفسه؟ يمكنك ان تعرف ذلك من خلال أسماء الناس، فما هو عدد من اسمه "عبد الرحمان"؟ وما هو عدد من اسمه "عبد الجبّار" او "عبد المتكبّر"؟

هذه هي طبيعة اللغة، تقوم على اختيارات وأسباب وحظوظ في كل ميادينها ومجالاتها التي تصول فيها الألسنة وتجول .ولكن في هذه القصيدة ثلاثة أبيات شعرية سابقة على هذا البيت تفسّر حكاية "شهوة السفن"، وهي عن موت المتنبي وبعثه! يقول أبو الطيّب:

يا من نعيت، على بُعدٍ، بمجلسه   كلٌّ بما زعم الناعون مرتهن
كم قد قتلت! وكم قد متّ عندكم!  ثمّ انتفضت، فزال القبر والكفن
قد كان شاهد دفني قبل قولهم     جماعة ثم ماتوا قبل من دفنوا


كلمات عابرة للغات

Richistan  عنوان كتاب ألّفه الصحافي في جريدة Wall Street Journal، روبير فرانك Robert Frank ، وهو كتاب عن عيش الأثرياء الفاحشي الثراء!

ما لفت نظري، في العنوان، هو المقطع الأخير "stan".  وجدتها طريفة، لأنها تنتمي الى عالم لغويّ غير عالم الانكليزية، وهي لاحقة تكاد ان تصير عالمية فيما يبدو، لاحقة عابرة للغات والقارات.

و" سْتان"  التي نراها فيختام أسماء بلدان ومناطق كثيرة في الشرق مثل "أفغانستان" و"راجستان" دخلت الى العربية، واستخدمها كثير من الكتاب والشعراء، ولنزار قباني مسرحيّة بديعة كتبها من وحي الحرب الأهلية اللبنانية المجنونة بعنوان "جمهورية جنونستان " على سبيل المثال.

في العربية هناك لواحق غير عربية لم يعد من السهل التخلي عنها، ومنها لاحقة " جي" في كلمات عربية كثيرة. أقول ليس من السهل طردها من العربية وإعادتها إلى بلدها الأصليّ تركيا، فقد يكون من السهل حذف كلمات كثيرة تنتهي بـ"جي"  من قبيل "كهربجي"، و"كندرجي"، و"أونطجي"، ولكن المشكلة  في الأسماء. فثمّة اناس يحملون في اسماء عوائلهم هذه الـ"جي" كعائلة " قندلجي" مثلاً أو "بلطجي" أو " سمرجي"، انها كلمة عربية شرعاً، فهي موجودة في دوائر النفوس وينتسب إليها كثير من الناس.و" ستان" يبدو انها محظوظة تعبر القارات واللغات، وها هي ترسو في مرفأ اللغة الانكليزية وتصبر عنوانا لكتاب غربيّ النِّجار.

تستهويني قراءة كلمات او مقاطع من كلمات لها طبيعة الطيور المهاجرة.
انها تشبه اولئك الأشخاص العالميين، كما يقال، الاشخاص الذين لا يحبون الانحباس في قومية أو في ايديولوجيا أو في مكان مرسومة حدوده بالمسطرة والقلم. ويعتبرون الأرض على اختلافها هي موطنهم. وهذا ما يقوله شاعر عربيّ قديم، لا تخلو ابياته من كثير من التبصّر، ومن شبه بكثير من تلك الكلمات التي فلتت من قيود قوميّاتها الضيّقة.

 يقول الشاعر الأندلسيّ أبو العرب الصقلّي وهو من معاصري المعتمد بن عبّاد، بحسب ما ورد في كتاب" نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب " للمقّرّي التلمسانيّ:

إلامَ اتّباعي للأماني الكواذب    وهذا طريق المجد بادي المذاهب

أهم ولي عزمان عزم مشرق  وآخر يثني همتي للمغارب
 
ولا بد لي أن أسأل العيس حاجة  تشقّ على أخفافها والغوارب
) إذا كان أصلي من تراب، فكلّها  بلادي، وكلّ العالمين أقاربي)


ثمّة كلمات عربية وغير عربية على شاكلة أبي عرب الصقّلي!


عملت لايك

 اللغة العربية على عكس ما يظنّ البعض لا تحبّ الإسراف ولا الهدر. لغة تحبّ الايجاز، وتربت على كتفه, كما انها لا تغلق الباب في وجه الدخيل.
كلمة " دخيل" من أرقى الكلمات في العلاقات الاجتماعية التي كان سائدة في المجتمع العربيّ القبليّ القديم. وبقي منها عبارة مستعملة في العامية من غير ان يلتفت المرء على دلالتها العميقة والأولى بسبب ألفة الاستعمال، والألفة حجاب صفيق كما البديهة يمنع المرء أن يرى ما هو أمام عينيه. التعبير الباقي  هو "دخيلك".

عودة الى الـ"لايك" الفسبوكيّ، لأقول إنّ العربية تستقبل بترحاب فعل " ليّك" بدلاً من "عمل لايك"، فمن ناحية تأخذ الكلمة طابعاً عربياً وملامح سمراء وتلبس لباسنا وتأكل من أكلنا، ومن ناحية ثانية نجد توفيراً في عدد الحروف المستعملة، فبدلاً من ثمانة حروف :" ع م ل ت ل ا ي ك"، هناك فقط أربعة حروف " ل ي ي ك"، وكررت الشدة لأنّ الشدّة  ياء، هنا، خفية.

 لا تعيش لغة لا تستقبل مفردات دخيلة. لا تخلو لغة في العالم من كلمات أعجمية المصدر، وعلماء العربية أشاروا الى الكلمات غير العربية في القرآن الكريم الذي نزل بلسان عربيّ مبين، وأشاروا-  كما نرى في كتاب " البرهان في علوم القرآن" للزركشيّ، أو " الاتقان في علوم القرآن" للإمام السيوطيّ-  الى "استبرق" و"جهنّم" و" صراط"" وغيرها من مفردات دخلت إلى العربية وترعرعت في أجواء عربية خالصة بل ومقدّسة. وصارت، لغويّاً، منّا وفينا!


بلال عبد الهادي




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق