الثلاثاء، 12 فبراير 2013

مقدمة البصائر والذخائر ج 5/ ابو حيان التوحيدي

كتبها بلال عبد الهادي ، في 17 أيار 2011 الساعة: 15:59 م




اللهم اجعل عدونا إليك مقرونا بالتوكل عليك، ورواحنا عنك موصولاً بالنجاح منك. وإجابتنا لك راجعة إلى التهالك فيك، وذكرنا إياك منوطاً بالسكون معك، وثقتنا بك هادية إلى التفويض إليك، ولا تخلنا من يد تستوعب الشكر، ومن شكر يمترى خلف المزيد، ومن مزيد يسبق اقتراح المقترحين، وصنع هو من ذرع الطالبين، حتى نلقاك مبشرين بالرضا، محكمين في الحسنى، غير مناقشين ولا مطرودين.
اللهم أعذنا من جشع الفقير، وريبة المنافق، وتجليح المعاند، وطيشة العجول، وفترة الكسلان، وحيلة المستبد، وتهور الغافل، وحيرة المحرج، وحسرة المحوج، وفلتة الذهول، وحرقة النكول، ورقبة الخائف، وطمأنينة المغرور، وغفلة الغرور، واكفنا مؤونة أخ يرصد مسكوناً إليه، ويمكر موثوقاً به، ويخيس معتمداً عليه، وصل الكفاية بالسلوة عن هذه الدنيا، واجعل التهافنا عليها حنيناً إلى دار السلام ومحل القرار، وغلب إماننا بالغيب على يقيننا بالعيان، أحرسنا من أنفسنا فإنها ينابيع الشهوة ومفاتيح البلوى، وأرنا من قدرتك ما يحفظ علينا هيبتك، وأوضح لنا من حكمتك ما يقلبنا في ملكوتك، وأسبغ علينا من نعمتك ما يكون لنا عوناً على طاعتك، وأشع في صدورنا من نورك ما تتجلى به حقائق توحيدك، واجعل ديدننا ذكرك، وعادتنا الشوق إليك، وعلمنا النصح لخلقك، واجعل غايتنا الاتصال بك، واحجبنا عن قول يبرأ من رضاك، وعمل يعمى صاحبه عن هداك، وألف بيننا وبين الحق، وقربنا من معادن الصدق، واعصمنا من بوائق الخلق، وانقلنا من مضايق الرزق، واهدنا إلى فوائد العتق.
اللهم إنك بدأت بالصنع، وأنت أهله، فأنعم بالتوفيق فإنك أهله. اللهم إنا نتضاءل عند مشاهدة عظمتك، وندل عليك عند تواتر برك، ونذل لك عند ظهور آياتك، نلح عليك عند علمنا بحودك، ونسألك من فضلك ما لا يرزأك ولا ينكأك، ونتوسل إليك بتوحيد لا ينتمي إليه خلق، ولا يفارقه حق.
هذا الجزء الخامس من البصائر، وهو صنو ما سلف منه، فاجعله درسك ليلك ونهارك، واجعله تلاوتك سرك وجهارك، واختلس حظك من المعارف فيه تتخلص من المناكر، وخض بحر المعارف تنج من المجاهل، واعلم أن عملك لا يزكو، وسرك لا يصفو، وعاقبتك لا تحلو، حتى تقف بين أمر الله ونهيه، غير محتج بإرادة الله تعالى وعمله، متوقفاً عما وقفك عنه، متخففاً إلى ما أنهضك إليه، عالماً بأن البدء منه، والحجة منه عليك، وان الذي عليك بنسبتك إليه أن تكون عبداً ذليلاً، والذي لك عنده أن يجعلك ملكاً عزيزاً، ولا تفوتن نفسك فإنك حظها، ولا تفوتنك نفسك فإنها حظك، واتق عذاباً يستغرقك، وخف حساباً يأتي عليك، وافتح ديوان نفسك، وكن رقيب أمرك، قبل أن يشركك من لا يوطئ عشوة، ولا يقبل رشوة، واعلم انك في هذه الدار بين طيب وخبيث وقديم وحديث وقول وعمل وعذر وعذل وإضرار واختيار، وشكر وصبر، ووفاء وغدر، وعزاء وجزع، وأمان وفزع، وظلمة ونور وترحة وسرور، وغمة وانجلاء، وهبطة واعتلاء، وعافية وابتلاء، وصحوة وسكر، ولذة وحسرة، ويقين وحيرة، واجتماع وفرقة، وإمتاع وحرقة، ووحشة وانس، وهم وعرس، وإطلاق وحبس، واستقلال ونكس، وسعادة ونحس، ونزاهة وحرص، وحفظ وإضاعة، وكتمان وإذاعة، ودرك وفوت، وحياة وموت، فخذ نفسك بالإعراض عن زهرة تحول، ونعم تيلى، ومدة تنصرم، وشهوة تنقضي، وتبعة تبقى، وندم يصير لزاماً، والزم الصمت إلى أن ترى هلكك فيه، والزم النطق إلى أن ترى ضياعه عنك عند مستمعيه، وعاشر ما قبل نصحك في العشرة، وتفرد ما رأيت الخلل في الخلة، واعمل ما دام الإخلاص صاحبك، واعتقد ما صحب اليقين عقيدتك، واصرف غاية اجتهادك ونهاية سعيك وبليغ كدحك في اقتباس العلم فإنه نور وضياء، وبر وشفاء، وحلية وجمال، ومتعة وراحة، وهدي وبيان، وسعادة ونجاة، ودنيا وآخرة، وغنى ويسار، إن لم يغنك بالبضاعة أغناك بالقناعة، وإن لم يبلغك منزلة النيل به لم يخلك من الاستراحة إليه.
وقف متعلم بباب عالم فقال: واسونا مما رزقكم الله؛ فأخرجوا له طعاماً فقال: فاقتي إلى كلامكم أشد من حاجتي إلى طعامكم؛ اعلموا أن فلاناً طالب هدى لا سائل ندى. فأذن له وأوسعه فوائد، فخرج وهو يقول: علم أوضح لبساً، خير من مال أغنى نفساً.
نظر عالم إلى تلامذته فقال: ما كل ذي تحصيل يرجع إلى تفصيل، وما كل ذي سماع يأوي إلى قلب يراع، وما كل ذي اقتباس يستند إلى قياس، وأنشد: البسيط

لا تبخلن بفضل العلم تمنحـه ما كل قابس علم حلف مقباس
إن النجوم يراها كل ذي بصر وليس يعرفها جيل من الناس
وكن من مصيرك إلى الله على فرق، فإن ذلك يسهل عليك الكد في طلب الراحة، ولا يغرنك ظاهر ما ترى من هذا العالم عن باطن ما تغفل عنه، فإن ناظم هذا الفلك، ومزين هذه السماء، وساطح هذه الأرض، وجاسي هذا الجو، وفالق هذا البحر، وبارئ هذه النسمة، لم يخلقها عبثاً، ولم يتركها سدى؛ فاعرفه معرفة تنسيك ما سواه، واعتصم بحبل من حسن الظن به فإنه يجزيك، وتحبب إليه بالتحبب إلى خلقه، وتطامن للحق، وأعز الحق، فإن معاذ بن جبل قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معاذ، المؤمن لدى الحق أسير؛ يا معاذ، إن المؤمن من لا يسكن من روعته، ولا يأمن من اضطرابه، حتى يخلف جسر جهنم وراء ظهره؛ يا معاذ، إن المؤمن قيده القرآن عن كثير من شهواته، فالقرآن دليله، والخوف محجته، والشوق مطيته. والصلاة كهفه، والصوم جنته، والصدقة فكاكه. والصدق أميره. والحياء وزيره؛ يا معاذ، إني أحب لك ما أحب لنفسي، وأنهي لك ما أنهى إلي خليلي جبريل عليه السلام؛ يا معاذ، المؤمن يسأل يوم القيامة عن جميع سعيه، حتى عن كحل عينيه، وفتات الطين بإصبعيه، فلا ألفين يوم القيامة واحداً أسعد بما آتاه الله منك؛ روي هذا الحديث أبو حاتم الرازي عن أحمد بن أبي الحواري.
وامقت الدنيا مقتا، ولا يقنطنك من الله تعالى بعض ما يضيق عليك من رزقك، ويخيب من آملك، ويفوت من مرادك، فإنك عند السعة مطالب بشكر أثقل من الضيق عند الضيق، ممتحن بصبر تحمله أيسر من اليسر، والقائل يقول: الوافر

فلا تجزع وإن أعسرت يومـاً فقد أيسرت في الزمن الطويل
ولا تيأس فإن الـيأس كـفـر لعل الله يغني عـن قـلـيل
ولا تظنن بربك ظن سوء فإن الله أولى بالجمـيل
ولعل صنع الله في طيها عنك أكثر من انتشارها عليك.
وما أحسن ما قال عبد الله بن طاهر بن صفة الدنيا حين كتب إلى المعتصم: أما بعد، فإن الدنيا قد عاينت نفسها بما أبدت من تصرفها، وأنبأت عن مساوئها بما أظهرت من مصارع أهلها، ودلت على عوراتها بعين حالاتها، وقطعت ألسنة العز فيها عين زوالها. وشهد إخلاق شؤونها على فنائها. فلم يبق لمرتاب في أمرها ريب، ولا لناظر في عواقبها شك، بل عرفها جل من عرفها معرفة يقين، وكشفوها أبرز تكشف، ثم أضلتهم الأهواء عن منافع العلم، ودلتهم الآمال بغرور، فلججوا في غمرات العجز، فسبحوا في بحورها موقنين بالهلكة، ورتعوا في عراضها عارفين بالخدعة، وكان يقينها شكاً، وعلمهم جهلاً، لا بالعلم انتفعوا، ولا بما عاينوا اعتبروا، قلوبهم عالمة جاهلة، وأبدانهم شاهدة غائبة، حتى طرقتهم المنية، فأعجلتهم عن الأمنية، فبعثتهم القيامة. وأقدمتهم الندامة، وكذلك الأمل: ينسئ طويلاً ويأخذ وشيكا، فانتفع امرؤ بعلمه وجاهد هواه أن يضله، وخاف أمله أن يغره، وقوي يقينه على العمل، ونفي عنه الشك بقطع الأمل، فإن الهوى والأمل إذا استضعفا اليقين صرعاه، وإذا تعاونا على ذي غفلة خدعاه، فصريعهما لا ينهض سالماً وخديعهما لا يزال نادماً، والقوي من قوي عليهما، والحارس من احترس منهما؛ ألبسنا الله وإياكم جنة الحذر، ووقانا وإياكم سوء القضاء والقدر.
ولو كان هذا الكلام لابن المبارك أو منصور بن عمار أو ابن السماك لكان كبيراً. فكيف وهو لعبد الله بن طاهر، ونصيبه من عشق العاجلة ومحبته للدنيا ما نعرفه? إلا أن يكون غيب حاله خلاف مشهده، والتفاوت في الكلام أمر راتب في الخلق، وكذلك في العمل، وكذلك في الإخلاص، وكذلك فيما ينتصب للإخلاص من الدرجات والمنازل، فسبحان من هذا خلقه في خلقه وهذا أمره في أمره

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق