كتبهابلال عبد الهادي ، في 17 أيار 2011 الساعة: 16:02 م
اللهم إني أبرأ من الثقة إلا بك، ومن الأمل إلا
فيك، ومن التسليم إلا لك، ومن التفويض إلا إليك، ومن التوكل إلا عليك، ومن الطلب
إلا منك، ومن الرضا إلا عنك، ومن الذل إلا في طاعتك، ومن الصبر إلا على بابك،
وأسالك أن تجعل الإخلاص قرين عقيدتي، والشكر على نعمتك شعاري ودثاري، والنظر في
ملكوتك دأبي وديدني، والانقياد لك شأني وشغلي، والخوف منك أمني وإيماني، واللياذ
بذكرك بهجتي وسروري.
اللهم تتابع برك،، واتصل خيرك، وعظم رفدك، وتناهي إحسانك، وصدق وعدك، وبر قسمك، وعمت فواضلك، وتمت نوافلك، ولم تبق حاجة إلا قد قضيتها وتكلفت بقضائها، فاختم ذلك كله بالرضا والمغفرة، إنك أهل ذلك والقادر عليه والملي به.
هذا الجزء -أبقاك الله- الجزء السادس من كتاب البصائر والذهائر، وإليه وقع الانتهاء، وعليه وقف العزم، وعنده بلغ النشاط، لأن المراد تم به، وما في النفس سكن معه، فقد كان يجول في النفس ما يعسر تدوينه، ويصعب تضمينه، مع تحول الحال، ونحول البال، وذلك لأن الكتاب طال طولاً يمل الناسخ، ويضجر القارئ، ويقبض المنبسط، ويكل النشيط، ويفتر الشهوات، ويفل غرب الحريص، ويتعب الطالب والراغب، ويصير ما أردنا أن يكون سبباً لاجتبائه سبباً لاجتنابه، وما أحببنا أن يكون باعثاً على طلابه مؤيساً من وجدانه، وهكذا كل ما طال وكثر، وازدحم وانتشر، وليس يصير هذا عيباً إلا عند فسولتنا في طلب العلم، وسوء رغبتنا في إفشاء الحكمة، وقلة طاعتنا للحق، أعراضنا عن الحظ، واستبدالنا للخير، واعتيادنا للهو، وجهلنا بعواقب الدنيا، ولو صدقت النية، وانبعثت الهمة، وأذعنت الشهوة، وذلت النقيبة، وساعد التوفيق، كان ما استبعد في هذا الباب قريباً، وما استوعر سهلاً، وما استغلي رخيصاً، وما استثقل خفيفاً، وما استكثر قليلاً، ولكن من يصبر على هذا السوم، ويصير إلى هذا الحكم، ويأنف من هذا الطعن، وينفر من هذه اللائمة، مع ضميره المدخول، وعادته الفاسدة، ومنشئه الردي، وقرينه الفاضح، وحبه للراحة، واختطافه للذة، وتعجله للممكن، وتسويفه في الخير، وتوصله إلى الشر، وهذا قطرة من البحر، وحصاة من الجبل، مع تنكر الزمان، وفساد الدهر، واختلاف المقالات، وتشابه الآراء، وتكافؤ الجدال، وتزاحم الشبه، وتراكم الحجج، وسوء بيان العلماء، وقلة إنصاف الحكماء، وقبح أخلاق الأدباء.
أنا رأيت شيخاً قد انتهى في السن، وبلغ الغاية في الحكمة، وأشرف على نهاية التجربة، قد قسم حاله بين إرجاف بالسلطان، أو وقيعة في الإخوان، أو شكوى من الزمان، هذا عين ما قد وجده واستفاده، وهو بزعمه وزعم ناصره- فرد أوحدي، ونقاب لوذعي؛ وهكذا مشايخ دينك، وأنصار شريعتك، وأعلام ملتك، والمتكلمون في بلادك، فماذا أتوقع لنفسي إذا كنت آخذاً عنهم، ومقتدياً بهم، ونازعاً إليهم?
قلت يوماً لابن الخليل: كيف صرت في الشكوى أخطب من قس، وأبلغ من سحبان، وأنطق من شبيب، وأفصح من صفوان? قال: وكيف لا أكون كذلك وأنا في زمان إن ذكرت أهله بما يستسرونه ويتباهون به، ويشتملون عليه ويتهالكون فيه، هتم فمي، وسفك دمي، وشهد علي بالكفر، ولم يرض لي إلا بالصلب؛ قلت: فبح بما في نفسك، على اختصار لفظك، وإيجاز قولك، قال: اعلم أني قد أصبحت بين إمام لا يعدل، ووزير لا يفضل، وعالم لا يتأله، وناسك لا يتنزه، وغني لا يواسي، وفقير لا يصبر، وجليس لا يحلم، وواعظ لا يعف، وحاسد لا يكف، وصديق لا يعين، وجار لا يستر، وجاهل لا يتعلم، ومتعلم لا يتحرج، وقاض لا ينصف، واشهد لا يصدق، وتاجر لا يتورع، وعدو لا يتقي، ومؤذ لا يفتر، فهل ترى لمثلي بعد ما عددته قراراً، أو تجد لأحد عليه اصطباراً? والله لو عن لي رأي في الصبر عليه لملكته، ولو بدا لي طريق في السكوت عنه لسلكته، ولكني ذو صدر جياش، وعقل مفتون.
وأقطع حديث هذا الرجل، فإنه كان يكثر من هذا الفن، ويأتي فيه بكل ما توهم وظن، وكان ذا عارضة عريضة، ولسان بليل، وقلب مكوي، وركية غزيرة، وله مذاهب استأثر بها، وتوحد فيها، وأشياء طريفة كان يكتمها، ولا يعرب عنها، وكان من كبار المعتزلة، ولكنه خالفهم، وأفرط في التشنيع عليهم، وتناهى في تتبع قبائحهم. ولقد قال هذا لرجل قولاً، ووجد عيباً، فركب جواداً، وسلك جدداً، وأصاب بدداً، وعرف داء، وطلب دواء، ولو استوى لك أن تكذبه، وتزيف قوله، وترد عليه دعواه لفعلت، ولكن كما قد علمت أن ما طوى أكثر مما نشر، وما دفن أخبث مما أنشر، وما أشار إليه أقبح مما نص عليه، وما روي عنه أفحش مما أفصح به.
فانتفع -حفظك الله- بسماع ما روي لك، وعرض على عقلك، ونيط بفهمك، وقرب من سمعك، ولاح لعينك، وعالج نفسك بمقت الهوى، وأودع قلبك برد اليقين، وحدث سرك بالإقلاع، وخف عاقبة الإصرار، وراقب إلهك في السر والجهر، والتفت إلى حظك بالاختيار والقهر، وجانب كل ما جنبك الخير، واهجر كل ما أعلقك الذم، وأورثك الندم، وثبت على طاعة الله قدميك، واستحفظ نعم الله تعالى قبلك، واشهد آلاءه عندك، واعترف له بالربوبية، وتذلل بين يديه بشمائل العبودية، واعلم أنك منه بمرأى مسمع ومطلع، واجعل أساس أمرك، وخميرة حالك، وزبدة تدبيرك، وعمدة شأنك، الزهد في الدنيا، وإزجاءها بما طف منها، والرضا بالبلغة فيها، فإنك إذا فعلت ذلك هان عليك ما عداه، وقرب منك ما تهواه.
الزهد في الدنيا باب السعادة، ودرجة السلامة، ووعاء النجاة، وظرف الراحة؛ بالزهد تملك هواك عن الجماح، وطرفك عن الطماح، ونفسك عن اللجاج، وطباعك عن الغي، وظاهرك عن الهجنة، وباطنك عن الفتنة، فبه يذل لك كل ما نشأ عنه، وصار فرعاً عليه. هناك تتفرغ لحسابك، وتتصفح ما يخصك، اعتبار ما يكون صلاحه منوطاً بك، وفساده منفياً عنك، وآثاره راجعة إليك، وريعه واقفاً عليك، فلا تعتقد إلا حقاً يصحبه البرهان، ولا تقول إلا صواباً يشهد له الدليل، ولا تعمل إلا صالحاً يؤيده القول والحق، ومتى خلصت إلى هذه الرتبة حفت بك السعادة، وتواصلت إليك الزيادة، وكان جليسك منك بين ملحوظ يقتدي بك فيه، وملفوظ يمتثل أمرك به، ولن تحوز هذه الحال، ولن تفوز بهذا الكمال، حتى تبرأ من الجدال في الدين، وتهجر هذيان المتكلمين، وتبعد عن مجالس المشككين، وتألف عادة الصالحين، وتأخذ بهدي المسلمين، وتحسم طبعك عن معرفة أسرار رب العالمين، في هذا الخلق أجمعين.
نعم، وحتى تترك الخوض في الجزء والطفرة، والجوهر والعرض، والكمون والظهور، والمداخلة والمجاورة، وما مراد الله في كذا، وما علته في كذا، وما سببه في كذا، وواجب عليه أن يفعل كذا، ويستحيل عليه فعل كذا، ولو فعل كذا لكان كذا، وهذا تحكك بالإله، وتمرس بالرب، وليس لك من ذلك إلا ما ألقاه إليك، وعرضه عليك، وسهله لك، ورفع الشبهة عنك؛ فأما ما غمض واستتر، وخفي واستسر، فإياك أن تتعرض له، وتحوم حوله، وتطلب قياسه ونظيره، فإنك إما أن تكل دون بلوغه، أو تضل قبل مناله، لأن الله تعالى لم يبن هذه الدار، ولم يرتب هذا العالم، ولم ينظم هذا الفلك، على قدر عقلك الضعيف، ولم يستشر استحسانك واستقباحك، ولم يجعل لك إلى شيء من ذلك سبيلاً إلا على حسب ما أعارك من القوة، وأعلمك بالتكليف، وألهمك بالتوفيق، فإن تعديت طورك، وتعليت قدرك، نكسك وردك على عقبيك، وأسرك بعجزك، وعراك من لبوس عزك، وجعلك عبرة للناظر إليك، وآية للمعتبرين بك، وأحدوثة للغابرين بعدك.
فاحذر التخطي إلى سياج ربك ومعالم إلهك، والزم حدودك في عبوديتك، فبهذا أمرت، واستقم كما أمرت، لعل الله تعالى يرى فقرك فيغنيك، وضعفك فيقويك، وانحطاطك فيعليك، وذر الذين يخوضون فيما ليس إليهم، يتكلفون ما ليس عليهم، فسيعلمون أي منقلب ينقلبون.
حرس الله علينا وعليك الدين، ووفر حظنا وحظك من اليقين، وجعلنا وإياك من عباده المتقين، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
هذا الكتاب -حفظك الله- وإن كان قد تأبط هزلاً، واستبطن سخفاً، وتحمل مزاحاً، فإنه قد تضمن أدباً وعلماً، وتوشح حكمة وفصاحة، ودعا إلى الله أمراً وزجراً، ودل على الخير إيجازاً وإطناباً، ونشر حكم الله رواية واستخراجاً، وأمتع النفس سراراً وجهاراً، فلا تجعل نصيبك منه الخطأ والخطل، وقد اعترض لك منه العلم والفائدة، ولا تحكم على مصنفه وجامعه إلا بعد أن تستظهر بالحجة، وتعتقد الإنصاف، وتعتمد على الحق. وإنما أوصيك بهذا خوفاً من أن يقول ما يقول من لا يشفق على عرضه، ولا يتعقب فرطات حكمه، ولا يفلي مواقع رأيه، ولا يملك خطام لسانه، ولا يبالي بما ووجه به.
واستيقن أن الكتاب قد حوى من الذهن لواقحه، ومن العقل قرائحه، ومن العلم غنائمه، ومن الفهم نتائجه، ومن الصدر ذخائره، ومن الدهر سرائره، ومن الأدب أرواحه، ومن البال خواطره، ومن الروية جواهرها، ومن الحكمة حقائقها، ومن التجربة أعيانها، ومن الأمم ودائعها، ومن الحنكة فرائدها، ومن الأخلاق محاسنها، ومن العرب بيانها، ومن الفرس سياستها، ومن اليونان دقائقها ومن الشريعة رقائقها، فهو إذن للكليل شحذ، وللوسنان يقظة، وللعقل سمة، وللعي بلاغة، وللأخرس ترجمان، وللناسي تذكرة، وللغزير تجربة، وللأديب عدة، وللعالم عمدة، وللخامل نباهة، وللمجهول علامة، وللجاد محجة، وللهازل مفكهة، وللناسك بصيرة، وللعائل نصيحة، جمعت فيه كل عرة لائحة، وحجة واضحة، وبرهان مبين، وقول متين، ونادرة ملهية، وموعظة مبكية، وللرفيع فيه مرتع، وللمتوسط إليه مفزع، وللدني به مقمع، وأفنيت في ذلك وأطنبت، وصعدت فيه وصوبت.
فلا تحرمني عفوك عند زلة أفتضح بها عندك، ولا تبخل علي بمدحك في صواب عليك، وأجهزه إليك، وكن من إخوان الصدق، وأعوان الحق، ولعمري لك علي مقال فيه، ومتعلق به، ومدخل منه، لأني قد شعثت أعراض قوم، وأعلنت أسرار ناس، وزدت في بعض ذلك مستثيباً، ونقصت مجانباً، وألممت معرضاً، وكاشفت مصرحاً، وطويت محسناً، ونشرت مقبحاً، ولكن ذاك مع توخي الحق مقبول، وفي خلال الصواب مستحسن، وفي جمهور الصدق نافع.
ومن هذا الذي تصدى لمثل هذا الكتاب، مع طوله وكثرة عدد أوراقه، وتصرف راويه، واختلاف أساليبه ومعانيه، مع ضيق الصدر، وغروب الصبر، وخفة ذات اليد، وسوء الظن باليوم أو غد، فلم يهرف، ولمخرف، ولم يظلم ولم يجزف? هذا ضمان لا يصح الوفاء به، ووعد لا يبعد من الخلف فيه، وحكم لا يبرأ الشطط منه، وإذا مزج حقه بباطله، وقرن خيره وشره، وأضيف سقيمه إلى صحيحه، كان قوام الجميع للحق، وكنت إذ ذاك في طبقة من يسامح بما كره له لبلوغه الغاية فيما أصاب فيه. على أنا نلجأ إلى الله في كل عسر ويسر، وعليه نتوكل في كل صغير وكبير، وإياه نستعين في جميع الأمور، فبيده الخير وهو على كل شيء قدير
اللهم تتابع برك،، واتصل خيرك، وعظم رفدك، وتناهي إحسانك، وصدق وعدك، وبر قسمك، وعمت فواضلك، وتمت نوافلك، ولم تبق حاجة إلا قد قضيتها وتكلفت بقضائها، فاختم ذلك كله بالرضا والمغفرة، إنك أهل ذلك والقادر عليه والملي به.
هذا الجزء -أبقاك الله- الجزء السادس من كتاب البصائر والذهائر، وإليه وقع الانتهاء، وعليه وقف العزم، وعنده بلغ النشاط، لأن المراد تم به، وما في النفس سكن معه، فقد كان يجول في النفس ما يعسر تدوينه، ويصعب تضمينه، مع تحول الحال، ونحول البال، وذلك لأن الكتاب طال طولاً يمل الناسخ، ويضجر القارئ، ويقبض المنبسط، ويكل النشيط، ويفتر الشهوات، ويفل غرب الحريص، ويتعب الطالب والراغب، ويصير ما أردنا أن يكون سبباً لاجتبائه سبباً لاجتنابه، وما أحببنا أن يكون باعثاً على طلابه مؤيساً من وجدانه، وهكذا كل ما طال وكثر، وازدحم وانتشر، وليس يصير هذا عيباً إلا عند فسولتنا في طلب العلم، وسوء رغبتنا في إفشاء الحكمة، وقلة طاعتنا للحق، أعراضنا عن الحظ، واستبدالنا للخير، واعتيادنا للهو، وجهلنا بعواقب الدنيا، ولو صدقت النية، وانبعثت الهمة، وأذعنت الشهوة، وذلت النقيبة، وساعد التوفيق، كان ما استبعد في هذا الباب قريباً، وما استوعر سهلاً، وما استغلي رخيصاً، وما استثقل خفيفاً، وما استكثر قليلاً، ولكن من يصبر على هذا السوم، ويصير إلى هذا الحكم، ويأنف من هذا الطعن، وينفر من هذه اللائمة، مع ضميره المدخول، وعادته الفاسدة، ومنشئه الردي، وقرينه الفاضح، وحبه للراحة، واختطافه للذة، وتعجله للممكن، وتسويفه في الخير، وتوصله إلى الشر، وهذا قطرة من البحر، وحصاة من الجبل، مع تنكر الزمان، وفساد الدهر، واختلاف المقالات، وتشابه الآراء، وتكافؤ الجدال، وتزاحم الشبه، وتراكم الحجج، وسوء بيان العلماء، وقلة إنصاف الحكماء، وقبح أخلاق الأدباء.
أنا رأيت شيخاً قد انتهى في السن، وبلغ الغاية في الحكمة، وأشرف على نهاية التجربة، قد قسم حاله بين إرجاف بالسلطان، أو وقيعة في الإخوان، أو شكوى من الزمان، هذا عين ما قد وجده واستفاده، وهو بزعمه وزعم ناصره- فرد أوحدي، ونقاب لوذعي؛ وهكذا مشايخ دينك، وأنصار شريعتك، وأعلام ملتك، والمتكلمون في بلادك، فماذا أتوقع لنفسي إذا كنت آخذاً عنهم، ومقتدياً بهم، ونازعاً إليهم?
قلت يوماً لابن الخليل: كيف صرت في الشكوى أخطب من قس، وأبلغ من سحبان، وأنطق من شبيب، وأفصح من صفوان? قال: وكيف لا أكون كذلك وأنا في زمان إن ذكرت أهله بما يستسرونه ويتباهون به، ويشتملون عليه ويتهالكون فيه، هتم فمي، وسفك دمي، وشهد علي بالكفر، ولم يرض لي إلا بالصلب؛ قلت: فبح بما في نفسك، على اختصار لفظك، وإيجاز قولك، قال: اعلم أني قد أصبحت بين إمام لا يعدل، ووزير لا يفضل، وعالم لا يتأله، وناسك لا يتنزه، وغني لا يواسي، وفقير لا يصبر، وجليس لا يحلم، وواعظ لا يعف، وحاسد لا يكف، وصديق لا يعين، وجار لا يستر، وجاهل لا يتعلم، ومتعلم لا يتحرج، وقاض لا ينصف، واشهد لا يصدق، وتاجر لا يتورع، وعدو لا يتقي، ومؤذ لا يفتر، فهل ترى لمثلي بعد ما عددته قراراً، أو تجد لأحد عليه اصطباراً? والله لو عن لي رأي في الصبر عليه لملكته، ولو بدا لي طريق في السكوت عنه لسلكته، ولكني ذو صدر جياش، وعقل مفتون.
وأقطع حديث هذا الرجل، فإنه كان يكثر من هذا الفن، ويأتي فيه بكل ما توهم وظن، وكان ذا عارضة عريضة، ولسان بليل، وقلب مكوي، وركية غزيرة، وله مذاهب استأثر بها، وتوحد فيها، وأشياء طريفة كان يكتمها، ولا يعرب عنها، وكان من كبار المعتزلة، ولكنه خالفهم، وأفرط في التشنيع عليهم، وتناهى في تتبع قبائحهم. ولقد قال هذا لرجل قولاً، ووجد عيباً، فركب جواداً، وسلك جدداً، وأصاب بدداً، وعرف داء، وطلب دواء، ولو استوى لك أن تكذبه، وتزيف قوله، وترد عليه دعواه لفعلت، ولكن كما قد علمت أن ما طوى أكثر مما نشر، وما دفن أخبث مما أنشر، وما أشار إليه أقبح مما نص عليه، وما روي عنه أفحش مما أفصح به.
فانتفع -حفظك الله- بسماع ما روي لك، وعرض على عقلك، ونيط بفهمك، وقرب من سمعك، ولاح لعينك، وعالج نفسك بمقت الهوى، وأودع قلبك برد اليقين، وحدث سرك بالإقلاع، وخف عاقبة الإصرار، وراقب إلهك في السر والجهر، والتفت إلى حظك بالاختيار والقهر، وجانب كل ما جنبك الخير، واهجر كل ما أعلقك الذم، وأورثك الندم، وثبت على طاعة الله قدميك، واستحفظ نعم الله تعالى قبلك، واشهد آلاءه عندك، واعترف له بالربوبية، وتذلل بين يديه بشمائل العبودية، واعلم أنك منه بمرأى مسمع ومطلع، واجعل أساس أمرك، وخميرة حالك، وزبدة تدبيرك، وعمدة شأنك، الزهد في الدنيا، وإزجاءها بما طف منها، والرضا بالبلغة فيها، فإنك إذا فعلت ذلك هان عليك ما عداه، وقرب منك ما تهواه.
الزهد في الدنيا باب السعادة، ودرجة السلامة، ووعاء النجاة، وظرف الراحة؛ بالزهد تملك هواك عن الجماح، وطرفك عن الطماح، ونفسك عن اللجاج، وطباعك عن الغي، وظاهرك عن الهجنة، وباطنك عن الفتنة، فبه يذل لك كل ما نشأ عنه، وصار فرعاً عليه. هناك تتفرغ لحسابك، وتتصفح ما يخصك، اعتبار ما يكون صلاحه منوطاً بك، وفساده منفياً عنك، وآثاره راجعة إليك، وريعه واقفاً عليك، فلا تعتقد إلا حقاً يصحبه البرهان، ولا تقول إلا صواباً يشهد له الدليل، ولا تعمل إلا صالحاً يؤيده القول والحق، ومتى خلصت إلى هذه الرتبة حفت بك السعادة، وتواصلت إليك الزيادة، وكان جليسك منك بين ملحوظ يقتدي بك فيه، وملفوظ يمتثل أمرك به، ولن تحوز هذه الحال، ولن تفوز بهذا الكمال، حتى تبرأ من الجدال في الدين، وتهجر هذيان المتكلمين، وتبعد عن مجالس المشككين، وتألف عادة الصالحين، وتأخذ بهدي المسلمين، وتحسم طبعك عن معرفة أسرار رب العالمين، في هذا الخلق أجمعين.
نعم، وحتى تترك الخوض في الجزء والطفرة، والجوهر والعرض، والكمون والظهور، والمداخلة والمجاورة، وما مراد الله في كذا، وما علته في كذا، وما سببه في كذا، وواجب عليه أن يفعل كذا، ويستحيل عليه فعل كذا، ولو فعل كذا لكان كذا، وهذا تحكك بالإله، وتمرس بالرب، وليس لك من ذلك إلا ما ألقاه إليك، وعرضه عليك، وسهله لك، ورفع الشبهة عنك؛ فأما ما غمض واستتر، وخفي واستسر، فإياك أن تتعرض له، وتحوم حوله، وتطلب قياسه ونظيره، فإنك إما أن تكل دون بلوغه، أو تضل قبل مناله، لأن الله تعالى لم يبن هذه الدار، ولم يرتب هذا العالم، ولم ينظم هذا الفلك، على قدر عقلك الضعيف، ولم يستشر استحسانك واستقباحك، ولم يجعل لك إلى شيء من ذلك سبيلاً إلا على حسب ما أعارك من القوة، وأعلمك بالتكليف، وألهمك بالتوفيق، فإن تعديت طورك، وتعليت قدرك، نكسك وردك على عقبيك، وأسرك بعجزك، وعراك من لبوس عزك، وجعلك عبرة للناظر إليك، وآية للمعتبرين بك، وأحدوثة للغابرين بعدك.
فاحذر التخطي إلى سياج ربك ومعالم إلهك، والزم حدودك في عبوديتك، فبهذا أمرت، واستقم كما أمرت، لعل الله تعالى يرى فقرك فيغنيك، وضعفك فيقويك، وانحطاطك فيعليك، وذر الذين يخوضون فيما ليس إليهم، يتكلفون ما ليس عليهم، فسيعلمون أي منقلب ينقلبون.
حرس الله علينا وعليك الدين، ووفر حظنا وحظك من اليقين، وجعلنا وإياك من عباده المتقين، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
هذا الكتاب -حفظك الله- وإن كان قد تأبط هزلاً، واستبطن سخفاً، وتحمل مزاحاً، فإنه قد تضمن أدباً وعلماً، وتوشح حكمة وفصاحة، ودعا إلى الله أمراً وزجراً، ودل على الخير إيجازاً وإطناباً، ونشر حكم الله رواية واستخراجاً، وأمتع النفس سراراً وجهاراً، فلا تجعل نصيبك منه الخطأ والخطل، وقد اعترض لك منه العلم والفائدة، ولا تحكم على مصنفه وجامعه إلا بعد أن تستظهر بالحجة، وتعتقد الإنصاف، وتعتمد على الحق. وإنما أوصيك بهذا خوفاً من أن يقول ما يقول من لا يشفق على عرضه، ولا يتعقب فرطات حكمه، ولا يفلي مواقع رأيه، ولا يملك خطام لسانه، ولا يبالي بما ووجه به.
واستيقن أن الكتاب قد حوى من الذهن لواقحه، ومن العقل قرائحه، ومن العلم غنائمه، ومن الفهم نتائجه، ومن الصدر ذخائره، ومن الدهر سرائره، ومن الأدب أرواحه، ومن البال خواطره، ومن الروية جواهرها، ومن الحكمة حقائقها، ومن التجربة أعيانها، ومن الأمم ودائعها، ومن الحنكة فرائدها، ومن الأخلاق محاسنها، ومن العرب بيانها، ومن الفرس سياستها، ومن اليونان دقائقها ومن الشريعة رقائقها، فهو إذن للكليل شحذ، وللوسنان يقظة، وللعقل سمة، وللعي بلاغة، وللأخرس ترجمان، وللناسي تذكرة، وللغزير تجربة، وللأديب عدة، وللعالم عمدة، وللخامل نباهة، وللمجهول علامة، وللجاد محجة، وللهازل مفكهة، وللناسك بصيرة، وللعائل نصيحة، جمعت فيه كل عرة لائحة، وحجة واضحة، وبرهان مبين، وقول متين، ونادرة ملهية، وموعظة مبكية، وللرفيع فيه مرتع، وللمتوسط إليه مفزع، وللدني به مقمع، وأفنيت في ذلك وأطنبت، وصعدت فيه وصوبت.
فلا تحرمني عفوك عند زلة أفتضح بها عندك، ولا تبخل علي بمدحك في صواب عليك، وأجهزه إليك، وكن من إخوان الصدق، وأعوان الحق، ولعمري لك علي مقال فيه، ومتعلق به، ومدخل منه، لأني قد شعثت أعراض قوم، وأعلنت أسرار ناس، وزدت في بعض ذلك مستثيباً، ونقصت مجانباً، وألممت معرضاً، وكاشفت مصرحاً، وطويت محسناً، ونشرت مقبحاً، ولكن ذاك مع توخي الحق مقبول، وفي خلال الصواب مستحسن، وفي جمهور الصدق نافع.
ومن هذا الذي تصدى لمثل هذا الكتاب، مع طوله وكثرة عدد أوراقه، وتصرف راويه، واختلاف أساليبه ومعانيه، مع ضيق الصدر، وغروب الصبر، وخفة ذات اليد، وسوء الظن باليوم أو غد، فلم يهرف، ولمخرف، ولم يظلم ولم يجزف? هذا ضمان لا يصح الوفاء به، ووعد لا يبعد من الخلف فيه، وحكم لا يبرأ الشطط منه، وإذا مزج حقه بباطله، وقرن خيره وشره، وأضيف سقيمه إلى صحيحه، كان قوام الجميع للحق، وكنت إذ ذاك في طبقة من يسامح بما كره له لبلوغه الغاية فيما أصاب فيه. على أنا نلجأ إلى الله في كل عسر ويسر، وعليه نتوكل في كل صغير وكبير، وإياه نستعين في جميع الأمور، فبيده الخير وهو على كل شيء قدير
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق