كتبهابلال عبد الهادي ، في 17 أيار 2011 الساعة: 16:08 م
اللهمّ لك أذلّ، وبك أعز، وإليك أشتاق، ومنك
أفرق، وتوحيدك أعتقد، وعليك أعتمد، ورضاك أبتغي، وسخطك أخاف، ونقمتك أستشعر، ومزيدك
أمتري، وعفوك أرجو، وفيك أتحيّر ومعك أطمئنّ، وإياك أعبد، إيّاك أستعين، لا رغبة
إّلا ما نيط بك، ولا عمل إّلا ما زكّي لوجهك، ولا طاعة إّلا ما قابله ثوابك، ولا
سالم إّلا ما أحاط به لطفك، ولا هالك إّلا من قعد عنه توفيقك، ولا مغبوط إّلا من
سبقت له الحسنى منك.
إلهي، من عرفك قاربك، ومن نكرك حرم نصيبه منك، ومن أثبتك سكن معك، ومن نفاك قلق إليك، ومن عبدك أخلص لك، ومن أحبّك غار عليك، ومن عظّمك ذهل فؤاده عند جلالك، ومن وثق بك ألقى مقاليده إليك.
إلهي، ظهرت بالقدرة فوجب الاعتراف بك، وبطنت بالحكمة فوجب التّسليم لك، وبدأت بالإحسان فسارت الآمال إليك، وكنت أهلاً للتّمام فوقفت الأطماع عليك، وبحثت العقول عنك فنكصت على أعقابها بالحيرة فيك، وذلك أنّ سرّكلا يرام حوزه، وشأنك لا يحول كنهه، وفعلك لا يجحد تأثيره؛ لك الأمارة والعلامة، وبك السّلامة والاستقامة، وإليك الشوق والحنين، وفيك الشّكّ واليقين.
هذا الجزء - أبقاك الله - هو الجزء الثامن من كتاب البصائر، بصائر أهل العلم والأدب، والحكمة والتجربة، نسأل الله تعالى تمام الكتاب، فإنّه قد حوى معاني سابقةً إلى النفوس بالقبول، وأغراضاً جاريةً مع الفهم، وأسراراً خفيّةً في العلم، فارغب فيه رغبة عاشق، ولا تسل عنه سلوة قالٍ، ولا يزهدّنّك فيه مللٌ عارض، وسخفٌ متوسط، فإنّ العاقبة فيهما غير ما لاح لك منهما، واعلم أنّك مداوىً بهما وبغيرهما، واختلاطك ينتفع بكل ما تسمع وتعي، ومزاجك يعتدل بكلّ ما ترى وتروي، ولو كنت صرفاً لعشت بالصّرف، ولو كنت صفواً لكمل أمرك بالصّفاء، ولكنّك مؤلفٌ من نقص وكمال، ومقرونٌ بعجزٍ وقوة، ومقلّبٌ بين العطب والسّلامة، ومحمولٌ على النّزاع والسآمة، ولكلٍّ منك نصيب، ولك في كلّ منه حظّ، وأنت في هذه النقيبة مرشّحٌ لطهارةٍ لا نجاسة معها، ومسوقٌ إلى غايةٍ لا آفة فيها، فانتبه للخافية التي فيك، والحظ المعنى الذي يوفيك تارةً ثم يستوفيك، واعجب من فناءٍ يثمر البقاء، ومن كدرٍ يورث الصّفاء، ومن كدٍّ ينقطع إلى راحة؛ وتعبٍ ينتهي إلى استراحة، ومن إبهامٍ يؤدّي إلى إيضاح، ومن ضرورةٍ تتعلّق باختيار، ومن حاجةٍ تتصل بغنىً، ومن رقٍّ يشرف على حرّية، ومن سخطٍ يرقيك إلى رضىً، فليس للتعجّب موقعٌ أحسن من هذا الاعتبار. وعذ بالله تعالى عند خوفك، وثق به عند أمنك، وانتسب إليه انتساب من كان به، وبقي بإبقائه، ووجد بإنشائه، وعرف بتعريفه، ووقف بتوقيفه، ولزم حدود أمره، وانتهى إلى معالمه، وراقبه في سرّه وجهره. واعلم أنّك منقولٌ عن قليل إلى حالٍ لا تشهد فيها إّلا ما قدّمت من إحسانك وإساءتك.أما ترى - أيّدك الله - كيف أتخلّص من حديثٍ إلى حديث، وأركّب معنىً على معنىً، عجزاً عن إتمام ما أبدأ به، وقلقاً إلى ما لا أصل إليه؛ وليتني لم أناد بنقصي في هذا الكتاب بين النّاس، فقد والله تمرّست بأمرٍ قصاراي فيه أن أجبه بالتّعنيف، وأواجه باللائمة، وإن جلفت بالقذع وذكرت بالشّنآن، ومن لي بحاكمٍ منصف، وصديقٍ ملطف، وعدوًّ مبقٍ، وصاحبٍ مشفق، بل من لي بمداهنٍ لا يكاشفني، ومنافقٍ لا يوافقني، وجارٍ لا يرتصد عثرتي، ورفيقٍ لا يجهل عليّ، بل من لي بشامتٍ يرحم، وظالمٍ يتندّم، وهل مكلّمك وسامعك إّلا من إن بعد رجم، وإن دنا نحض، وإن تمكّن استأصل، وإن عاقب أسرف، وإن ملك أباد، وإن قدر انتقم، وإن انتقم أتى على الدّقّ والجلّ، وذهب بالحرث والنسل، ولكن أضرّ بي ما أرى من فساد الزمان، واضطراب الوقت، وانتكاث مرائر الدّين، وتصوّح رياض الدّنيا، ودروس أعلام التوحيد، وانقراض أهل العلم، وتحاسد أبناء الفضل، وتنابذ ذوي الآداب، وتداعي رباع الجميل، وتأوّد أغصان الخير، وتهادر شقائق الشّيطان، وتخاذل أهل التحّرج.
فوالله ما شين وجه التّقى، ولا استحال بال المؤمن، ولا أخرس لسان الورع، ولا قصر زند المجاهد، ولا قسا قلب الراحم، ولا جفّت أقلام كفّ الباذل، ولا عرق جبين السائل، ولا خابت حقيقة المستبصر حتى خلت عراص الشريعة من قوّامها، وآذنت الدّنيا أهلها بالسّيف، وخاض أهل العلم في الباطل، واستعين في الحكمة بالسّفه، وتوصّل بالطاعة إلى المعصية، وسلك بالأمانة طريق الخيانة، واغتّر بالدّنيا المشبّهة بالماء الملح، والبرق الّلامع، والسّحاب الخائل، والظل الزّائل، وأحلام النائم، والعسل المدوف بالسّم.
واعلم أن الله تعالى جعل للمؤمن نورين: أحدهما ظاهر، والآخر باطن، فظاهره آلةٌ لباطنه، وباطنه عدّةٌ لآخرته ومعاده. فمن أفاعيل الظاهر طلب معاشه، واستصلاح أموره، ودفع المضارّ عن بدنه، والتحفّظ من الموارد المخوفة في عاجلته؛ ومن أفاعيل الباطن طهارة قلبه، وإخلاص نيّته لربّه، وتوهّم ما وعده على طاعته من ثوابه، واختيار العفو في الانتقام، والأناة على الإقدام، ونفي الأحقاد، وإطفاء نار الجسد، وإيثار الصّدق وإن ظنّه لا ينجيه من عدوّه، والوفاء لمن وثق به، والحياء من كشف أحدٍ عن ذنبه، وخلع طاعة الشّهوات، وقمع حومة الشّهوة، واستشعار القناعة، ورفض معاشرة الحرص، وإجلال العلماء، وتفضيل العلم، وأخذ النّفس بوظائف الكرم وفرائض الذّمام؛ وهذا النّور الرّوحانيّ على حسب ما يعطي الإنسان منه يكون مرغبه في العمل الصالح، وحبّه للسلامة من الأدناس، وتمسّكه بمحاسن الخصال.
وإذا استحكم علم الإنسان، ودقّت رويّته، كان جلّ سعيه فيما يحرز به نصيبه من الكدّ الذي لا نهاية له، ويبلغ ما يقيم بدنه وإن قلّ قدره، لعلمه بزوال اللذّات، وتصرّم الشهوات، وأنّه وإن رخص في المواتاة لم تكن لذلك نهاية، لا يملّ ما يطرف به، ويستطرف ما في يد غيره، وهذا ينفد الأوقات، ويستغرق الأعمار، ولذلك وجب على ذي اللّبّ والمعرفة رفض الدّنيا، والأخذ منها بالبلغة، والانشغال بجميعه في إحراز حظّه الذي يستريح بالوصول إليه من الألم، ووجب عليه الصبر على مكابدة النّوائب النازلة، والفجائع الواردة، إذ علم أنّ لها انقطاعاً لا محالة، وأنّ الدولة تسلبها، والأيام تزيلها وتغيّبها، فإذا صحّح هذا عنده اليقين استخفّ المكاره، واستحقر بعزائه المصائب، ولم يعرّج من الدنيا إّلا على بلغة، ثم يكون كالغريب المحتبس عن أهله ووطنه، الأسير في يدّ عدوّه، لا يتهنّأ بشيء من عيشه، ولا يستريح إّلا إلى الحيل في التخلّص ممّا حلّ به من الذّل والأسر.
ليس هذا الفصل من كلامي، ومن لي بهذه الديباجة الخسروانيّة، وبهذه الحكمة الرّوحانية! قدري مخفضّ عن هذا وما ضارعه، لكنّي وجدته منسوباً إلى الحسن بن سهل، ولعله أخو ذي الرياستين، فرسمته في هذا الكتاب حتى كأنّي ناهبت ونافست، وادّعيت الكمال وأشرت إلى العصمة.
وأرجو أن يكون اختلاف كلامهم في معاتبتي صادراً عن صدورٍ نقيّة، فقد والله أتعبوني، وأكلوني وشربوني، فمن قائلٍ: ما أحسن هذا الكتاب لولا ما حواه من السّخف والقاذورة، وذكر الهنات وألفاظ السّفلة؛ وقال آخر: كلّ ما فيه حسنٌ لو خلا من اللغة والنحو، فليس هذا الموضع الجدّ لا يمتزج بالهزل، والعلم لا يختلط بالجهل، والحكمة لا تنزل في جوار السّفه، والرّشد لا يتّصل بالغيّ؛ ومن قائلٍ: جميع ما فيه أحسن من كلامك؛ ومن قائلٍ: ما مزيّة هذا الكتاب على جميع ما تقدّم من الكتب، وهل فيه فنٌّ إّلا وهو متقضىً في معدنه، مأخوذٌ من أهله على أحسنه، وهل ينتدب إنسانٌ لجمع كلامٍ وتأليف كتابٍ - مع هذا الاحتفال - إّلا وهو يحبّ الزّيادة على النّقص، ويودّ رفع جهلٍ قد ثبت، ويقصد رقع واهيةٍ قد تركت - وكلامٌ كثير قد أهملت روايته على وجهه، وبرمت باعتقاده فضلاً عن إثباته، وجميع ما قيل موهوبٌ لهم رعايةً لآدابهم، ومحافظةً على ذمام الحكمة بيني وبينهم، ومسائلتهم قبول الاعتذار إليهم. ولما احتجت إلى هذا السّلم - علماً بأن حجّتي داحضةٌ، وبرهاني مدخولٌ، وبياني قصيرٌ - ثقةً بأنّ الزمان يديل، والفلك دوّار، وأنّ اللائمة ستشمت، والاستقصاء سيفرّق، والظلم سيصرع، والإساءة ستندّم.
أنشدني بندار بن غانم الحلواني الكاتب لنفسه في حالٍ التاثت بينه وبين منافسٍ له في الرّتبة، حاسدٍ له على النعمة يقال له عمرو: المنسرح
على أنّي ما أخليت هذا الكتاب - مع التقصير - من
حجّةٍ إن سمعت أشرق وجهي، وأضاء بصري، وتقوّم منآدي، ونمى قدري، ومن عذر إن تفضّل
بقبوله حسنت حالي، واطمأنّ بالي، وسقط ما علّي، وثبت ما لي، ولكنّ الإنصاف معدومٌ
في الوهم والحلم، فكيف يلتمس في التحقيق واليقظة? وإذا علم الله صلاح النيّة وشرف
العزيمة فكلّ ما عداه جلل.
قال أحمد بن الطّيّب، في كتاب وضعه، قولاً متى سقته هاهنا كان لي عذراً عن الخصم إن آثر البقيا، ولم ينتهز الفرصة في العداوة، وأحبّ لي السّلامة بعد العثرة، كما تمنّى لنفسه الاستمرار بعد التوفيق؛ قال: واعلم أنّ قوماً سيقولون: من واضع هذا الكتاب? فإن قيل: أحمد بن الطّيّب قالوا: ومن أحمد بن الطّيّب? فإن قيل لهم: السّرخسيّ مولى أمير المؤمنين، قالوا: ومن السّرخسيّ مولى أمير المؤمنين? فتكون مسألة السائل كأنّها بحالها، وقد استفرغ المجيب جهده. وأحمد بن الطّيّب لا يحبّ أن يخطّي به أحدٌ اسمه واسم أبيه وولاءه والبلد الذي فيه مولده ومولد أبيه، ثم بعد ذلك قيمته ومقداره من العلم، بعد أن يكون المقوّم منصفاً غير جائر، وسليم الطبع غير حسود، فإنّ عليًّا رضي الله عنه يقول: قيمة كلّ امرئٍ ما يحسن؛ وقال: قال أصحابنا: لم نر كلمةً أحصّ على طلب العلم من هذه الكلمة، فمن نظر في كتابنا هذا نظراً ظاهراً أمتعه ولذّه وألهاه وسرّه، وصار له جليساً فصيحاً، ومحدّثاً بيّناً، وأنيساً مخلصاً، يحفظ سرّه، ويأمن غيبه، ويسقط باب التحفّظ عنه.
قيل لعمر بن عبد العزيز: ما بقي من لذّتك? قال: محادثة جليس.
وقال عليّ رضي الله عنه: شرّ الإخوان من تكلّف له.
شاعر: المجتث
قال سهل بن هارون: ما زلت أدخل فيما يرغب بي عنه
حتى استغنيت عمّا يرغب لي فيه.
قال الأحنف بن قيس: الحديث شجون، والشّجون: الرّواضع التي تأخذ من معظم النهر، فشبّه تلك الرّواضع من نهر ماءٍ بعوارض الحديث إذا افتن.
قال: إذا طال القول حتى يبعد أوّله من آخره، فقد وجد السامع عذراً في التّقصير عن فهمه، وإذا كان العتب بين السامع والقائل، وصحّ العذر للسامع في عدم العذر والفهم رجع العتب إلى القائل.
قال: وقيل لبعض اليونانيين - هكذا رأيت بخطّ ابن السيرافي بفتح الياء -: لم تسمع أكثر مما تتكلّم? فقال: إنّما خلق الله تعالى لي لساناً واحداً وأذنين ليكون كلامي أقلّ من استماعي.
ويقال: الأحمق إذا حدّث ذهل، وإذا تكلّم عجل، وإذا حمل على القبيح فعل.
إلهي، من عرفك قاربك، ومن نكرك حرم نصيبه منك، ومن أثبتك سكن معك، ومن نفاك قلق إليك، ومن عبدك أخلص لك، ومن أحبّك غار عليك، ومن عظّمك ذهل فؤاده عند جلالك، ومن وثق بك ألقى مقاليده إليك.
إلهي، ظهرت بالقدرة فوجب الاعتراف بك، وبطنت بالحكمة فوجب التّسليم لك، وبدأت بالإحسان فسارت الآمال إليك، وكنت أهلاً للتّمام فوقفت الأطماع عليك، وبحثت العقول عنك فنكصت على أعقابها بالحيرة فيك، وذلك أنّ سرّكلا يرام حوزه، وشأنك لا يحول كنهه، وفعلك لا يجحد تأثيره؛ لك الأمارة والعلامة، وبك السّلامة والاستقامة، وإليك الشوق والحنين، وفيك الشّكّ واليقين.
هذا الجزء - أبقاك الله - هو الجزء الثامن من كتاب البصائر، بصائر أهل العلم والأدب، والحكمة والتجربة، نسأل الله تعالى تمام الكتاب، فإنّه قد حوى معاني سابقةً إلى النفوس بالقبول، وأغراضاً جاريةً مع الفهم، وأسراراً خفيّةً في العلم، فارغب فيه رغبة عاشق، ولا تسل عنه سلوة قالٍ، ولا يزهدّنّك فيه مللٌ عارض، وسخفٌ متوسط، فإنّ العاقبة فيهما غير ما لاح لك منهما، واعلم أنّك مداوىً بهما وبغيرهما، واختلاطك ينتفع بكل ما تسمع وتعي، ومزاجك يعتدل بكلّ ما ترى وتروي، ولو كنت صرفاً لعشت بالصّرف، ولو كنت صفواً لكمل أمرك بالصّفاء، ولكنّك مؤلفٌ من نقص وكمال، ومقرونٌ بعجزٍ وقوة، ومقلّبٌ بين العطب والسّلامة، ومحمولٌ على النّزاع والسآمة، ولكلٍّ منك نصيب، ولك في كلّ منه حظّ، وأنت في هذه النقيبة مرشّحٌ لطهارةٍ لا نجاسة معها، ومسوقٌ إلى غايةٍ لا آفة فيها، فانتبه للخافية التي فيك، والحظ المعنى الذي يوفيك تارةً ثم يستوفيك، واعجب من فناءٍ يثمر البقاء، ومن كدرٍ يورث الصّفاء، ومن كدٍّ ينقطع إلى راحة؛ وتعبٍ ينتهي إلى استراحة، ومن إبهامٍ يؤدّي إلى إيضاح، ومن ضرورةٍ تتعلّق باختيار، ومن حاجةٍ تتصل بغنىً، ومن رقٍّ يشرف على حرّية، ومن سخطٍ يرقيك إلى رضىً، فليس للتعجّب موقعٌ أحسن من هذا الاعتبار. وعذ بالله تعالى عند خوفك، وثق به عند أمنك، وانتسب إليه انتساب من كان به، وبقي بإبقائه، ووجد بإنشائه، وعرف بتعريفه، ووقف بتوقيفه، ولزم حدود أمره، وانتهى إلى معالمه، وراقبه في سرّه وجهره. واعلم أنّك منقولٌ عن قليل إلى حالٍ لا تشهد فيها إّلا ما قدّمت من إحسانك وإساءتك.أما ترى - أيّدك الله - كيف أتخلّص من حديثٍ إلى حديث، وأركّب معنىً على معنىً، عجزاً عن إتمام ما أبدأ به، وقلقاً إلى ما لا أصل إليه؛ وليتني لم أناد بنقصي في هذا الكتاب بين النّاس، فقد والله تمرّست بأمرٍ قصاراي فيه أن أجبه بالتّعنيف، وأواجه باللائمة، وإن جلفت بالقذع وذكرت بالشّنآن، ومن لي بحاكمٍ منصف، وصديقٍ ملطف، وعدوًّ مبقٍ، وصاحبٍ مشفق، بل من لي بمداهنٍ لا يكاشفني، ومنافقٍ لا يوافقني، وجارٍ لا يرتصد عثرتي، ورفيقٍ لا يجهل عليّ، بل من لي بشامتٍ يرحم، وظالمٍ يتندّم، وهل مكلّمك وسامعك إّلا من إن بعد رجم، وإن دنا نحض، وإن تمكّن استأصل، وإن عاقب أسرف، وإن ملك أباد، وإن قدر انتقم، وإن انتقم أتى على الدّقّ والجلّ، وذهب بالحرث والنسل، ولكن أضرّ بي ما أرى من فساد الزمان، واضطراب الوقت، وانتكاث مرائر الدّين، وتصوّح رياض الدّنيا، ودروس أعلام التوحيد، وانقراض أهل العلم، وتحاسد أبناء الفضل، وتنابذ ذوي الآداب، وتداعي رباع الجميل، وتأوّد أغصان الخير، وتهادر شقائق الشّيطان، وتخاذل أهل التحّرج.
فوالله ما شين وجه التّقى، ولا استحال بال المؤمن، ولا أخرس لسان الورع، ولا قصر زند المجاهد، ولا قسا قلب الراحم، ولا جفّت أقلام كفّ الباذل، ولا عرق جبين السائل، ولا خابت حقيقة المستبصر حتى خلت عراص الشريعة من قوّامها، وآذنت الدّنيا أهلها بالسّيف، وخاض أهل العلم في الباطل، واستعين في الحكمة بالسّفه، وتوصّل بالطاعة إلى المعصية، وسلك بالأمانة طريق الخيانة، واغتّر بالدّنيا المشبّهة بالماء الملح، والبرق الّلامع، والسّحاب الخائل، والظل الزّائل، وأحلام النائم، والعسل المدوف بالسّم.
واعلم أن الله تعالى جعل للمؤمن نورين: أحدهما ظاهر، والآخر باطن، فظاهره آلةٌ لباطنه، وباطنه عدّةٌ لآخرته ومعاده. فمن أفاعيل الظاهر طلب معاشه، واستصلاح أموره، ودفع المضارّ عن بدنه، والتحفّظ من الموارد المخوفة في عاجلته؛ ومن أفاعيل الباطن طهارة قلبه، وإخلاص نيّته لربّه، وتوهّم ما وعده على طاعته من ثوابه، واختيار العفو في الانتقام، والأناة على الإقدام، ونفي الأحقاد، وإطفاء نار الجسد، وإيثار الصّدق وإن ظنّه لا ينجيه من عدوّه، والوفاء لمن وثق به، والحياء من كشف أحدٍ عن ذنبه، وخلع طاعة الشّهوات، وقمع حومة الشّهوة، واستشعار القناعة، ورفض معاشرة الحرص، وإجلال العلماء، وتفضيل العلم، وأخذ النّفس بوظائف الكرم وفرائض الذّمام؛ وهذا النّور الرّوحانيّ على حسب ما يعطي الإنسان منه يكون مرغبه في العمل الصالح، وحبّه للسلامة من الأدناس، وتمسّكه بمحاسن الخصال.
وإذا استحكم علم الإنسان، ودقّت رويّته، كان جلّ سعيه فيما يحرز به نصيبه من الكدّ الذي لا نهاية له، ويبلغ ما يقيم بدنه وإن قلّ قدره، لعلمه بزوال اللذّات، وتصرّم الشهوات، وأنّه وإن رخص في المواتاة لم تكن لذلك نهاية، لا يملّ ما يطرف به، ويستطرف ما في يد غيره، وهذا ينفد الأوقات، ويستغرق الأعمار، ولذلك وجب على ذي اللّبّ والمعرفة رفض الدّنيا، والأخذ منها بالبلغة، والانشغال بجميعه في إحراز حظّه الذي يستريح بالوصول إليه من الألم، ووجب عليه الصبر على مكابدة النّوائب النازلة، والفجائع الواردة، إذ علم أنّ لها انقطاعاً لا محالة، وأنّ الدولة تسلبها، والأيام تزيلها وتغيّبها، فإذا صحّح هذا عنده اليقين استخفّ المكاره، واستحقر بعزائه المصائب، ولم يعرّج من الدنيا إّلا على بلغة، ثم يكون كالغريب المحتبس عن أهله ووطنه، الأسير في يدّ عدوّه، لا يتهنّأ بشيء من عيشه، ولا يستريح إّلا إلى الحيل في التخلّص ممّا حلّ به من الذّل والأسر.
ليس هذا الفصل من كلامي، ومن لي بهذه الديباجة الخسروانيّة، وبهذه الحكمة الرّوحانية! قدري مخفضّ عن هذا وما ضارعه، لكنّي وجدته منسوباً إلى الحسن بن سهل، ولعله أخو ذي الرياستين، فرسمته في هذا الكتاب حتى كأنّي ناهبت ونافست، وادّعيت الكمال وأشرت إلى العصمة.
وأرجو أن يكون اختلاف كلامهم في معاتبتي صادراً عن صدورٍ نقيّة، فقد والله أتعبوني، وأكلوني وشربوني، فمن قائلٍ: ما أحسن هذا الكتاب لولا ما حواه من السّخف والقاذورة، وذكر الهنات وألفاظ السّفلة؛ وقال آخر: كلّ ما فيه حسنٌ لو خلا من اللغة والنحو، فليس هذا الموضع الجدّ لا يمتزج بالهزل، والعلم لا يختلط بالجهل، والحكمة لا تنزل في جوار السّفه، والرّشد لا يتّصل بالغيّ؛ ومن قائلٍ: جميع ما فيه أحسن من كلامك؛ ومن قائلٍ: ما مزيّة هذا الكتاب على جميع ما تقدّم من الكتب، وهل فيه فنٌّ إّلا وهو متقضىً في معدنه، مأخوذٌ من أهله على أحسنه، وهل ينتدب إنسانٌ لجمع كلامٍ وتأليف كتابٍ - مع هذا الاحتفال - إّلا وهو يحبّ الزّيادة على النّقص، ويودّ رفع جهلٍ قد ثبت، ويقصد رقع واهيةٍ قد تركت - وكلامٌ كثير قد أهملت روايته على وجهه، وبرمت باعتقاده فضلاً عن إثباته، وجميع ما قيل موهوبٌ لهم رعايةً لآدابهم، ومحافظةً على ذمام الحكمة بيني وبينهم، ومسائلتهم قبول الاعتذار إليهم. ولما احتجت إلى هذا السّلم - علماً بأن حجّتي داحضةٌ، وبرهاني مدخولٌ، وبياني قصيرٌ - ثقةً بأنّ الزمان يديل، والفلك دوّار، وأنّ اللائمة ستشمت، والاستقصاء سيفرّق، والظلم سيصرع، والإساءة ستندّم.
أنشدني بندار بن غانم الحلواني الكاتب لنفسه في حالٍ التاثت بينه وبين منافسٍ له في الرّتبة، حاسدٍ له على النعمة يقال له عمرو: المنسرح
يختار عمروٌ عداوتي سفهاً | وأبتغي سلمه ويمتـنـع | |
كله إلى بغيه سيصرعـه | فالدهر بيني وبينه جـذع |
قال أحمد بن الطّيّب، في كتاب وضعه، قولاً متى سقته هاهنا كان لي عذراً عن الخصم إن آثر البقيا، ولم ينتهز الفرصة في العداوة، وأحبّ لي السّلامة بعد العثرة، كما تمنّى لنفسه الاستمرار بعد التوفيق؛ قال: واعلم أنّ قوماً سيقولون: من واضع هذا الكتاب? فإن قيل: أحمد بن الطّيّب قالوا: ومن أحمد بن الطّيّب? فإن قيل لهم: السّرخسيّ مولى أمير المؤمنين، قالوا: ومن السّرخسيّ مولى أمير المؤمنين? فتكون مسألة السائل كأنّها بحالها، وقد استفرغ المجيب جهده. وأحمد بن الطّيّب لا يحبّ أن يخطّي به أحدٌ اسمه واسم أبيه وولاءه والبلد الذي فيه مولده ومولد أبيه، ثم بعد ذلك قيمته ومقداره من العلم، بعد أن يكون المقوّم منصفاً غير جائر، وسليم الطبع غير حسود، فإنّ عليًّا رضي الله عنه يقول: قيمة كلّ امرئٍ ما يحسن؛ وقال: قال أصحابنا: لم نر كلمةً أحصّ على طلب العلم من هذه الكلمة، فمن نظر في كتابنا هذا نظراً ظاهراً أمتعه ولذّه وألهاه وسرّه، وصار له جليساً فصيحاً، ومحدّثاً بيّناً، وأنيساً مخلصاً، يحفظ سرّه، ويأمن غيبه، ويسقط باب التحفّظ عنه.
قيل لعمر بن عبد العزيز: ما بقي من لذّتك? قال: محادثة جليس.
وقال عليّ رضي الله عنه: شرّ الإخوان من تكلّف له.
شاعر: المجتث
لو قيل لي خذ أماناً | من أعظم الحدثان | |
لما أخذت أمـانـاً | إّلا من الإخـوان |
قال الأحنف بن قيس: الحديث شجون، والشّجون: الرّواضع التي تأخذ من معظم النهر، فشبّه تلك الرّواضع من نهر ماءٍ بعوارض الحديث إذا افتن.
قال: إذا طال القول حتى يبعد أوّله من آخره، فقد وجد السامع عذراً في التّقصير عن فهمه، وإذا كان العتب بين السامع والقائل، وصحّ العذر للسامع في عدم العذر والفهم رجع العتب إلى القائل.
قال: وقيل لبعض اليونانيين - هكذا رأيت بخطّ ابن السيرافي بفتح الياء -: لم تسمع أكثر مما تتكلّم? فقال: إنّما خلق الله تعالى لي لساناً واحداً وأذنين ليكون كلامي أقلّ من استماعي.
ويقال: الأحمق إذا حدّث ذهل، وإذا تكلّم عجل، وإذا حمل على القبيح فعل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق