كتبهابلال عبد الهادي ، في 30 أغسطس 2011 الساعة: 08:46 ص
اعلم أن لفظة الذوق يتداولها المعتنون بفنون
البيان، ومعناها حصول ملكة البلاغة للسان. وقد مر تفسير البلاغة، وأنها مطابقة
الكلام للمعنى من جميع وجوهه، بخواص تقع للتراكيب في إفادة ذلك. فالمتكلم بلسان
العرب والبليغ فيه يتحرى الهيئة المفيدة لذلك، على أساليب العرب وأنحاء مخاطباتهم،
وينظم الكلام على ذلك الوجه جهده، فإذا اتصلت معاناته لذلك بمخالطة كلام العرب،
حصلت له الملكة في نظم الكلام على ذلك الوجه، وسهل عليه أمر التركيب، حتى لا يكاد
ينحو فيه غير منحى البلاغة التي للعرب، وإن سمع تركيباً غير جارى على ذلك المنحى،
مجه ونبا عنه سمعه بأدنى فكر، بل وبغير فكر، إلا بما استفاده من حصول هذه الملكة.
فإن الملكات إذا استقرت ورسخت في محالها ظهر كأنها طبيعة وجبلة لذلك المحل. ولذلك
يظن كثير من المغفلين ممن لم يعرف شأن الملكات، أن الصواب للعرب في لغتهم إعراباً
وبلاغة أمر طبيعي. ويقول: كانت العرب تنطق بالطبع وليس كذلك، وإنما هي ملكة لسانية
في نظم الكلام تمكنت ورسخت فظهرت في بادىء الرأي أنها جبلة وطبع.
وهنه الملكة كما تقدم إنما تحصل بممارسة كلام العرب وتكرره على السمع والتفطن لخواص تراكيبه، وليست تحصل بمعرفة القوانين العلمية في ذلك التي استنبطها أهل صناعة البيان فإن هذه القوانين إنما تفيد علماً بذلك اللسان، ولا تفيد حصول الملكة بالفعل في محلها، وقد مر ذلك. وإذا تقرر ذلك فملكة البلاغة في اللسان تهدي البليغ إلى وجود النظم وحسن التركيب الموافق لتراكيب العرب في لغتهم ونظم كلامهم. ولو رام صاحب هذه الملكة حيداً عن هذه السبيل المعينة والتراكيب المخصوصة، لما قدر عليه ولا وافقه عليه لسانه، لأنه لا يعتاده ولا تهديه إليه ملكته الراسخة عنده. وإذا عرض عليه الكلام، حائداً عن أسلوب العرب وبلاغتهم في نظم كلامهم أعرض عنه ومجه، وعلم أنه ليس من كلام العرب الذين مارس كلامهم. وإنما يعجز عن الاحتجاج بذلك، كما تصنع أهل القوانين النحوية والبيانية، فإن ذلك استدلال بما حصل من القوانين المفادة بالاستقراء. وهذا أمر وجداني حاصل بممارسة كلام العرب، حتى يصير كواحد منهم.
ومثاله: لو فرضنا صبياً من صبيانهم، نشأ وربي في جيلهم، فإنه يتعلم لغتهم ويحكم شأن الإعراب والبلاغة فيها، حتى يستولي على غايتها. وليس من العلم القانوني في شيء، وإنما هو بحصول هذه الملكة في لسانه ونطقه. وكذلك تحصل هذه الملكة لمن بعد ذلك الجيل، بحفظ كلامهم وأشعارهم وخطبهم والمداومة على ذلك، بحيث يحصل الملكة ويصير كواحد ممن نشأ في جيلهم وربي بين أحيائهم. والقوانين بمعزل عن هذا. واستعير لهذه الملكة، عندما ترسخ وتستقر، اسم الذوق الذي اصطلح عليه أهل صناعة البيان والذوق إنما هو موضوع لإدراك الطعوم. لكن لما كان محل هذه الملكة في اللسان، من حيث النطق بالكلام، كما هو محل لإدراك الطعوم، استعير لها اسمه. وأيضاً فهو وجداني اللسان، كما أن الطعوم محسوسة له، فقيل له ذوق. وإذا تبين لك ذلك، علمت منه أن الأعاجم الداخلين في اللسان العربي الطارئين عليه المضطرين إلى النطق به لمخالطة أهله، كالفرس والروم والترك بالمشرق وكالبربر بالمغرب، فإنه لا يحصل لهم هذا الذوق لقصور حظهم في هذه الملكة التي قررنا أمرها، لأن قصاراهم بعد طائفة من العمر وسبق ملكة أخرى إلى اللسان، وهي لغاتهم، أن يعتنوا بما يتداوله أهل المصر بينهم في المحاورة من مفرد ومركب، لما يضطرون إليه من ذلك. وهذه الملكة قد ذهبت لأهل الأمصار، وبعدوا عنها كما تقدم. وإنما لهم في ذلك ملكة أخرى وليست هذ ملكة اللسان المطلوبة. ومن عرف أحكام تلك الملكة من القوانين المسطرة في الكتب، فليس من تحصيل الملكة في شيء، إنما حصل أحكامها كما عرفت. وإنما تحصل هذه الملكة بالممارسة والاعتياد والتكرر لكلام العرب. فإن عرض لك ما تسمعه، من أن سيبويه والفارسي والزمخشري وأمثالهم من فرسان الكلام كانوا أعجاماً مع حصول هذه الملكة لهم، فاعلم أن أإولئك القوم الذين نسمع عنهم إنما كانوا عجماً في نسبهم فقط. أما المربى والنشأة فكانت بين أهل هذه الملكة من العرب ومن تعلمها منهم، فاستولوا بذلك من الكلام على غاية لا وراءها، وكأنهم في أول نشأتهم بمنزلة الأصاغر من العرب الذين نشأوا في أجيالهم، حتى أدركوا كنه اللغة وصاروا من أهلها. فهم وإن كانوا عجماً في النسب فليسوا بأعاجم في اللغة والكلام، لأنهم أدركوا الملة في عنفوانها واللغة في شبابها، ولم تذهب آثار الملكة منها ولا من أهل الأمصار. ثم عكفوا على الممارسة والمدارسة لكلام العرب حتى استولوا على غايته.
واليوم الواحد من العجم، إذا خالط أهل اللسان العربي بالأمصار، فأول ما يجد تلك الملكة المقصودة من اللسان العربي ممتحية الآثار. ويجد ملكتهم الخاصة بهم ملكة أخرى مخالفة لملكة اللسان العربي. ثم إذا فرضنا أنه أقبل على الممارسة لكلام العرب وأشعارهم بالمدارسة والحفظ ليستفيد تحصيلها، فقل أن يحصل له ما قدمناه من أن الملكة إذا سبقتها ملكة أخرى في المحل، فلا تحصل إلا ناقصة مخدوشة. وإن فرضنا عجمياً في النسب سلم من مخالطة اللسان العجمي بالكلية، وذهب إلى تعلم هذه الملكة بالحفظ والمدارسة، فربما يحصل له ذلك، لكنه من الندور بحيث لا يخفى عليك بما تقرر. وربما يدعي كثير ممن ينظر في هذه القوانين البيانية حصول هذا الذوق له بها، وهو غلط أو مغالطة، وإنما حصلت له الملكة إن حصلت في تلك القوانين البيانية، وليست من ملكة العبارة في شيء. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
من مقدمة ابن خلدون
وهنه الملكة كما تقدم إنما تحصل بممارسة كلام العرب وتكرره على السمع والتفطن لخواص تراكيبه، وليست تحصل بمعرفة القوانين العلمية في ذلك التي استنبطها أهل صناعة البيان فإن هذه القوانين إنما تفيد علماً بذلك اللسان، ولا تفيد حصول الملكة بالفعل في محلها، وقد مر ذلك. وإذا تقرر ذلك فملكة البلاغة في اللسان تهدي البليغ إلى وجود النظم وحسن التركيب الموافق لتراكيب العرب في لغتهم ونظم كلامهم. ولو رام صاحب هذه الملكة حيداً عن هذه السبيل المعينة والتراكيب المخصوصة، لما قدر عليه ولا وافقه عليه لسانه، لأنه لا يعتاده ولا تهديه إليه ملكته الراسخة عنده. وإذا عرض عليه الكلام، حائداً عن أسلوب العرب وبلاغتهم في نظم كلامهم أعرض عنه ومجه، وعلم أنه ليس من كلام العرب الذين مارس كلامهم. وإنما يعجز عن الاحتجاج بذلك، كما تصنع أهل القوانين النحوية والبيانية، فإن ذلك استدلال بما حصل من القوانين المفادة بالاستقراء. وهذا أمر وجداني حاصل بممارسة كلام العرب، حتى يصير كواحد منهم.
ومثاله: لو فرضنا صبياً من صبيانهم، نشأ وربي في جيلهم، فإنه يتعلم لغتهم ويحكم شأن الإعراب والبلاغة فيها، حتى يستولي على غايتها. وليس من العلم القانوني في شيء، وإنما هو بحصول هذه الملكة في لسانه ونطقه. وكذلك تحصل هذه الملكة لمن بعد ذلك الجيل، بحفظ كلامهم وأشعارهم وخطبهم والمداومة على ذلك، بحيث يحصل الملكة ويصير كواحد ممن نشأ في جيلهم وربي بين أحيائهم. والقوانين بمعزل عن هذا. واستعير لهذه الملكة، عندما ترسخ وتستقر، اسم الذوق الذي اصطلح عليه أهل صناعة البيان والذوق إنما هو موضوع لإدراك الطعوم. لكن لما كان محل هذه الملكة في اللسان، من حيث النطق بالكلام، كما هو محل لإدراك الطعوم، استعير لها اسمه. وأيضاً فهو وجداني اللسان، كما أن الطعوم محسوسة له، فقيل له ذوق. وإذا تبين لك ذلك، علمت منه أن الأعاجم الداخلين في اللسان العربي الطارئين عليه المضطرين إلى النطق به لمخالطة أهله، كالفرس والروم والترك بالمشرق وكالبربر بالمغرب، فإنه لا يحصل لهم هذا الذوق لقصور حظهم في هذه الملكة التي قررنا أمرها، لأن قصاراهم بعد طائفة من العمر وسبق ملكة أخرى إلى اللسان، وهي لغاتهم، أن يعتنوا بما يتداوله أهل المصر بينهم في المحاورة من مفرد ومركب، لما يضطرون إليه من ذلك. وهذه الملكة قد ذهبت لأهل الأمصار، وبعدوا عنها كما تقدم. وإنما لهم في ذلك ملكة أخرى وليست هذ ملكة اللسان المطلوبة. ومن عرف أحكام تلك الملكة من القوانين المسطرة في الكتب، فليس من تحصيل الملكة في شيء، إنما حصل أحكامها كما عرفت. وإنما تحصل هذه الملكة بالممارسة والاعتياد والتكرر لكلام العرب. فإن عرض لك ما تسمعه، من أن سيبويه والفارسي والزمخشري وأمثالهم من فرسان الكلام كانوا أعجاماً مع حصول هذه الملكة لهم، فاعلم أن أإولئك القوم الذين نسمع عنهم إنما كانوا عجماً في نسبهم فقط. أما المربى والنشأة فكانت بين أهل هذه الملكة من العرب ومن تعلمها منهم، فاستولوا بذلك من الكلام على غاية لا وراءها، وكأنهم في أول نشأتهم بمنزلة الأصاغر من العرب الذين نشأوا في أجيالهم، حتى أدركوا كنه اللغة وصاروا من أهلها. فهم وإن كانوا عجماً في النسب فليسوا بأعاجم في اللغة والكلام، لأنهم أدركوا الملة في عنفوانها واللغة في شبابها، ولم تذهب آثار الملكة منها ولا من أهل الأمصار. ثم عكفوا على الممارسة والمدارسة لكلام العرب حتى استولوا على غايته.
واليوم الواحد من العجم، إذا خالط أهل اللسان العربي بالأمصار، فأول ما يجد تلك الملكة المقصودة من اللسان العربي ممتحية الآثار. ويجد ملكتهم الخاصة بهم ملكة أخرى مخالفة لملكة اللسان العربي. ثم إذا فرضنا أنه أقبل على الممارسة لكلام العرب وأشعارهم بالمدارسة والحفظ ليستفيد تحصيلها، فقل أن يحصل له ما قدمناه من أن الملكة إذا سبقتها ملكة أخرى في المحل، فلا تحصل إلا ناقصة مخدوشة. وإن فرضنا عجمياً في النسب سلم من مخالطة اللسان العجمي بالكلية، وذهب إلى تعلم هذه الملكة بالحفظ والمدارسة، فربما يحصل له ذلك، لكنه من الندور بحيث لا يخفى عليك بما تقرر. وربما يدعي كثير ممن ينظر في هذه القوانين البيانية حصول هذا الذوق له بها، وهو غلط أو مغالطة، وإنما حصلت له الملكة إن حصلت في تلك القوانين البيانية، وليست من ملكة العبارة في شيء. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
من مقدمة ابن خلدون
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق