الخميس، 7 فبراير 2013

الحيلة في التراث العربي

كتبهابلال عبد الهادي ، في 11 أيار 2012 الساعة: 17:42 م




الحيلة في التراث العربيّ



ثابت عيد




1 - تمهيد :




ارتبط لفظ الحيل في التراث العربيّ بالفقه الإسلاميّ عامّة، والحنفيّ منه خاصة. هذا على الرغم من أن الحيل لا تمثل إلا جزءا من الكلّ في الفقه الإسلامي، بل إن هذا الجزء متنازع عليه بين فقهاء المذاهب الأربعة، مختلف بينهم، فقد أسسه صاحب المذهب العقلاني من فقهاء الإسلام، وسار العقلانيون من بعده على نهجه، واتبعوا طريقته، وسارع أصحاب المذاهب الأخرى بذم الحيل، وتحريم استعمالها، بل إنهم حاربوها، وبعد ذلك حاول بعضهم مجاراة التيار العقلاني في الفقه، فشرعوا يقلدون العقلانيين من الفقهاء، ويضعون المؤلفات في الحيل الفقهية، ولكن أعمالهم كانت تعكس جمود عقولهم، وغث تفكيرهم، وثقل ظلهم، وبطء خاطرهم. وهكذا ظلت كتابات العقلانيين من الفقهاء في باب الحيل هي الكتابات الأصيلة، والأعمال الرائدة(1).
إن ارتباط لفظ الحيل في التراث العربي بالفقه والقضاء ليس له ما يبرره سوى جهلنا بتراثنا، وعدم إلمامنا بالجانب العلمي منه. ذلك أن الحيل، على الرغم من ارتباطها بالفقه، واشتهارها عنه، لا تمثل إلا جزءا بسيطا من علم الفقه، في حين أن لفظ الحيل كان يطلق قديما على علمك مستقل بذاته يعادل في عصرنا هذا علم الهندسة الميكانيكية والتجهيزات الهيدروليكية(2). فقد قسم الخوارزمي العلوم إلى: الفلسفة والعلم الإلهي، والمنطق، والطب، والارثماطيقي، والهندسة، وعلم النجوم، والحيل، والموسيقى، والكيمياء. وذكر بعد ذلك أن علم الحيل ينقسم إلى فرعين: الأول جر الأثقال بالقوة اليسيرة وآلاته، والثاني حيل حركات الماء وصنعة الأواني العجيبة وما يتصل بها من صنعة الآلات المتحركة بذاتها(3). الحيل إذن لا تقتصر على الفقه الإسلامي فحسب، بل هي علم قائم بذاته يدخل في نطاق الهندسة الميكانيكية والتحكم الآلي. وفضلا عن ذلك اشتهر العرب قديما بحيلهم في السياسية والطب. ففي مجال السياسة يذهب بعض النقاد إلى مقارنة كتاب "سراج الملوك" للطرطوشي بكتاب "الأمير" لميكيافيلي. أما من ناحية الحيل الطبية، فقد كتب عنها كبار الأطباء العرب مثل الرازي وابن سينا والرهاوي. ولا يقتصر مجال الحيلة على الفقه والهندسة والسياسة والطب فحسب، بل يمتد ليشمل جميع المعارف، وكل الصنائع. وقد عدّد صاحب كتاب "السياسة والحيلة عند العرب" فنون الحيل، وطبقات مستخدميها، بداية من البارئ تعالى وانتهاء بطبقات الحيوان. ومن الأمثال الطريفة في هذا الباب: "رأس لا حيلة فيه، قرعة خير منه"(4).
إن دافعي الأول لكتابة هذه السطور هو الحث على استخدام الحيلة، وإعمال الفكر، سواء على المستوى الشخصي، أو المستوى الحكومي في عالمنا العربي، وذلك لإيجاد حلول لما نواجهه اليوم من مشاكل عضال، وتحديات جسام. فالإطلاع على كتب الحيل في التراث العربي قد يلهمنا حلولا لمشاكلنا، ويعيننا على الخروج من أزماتنا. وما أحوجنا إلى الحيلة اليوم لزراعة الصحراء، ووقف الاستيراد، والاعتماد على النفس، وتأسيس صناعة متقدمة، والحد من الفساد، واستئصال الجهل، وتحطيم الجمود.



2 - في الحث على الحيل واستعمالها


سمحت لنفسي أن أستعير هذا العنوان من كتاب "السياسة والحيلة عند العرب"، وهو عنوان الباب الثاني من هذا الكتاب، وذلك لتوضيح محاسن الحيل، والفرق بينها وبين خدع المحتالين، وكيف امتدحها القدماء، وأثنوا عليها. فليس المقصود بالحيل هنا تلك الوسائل الملتوية، والطرق الخبيثة التي يتبعها الدجالون في نهب أموال الناس، وتزوير حقائق الأمور، بل المقصود من لفظ الحيل في هذا السياق هو إعمال الفكر، وتشغيل العقل، واستخدام الحكمة، للخروج من مأزق وقعنا فيه، أو لحل مشكلة تواجهنا. يقول المستشرق الفرنسي رنيه خوام، محقق كتاب "السياسة والحيلة عند العرب": "وكلمة حيلة لا تعني كما يتبادر إلى الذهن أنها تنكب طرق الكذب والنفاق لخداع خصم ما، بل على العكس من ذلك، لأن كلمة حيلة في معناها الأصلي تدل على توفير الجهد والمشاق على الإنسان، وهذا يرتطز إلى قواعد علمية تكون بمتناول مخترع حاذق، وعالم عامل…"(5).
أما صاحب كتاب "السياسة والحيلة عند العرب"، فهو يثني على الحيلة ويدعو إلى استعمالها. فالحيلة هي "ثمرة العقل، ومستخرجة قوانينه"، وهي أكثر الوسائل حذقا ومهارة للوصول إلى الأهداف والغايات(6). ومن الحكم المأثورة عن الفرس: "أضعف الحيلة خير من أقوى الشدة، وأقل التأني خير من أكثر العجلة" (7). ويشير صاحب كتاب "الإشارة إلى أدب الإمارة" إلى أهمية معرفة الحيلة، والعمل بها، حيث يقول: "يجبي أن تعرف الحيلة، لتعمل بها، ولتحترز منها" (8). وفي "الحكمة الخالدة" لابن مسكويه: "الحيلة خير من الشدة، والتأني أفضل من العجلة، والجهل في الحرب خير من العقل، والفكر هناك في العاقبة مادة الجزع… أضعف الحيلة أنفع من أقوى الشدة، وأقل التأني أجدى من أكثر العجلة…"(9). ويقول الماوردي في "تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك وسياسة الملك": "ليستعمل الملك مداهنة الأعداء قبل مكاشفتهم، وليجعل محاربتهم آخر مكايده، فإنه ينفق في المكايد من الأموال، وينفق في المحاربة من النفوس، ولذلك قيل: أوهن الأعداء كيدا أظفرهم بعداوته"(10).
ويفرق الطرطوشي في كتابه "سراج الملوك" بين الدهاء والمكر من ناحية، والحيلة من ناحية أخرى. فالدهاء والمكر مذمومان، في حين أن الحيلة مستحسنة، مرغوب فيها، ثم يقول بعد ذلك: "فنحن وإن كنا نرغب عن الدهاء والمكر، فإنا نرغب في الحيلة، ونوصي بها، والاتساع في الحيلة مما تواصى به العقلاء قديما وحديثا، وليس شيء من أمور الدنيا لطالب الرفعة، وباغي الوسيلة، ومرتاد أي أمر كان، دق أو جل، خير من الحيلة. وأضعف الحيلة أنفع من كثير الشدة، وقالت الحكماء: ملاك العقل الحيلة، والتأني للسبب الضعيف والقوي من الأمور"(11). وكتب معاوية إلى مروان لما ورد عليه قتل عثمان يقول: "إذا قرأت كتابي هذا، فكن كالفهد لا يصطاد إلا غيلة (=خديعة)، ولا يباعد إلا عن حيلة، وكالثعلب لا يغلب إلا روغانا، واخف نفسك عنهم كما أخفى الغراب سناده، والقنفذ رأسه عند لمس الأكف، وأمنهم نفسك أمان من يايس القوم من نصره، وابحث عن أخبارهم بحث الدجاجة" (12).
أما في مجال الطب قديما، فقد احتلت الحيلة منزلة خاصة، حيث استخدمها الأطباء في معالجة الأمراض، وتسكين الآلام، ويكفي أن نشير إلى أن جالينوس قد خص هذا بكتاب مستقل أسماه: "حيلة البرء" (13). ويقول الرهاوي في "أدب الطبيب" إن الحيل هي " نتائج العقول وثمرات الفضائل التي يستحق أهلها المدح والتشريف" (14).


3 - في المعنى اللغوي للحيلة


جاء في "لسان العرب" أن معنى الحول: الحيلة والقوة (15). والواقع أن هذا التقارب بين القوة والحيلة ليس مستغربا. فالمتأمل لمحاسن الحيل والمتفحص لفوائدها، لا يسعه إلا اعتبارها نوعا من أنواع القوة، وفنا من فنون المعاملة. قال ابن سيده: "الحول والحيل والحول والحيلة والحويل والمحالة والاحتيال والتحول والتحيل، كل ذلك: الحذق وجودة النظر والقدرة على دقة التصرف"(16). والحيل والحول: جمع حيلة. وحوله وحول وحوالي وحوالي وحولول: محتال شديد الاحتيال. قال ابن الأعرابي: "الحول والحول: الدواهي…"(17). وقال الأشمعي: " يقال جاء بأمر حولة من الحول، أي بأمر منكر عجيب، ويقال للرجل الداهية: إنه لحولة من الحول، أي داهية من الداهية…"(18). ويقال: هو أحول منك وأحيل، أي أكثر حيلة: ويقال رجل حوالي للجيد الرأي ذي الحيلة. ويقال هو أحول من ذئب، من الحيلة، وهو أحيل من أبي براقش: وهو طائر يتلون ألوانا(19).


4 - الحيلة بين الإنسان والحيوان


إذا كانت الحيل هي "نتائج العقول، وثمرات الفضائل التي يستحق أهلها المدح والتشريف"، وإذا كان استخدام لطيف الحيل واجبا على كل إنسان عاقل، فما الدور الذي تلعبه الحيلة في حياة الحيوان؟ قبل أن نحاول الإجابة على هذا السؤال، نود نذكر قولا مأثورا ورد في كتاب "السياسة والحيلة عند العرب" عن صفات القائد المثالي. جاء في هذا الخبر أن عظماء الترك كانوا يقولون: ينبغي للقائد أن يكون فيه من أخلاق البهائم ما يلي من الصفات: "شجاعة الديك، وجرأة الأسد، وحملة الخنزير، وحراسة الكركي، وحذر الغراب، وغارة الذئب، وروغان الثعلب، وصبر الجمل: (20) والواقع أن الثعلب قد اشتهر من بين الحيوانات باستعماله للحيلة والمراوغة. بيد أن استخدام الحيلة لا يقتصر على الثعلب وحده، فنحن نجد أن الكركي " إذا خاف على نفسه من النوم، يقف على فرد رجل"(21) حتى لا يخلد إلى النوم، فيهلك.
أما الذئب، فقد ذكر الدميري عنه في "حياة الحيوان الكبرى" أمورا عجيبة، وطباعا طريفة، فقال عنه ضمن ما قال: "…ومن عجيب أمره أنه ينام بإحدى مقلتين، والأخرى يقظى، حتى تكتفي العين النائمة من النوم، فيفتحها وينام بالأخرى، ليحترس باليقظى، ويستريح بالنائمة"(22). ونظرا لارتباط الذئب بالحيلة،فقد أطلقت العرب عليه مسميات كثيرة، وأوصافا غريبة، "فقالوا: أغدر من ذئب، وأختل، وأخبث، وأخون، وأجول، وأعتى،و أعوى، وأظلم، وأجرأ، وأكسب، وأجوع، وأنشط، وأوقح، وأجسر، وأيقظ…من الذئب…وقالوا أخف رأسا من الذئب لأنه ينام بإحدى مقلتيه، كما تقدم"(23).
أما الثعلب، فهو كثير المكر، دائم الروغان. وقد حكى لي أحد الأصدقاء عنه العجب العجاب، فذكر أن الفلاحين عندما يقبضون على الثعلب أثناء سرقته الدجاج والطيور ليلا، فإنه يتماوت، لعنه الله، بل إنه يمتلك مقدرة عجيبة على إيقاف نبض قلبه! فلا يشك أكثر الناس حذرا منه، وارتيابا في أمره، أن الله قد توفاه، وأنه قد صار من أهل الآخرة، وعندئذ يقومون بإلقاء جثته في الخلاء، ولكنهم ما يكادون يفعلون ذلك، حتى يتحول المتماوت إلى حي يرزق، وتعود روحه إليه، ويسترجع نبضه، فيطلق ساقيه للريح هربا من الموت والهلاك. وفي "كليلة ودمنة" وردت حكاية الحمامة والثعلب ومالك الحزين، حيث احتال الثعلب حيلة ماكرة، وجعل يلاطف مالك الحزين ويداهنه، حتى تمكن منه، فدق عنقه والتهمه(24). وجاء في "حياة الحيوان الكبرى" عن مكر الثعلب: "…ومن حيلته في طلب الرزق أن يتماوت، وينفخ بطنه، ويرفع قوائمه، حتى يظن أنه مات، فإذا قرب منه حيوان، وثب عليه وصاده"(25). وذكر الجاحظ أن الثعلب يستخدم سلحه(=برازه) كسلاح فعال، وذلك بسبب نتانته، وسوء رائحته(26).
وعلى الرغم مما ذكرناه من حيلة الثعلب وروغانه، فينبغي ألا ننظر إليه إلا في نطاق التسلسل الهرمي لطبقات الحيوان الذي أراده البارئ لمخلوقاته، وقدره لها. يقول الجاحظ في "كتاب الحيوان": "ومن العجب في قسمة الأرزاق أن الذئب يصيد الثعلب فيأكله، ويصيد الثعلب القنفذ فيأكله، ويريغ القنفذ الأفعى فيأكلها، وكذلك صميعه في الحيات ما لم تعظم الحية، والحية تصيد العصفور فتأكله، والعصفور يصيد الجراد فيأكله، والجراد يلتمس فراخ الزنابير وكل شيء يكون أفحوصه على المستوى، والزنبور يصيد النحلة فيأكلها، والنحلة تصيد الذبابة فتأكلها، والذبابة تصيد البعوضة فتأكلها"(27).
إذا عدنا الآن إلى سؤالنا السابق عن الدور الذي تلعبه الحيلة في حياة الحيوان، فينبغي أن نةافق صاحب كتاب "السياسة والحيلة عند العرب" في رأيه بأن الإنسان يعتمد على عقله للتوصل إلى الحيل، أما الحيوان فالحيلة تقع له إلهاما (28). فالإنسان يستطيع بعقله أن يصل إلى حيلة تخرجه من معظم ما يقع فيه من المآزق، وهو يفعل ذلك لا محالة في حياته اليومية دون أن يشعر أحيانا، أما الحيوان، فاستخدامه للحيلة محدود، ويقتصر على ما خلقه الله في طبعه من العادات.
يقول صاحب كتاب "السياسة والحيلة عند العرب": "اعلم، أيها السيد السعيد، أن الحيلة لما كانت ثمرة العقل، ومستخرجة بقوانينه، وطرق في استخراجها غوامض العلوم، محاسن الفنون المختلفة الأصول والمنافع، وجب أن تكون للإنسان خاصة دون غيره من الحيوان. فإن قال قائل إنا نرى كثيرا من الحيوان يعمل من الحيل ما يفتح له منها فوائد جمة…(…) قلنا: فهذه ليست معدوجة في الحيل لغزارة عقلها، وإنما ذلك إلهام من الله لصلاح أخوالها، ولطف من الله بها"(29). ولما كان ذلك كذلك، فإنه "ينبغي للعاقل أن يعرف طرق الحيل، كيف يستعملها، ويعلم من أين دخلت عليه حيلة من الحيلة، وكيف الخروج"(30).


5 - الحكمة الإلهية واستخدام الحيل


من أسمال الله الحسنى "الحكيم". والحكمة الإلهية تتجلى في أجمل صورها أحيانا عندما تأخذ شكل الحيلة اللطيفة، والدرس المفيد. والحيلة تحتاج إلى مكر وذكاء، وقد وصف الله نفسه بـ "المكر" في القرآن، حيث يقول في كتابه المبين: "ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين" (الأنفال، 30)، وقد أساء المستشرق جولد تسيهر فهم هذه الآية بأفقه المحدود، فجعل يطعن في القرآن، ويسخر من المسلمين في كتابه "محاضرات في الإسلام" (31)، ولكن ماذا عسانا أن نقول في مستشرق غبي اشتهر بعدائه الشديد للإسلام؟ فقد غاب عن صاحبنا هذا أن "الحيلة هي أكثر الوسائل حذقا ومهارة للوصول إلى الأهداف والغايات… والله تعالى يفضل الإقناع والتعليم، والحيلة هي الوسيلة الفضلى، فهي تحتوي على قدر أقل من الإكراه، وعلى درجة ليست قليلة من الفعالية" (32).
وقد ورد في كتاب "السياسة والحيلة عند العرب" ثماني عشرة حيلة، رواها المؤلف لإثبات استحسان البارئ تعالى للحيلة، واستخدامه لها في تلقين عباده، وتعليم رسله وأنبيائه، بيد أن رائحة الاسرائيليات تفوح من بعضها بشدة واضحة، وخاصة في الروايات المنقولة عن أنبياء اليهود. وعلى الرغم من ذلك، فإن بعض هذه القصص تحمل في ثناياه الكثير من الحكم الطريفة، والمعاني الدقيقة، بصرف النظر عن كونها صحيحة، أو موضوعة.
ونكتفي في هذا السياق بذكر قصة موت سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهي القصة التي أوردها الثعالبي في كتابه "الكشف والبيان في تفسير القرآن"، حيث يقول: "إن الله تعالى كان قد وعد إبراهيم أن لا يقبض روحه إلا إذا طلب ذلك منه، واشتهى الموت. فلما قرب أجل إبراهيم، وأراد الله عز وجل قبضه، أرسل إليه ملكا في صورة شيخ هرم قد بطلت أكثر أعضائه. فوقف بباب إبراهيم، وقال له : يا إبراهيم، أريد شيئا آكل. فتعجب إبراهيم منه، وقال: موت هذا خير له من هذه الحياة. وكان إبراهيم لا يزال عنده طعام معد للأضياف. فأحضر للشيخ قصعة من الثريد واللحم. فجلس الشيخ يأكل، وهو يخرج من تحته، ويبلع اللقمة بالجهد والعذاب، ويأخذ اللقمة، فتقع من يده، فيقول: يا إبراهيم، أطعمني. فيرفع إبراهيم اللقمة بيده إلى فم الشيخ، فتجري على لحيته وصدره. فقال له إبراهيم: يا شيخ، كم لك من العمر؟ فذكر الشيخ سنين فوق سني إبراهيم بشيء يسير. فقال إبراهيم عليه السلام: اللهم أقبضني قبل أن أصل إلى هذا العمر، وهذه الحالة. فما استتم كلامه حتى قبضه الله عز وجل"(33).
وسواء أصحت هذه الرواية أم لا، فهي تتفق مع لآراء إخوان الصفاء، والكندي، وابن مسكويه في الموت الطبيعي للإنسان، وحكمة توقيته، والعوارض التي تسبقه. يقول ابن مسكويه في كتابه "تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق" متحدثا عن الشيخوخة ومظاهرها: "…إن الإنسان إذا أحب طول الحياة، فقد أحب لا محالة الهرم، واستشعره استشعار ما لا بد منه. ومع الهرم يحدث نقصان الحرارة الغريزي، والركوبة الأصلية التابعة لها، وغلبة ضديهما من البرد واليبس، وضعف الأعضاء الأصلية كلها، ويتبع ذلك قلة الحركة، وبطلان النشاط، وضعف آلات الهضم، وسقوط آلات الطحن، ونقصان القوى المدبرة للحياة، أعني القوة الجاذبة، والقوة الممسكة، والهاضمنة، والدافعة، وسائر ما يتبعها من مواد الحياة"(34).
وإذا عدنا إلى القصة السالفة الذكر عن موت سيدنا إبراهيم، للاحظنا اجتماع شيئين متناقضين، هما حب الحياة، وحتمية الموت. ومن خير ما قرأته من أوصاف لمراحل عمر الإنسان القول بأن الله قد جعل الإنسان يولد "مبرمجا"، وهذا يشير إلى حتمية المرور بمحطات الحياة المختلفة من طفولة وشباب إلى كهولة وشيخوخة، ثم موت وحساب. ولكن الإنسان يجزع بطبيعته من مجرد ذكر الموت، ويضيق صدره من سماع أخبار الموتى. يحكي ابن قتيبة في "عيون الأخبار" عن الأصمعي أنه قال: "بلغني عن شيخ جزع على ميت جزعا شديدا، فقيل له في ذلك،فقال: نحن قوم لم نتعود الموت"(35). والواقع أن الإنسان يخشى الموت الاسكندر، حيث يقول: "ولما مات الاسكندر، قال أرسطاطاليس: أيها الملك، لقد حركتنا بسكونك. وقال بعض الحكماء من أصحابه: كان الملك أمس أنطق منه اليوم، وهو اليوم أوعظ منه أمس(36).
وفضلا عن هذه الرواية الخاصة بموت إبراهيم عليه السلام، ينبغي كذلك أن نشير إلى الحيلة التي علمها البارئ تعالى نبيه أيوب عليه السلام، حتى يتحلل من يمينه بغير حنث."فقد حلف ليضربن امرأته مائة ضربة، ثم عز عليه أن يفعل هذا بما أحسنت إليه في عشرتها، وأحصلت له في خدمتها، فعلمه الله أن يضربها ضربة واحدة بضغث فيه مائة عود، قال تعالى: (وخذ بيدك ضغثا، فاضرب به، ولا تحنث)(44-ص)"(37).


6 - من حيل الأنبياء


أورد صاحب كتاب "السياسة والحيلة عند العرب" حيلة طريفة لرسول الله(ص)، إلا أنها قد تكون موضوعة من قبل أصحاب أبي حنيفة المتأخرين، وذلك للتشابه الكبير بينها وبين حيل أبي حنيفة وأصحابه. تقول هذه الرواية:"مر به (=أي برسول الله) رجل عارب من قومه، وناداه: يا محمد، أغثني، فإن خلفي من يطلب دمي. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أمض لوجهك، لأصد عنك الطلب. فمضى الرجل، وقال النبي صلى الله عليه وسلم، وجلس موضعا آخر غير موضعه الأول. فأتى القوم يتعادون، وقالوا: يا محمد، جاز بك شخص نعته وصفته كذا؟ فقال النبي صلى الله عليه و آله:والذي نفسي بيده منذ حليت موضعي هذا ما جاز على أحد. فصدقه القوم، لما يعرفون من صدقه، وطلبوا غير الطريق. ونجا الرجل بنفسه"(38). ولا نريد الخوض في كون هذه الرواية صحيحة، أو من الاسرائيليات، أو من وضع أصحاب أبي حنيفة المتأخرين، لأن مسألة الوضع والنحل في الكتابات العربية القديمة كانت ومازالت تعتبر من كبريات المشاكل المتنازع عليها في التراث العربي، ولكننا نكتفي بالإشارة إلى مدلول هذه الرواية، فمن الواضح أن هذه الحيلة تتضمن ذم الكذب، والحرص على الصدق في القول، والأمانة في السلوك. ولولا ذلك، لكان يمكن أن تنسب هذه الرواية إلى شخص آخر يظل قابعا في مكانه، ويحلف كذبا أنه لم ير أحدا يمر من أمامه. والحل الذي تقدمه هذه الحيلة يقوم على تغيير وضع سابق شاهد فيه الرسول (ص) الشخص الهارب، إلى وضع جديد، وموضع آخر يجلس فيه الرسول (ص) ويشير إليه في يمينه للمتتبعين للهارب. وسوف نرى في السطور التالية مدى تشابه هذه الحيلة بحيل أبي حنيفة وأصحابه.
وقد أورد صاحب كتاب "السياسة والحيلة عند العرب" بعض الروايات المشهورة عن رسول الله (ص) في سياق حديثه عن حيل الرسول (ص)، إلا أن هذه الروايات هي ملح (جمع ملحة): وهي النكتة) أكثر منها حيل، وقد روى الغزالي الكثير منها في كتابه "إحياء علوم الدين"(39). من ذلك أن امرأة جاءت إلى رسول الله (ص)، "فقالت له: إن بعلي يدعوك. قال: من بعلك؟ قالت : فلان. قال: الذي في عينه بياض. قالت: والله ما في عينه بياض. قال: بلى والله في عينه بياض. فأتت بعلها وجعلت تنظر في عينه. فقال لها الرجل: ما بالك؟ قالت: إن النبي صلى الله عليه و آله ذكر أن في عينه بياض. فضحك الرجل وقال: أليس فيها بياض وسواد"(40).
ومن الحيل الأخرى التي حكاها الأستاذ على حسب الله في كتابه " أصول التشريع الإسلامي" عن رسول الله (ص) أن: "وليدة من بين ساعدة حملت من زنا، فقيل لها: ممن حملت؟ قالت: من فلان المقعد (= ذي العاهة). فسئل هذا فقال: صدقت. فرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: خذوا عثكولا (=عنقودا) فيه مائة شمراخ (=غصن)، فاضربوه به ضربة واحدة، ففعلوا" (41). والضرب بعثكول فيه مائة شمراخ مرة واحدة يعادل مائة جلدة.
وهناك كذلك حيلة الرسول (ص) عندما هاجر إلى المدينة، وأمر على بن أبي طالب أن ينام موضعه. "فلما كان نصف الليل، جاءه المشركون، وأحاطوا به، وهموا أن يبطشوا به ظنا أنه النبي عليه السلام، ففتح عينه، ورآهم، وتنحنح. فعرفوا صوته، فهربوا منه"(42).


7 - من حيل الخفاء والأمراء


يحكى عن الخليفة العباشي المنصور أنه " أخرج مالا في الكوفة، وقال:إدفعوا إلى كل رجل خمسة دراهم. فلما فعلوا ، علم عددهم. فقال:خذوا الآن من كل شخص أربعين درهما. فاجتمع له من ذلك مال عظيم"(43).
ومن ألطف ما روي عن الرشيد، تلك الحيلة التي احتال بها على طبيبه بختيشوع، في المرض الذي توفى فيه. يقول صاحب كتاب "السياسة والحيلة عند العرب": "لما دخل الرشيد طوس اشتدت علته، وكان بختيشوع المتطبب يغدو ويروح، ويعطيه الآمال الأباطيل، ويمنيه الأماني، ويقول له: مرضك من هذا السفر. فدعا الرشيد يوما بالفضل، وقال: ائتني برجل عاقل من التجار، أشاوره في أمري، وأفضي إليه بسري. فجاءه برجل من أهل طوس. فاستنطقه، فرآه عاقلا، فقال: تحفظ السر. قال: نعم. فخلا به، وقال: خذ هذه القارورة (بها بوله)، فائت بها جبريل بن بختيشوع، وقل هي قارورة ابن لي، فتأملها، إن كان له حياة عرفني، وإن لم يكن له حياة فعرفني. فذهب الرجل بالقارورة. فلما نظرها الطبيب، أقبل على أبيه، وقال: يا أبتي، ما أشبه هذه بقارورة ذلك الرجل، هذا ميت لا محالة. فرجع الرجل، فأخبر الرشيد. فقال: ويلي عليه، ابن الزانية. ومات بعده بثلاثة أيام"(44).
والواقع أنه لا يمكننا الحديث عن حيل الخلفاء والأمراء، دون ذكر معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وهما أكثر العرب دهاء، وأعظمهم حيلة، وأشهرهم مكرا واحتيالا. ثم إن عمرا ومعاوية كان يجمعهما ما يشبه الصداقة، والإعجاب المتبادل. وكانت كراهيتهما لعلي بن أبي طالب متأصلة، وعداولتهما له واضحة جلية. وكان علي من أفصح العرب، وكان جسورا شجاعا، لا يخاف القتال، ولا يخشى النزال. وكان عليه السلام أشجع من معاوية، وأجرأ من عمرو بن العاص، بينما كان معاوية أكثر حيلة من علي، وكان عمرو بن العاص أدهى من الاثنين. ولولا دهاء عمرو، لهلك معاوية وأصحابه يوم صفين (45).
وقد أورد صاحب كتاب "السياسة والحيلة عند العرب" بعض الحيل المنسوبة إلى علي بن أبي طالب، نقتصر هنا على ذكر واحدة منها: "جاءت إليه امرأة ادعت أن زوجها عنين (=ضعيف جنسيا). فأنكر الزوج ذلك. فقال علي عليه السلام لقنبر: يا قنبر، إذهب به إلى النهر، وأنزله فيه إلى صرته، وأوقفه ساعة، وأخرجه. فإن رأيت ذكره تقلص، وتقنفذ، فاعلمني، وإن لم يتغير، فاعلمني. فأخذه قنبر، مضى به إلى النهر، وأنزل الرجل إلى صرته، وأوقفه ساعة، وأطلعه، وذكره قد تقلص، وتقنفذ، فأخبر أمير المؤمنين بذلك. فقال للرجل: خذ زوجتك وانصرف، فإنها كذابة"(46).
وتحكي كتب التاريخ أن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، كان يتهم كلا من معاوية وعمرو في دينهما، فيقول إنهما ليسا بأصحاب دين ولا قرآن، وإنه ما يعرفهما منذ طفولته، وصاحبهما رجالا، فكانا شر أطفال، وشر رجال (47). وليس هذا شيئا مستغربا، فقد اتبع معاوية وعمرو كل الطرق الملتوية، والوسائل الخادعة، للوصول إلى أهدافهما، وتحقيق مآربهما. وقبل أن نتحدث عن العلاقة الغريبة، والصلة العجيبة التي كانت تربط معاوية بعمرو، يهمنا أولا أن نتوقف قليلا عند معاوية، ونشأته. فمعاوية هذا قد نشأ وتربى في بيت ارستقراطي، وكان أبوه أبو سفيان من أغنى أغنياء مكة، وقد تزعم الحزب المعارض لرسول الله (ص) في مكة، قبل أن يعتنق الإسلام. وكانت هند بنت عتبة، أم معاوية، من أشهر نساء قريش، وأكثرهن فصاحة وعلما، وقصة تدبيرها قتل حمزة، عم الرسول (ص)، معروفة. وقد تميزت هند بفراسة عجيبة، وشخصية قوية فريدة. ويخيل للمرء أحيانا أن معاوية ورث عنها من الصفات، أكثر مما ورث عن أبيه أبي سفيان، ولهذا كان عمرو بن العاص ينسبه أحيانا إلى أمه، دون أبيه، فيقول: ابن هند، بدلا من معاوية بن أبي سفيان. ويحكي ابن عبد ربه في "العقد الفريد" قصة زواج هند من أبي سفيان، فيذكر أن هند بنت عتبة كانت قد تزوجت الفاكه بن المغيرة، أحد فتيان قريش. "وكان له بيت للضيافة يغشاه الناس فيه، بلا إذن. فكان يوما في ذلك البيت، وهند معه، ثم خرج عنها، وتركها نائمة، فجاء بعض من كان يغشى البيت. فلما وجد المرأة نائمة، ولى عنها، فاستقبله الفاكه بن المغيرى، فدخل على هند وأنبهها. وقال: من هذا الخارج من عندك؟ قالت: والله، ما انتبهت، حتى أنبهتني، وما رأيت أحدا قط. قال: الحقي بابيك. وخاض الناس في أمرهما" (48). وبعد ذلك احتكما إلى بعض كهان اليمن، فقال لها: "قومي غير رسحاء (غير قبيحة)، ولا زانية، وستلدين ملكا، يسمى معاوية. فلما خرجت أخذ الفاكه بيدها، فنثرت يده من يدها، وقالت: والله، لأحرصن أن يكون ذلك الولد من غيرك". ثم إن سهيل بن عمرو وأبا سفيان تقدما بعد ذلك لخطبتها، فسألت أباها عتبة عن صفات كل منهما، حتى تختار لنفسها أشدهما موافقة لها. فلما وصفهما لها أبوها، قالت عن سهيل بن عمرو إنه سيد مضياع للحرة، وإنها إن أنجبت منه، فلن تنجب إلا الحمقى، بينما أثنت على أبي سفيان، وقبلته زوجا، فولدت له معاوية، وقبله يزيد. وبعد ذلك " تزوج سهيل بن عمرو امرأة، فولدت له ولدا، فبينما هو سائر معه، إذ نظر إلى رجل يركب ناقة (=الأنثى من الجمال)، ويقود شاة (=الواحدة من الضأن والمعز)، فقال لأبيه: يا أبت، هذه ابنة هذه!! يريد الشاة ابنة الناقة. فقال أبوه: يرحم الله هند!! يعني ما كان من فراستها فيه" (49).
جاء في "سراج الملوك" أن "دهاة العرب ستة: معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، والمغيرة ابن شعبة، وزياد بن أبيه، وقيس بن سعد بن عبادة، وعبد الله بن بديل بن ورقاء. قال الأصمعي: كان معاوية يقول: أنا للأناة، وعمرو للبديهة، وزياد للصغار والكبار، والمغيرة للأمر العظيم" (50). وقد كان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، على علم بحنكة عمرو ودهائه، ومكر معاوية وحيلته، فولاهما على بعض أمصار الشام. يقول ابن خلكان في "وفيات الأعيان": "كان عمر بن الخطاب قد ولى عمرو بن العاص…فلسطين والأردن، وولى معاوية دمشق وبعلبك والبلقاء…ثم جمع الشام لكها لمعاوية، وكتب إلى عمرو، فسار إلى مصر، فافتتحها في سنة عشرين للهجرة. فلم يزل واليا عليها، حتى مات عمر، فاقره عثمان عليها أربع سنوات، ثم عزله، وولى عبد الله بن سعد، فاعتزل عمرو بن العاص في ناحية فلسطين.‎..فلما قتل عثمان، سار إلى معاوية، وشده صفين معه، وكان قد طلب من معاوية أنه إذا تم له الأمر، يوليه مصر" (51).
وكان عمر بن الخطاب يتندر في أحاديثه بذكاء معاوية، ودهاء عمرو، فيقول: "تذكرون كسرى وقيصر ودهاءهما، وعندكم معاوية!!" (52). ويذكر صاحب "وفيات الأعيان" أن عمر بن الخطاب كان "إذا استضعف رجلا في رأيه، قال: أشهد أن خالقك، وخالق عمرو واحد، يريد خالق الأضداد" (53). وقد جاء في "تاريخ الطبري‎" أن عمر بن الخطاب، لما خرج إلى الشام، استقبله معاوية في موكب، ثم راح إليه في كوكب. " فقال له عمر: يا معاوية، تروح في موكب، ونغدو في مثله، وبلغني أنك تصبح في منزلك، وذوو الحاجات ببابك! فقال: يا أمير المؤمنين، إن العدو بها قريب منا، ولهم عيون وجواسيس، فأردت، يا أمير المؤمنين، أن يروا للإسلام عزا، فقال له عمر : إن هذا لكيد رجل لبيب… فقال معاوية: يا أمير المؤمنين، مرني بما شئت، أصر إليه. قال: ويحك! ما ناظرتك في أمر أعيب عليك فيه، إلا تركتني ما أدري آمرك، أم أنهاك" (54).
وكان معاوية حليما، فخورا بدهائه وحيلته، فقد جاء في "سراج الملوك": "أن سليمان مولى زياد فخر بزياد عند معاوية، فقال معاوية : أسكت، فما أدرك صاحبك بسيفه، إلا أدركت أكثر منه بلساني" (55).
ولما كانت الحيلة تحتاج إلى عقل راجح، ونظر ثاقب، فقد كان معاوية يرفع من قدر العقل، ويجلله. والواقع أن هذه سمة واضحة عند كل من عالج موضوع الحيل من الكتاب، فنحن نلاحظ أن معظم كتب الحيل تحتوي على فصل عن العقل وفضله. قال معاوية: "العقل والحلم أفضل ما أعطي العبد، فإذا ذكّر ذكر، وإذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا غضب كظم، وإذا قدر غفر، وإذا أساء استغفر، وإذا وعد أنجز" (56). وإذا كانت الحيلة تتطلب ذكاء حادا، وذهنا متوقدا، فهذا يتضمن أيضا سرعة البديهة، فقد قالت الحكماء قديما: "آية العقل سرعة الفهم"(57). وقد اشتهرت العرب منذ القدم بسرعة البديهة، وحسن الارتجال. ويقول الجاحظ في "البيان والتبيين": "…وكل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال، وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ولا مكابدة، ولا إجالة فكر ولا استعانة…"(58). يحكي صاحب "سراج الملوك" عن سرعة بديهية بعض الصبيان العرب، فيقول: "قيل لبعض الصبيان: ألك أب؟ قال: كأني عيسى ابن مريم!!" (59). ولم يكن معاوية دائما حاضر الفكر مع محدثيه، سريع البديهة مع جلسائه، فكان يفحم أصحابه أحيانا، ويفحمونه هم أحيانا أخرى. يروي الطبري أن معاوية نظر مرة إلى الثما في عباءة، فازدراه، فقال له الثما: يا أمير المؤمنين، إن العباءة لا تكلمك، وإنما يكلمك من فيها" (60).
والواقع أن أعظم الشخصيات العربية، وأكثرها فصاحة وعلما، كثيرا تواجه مواقف تعجز فيها عن إقناع الآخر، أو إفحام الخصم، ولنتذكر عمر بن الخطاب عندما قال: هزمتني امرأة. ويحكي ابن قتيبة في " عيون الأخبار" واقعة طريفة حدثت لعائشة زوج رسول الله (ص)، وكانت رضي الله عنها من أفصح أزواج الرسول (ص)، وأكثرهن تفقها. يقول ابن قتيبة: " دخلت أم أفعى العبدية على عائشة رضي الله عنها، فقالت: يا أم المؤمنين، ما تقولين في امرأة قتلت ابنا لها صغيرا؟ قالت: وجبت لها النار. قالت: فما تقولين في امرأة قتلت من أولادها الأكابر عشرين ألفا (تعني من سقط من القتلى في موقعة الجمل التي قاتلت فيها عائشة ضد علي بن أبي طالب)؟ قالت: حذوا بيد عدوة الله!!"(61). وواضح من الرواية أن محدثة عائشة قد أوقعتها في مأزق حرج، لم ينجدها منها فصاحتها، ولا سعة علمها، فلما شعرت بالحرج والإفحام، بادرت بطردها.


8 - السياسة والحيلة
كانت العلاقة بين معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص ذات طبيعة فريدة، وسمة غريبة. فقد كان عمرو يكبر معاوية بحوالي 28 سنة، حيث أنه مات سنة 43 هجرية عن تسعين عاما، بينما توفى معاوية سنة 61 هجرية عن ثمانين عاما. كانت تجمعهما صفات كثيرة، وأخلاق عديدة، ويفرقهما التفاضل والنافس. فكان المكر والخديعة من صفاتهما، والمراوغة والحيلة من أخلاقهما. وكان عمرو لا يتورع عن خداع معاوية، ومعاوية لا يكف عن الاحتيال على عمرو. كانت تربطهما صلة إعجاب متبادل، وتقدير متماثل. وكان التنافس بينهما حادا، قد يصل أحيانا إلى حد التهديد بالقتل، ودق الأعناق. وكان عمرو دائم التطاول على معاوية، وكان معاوية حليما معه، متسامحا. كان عمرو يستغل فارق السن الذي كان بينه وبين معاوية، فيراوغ معاوية مراوغة الشيخ لتلميذه، وكان معاوية، بثقب نظره، مدركا لدهاء عمرو، بمقر باله، مستمعا إلى رأيه، مستفيدا من حنكته. مما رواه ابن قتيبة في "عيون الأخبار" عن العلاقة بين الاثنين، تلك الواقعة التي حدثت في عهد عمر بن الخطاب، والتي صفع فيها عمرو معاوية صفعة مهينة. والغريب في أمر عمر عمرو بن العاص أنه حتى عندما يصفع، فهو لا يصفع غضبا، ولكن احتيالا ومكرا، وهذا يوضح مدى عدم تورعه في استخدام أي وسيلة ممكنة في سبيل الوصول إلى غايته، والخروج من المأزق الذي يقع فيه. يقول ابن قتيبة: "قدم معاوية من الشام، وعمرو بن العاص من مصر، على عمر، فأقعدهما بين يديه، وجعل يسألهما عن أعمالهما، إلى أن اعترض عمرو في حديث معاوية، فقال له معاوية : أعلي تعيب، وإلي تقصد؟ هلم حتى أخبر أمير المؤمنين عن عملك، وتخبره عن عملي. قال عمرو: فعلمت أنه بعملي ابصر مني بعمله، وأن عمر لا يدع أول هذا الحديث، حتى يأتي على آخره. فأردت أن أفعل شيئا اقطع به ذلك، فرفعت يدي، فلطمت معاوية؟ فقال عمر: تالله، ما رأيت رجلا أسفه منك. يا معاوية، ألطمه. فقال معاوية: إن لي أميرا لا أقضي الأمور دونه. فأرسل عمر إلى أبي سفيان، فلما رآه، ألقى له وسادة، ثم قال معتذرا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أتاكم كريم قوم، فأكرموه. ثم قص عليه ما جرى بين عمرو ومعاوية. فقال: ألهذا بعثت إلي؟ أخوه وابن عمه، وقد أتى غير كبيى، قد وهبت له ذلك"(62).
وكان عمر قد ولى عمرا على مصر، بعد فتحها، فصار واليا عليها، حتى موت عمر، ثم إن عثمان أقره على مصر أربع سنوات أخرى، قبل أن يعزله، فاعتزل عمرو بن العاص في ناحية فلسطين، حتى قتل عثمان، فسار إلى معاوية، وقررا معا أن يحاربا عليا، كما تقدم الذكر. وفي المعركة الفاصلة، موقعة "صفين"، كان حزب علي قد أوشك على إنهاء القتال لصاحبه، والقضاء على معاوية وعمرو وأتباعهما، حتى انبثقت عن ذهن عمرو حيلة محبطة، وخدعة محكمة، أنقذت معسكر معاوية من الهلاك، وأنجته من الفناء، حيث أمر أصحاب معاوية أن يرفعوا المصاحف على أسنة الرماح، ويقولوا: هذا كتاب الله عز وجل بيننا وبينكم. فلما رأي جنود علي المصاحف قد رفعت على أسنة الرماح، قالوا: "نجيب إلى كتاب الله عز وجل، وننيب إليه" (63)، وهكذا تمكن عمرو بفضل وقت التحكيم، حيث تزعم عمرو حزب معاوية، وقاد أبو موسى الأشعري أتباع علي. وكان أبو موسى دون عمرو في المكر والمراوغة، فأمسى طعما سهلا لدهاء عمرو و روغانه. وجعل عمرو يداهن أبا موسى، ويحادثه حديثا يشبه حديث الثعلب لمالك الحزين، قبل أن يدق عنقه ويلتهمه، في "كليلة ودمنة". وقد استدرج عمرو أبا موسى في الحديث، حتى تمكن من أن يأخذ عليه كتابا بأن عثمان قد قتل مظلوما، وأن لمعاوية الحق في أن يطلب قاتل عثمان حيثما كان، حتى يقتله، أو يعجز عنه. وكانت خطة عمرو تقوم بعد ذلك على إثبات أن عليا هو قاتل عثمان، حتى يحق لمعاوية أن يقاتل عليا. وفي الوقت نفسه كان أبو موسى يرمي إلى استخلاف عبد الله بن عمر، الذي كان متزوجا من ابنته. فلما اقترح أبو موسى على عمرو خلع معاوية وعلي، وتولية عبد الله بن عمر، وافقه عمرو على خلع علي فقط دون معاوية. ثم إنه قد حدث بينهما سب ولعن، فقال أبو موسى لعمرو: إن مثلك كمثل الحمار، وقال عمرو لأبي موسى: إن مثلك كمثل الكلب!! وبعد أن تفرق الفريقان، امتنع عمرو عن الذهاب إلى معاوية، لإبلاغه بما حدث. ويبدو أنه كان قد عقد العزم على الاستيلاء على السلطة، وتنحية معاوية عن الحكم، ولماذا لا، وهو الذي خدع عليا وأصحابه في صفين، ثم احتال على أبي موسى الأشعري فيما جرى من التحكيم، بينما كان دور معاوية في هذه الفترة صغيرا، غير مذكور. ولم يلبث معاوية أن أدرك ما كان يجول بخاطر عمرو، وما كانت تحدثه به نفسه من إقصاء معاوية عن السلطة، والسيطرة على مقاليد الأمور بنفسه. ولم ينتظر معاوية طويلا، بل شرع يكيد لعمرو، ويراوغه.
يقول المسعودي في "مروج الذهب": "فلما انصرف أو بموسى، انصرف عمرو بن العاص إلى منزله، ولم يأت إلى معاوية، فأرسل إليه معاوية يدعوه، فقال: إنما كنت أجيئك، إذ كانت لي إليك حاجة، فأما إذا كانت الحاجة إلينا، فأنت أحق أن تأتينا. فعلم معاوية ما قد دفع إليه، فخمر الرأي، وأعمل الحيلة، وأمر معاوية بطعام كثير، فصنع. ثم دعا بخاصته ومواليه وأهله، فقال: إني سأغدو إلى عمرو، فإذا دعوت بالطعام، فدعوا مواليه، وأهله، فليجلسوا قبلكم. فإذا شبع رجل منهم وقام، فليجلس رجل منكم مكانه. فإذا خرجوا ولم يبق في البيت أحد منهم، فأغلقوا باب البيت، واحذروا أن يدخل أحد منهم، إلا أن آمركم. وغدا إليه معاوية، وعمرو جالس في فراشه، فلم يقم له عنها، ولا دعاه. فجاء معاوية، وجلس على الأرض، واتكأ على ناحية الفراش، وذلك أن عمرا كان يحدث نفسه أنه قد ملك الأمر، وإليه العقد، يضعها فيمن يرى، ويندب للخلافة من يشاء. فجرى بينهما كلام كثير، وكان مما قاله له عمرو: هذا الكتاب الذي بيني وبينه عليه خاتمي وخاتمه، وقد أقر بأن عثمان قتل مظلوما، وأخرج عليا من هذا الأمر، وعرض علي رجالا لم أرهم أهلا لها. وهذا الأمر إلى أن استخلف من شئته. وقد أعطاني أهل الشام عهودهم ومواثيقهم. فحادثه معاوية ساعة، وأخرجه عما كانوا عليه، وضاحكه وداعبه (كما يداعب الذئب فريسته قبل أن يلتهما!!)، ثم قال: يا أبا عبد الله، هل من غذاء؟ قال: إما شيء يشبع من ترى فلا والله. فقال معاوية: هلم يا غلامي غذاءك. فجيء بالطعام المستعد، فوضع. فقال: يا أبا عبد الله، ادع مواليك وأهلك، فدعاهم. ثم قال له عمرو: وادع أنت أصحابك. قال: نعم يأكل يأكل أصحابك أولا، ثم يجلس هؤلاء بعد. فجعلوا كلما قام رجل من حاشية عمرو، قعد موضعه رجل من حاشية معاوية، حتى خرج أصحاب عمرو، وبقي أصحاب معاوية. فقام الذي وكله بغلق الباب، لأغلق الباب، فقال له عمرو: فعلتها. فقال: أي والله، بيني وبينك أمران، فاختر أيهما شئت: البيعة لي، أو أقتلك، ليس والله غيرهما. قال عمرو : فأذن لغلامي وردان،حتى أشاوره، وأنظر رأيه. قال: لا تراه والله، ولا يراك، إلا قتيلا، أو على ما قلت لك. قال: فالوفاء إذن بطعمة مصر. قال: هي لك ما عشت. فاستوثق كل واحد منهما من صاحبه، وأحضر معاوية الخواص من أهل الشام، و منع أن يدخل معهم أحد من حاشية عمرو، فقال لهم عمرو: قد رأيت أن أبايع معاوية، فلم أر أحدا أقوى على هذا الأمر منه. فبايعه أهل الشام، وانصرف معاوية إلى منزله خليفة" (64). ما أشبه هذه الواقعة بالصراع بين الذئاب والثعالب وتمكر الذئاب. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل استمر عمرو، بعد أن تولى حكم مصر مرة ثانية، في كيده لمعاوية، وداوم معاوية على مكره بعمرو.
وترينا الرواية التالية كيف كان معاوية يفطن إلى مكايد عمرو في اللحظة الحاسمة، والوقت المناسب، فيحبك له من الحيل ما يدفع به مكائد عمرو وشروره عن نفسه. وقد أقدمنا الذكر أن عمرا كثيرا ما كان ينسب معاوية إلى أمه هند، وسنرى الآن كيف أن معاوية كان يسمي عمرا "ابن النابغة". يقول الطبري في تاريخه: "حدثني عبد الله بن أحمد… قال: أخبرت أ، عمرو بن العاص وفد إلى معاوية ومعه أهل مصر، فقال لهم عمرو: انظروا، إذا دخلتم على ابن هند، فلا تسلموا عليه بالخلافة، فإنه أعظم لكم في عينه، وصغروه ما استطعتم. فلما قدموا عليه، قال معاوية لحجابه: إني كأني أعرف ابن النابغة وقد صغر أمري عند القوم، فانظروا إذا دخل الوفد، فتعتعوهم (= أتعبوهم وأزعجوهم) أشد تعتعة تقدرون عليها، فلا يبلغني الرجل منهم، إلا وقد همته نفسه بالتلف. فكان أول من دخل عليه رجل من أهل مصر يقال له ابن الخياط، فدخل وقد تعتع، فقال: السلام عليك يا رسول الله!! فتتابع القوم على ذلك، فلما خرجوا، قال لهم عمرو:لعنكم الله!! نهيتكم أن تسلموا عليه بالإمارة، فسلمتم عليه بالنبوة!!"(65).
ويقودنا الحديث عن معاوية وعمرو إلى الخوض في مسألة الشجاعة والإقدام، وأين ينتهي حد الشجاعة هي الغالبة عند علي، دون المخادعة والروغان، في حين أن معاوية كان حذرا مكارا، وكان عمرو مخادعا محتالا. يحكي المسعودي في "مروج الذهب" أن عليا قد دعا معاوية إلى المبارزة في أيام صفين، فلم يقبل معاوية هذا العرض، لما عرفه من شجاعته علي. يقول المسعودي: "(…) ثم نادى علي: يا معاوية، علام يقتل الناس بيني وبينك؟ هلم أحاكمك إلى الله، فأيّنا قتل صاحبه، استقامت له الأمور. فقال له عمرو: لقد أنصفك الرجل. فقال له معاوية: ما أنصفت، وإنك لتعلم أنه لم يبارزه رجل قط، إلا قتله، أو أسره. فقال له عمرو: وما يجمل بك إلا مبارزته. فقال له معاوية: طعمت فيها بعدي، وحقدها عليه" (66). ويحكي المسعودي بعد ذلك أن معاوية أقنع عمرا بمبارزة علي "فلم يجد عمرو من ذلك بدا، فبرز. فلما التقيا، عرفه علي، وشال سيفه ليضربه به. فكشف عمرو عن عورته، وقال: مكره أخوك، لا بطل. فحول علي وجهه عنه، وقال: قبحت!! ورجع عمرو إلى مصافه" (67).
ويبدو أن مسألة الشجاعة والجبن، وعلاقتهما بالحذر والحزم كانت موضوع نقاش وجدل بين معاوية وعمرو. يحكي المسعودي أن عمرو بن العاص قال ذات يوم لمعاوية: "قد أعياني أن أعلم أجبان أنت، أو شجاع، لأني أراك تتقدم، حتى أقول أراد القتال، ثم تتأخر، حتى أقول أراد الفرار. فقال له معاوية: والله ما أتقدم، حتى أرى التقدم غنما، ولا أتأخر حتى أرى التأخر حزما" (68). وقد يكون هذا السلوك الحذر قد نفع معاوية، وأنجاه من القتل، عندما اجتمع ثلاثة من الخوارج، وعقدوا العزم على قتل علي ومعاوية وعمرو. فتمكن ابن ملجم من ضرب علي بسيفه ضربة مات منها بعدها بثلاثة أيام. أنا البرك الصريمي، الموكل بقتل معاوية، فإنه لم ينجح في مهمته هذه، فطعن معاوية بخنجره في أليته، فأصابه إصابة خفيفة، دون أن يتمكن من قتله. أما الخارجي الثالث، فانطلق إلى عمرو بن العاص، يريد قتله، وقد حدث في ذلك اليوم ما يشبه المعجزة. ذلك أن عمرا قد شعر في ذلك أن يتمكن من قتله. أما الخارجي الثالث، فانطلق إلى عمرو بن العاص، يريد قتله، وقد حدث في ذلك اليوم ما يشبه المعجزة. ذلك أن عمرا قد قتل خارجة، دون أن يدري أنه لم يقتل عمرا، ولكن شخصا آخر. وتحكي بعض الروايات أن عمرا قال في تلك الواقعة أن بطنه لم تنفعه في حياته، إلا في ذلك اليوم(69).
وقبل أن نختتم عن حيل الخلفاء والأمراء، نود أن نشير إلى رواية مشهورة في التراث العربي، تمثل منذ قرون طويلة مبدأ سياسيا أصيلا، كثيرا ما أخذ به أعداء العرب والمسلمين، دون أن يعمل به العرب والمسلمون. يقول هذا المبدأ السياسي إن أعداءك إذا تصارعوا وتقاتلوا فيما بينهم، فعليك ألا تتدخل في هذا القتال، حتى لا تجعلهم ينسون صراعهم، ويوحدون قواهم، ويتجهون إلى محاربتك والقضاء عليك. يقول الطرطوشي في :"سراج الملوك": "…لما مات بعض الخلفاء، احتشدت الروم، واجتمعت ملوكها، وقالوا: الآن يشتغل المسلمون بعضهم ببعض، فتمكننا الغرة منهم، والوثبة عليهم. وضربوا في ذلك مشاورات، وتراجعوا فيه بالمناظرات، وأجمعوا على أنها فرصة الدهر، وثغرة النحر. وكان رجل من ذوي الرأي منهم والمعرفة غائبا عنهم، فقالوا: من الحزم عرض الرأي عليه. فلما أخبروه بما اجتمعوا عليه، قال: لا أرى ذلك صوابا. فسألوه عن علة ذلك، فقال: غدا أخبركم، إن شاء الله. فلما أصبحوا، غدوا إليه، فقالوا: الوعد. قال: نعم. فأمر بإحضار كلبين عظيمين، قد أعدهما. ثم حرش بينهما، وألب كل واحد على الآخر، فتواثبا، وتهارشا، حتى سالت دماؤهما. فلما بلغا الغاية، فتح بابا عنده، وأرسل منه على الكلاب ذئبا قد أعده. فلما أبصرته الكلاب، تركا ما كانا عليه، وتألفت قلوبهما، ووثبا جميعا على الذئب، فنالا منه ما أحبا. ثم أقبل الرجل على أهل الجمع، فقال لهم: مثلكم مع المسلمين، مثل هذا الذئب مع الكلاب، لا يزال الهرج والمرج بينهم، ما لم يظهر لهم عدو من غيرهم. فإذا ظهر لهم عدو من غيرهم، تركوا العداوة بينهم، وتآلفوا على العدو. فاستحسنوا قوله، وتفرقوا عن رأيهم" (70).


9 - الحيل الهندسية


ذكرنا في مقدمة هذا البحث أن لفظ الحيل كان يطلق قديما على علم مستقل بذاته يعادل في عصرنا هذا علم الهندسة الميكانيكية والتجهيزات الهيدروليكية، وأشرنا إلى تقسيم الخوارزمي علم الحيل إلى فرعين: الأول جر الأثقال بالقوة اليسيرة وآلاته، والثاني حيل حركات الماء، وصنعة الأواني العجيبة، وما يتصل بها من صنعة الآلات المتحركة بذاتها. ونجد عند الأنصاري تقسيما آخر لعلم الحيل. يقول حميد موراني في "تاريخ العلوم عند العرب": "نجد عند الأنصاري أسماء أقسام علم الحيل وهي: علم العقود، علم المرايا المحرقة، علم مراكز الأثقال، علم الجر، علم المنجنيق"(71). ثم يشير بعد ذلك إلى أن المنجنيق كان يعد أهم آلات الحرب، " وهي آلة لرمي الحجارة إلى مسافات بعيدة". وقد كانت صناعة الساعات داخلة في نطاق علم الحيل، وكان ابن يونس هو صاحب اختراع رقاص الساعة(72). ويهمنا في هذا السياق إن نشير إلى الإهمال الذي لاقاه تراثنا العلمي حتى الآن، فنحن لم نعر هذا التراث ربع ما أعرنا تراثنا الأدبي والديني من الاهتمام، على الرغم من أن هذا التراث العلمي للعرب لا يقل أهمية عن تراثهم الأدبي والديني، فضلا على تأثيره الجلي على علماء الغرب في مجال التكنولوجيا والطب والهندسة. وقد كان لبعض أساتذة الغرب فضل إحياء التراث العربي الخاص بعلم الحيل، والتنبيه على أهمية دراسته، ووضعه موضعه الصحيح من تاريخ العلوم الإنسانية. ونخص بالذكر هنا جورج سارتون، وكارا دي فو، ودونالد هيل، وفيدمان، وهاوسر. أما العلماء العرب المهتمون بكتب الحيل في التراث العربي، فيأتي الأستاذ أحمد يوسف الحسن في مقدمتهم.
يبدو أن أقدم عمل معروف باللغة العربية في علم الحيل الهندسية هو الترجمة العربية لكتاب فيلون (عاش في القرن الثالث قبل الميلاد) المعروف بـ "كتاب فيلون في الحيل الروحانية ومخانيق الماء". يقول فيلون في مقدمة هذا الكتاب: "إني علمت، يا أرسطون الحبيب، شوقك إلى الروحانية، وأذكر كل صناعة معروفة لكل من سلف من الحكماء" (73). ويعتبر هذا الكتاب في غاية الأهمية بالنسبة لتاريخ التكنولوجيا، والتحكم الآلي، لأن تأثيره على العلماء العرب والمسلمين فيما بعد كان عظيما، مشهودا به، وقد بحث ذلك المستشرق هيل في دراساته المختلفة. بيد أن تأثير الحضارات القديمة، وفي مقدمتها الحضارة المصرية، على الحضارتين اليونانية والرومانية لم يدرس بعد بصورة كافية. ومن المرجح أن الحضارة المصرية قد كان لها أثر واضح، وفضل جلي على فيلون مؤلف كتاب "الحيل الروحانية ومخانيق المياه"، وخاصة أنه قد أورد اسم مصر في أكثر من موضع في كتابه. وقد قام المستشرق الفرنسي كارا دي فو بنشر هذا الكتاب، مع ترجمة فرنسية، سنة 1903.وكان قد نشر بحثا قيما عن الميكانيك في الإسلام سنة 1891. ويأتي بعد كتاب فيلون، من حيث الأهمية، كتاب أيرن (عاش في القرن الأول للميلاد في الاسكندرية) المعروف بـ"الميكانيك". وقد قام قسطا بن لوقا بترجمة هذا الكتاب إلى العربية، وأشار سارتون إلى أن هذا العمل قد نشر وترجم إلى اللغات الأوروبية (74).
أما الكتابات العربية في علم الحيل، فقد بدأها بنوموسى في القرن الثالث الهجري، حيث ألفوا "كتاب الحيل" الذي يقول فيه ابن خلكان: "ولهم في الحيل كتاب عجيب نادر يشتمل على كل غريبة. وقد وقفت عليه، فوجدته من أحسن الكتب، وأمتعها"(75). وفي القرن السادس الهجري ألف بديع الزمان الجزري كتابه المعروف "الجامع بين العلم والعلم النافع في صناعة الحيل". يقول العالم سارتون عن هذا الكتاب إنه: "أكثر الأعمال تفصيلا من نوعه، ويمكن اعتباره الذروة في هذا المجال بين الإنجازات الإسلامية" (76). وتميز الجزري عن غيره من المهندسين أنه جمع بين الجانبين النظري والعلمي من هذا العلم، وقد أراد أن يؤكد هذا من خلال كتابه الذي اختار له عنوان: "الجامع بين العلم والعمل النافع". وفي القرن العاشر كتب تقي الدين بن معروف كتابين مشهورين في علم الحيل، الأول هو: الطرق السنية في الآلات الروحانية"، والثاني: "كتاب الكواكب الدورية"(77).
وبالإضافة إلى هذه الكتب الثلاثة أشار المستشرق هيل في مقال له بمجلة تاريخ العلوم إلى كتاب أندلسي في علم الحيل للمرادي، يعود إلى القرن الخامس الهجري (78). أما عن الجهود الخاصة بنشر وإحياء هذا التراث الخاص بعلم الحيل، فنبدأ بذكر المستشرق الفرنسي كارا دي فو الذي نشر كتاب فيلون "في الحيل الروحانية ومخانيق الماء"، مع ترجمة فرنسية، سنة 1903، كما ذكرنا أعلاه. وفي الربع الأول من هذا القرن قام فيدمان وهاوسر بترجمة كتاب "الحيل" لبني موسى إلى الألمانية. وفي سنة 1974 ترجم المستشرق دونالد هيل كتاب الجزري "الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل" إلى اللغة الإنجليزية، ثم أتبع ذلك بترجمة إنجليزية لكتاب "الحيل" لبني موسى سنة 1979. و كان الأستاذ أحمد يوسف الحسن هو العالم العربي الذي كرس جهوده لتحقيق ونشر كتب الحيل في التراث العربي، فقام سنة 1976 بنشر كتاب "الطرق السنية في الآلات الروحانية" لتقي الدين، وبعد ذلك بثلاثة أعوان، سنة 1979، نشر النص العربي لكتاب "الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل" للجزري، وواصل جهوده المشكورة في هذا الميدان بنشره "كتاب الحيل" لبني موسى سنة 1981. وهناك عالم عربي آخر اهتم بموضوع الحيل الهندسية في التراث العربي، وقام بتأليف كتاب عن هذا الموضوع، وهو الأستاذ ماجد عبد الله شمس مؤلف كتاب"مقدمة لعلم الميكانيك في الحضارة العربية"(79).
ونكتفي بالإشارة إلى مثلين من أحيل التي أوردها بنو موسى في كتابهم السالف الذكر. أما الحيلة الأولى، التي تمثل في واقع الأمر مبدأ أو وسيلة هندسية، فهي تسمح بصب سائلين مختلفين (الماء والشراب) في نفس الإناء، دون أن يمتزجا (80). والحيلة الثانية نستطيع من خلالها "عمل آلة، يخرج بها الإنسان الأشياء التي تقع في الآبار، وتغرق في الأنهار والبحار"(81).
ونختم حديثنا عن الحيل الهندسية والميكانيكية بذكر النقد الذي يوجهه بعض الباحثين إلى التكنولوجيا العربية القديمة بأن اهتمامها كان مركزا في المقام الأول على اللهو والتسلية. وقد أورد أحمد يوسف الحسن هذا النقد في مقدمته لكتاب "الجامع بين العلم والعمل" للجزري، دون أن يحدد المصادر التي أخذ عنها. إلا أنه في مقابل ذلك قام بالرد على هذا النقد، ودحضه، حيث يقول: "يوجه بعض المؤرخين والباحثين النقد للتكنولوجيا الميكانيكية العربية. فهم يعيبون عليها اهتمامها ببعض الوسائل المخصصة للتسلية واللعب. ومع أن المهندسين العرب اهتموا بتصميم مثل هذه الوسائل لقيمتها الفنية والهندسية، كما أنهم صنعوها للملوك والسلاطين، ووصفوها في رسائلهم وكتبهم، إلا أنه ليس صحيحا أيضا أن هذه الوسائل كانت في مجملها مخصصة للتسلية، ولتزيين القصور فقط. وإذا استعرضنا كتاب الجزري بالذات، فإننا نجد أن أهم أقسامه وأكبرها (النوع الأول) يبحث في الساعات. وهناك قسم خاص بآلات رفع الماء (النوع الخامس)، وقسم آخر (النوع السادس) خاص بوصف أشياء متعددة مفيدة كالأبواب والأقفال" (82).


10 - حيل الفقهاء والقضاة


ليس من قبيل الصدفة أن يكون أبو حنيفة (توفي سنة 150 هـ) وأتباعه هم مؤسسي باب الحيل في الفقه الإسلامي، وأصحاب الباع الطويل في هذا الفن. فالحيلة، سواء أكانت فقهية أو غير فقهية، تحتاج إلى بديهة سريعة، وذكاء متوقد، وعقل نشيط، وكل هذا توفر لأبي حنيفة وأصحابه. وطالب الحيلة يعوزه، فضلا عن ذلك، شيء من خفة الروح، والبعد عن التزمت، والعقلية المتفتحة، وكل هذا كان من صفات أبي حنيفة وأصحابه. والحيلة تحتاج إلى "الحذق، وجودة النظر، والقدرة على دقة التصرف"، وقد أتقن ابو حنيفة وأصحابه كل هذه الخلال. كان أبو حنيفة ذا شخصية فريدة، وعقلية فذة، لا يملك المرء إلا الإعجاب بها، وتجليها. لم يكن متطرفا في دينه، ولا مغاليا في مذهبه. فلم يمنعه تدينه من أن يأخذ نصيبه من الحياة الدنيا، والتمتع بما حلل الله من طيبات، فلم يحرم، مثلا، الغناء، والاستماع إلى الموسيقى، كما يفعل اليوم أهل الجعل، والمتشددون عندنا(83). وهبه الله سرعة بديهية عجيبة، وطرازا نادرا من التفكير العقلاني، وروح فكاهة معتدلة. وفوق هذا وذلك، فقد كان رجلا عمليا، لا يميل إلى النظريات المحضة التي لا يمكن تطبيقها في الحياة اليومية البسيطة، وتنفر نفسه من كل ما ليس له صلة بالمعاملات اليومية للإنسان. ولما كان ذلك كذلك، فقد كان طبيعيا أن ينفر أبو حنيفة من علم الكلام والفلسفة، بعد أن قطع شوطا كبيرا في تحصيلهما، ويتجه إلى دراسة الفقه والشريعة(84).
ومن النوادر المروية عن سرعة بديهية، وولعه بالقياس، ما روي عنه " أنه أمر حجامه أن يلقط الشعر الأبيض من رأسه أو لحيته، قال: إن لقطتها كثرت، قال: إذن القط السود، حتى تكثر!!"(85). ومن ألطف ما رواه الجاحظ عن أبي حنيفة في "كتاب الحيوان" تلك الرواية التي تدل على مدى إعجاب الناس بأبي حنيفة، وتندرهم بثقب نظره، وحدة ذكائه. يقول الجاحظ: "…كان رجل في الجاهلية معه محجن (= عصا في طرفها انعقاف) يتناول به متاع الحاج سرقة، فإذا قيل له: سرقت، قال : لم اسرق، وإنما سرق محجني!! فقال حماد: لو كان هذا اليوم حيا، لكان من أصحاب أبي حنيفة!!"(86). وليس هذا تعليقا أريد به إلصاق اللصوص، ووصلهم بأبي حنيفة، ولكنه كلام قيل على سبيل التندر على سرعة خاطر هذا الفقيه العظيم، وحسن تصرفه عنه المآزق.
أسس أبو حنيفة باب الحيل في الفقه الإسلامي، وسار من بعده أصحابه على نفس دربه. ولم يؤلف أبو حنيفة كتابا خاصا بالحيل الفقهية، ولكن كتب الفقه الحنفية نقلت عنه، ضمن ما نقلت، الكثير من الحيل العجيبة، ولنوادر الطريفة. وقد قام أبو عبد الله محمد بن الحسن الشيباني (توفي سنة 189هـ)، تلميذ أبي حنيفة النابغة الذي كان يجالسه وهو في الرابعة عشرة من عمره (87)، بتأليف "كتاب المخارج في الحيل"، فوضع بذلك أول عمل فقهي في فنون الحيل. وقد اختلف النقاد في نسبة هذا الكتاب للشيباني، فذهب بعضهم إلى القول بأن هذا الكتاب هو من تأليف أبي حنيفة، برواية أبي يوسف، وتهذيب الشيباني، وكان سزكين ممن وقعوا في هذا الخلط (88). والواقع أن المستشرق يوسف شاخت، ناشر هذا الكتاب، قد اثبت بما لا يدع مجالا للشك أن هذا الكتاب محال أن يكون من تأليف أبي حنيفة، بل هو من تصنيف العلامة الشيباني، وبرهن على ذلك بحجج قاطعة ذكرها في المقدمة الألمانية لهذا الكتاب (89). وعلى الرغم من أن شاخت نشر هذا الكتاب، وبرهن على صحة نسبته إلى الشيباني سنة 1930، فقد وقع سزكين في هذا الخطأ، نسب كتاب موسوعته "تاريخ التراث العربي" سنة 1967(90). وفي القرن الثالث للهجرة ظهر فقيه حنفي آخر، هو أبو بكر بن عمرو الشيباني الخصاف (توفي سنة 271 هـ)، اهتم بالحيل وألف فيها "كتاب الحيل والمخارج".
هذا بالنسبة إلى موقف أبي حنيفة، وأصحابه، من الحيل، وما هو معروف حتى الآن من مؤلفاتهم المطبوعة في هذا الفن. أما أصحاب المذاهب الفقهية الأخرى، المالكية والشافعية والحنبلية، فقد حاربوا الحيل الفقهية وهي في مهدها، وذموها، وطعنوا في شرعية استخدامها. فقد ذكر شاخت أن الشافعي (توفي سنة 204هـ) كان من أوائل المعارضين لاستعمال الحيل الفقهية، وخاصة بالطريقة التي يستخدمها بها أصحاب أبي حنيفة(91). و هاهو ابن قيم الجوزية الحنبلي يشن في كتابه "أعلام الموقعين" هجوما عنيفا على الحيل واستخدامها(92). وبعد ما يقرب من مائتي سنة على وفاة الشافعي، ألف أبو حاتم محمود بن الحسن القزويني الشافعي (توفي سنة 440هـ)(93) أول كتاب شافعي في الحيل الفقهية، هو "كتاب الحيل في الفقه". فما الذي دفع أصحاب الشافعي إلى إقحام أنفسهم في هذا الفن الذي ذمه إمامهم، وحاربه أتباعه الأولون؟ يشرح المستشرق يوسف شاخت خلفيات هذا التحول في الفكر الشافعي قائلا إن قيان أصحاب الشافعي بالتأليف في موضوع الحيل لم يظهر إلا متأخرا، ومثل بذلك نهجا جديدا في هذا المذهب. والواقع أن هذا التحول في الفكر الشافعي قد جاء كرد فعل على شهرة الكتابات الحنفية في موضوع الحيل، فأراد أصحاب الشافعي منافسة الحنفية في هذا الفن. وبعد أن هدأ الصراع بين الشافعية والحنفية، بدأ أصحاب الشافعي يتجرؤون على معالجة موضوع الحيل، والخوض فيه. وبعد ذلك يقارن شاخت بين حيل الحنفية، كما جاءت في كتاب الخطاف، وحيل الشافعية، كما وردت في كتاب القزويني، فيشير إلى أن الحيل الحنفية عملية، والحيل الشافعية ليست كذلك. وتهدف الحيل الحنفية إلى تسهيل اتباع قواعد الدين والشريعة للمؤمن بقدر الإمكان، فهي تجمع بين الجانبين العملي والنظري من الدين، بيم المثالية والواقعية. أما حيل الشافعية، فهي عمل متأخر، فيه الكثير من التكلف، ويخلو من الجانب العملي (94).
ولا ينبغي أن يفوتنا في هذا المقام أن نذكر العلاقة المنطقية بين مدارس الفقه الإسلامي، والمذاهب العقائدية. وهي علاقة منطقية من حيث أن أتباع المذهب القعائدي ينجذبون إلى ما يتفق مع فكرهم، ولا يتعارض مع عقيدتهم، من اتجاهات الفقه. يقول الصفدي في كتابه "الغيث المسجم": "إن الغالب صفات كثيرة، وآراء متشابهة، منها تجليل العقل، والتوسع في القياس، والقول بالتحسين والتقبيح العقليين، والتقليل من الاعتماد على الأحاديث، بعدما كثر الوضع فيها، فصعب التمييز بين الصحيح والموضوع منها(96).
ونود الآن أن نستعرض بعض نماذج لحيل الفقهاء والقضاة، وعددا من الروايات المنقولة عن أبي حنيفة. أورد صاحب كتاب "السياسة والحيلة عند العرب" حيلة طريفة للقاضي يونان، حيث يقول: "كان لبني إسرائـيل سوق يجتمعون فيها كل سنة، يبيعون ويشترون. فدخل السوق رجل على حجرة (= أنثى الفرس) له، وخلفها مهر (= ولد الفرس). فسرقه رجل منه، ورباه على بقرة له. فلما كان الموسم، عاد صاحب المهر إلى السوق، فنظر المهرن فعرفه. وقال: هذا مهري، ولد هذه الحجر’. فأنكر السارق ذلك. وترافعا إلى يونان القاضي، والمهر يتبع البقرة، والناس يتعجبون منه. فقصا عليه القصة، فقال لهما: تعاليا غدا، حتى أحكم بينكما، فإني اليوم حائض!! فقال صاحب البقرة: والرجال تحيض؟ قال: نعم. مدينة تلد فيها بقرة مهرا، ليس عجيبا أن يحيض فيها الرجال الذكور. ورد المهر إلى صاحبه، فأخذه ومضى"(97).
ومما نقله ابن قيم من حيل أبي حنيفة في كتابه "أعلام الموقعين" أن "رجلا أتاه بالليل، فقال أدركني قبل الفجر، وإلا طلقت امرأتي. قال: وما ذاك؟ قال: إن امرأتي تركت الليلة كلامي، فقلت لها: إن طلع الفجر، ولم تكلميني، فأنت طالق ثلاثا. وقد توسلت إليها بكل أمر أن تكلمني، فلم تفعل. فقال أبو حنيفة: اذهب، فمر المؤذن أن ينزل، فيؤذن قبل الفجر، فلعلعا إذا سمعته أن تكلمك، واذهب إليها، فناشدها أن تكلمك قبل أن يؤذن. ففعل الرجل، وجعل يناشدها، وأذن المؤذن، فقالت له: طلع الفجر، وتخلصت منك!! فقال: بل كلمتني قبل الفجر، وتخلصت من اليمين!!"(98).
وذكر المكي في "مناقب الإمام أبي حنيفة" العديد من الحيل الفقهية المنقولة عن أبي حنيفة، أورد بعضها أحمد أمين في الجزء الثاني من كتابه "ضحى الإسلام". من ذلك ما يحكى عن رجل حلف ليقربن امرأته نهارا في رمضان، ويذهب لأبي حنيفة، باحثا عنده عن مخرج لهذا المأزق، فيفتيه أبو حنيفة أن يسافر بها، فيحل له أن يقربها نهارا(99).
ومن الحيل اللطيفة التي جاءت في كتاب "السياسة والحيلة عند العرب" عن أبي حنيفة، تلك الواقعة التي حدثت له مع أحد الأعراب في الصحراء. يقول أبو حنيفة: "احتجت إلى ماء وأنا في البادية. فأتى أعرابي، ومعه قربة ماء. فأبى أن يبيعها إلا بخمسة دراهم. فدفعت إليه خمسة دراهم، وأسقيته شربة من القربة، وبقي الباقي علي من القربة بلا ثمن"(100).
وقد كانت معظم حيل الحنفية في باب الأيمان والطلاق. ومن ذلك تلك الحيلة الشهيرة التي حكاها أحمد أمين عن المكي في كتابه السالف الذكر، حيث يقول: "(…)ويحلف رجل وقد رأى امرأته على السلم، فيقول: أنت طالق ثلاثا إن صعدت، وطالق ثلاثا إن نزلت. فيفتيه أبو حنيفة أن تقف المرأة على السلم، ولا تصعد ولا تنزل، ويحتال جماعة يحملون السلم بالمرأة، فيضعونها على الأرض"(101). ومن الحيل الطريفة التي أوردها صاحب كتاب "السياسة والحيلة عند العرب" تلك الحيلة التي حبكها شريح القاضي، ليقتل ثعلبا، حيث يقول: "… إن شريحا خرج أيام الطاعون إلى النجف، وكان إذا خرج يصلي، يجيء ثعلب، فيلعب بسجادته، وبما بال عليها، فلا يقدر شريح أن يصلي. وبقي على ذلك مدة. فطال ذلك على شريح. فنزع قميصه، فجعله على قصبة، وأسبل كميه، وجعل قلنسوته على القصبة، يشبهها به، كأنه قائم يصلي. واختفى في موضع يمكنه منه صيد الثعلب. فبينما هو كذلك، إذ أتى الثعلب مستمرغا على السجادة، والتف فيها. فوثب عليه شريح، فقبضه. فلذلك يقال: شريح أحيل من الثعلب"(102).
ويهمنا في هذا السياق أن نشير إلى دفاع الإمام محمد أبي زهرة عن الحيل الحنفية، حيث يقول في كتابه "أبو حنيفة": "… إن الحيل عند أئمة المذهب الحنفي الأولين، لم يقصدوا بها إسقاط تكليف، ولا العمل على أن تكون الأعمال تنطبق عليها الأحكام الشرعية في ظاهرها، وفي معناها ونيتها تكون مناقضة لمقاصد الشريعة، وهادمة للغاية السامية، والحكمة من مشروعيتها"(103).
بقي أن نذكر جهود المستشرق يوسف شاخت، وننوه بإسهامه في إصدار أهم كتب الحيل الفقهية، بل وترجمته جزءا من هذه الكتب إلى اللغة الألمانية. ففي سنة 1923نال شاخت درجة عن دراسته القيمة لكتاب "الحيل والمخارج" للخصاف. وقد أرفق شاخت بدراسته تلك النص الكامل لهذا الكتاب الذي كان قد طبع بمصر سنة 1314هـ. والعجيب في هذا الأمر أن شاخت قد نشر رسالته هذه منسوخة بخط يده، دون أن يقوم بطباعتها، أو كتابتها على الآلة الكاتبة. وبعد ذلك بعام واحد، أي في سنة 1924، قام شاخت بنشر "كتاب الحيل" للقوريني، وأرفقه بترجمة ألمانية للنص العربي، ومقدمة نقدية جيدة. وفي عام 1940 أكمل شاخت جهوده هذه بنشر كتاب " المخارج في الحيل" للشيباني، وهو الكتاب المختلف على صحة نسبته إلى الشيباني، حيث برهن شاخت في تقديمه لهذا الكتاب على صحة نسبته إلى الشيباني، موردا في ذلك براهيم دامغة، وحججا قاطعة.


11 - الحيل الطبية


يفرق الرهاوي في كتابه " أدب الطبيب" بين الحيل الطبية النافعة، وخدع المحتالين الذين يتسمون باسم الطب. فالحيل الطبية يلجأ إليها الطبيب لعلاج مرضاه، وتخفيف آلامهم. أما الخدع الطبية، فهي وسيلة الدجالين للتكسب السريع، والاحتيال على الجهلة من المرضى وأصحاب العلل. ويثني الرهاوي على الحيلة بشكل عام، ويستحسن استعمالها، فيقول: "ليس غرضي في هذا الباب، أيها الحبيب، ذم الحيلة على الإطلاق، إذ كان معنى هذا الاسم إنما تلطف الإنسان بلطيف فطنة العقل في إصابة ما بعد، واعتاص عن عرضه (= بعد عن نفسه). وبهذا المعنى، طريق الحيلة، قدر الإنسان أن يستخرج دقيق العلوم والصنائع، لأن الموجودات لم يشكفها البارئ تبارك بأسرها للإنسان، لئلا تسقط عن الناس كلفة النظر والبحوث، ويذهب تفاضلهم بمعرفة العلوم والمهن، فتسقط المراتب والرئاسات بذلك، وهذا هو سلب نوع الإنسان ما به من شرف، وإعدام حكمته التي بها فضل على أنواع الحيوان. فلذلك جعل الله تعالى بعض الأمور ظاهرة جلية، وبعضها خفية، ليتوصل (= الإنسان) بلطيف حيلة العقل، وتدقيق ذهنه، من الأمور الظاهرة إلى معرفة الأمور الباطنة…(…) ألا ترى أن صناعة الطب لم يستخرج العلماء محاسن ما فيها من العلاج والأعمال إلا بطريق الحيلة، كقدحهم للعين، حتى يبصر من قد عمى، وكبزلهم الماء… وكاستخراجهم الأخلاط الرديئة المفسدة بأدوية معلومة، وبتقدير معلوم…"(104). ويشبه الرهاوي المحتالين الداخلين على صناعة الطب بالذئاب المفترسة، لأنهم يسلكون طرق النصب والخديعة للوصول إلى كسب الأموال. والأخطر من ذلك أن الخدع التي يستخدمها هؤلاء المحتالون قد تؤدي إلى تدهور من يعالجونه، ووفاته.
وقد أشرنا في مقدمة هذا البحث إلى الكتاب الذي ألفه جالينوس في هذا الموضوع، وأطلق عليه اسم "كتاب حيلة البرء". وقد لعبت الحيل الطبية دورا أساسيا في علاج الأمراض النفسية، وهو العلاج الذي يسمى أحيانا "العلاج بالوهم". ومن ذلك ما حكاه الرهاوي في "أدب الطبيب"عن جالينوس عندما دعي لعلاج مريض توهم أنه بلع حية!! حيث يقول: "وذلك أن جالينوس حجى أن إنسانا توهم أنه قد بلع حية، فعولج بكل دواء، فلم ينجح فيه. فلما وقف جالينوس على خبره، سأله:هل تعرف لون تلك الحية؟ فقال: هو اللون الفلاني، ومقدارها المقدار الفلاني. فأمر سرا من العليل (= أي بدون علم المريض) بمن صاد له حية بتلك الصورة. وأخفاها بلطيف الحيلة، وسقى المريض دواء قذفه، وشد عينيه حين أخذ يقذف، وسرح الحية المذكورة مع القذف. وأمر من حضر أن تعلو أصواتهم بالتباشير بخروج الحية بالقذف. فحين فض عن عيني المريض، قال: هذه هي الحية التي ابتلعتها بعينها، وقد وجدت الراحة، فبرئ بروءا تاما من توهمه"(105).
وقد سار كبار الأطباء العرب في عصر ازدهار الحضارة الإسلامية على نهج جالينوس، واتبعوا طريقته في علاج مرضى الوهم، بحيل وهمية طريفة. وقد نقل أمين أسعد خير الله في كتابه الممتاز "الطب العربي" حيلة لطيفة حبكها ابن سينا لعلاج مريض توهم أنه بقرة!! فيحكي، قائلا: " ويروى عن ابن سينا أنه شفى مريضا كان يعتقد أنه بقرة، ويطلب بإلحاح أن يذبح، ويطبخ لحمه. ولما رفض أهله إجابة طلبه، انقطع عن الطعام، وضعف كثيرا، وأقلق الأهل والجيران بأصواته المنكرة، وطلبه الملح. وقد عالجه عدة أطباء، ولم ينجحوا في علاجه. فرجا أهله ابن سينا أن يعالجه. فأرسل إليه يقول إنه قادم لذبحه، حسب طلبه، ويجب عليه أن يكون فرحا مسرورا. وبعد أيام حضر ابن سينا، وفي يده سكين طويلة، وأمر بربط يدي المريض ورجليه، وطرحه على الأرض، لأجل ذبحه. ولما هم ابن سينا بالذبح، جس عضلات المريض جسا دقيقا، ثم التفت إلى أهله، وقال لهم بصوت جهوري: إن البقرة ضعيفة جدا، ويجب تسمينها قبل الذبح. فأخذ المريض من تلك الساعة يأكل بشهية، فقوي جسمه، وتركه وهمه، وشفي تماما"(106).
ومن طرائف الحيل الوهمية المستخدمة في علاج أمراض الوهم والماليخوليا، ما حكاه ابن أبي أصبيعة في موسوعته العظيمة "عيون الأنباء في طبقات الأطباء" عن الطبيب أوحد الزمان أبي البركات هبة الله، حيث يقول: "ومن نوادر أوحد الزمان في المداواة أن مريضا ببغداد كان قد عرض له علة الماليخوليا، وكان يعتقد أن على رأسه دنا (= وعاء كبيرا)، وأنه لا يفارقه أبدا. فكان كلما مشى، يتحايد المواضع التي سقوفها قصيرة، ويمشي يرفق، ولا يترك أحدا يدنو منه، حتى لا يمل الدن، أو يقع عن رأسه. وبقي هذا المريض مدة، وهو في شدة منه. وعالجه جماعة من الأطباء، ولم يحصل بمعالجتهم تأثير ينتفع به. وانتهى أمره إلى أوحد الزمان، ففكر أنه ما بقي شيء يمكن أن يبرأ به، إلا بالأمور الوهمية، فقال لأهله: إذا كنت في الدار، فأتوني به. ثم أن أوحد الزمان أمر أحد غلمانه بأن ذلك الطريض إذا دخل عليه، وشرع في الكلام معه، وأشار إلى الغلام بعلامة بينهما، أنه يسارع بخشبة كبيرة، فيضرب بها فوق رأس المريض على بعد منه، كأنه يريد كسر الدن الذي يزعم أنه على رأسه. وأوصى غلاما آخر، وكان قد أعد معه دنا في أعلى السطح، أنه متى رأى ذلك قد ضرب فوق رأس صاحب الماليخوليا، أن يرمي الدن الذي عنده بسرعة إلى الأرض. ولما كان أوحد الزمان في داره، وأتاه المريض، شرع في الكلام معه، وحادثة، وأنكر عليه حمله الدن. وأشار إلى الغلام الذي عنده، من غير علم المريض، فأقبل عليه، وقال: والله، لا بد لي أن أكسر هذا الدن، وأريحك منه. ثم أدار تلك الخشبة التي معه، وضرب بها فوق رأسه بنحو ذراع. وعند ذلك رمى الغلام الآخر الدن من أعلى السطح، فكانت له جلبة عظيمة، وتكسر قطعا كثيرة. فلما عاين المريض ما فعل به، ورأى الدن المنكسر، تأوه لكسرهم إياه، ولم يشك أنه الذي كان على رأسه بزعمه، وأثر فيه الوهم أثرا برئ من علته تلك"(107).
وقد تتخذ الحيلة أحيانا صورة النكتة الطريفة، أو الملحة النادرة، مثل ما حكاه الرهاوي في "أدب الطبيب"، حيث يقول: "ومن النوادر التي جرت لبعض الأطباء ببغداد مع بعض الناس، أنه جاء مريض إليه، فشكا إليه أنه يجد معصا. فسأله الطبيب: أي شيء أكلت؟ فقال: أكلت خبزا محترقا!! فأخرج الطبيب من حقيبته مكحلة، وميل وتقدم ليكحله. فقال له: يا هذا، وما الذي ينفع الكحل للمغص؟ قال: قصدي أعالج عينك. قال : عيني صحيحة، لا علة بها. قال الطبيب: لو كان الأمر كما ذكرت، لكنت حين رأيت الخبز محترقا، لم تأكله" (108). وتبين هذه الواقعة مدى سخرية الطبيب هذه النادرة ما حكاه خير الله في "الكب العربي" عن إفحام أحد الأطباء رئيس الخصيان في عصر الحجاج، حيث يقول: "أصيب الحجاج، حاكم العراق، يوما بصداع شديد. فوصف له طبيبه أن يغسل قديمه في الماء الحار، ويدهنهما. فقال رئيس الخصيان الذي كان واقفا بجانب الحجاج: والله، ما رأيت طبيبا اقل معرفة بالطب منك. شكى الأمير الصداع في رأسه، فتصف له دواء في رجليه!! فقال له : أما علاقة ما قلت فيك بينة. فقال الخصي: وما هي؟ قال: نزعت خصيتاك، فذهب شعر لحيتك. فضحة الحجاج ومن حضر" (109).
وقد يجد الكبيب نفسه أحيانا ضحية لمرضاه، وما أصباهم من أعراض. يحكي التكريتي في كتابه "طرائف الأطباء" أن مريضا ذهب إلى طبيب نفساني، يشكوه من ضعف ذاكرته. فقال له: إن مشكلتي هي أنني سريع النسيان. فقال الطبيب: ومتى بدأت هذه المشكلة؟ فقال المريض: أي مشكلة؟!!(110).
وقد يضطر الطبيب في بعض الأحيان أن يحيك حيلة يختبر بها مدى قوة فهم مريضه، ومقدرته على التحصيل. يحكي الرهاوي في "أدب الطبيب" عن طبيب أراد أن يمتحن فهم مريض جاءه يشكو من وجع كان به. "فأشار عليه بقرص يأخذ في يومه ذلك نصفه، وفي عده نصفه، وبعد عده نصفه. فسمع ذلك الإنسان قوله، ولم ينكر منه شيئا، ومضى. فقال الطبيب: يا قوم كيف أشير على من لا يعلم أن القرص لا يجوز أن يكون له ثلاثة أنصاف؟"(111).
وقد كان الخلفاء يقومون باختراع الحيل في بعض الأوقات، ليختبروا بها ذكاء مشاهير الأطباء، من ذلك ما حكاه ابن أبي أصيبعة في "عيون الأنباء في طبقات الأطباء" عن حيلة هارون الرشيد لامتحان الطبيب بختيشوع، حيث أمر الرشيد بإحضار بول دابة، وأعطاه لبختيشوع، حتى يختبره: "… فمضى الخادم، وأحضره قارورة الماء (= بول الدابة)، فلما رآه قال: يا أمير المؤمنين، ليس هذا بول إنسان. قال له أبو قريش: كذبت، هذا ماء حظية الحليفة. فقال له بختيشوع: لك أقول، أيها الشيخ الكريم، لم يبل هذا إنسان البتة.وإن كان الأمر علة ما قلت، فلعلها صارت بهيمة. فقال له الخليفة: من أين علمت أنه ليس ببول إنسان؟ قال له بختيشوع: لأنه ليس له قوام بول الناس، ولا لونه، ولا ريحه. (…) ثم التفت الخليفة إلى بختيشوع، فقال له: ما ترى أن نطعم صاحب هذا الماء؟ فقال: شعيرا جيدا!! فضحك الرشيد ضحكا شديدا، وأمر، فخلع عليه خلعة حسنة جليلة، ووهب له مالا وافرا"(112).
وقد يمرض المرء أحيانا لمجرد أنه ترك وطنه، ورحل إلى بلد آخر يختلف في طقسه، وأهله، وهوائه، ومائه عن الوطن الأم، فيصاب الإنسان بما يطلقون عليه مرض الحنين إلى الأوطان، ليس فقط حنين النفس والروح، بل أيضا الحنين إلى كل ما كان يأكله المرء، ويشريه في وطنه الأم. وعندئذ تكون أحد طرق العلاج المقترحة أن يلجأ المرء إلى تناول ما كان يأكله، ويشربه في بلده الأصلي، فتسكن النفس، بهدوء المعدة، وتعود إلى المرء حالته الطبيعية. يحكي ابن أبي أصيبعة أن عبيد الله بن المهدي، والي مصر، كان قد أهدى الرشيد جارية مصرية، في غاية الحسن والجمال. فلما رآها الرشيد، أعجب بجمالها، وحسن هيئتها، وأحبها حبا شديدا. ولكنها اعتلت بعد ذلك علة عجز أطباء بغداد أن يشفوها منها. فأرسل الرشيد يطلب طبيبا لها من مصر، لأنه يكون أدرى بعلاجها من أطباء العراق. فبعث إليه عبيد الله بن المهدي ببليطيان بطريك الاسكندرية، وأعلمه بحب الرشيد لهذه الجارية، ووصف له علتها ومرضها. فسافر بليطيان إلى بغداد، وأخذ معه من كعك مصر الخشن، والسمك المملح. "فلما دخل بغداد، وعرضت عليه الجارية، أطعمها الطعط والصير (= السمك المملح)، فرجعت إلى طبعها، وزالت عنها العلة، ومنذ ذلك الوقت صار يجلب من مصر إلى دار الخلافة الطعط الخشن والصير" (113). واعتمد الأطباء في علاجهم لبعض الأمراض على إثارة حياء المريض، وتعمدوا إحراجه. من ذلك تلك الحيلة التي اتبعها ابن بختيشوع لعلاج جارية الرشيد التي أصيبت بالتشنج، وهي تتمطى. يقول القفطي في كتابه "إخبار العلماء بأخبار الحكماء": "وفي بعض الأيام تمطت حظية للرشيد، ورفعت يدها، فبقيت منبسطة، لا يمكنها ردها. يعالجونها بالتمريخ و الادهان، فلا ينفع ذاك شيئا. فقال الرشيد لجعفر بن يحيى: قد بقيت هذه الصبية بعلتها. قال له جعفر: لي طبيب ماهر، وهو ابن بختيشوع، تدعوه وتخاطبه في معنى هذا المرض، فلعل عنده حيلة في علاجها. فأمر بإحضاره. ولما حضر قال له الرشيد: ما اسمك؟ قال: جبرائيل. قال: أي شيء تعرف من الطب؟ قال: أبرد الحار، وأسخن البارد، وأرطب اليابس، وأجفف الرطب الخارج عن الطبع. فضحك الرشيد، وقال: هذا غاية ما يحتاج في صناعة الطب. ثم شرح له حال الصبية. فقال جبرائيل: إن لم يسخط علي أمير المؤمنين، فلها عندي حيلة. قال له الرشيد: ما هي؟ قال: تخرج الجارية إلى ههنا، بحضرة الجميع، حتى أعمل ما أريده، وتمهل علي، ولا تعجل بالسخط. فأمر الرشيد بإحضار الجارية، فخرجت. وحين رآها جبرائيل، أسرع إليها، ونكس رأسه، وأمسك ذيلها، كأنه يريد أن يكشفها. فانزعجت الجارية، ومن شدة الحياء والانزعاج، استرسلت أعضاؤها، وبسطت يدها إلى أسفل، وأمسكت ذيلها. فقال جبرائيل: قد برئت، يا أمير المؤمنين. فقال الرشيد للجارية: أبسطي يدك يمنة ويسرة. ففعلت. فعجب الرشيد، وكل من كان حاضرا، وأمر لجبرائيل في الوقت بخمسمائة ألف درهم، واحبه، وجعله رئيسا على جميع الأطباء"(114).
وقد استخدم الأطباء قديما جس النبض كمقياس لحالة المريض، ودليل على ما لا يريد الإفصاح به للآخرين. وكانت هذه وسيلة معروفة لعلاج ما يصيب العشاق من أمراض نفسية، وعوارض جسدي. وقد أورد الرهاوي حادثة طريفة عن العلاج بجس النبض في كتابه "أدب الطبيب"، حيث يقول: "وكذلك حكي عن أرسطراطس، حين دعاه بعض ملوك الروم، فعلاج ابنه، ولم يكن له سواه. فنظر الفتى، وجس عرقه، ورأى ترتيب مجسته ترتيبا مستويا، بانقباض وانبساط. فخمن أن ألمه في نفسه، لا في بدنه. فأمر الطبيب بكراسي، جلس الملك والفتى والطبيب عليها. وأمر بإعراض كل غلام وجارية في الدار عليهم، ونبض الفتى في يد الطبيب، وهو لازم لترتيبه، إلى أن مرت بعض الجواري، فتغيرت المجسة، واضطربت، وفسد الترتيب، وارتعد الفتى، وتغير لونه. فلما فطن الطبيب لذلك، وعلم أنه عاشق لها، أمسك حتى انقضى المجلس. وسأل الطبيب عن تلك الجارية، فأخبر بأنها حظية الملك التي لا يرى الدنيا إلا بها. فانصرف، ووعد الملك بالعود في غد. فلم يعد، كراهة أن يلقى الملك بذلك. فأحضره الملك، وسأله عن تأخره، وقال له: أنت تعلم شغل قلبي بابني، وهو وارث الملك بعدي، ومحله من نفسي. قال له الطبيب: تأخرت، حتى وقفت على دائه. قال: وما هو؟ قال: عاشق لامرأتي. فأطرق الملك، ثم قال للطبيب: فماذا ترى؟ قال: الرأي للملك، لا لي. قال: أرى أن تؤثرني بها. قال له: أيها الملك، وتستحسن هذا؟ فقال: نعم، إن الملك يعوضك مكانها، ويخلفها عليك، ويعطيك أملك. فقال: إن كان الملك يرى هذا ويستحسنه، فإن الفتى إنما هو عاشق جارية الملك. فأورد على الملك من ذلك أمرا عظيما. فأطرق الملك مفكرا طويلا. قال له الطبيب: أيد الله الملك، إن من النساء عوضا، وهن موجودات في كل وقت، وولده المجيب العاقل اللبيب ليس في كل دهر يتهيأ ويوجد، وليس منه عوض. فركن الملك إلى قوله، وزوج الفتى جاريته، فبرئ. فأمر الملك بحمل الطبيب على مركوب من مراكبه، وساق إليه عدة من دوابه، ووصله بعشرة أرطال من الذهب، وخلع سنية"(115), وقد عالج ابن سينا عاشقا آخر بحيلة مشابهة لهذه الحيلة(116).
وتحكي كتب التاريخ أن الأطباء العرب قد عرفوا العلاج بالموسيقى، فكتب ابن الهيثم عن تأثير الموسيقى في الإنسان والحيوان(117)، وقام الكندي بالـليف في الإيقاع الموسيقي، وحاول أن يعالج مرضاه بالموسيقى(118). ويحكى عن الرازي "أنه مان يتردد على صديق له، يشتغل صيدلانيا في مستشفى بمدينة الري. وكان من عادته حينما يجتمع بصديقه هذا أن يعاوده الحنين إلى الموسيقى، فكان يعزف عنده بعض الوقت داخل المستشفى بقصد التسلية والطرب. ولشد ما كان دهشه حينما رأى المرضى، وهم يعانون آلاما قاسية، يتركون أسرتهم، ويلتفون حوله، يستمعون بمرح وسرور إلى أنغامه الساحرة. وقد لاحظ الرازي أن بعض هؤلاء المرضى مصابون بأمراض تسبب لهم آلاما مبرحة، وبالرغم من ذلك، فقد نسوا هذه الآلام، وشملهم الهدوء والسكون والسرور عندما سمعوا الألحان الشجية، والنغمات المطربة"(119).
وم الحيل الطبية التي ذاع صيتها قديما حيلة اللجوء إلى حشيشة السلحفاة التي قيل عنها أنها تستخدم في خلب نفوس الأحباء، وكسب محبتهم. يقول الجوبري في كتابه"المختار في كشف الأسرار": "ومنهم من يتكلم على حشيشة السلحفاة، وأنها تنفع في المحبة والعطف وجلب القلوب. وقد كشفت عن هذه الحشيشة، فوجدت لها فعلا عظيما في هذا المعنى، إلا أن هذه الحشيشة لا يقدر عليها، إلا من رصد فحل السلحفاة حين هيجانه، فإنه إذا هاج، طلب الأنثى، فإذا جاء غليها، تمتنع منه وتدافعه. فإذا يئس منها، ذهب إلى هذه الحشيشة، وقطعها، ثم أتى فوضعها على ظهرها. فإذا وضعها، طاعت له، ثم يرمي الحشيشة، فإذا أخذها الذي قد رصدها، فإنها نافعة. واعلم أنه لا يؤخذ من الحشيشة إلا فرد ورقة، وهي التي يأخذها الفحل، وما سواها، فلا يساوي شيئا…"(120). ونكتفي بهذه المنتخبات من الحيل الطبية التي اخترناها من كتب القدماء، ومؤلفات مؤرخي الطب العربي، ومن أراد الاستزادة، فليرجع إلى أعمال ابن أبي أصيبعة، والقفطي، وابن جلجل، وإسحاق بن حنين، وابن بطلان، وابن رضوان، وغيرهم من أطباء العرب، وحكماء المسلمين.


12 - الخلاصة


الحيلة هي ثمرة العقل، ووليدة الحذق، وحصيلة جودة النظر وحسن التصرف. وهي لذلك مستحسنة، غير مستقبحة، عند العقلاء، وأهل العلم، مذمومة، غير مرغوب فيها، عند أهل الجهل والجمود. وقد كان طبيعيا أن يمتدح أصحاب أبي حنيفة الحيلة، ويستخدموها، لأنهم كانوا من بين أصحاب المذاهب الفقهية الأخرى، كالمعتزلة بين أصحاب المذاهب العقائدية المختلفة. ولم يكن يستغربا أن يتوسع الحنفية في استعمال الحيل الفقهية، لأنهم توسعوا في القياس، وآمنوا بالتحسين والتقبيح العقليين، ورفعوا من قيمة العقل. ومن يرفع من قيمة العقل، لا بد أن يرفع من قدر الحيلة، ويعرف قيمتها، لأنها نتاج العقول، وثمرة الذكاء. أما أعداء الحيلة، فكانوا في الغالب يقللون من قيمة العقل الذي هو أعظم مخلوقات الله تعالى. وقوم لا يعرفون قيمة العقل، ولا يعترفون بمحاسنه، لا بد أن يجهلوا مزايا الحيلة التي هي وليدة العقل، ويعجزوا عن إدراك فضائلها. والحيلة يقل استعمالها عند المتواكلين الذين لا يثبتون للإنسان أي فعل أو قدرة على الفعل، وينسبون الخير والشر إلى البارئ، تعالى الله عن جهلهم تعاليا كبيرا. فالمتوكل يرفض استخدام عقله، وإعمال فكره، وهو بالتالي لا يعرف قدر الحيلة، ومحاسنها. وقد هاجم الرهاوي السلوك التواكلي عند بعض المرضى هجوما عنيفا. والحيلة في السياسة لا تتفق مع الشدة والعنف والجعجعة الجوفاء، بل إنها في أحيان كثيرة تتعارض مع الشدة. وقد رأينا في السطور السابقة كيف أن معاوية، الذي كان يسمى الخليفة المداهن لحنكته وحيلته، كان من أكثر العرب حلما وتسامحا وبعدا عن الشدة. واستخراج الحيلة يحتاج إلى عقل متفتح، بعيد عن التزمت، لا يقف عند ظاهر النصوص وحروفها، بل يتعدى ذلك إلى المعاني المقصودة، والمقاصد المنشودة. أصحاب الحيلة هم، باختصار، أصحاب العقل، وأهل العلم. وأعداء الحيلة هو أهل الجهل، وأصحاب الجمود.


الهوامش




1 - أنظر المقدمة الأملاني التي كتبها يوسف شاخت لكتاب الحيل في الفقه، للقزويني، تحقيق شاخت، هانوفر 1924.
2 - أنظر أحمد يوسف الحسن، مقدمة كتاب الحيل، لبني موسى، تحقيق أحمد يوسف الحسن، جامعة حلب 1981، ص 56 وما بعدها.
3 - نفسه، ص 56 من المقدمة. أنظر كذلك: الخوارزمي، مفاتيح العلوم، القاهرة 1342هـ، ص 141، عمر فروخ، تاريخ العلوم عند العرب، بيروت 1984، ص 216 وما بعدها.
4 - أنظر كتاب السياسة والحيلة عند العرب، وهو لمؤلف مجهول، تحقيق رنيه خوام، لندن 1988،ص 25.
5 - نفسه، ص 6
6 - نفسه، ص 23
7 - الماوردي، تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك وسياسة الملك، تحقيق رضوان السيد، بيروت 1987، ص 256.
8 - المرادي، الإشارة إلى أدب الإمارة، تحقيق رضوان السيد، بيروت 1981، ص 229
9 - ابن مسكويه، الحكمة الخالدة، تحقيق عبد الرحمن بدوي، القاهرة 1952، ص 9
10 - الماوردي، تسهيل النظر وتعجيل الظفر، ص280
11 - الطرطوسي، سراج الملوك، تحقيق جعفر البياتي، لندن 1990، ص 216 وما بعدها.
12 - السياسة والحيلة عند العرب، ص 24
13 - أنظر: ابن النديم، الفهرست، طبعة دار المعرفة، بيروت 1978، ص403
14 - الرهاوي، أدب الطبيب، مخطوطة طبية من القرن الثالث الهجري، نشرها فؤاد سزكين بالتصوير، فرانكفورت 1985، ص202
15 - ابن منظور، لسان العرب، تحقيق عبد الله علي الكبير، ومحمد أحمد حسب الله، وهاشم محمد الشاذلي، طبعة دار المعارف، القاهرة 1981، ص 1055
16 - نفسه، ص 1055
17 - نفسه، ص 1055
18 - نفسه، ص 1055
19 - نفسه، ص 1055.
20 - أنظر: السياسة والحيلة عند العرب، ص 25. أنظر أيضا الطرطوشي، سراج الملوك، ص 500
21 - السياسة والحيلة عند العرب، ص 23
22 - الدميري، حياة الحيوان الكبرى، بيروت د.ت.، المجلد الأول، ص 360
23 - نفسه، ص 363
24 - بيدبا الفيلسوف الهندي، كليلة ودمنة، ترجمة ابن المقفع، بيروت د.ت.، ص 154 وما بعدها
25 - حياة الحيوان الكبرى،م1، ص 175
26 - الجاحظ، كتاب الحيوان، تحقيق عبد السلام هارون، القاهرة 1965، م6، ص 312. أنظر أيضا الدميري، م 1، ص 175.
27 - الجاحظ، الحيوان، م6، ص 313. الدميري، م1، ص 175
28 - السياسة والحيلة عند العرب، ص 23
29 - نفسه، ص 23.
30 - نفسه، ص 23
31 - أنظر:S. 23f. SIgnaz Goldziher, Vorlesungen ueber den Islam, heidelberg 1910,
الترجمة العربية: ايجناتس جولد تسيهر، العقيدة والشريعة في الإسلام، ترجمة محمد يوسف موسى، وعبد العزيز عبد الحق، وعلي حسن عبد القادر، القاهرة 1946، ص 29.
32 - السياسة والحيلة عند العرب، ص7
33 - نفسه، ص 27
34 - ابن مسكويه، تهذيب الأخلاق وتطهر الأعراق، تحقيق وشرح ابن الخطيب، القاهرة 1398هـ، ص 216
35 - ابن قتيبة، عيون الأخبار، القاهرة 1925، م1، ج2، ص 53
36 - سراج الملوك، ص 75
37 - علي حسب الله، أصول التشريع الإسلامي، دار المعارف، القاهرة 1985، ص 322 وما بعدها
38 -
39 - الغزالي، إحياء علوم الدين، القاهرة د.ت.، م 3، ص 127 وما بعدها.
40 - السياسة والحيلة عند العرب، ص 91. إحياء علوم الدين، م3، ص 129
41 - على حسب الله، أصول التشريع الإسلامي، ص 323
42 - السياسة والحيلة عند العرب، ص 90
43 - نفسه، ص 110 وما بعدها
44 - نفسه، ص 113
45 - أنظر: تاريخ الطبري، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة 1979، م5، ص 48 وما بعده. أنظر أيضا المسعودي، مروج الذهب، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة 1973، م2، ص 400 وما بعدها
46 - السياسة والحيلة عند العرب، ص 103
47 - مروج الذهب، م2، ص 401، تاريخ الطبري، م5، ص 48 وما بعدها
48 - ابن عبد ربه، العقد الفريد، بيروت د.ت.، م3، ص 224
49 - نفسه، م3، ص 225
50 - سراج الملوك، ص 215
51 - ابن خلكان، وفيات الأعيان، تحقيق إحسان عباس، بيروت 1977، م7، ص 214
52 - تاريخ الطبري، م5، ص 33
53 - وفيات الأعيان، م7، ص 215
54 - تاريخ الطبري، م5، ص 331
55 - سراج الملوك، ص 355
56 - نفسه، ص 259. تاريخ الطبري، م5، ص 336
57 - سراج الملوك، ص 213
58 - الجاحظ، البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام هارون، القاهرة 1975، م2، ص 28
59 - سراج الملوك، ص 213
60 - تاريخ الطبري، م5، ص 336
61 - ابن قتيبة، عيون الأخبار، القاهرة 1925، م1، ج1، ص 202
62 - نفسه، م1، ج1، ص 200
63 - مروج الذهب، م2، ص 400. تاريخ الطبري، م5، ص 48
64 - مروج الذهب، م2، ص 411 وما بعدها
65 - تاريخ الطبري، م5، ص 33 وما بعدها
66 - مروج الذهب، م2، ص 496 وما بعده. تاريخ الطبري، م5، ص 42
67 - مروج الذهب، م 2، ص 397
68 - نفسه، ص 27
69 - نفسه، م2، ص 427 وما بعده. تاريخ الطبري، م5، ص 149.
70 - سراج الملوك، ص 215. عيون الأخبار، م1، ج1، ص 116
71 - حميد موراني، تاريخ العلوم عند العرب، بيروت 1979، ص 65. أنظر أيضا: عمر فروخ، تاريخ العلوم عند العرب، ص 225 وما بعدها، وعمر كحالة، العلوم البحتة في العصور الإسلامية، دمشق 1972، ص 116 وما بعدها
72 - حميد موراني، ص 65. أنظر ايضا: أحمد يوسف الحسن، مقدمة كتاب الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل للجزري، جامعة حلب، حلب 1979، ص 49 وما بعدها، وعمر كحالة، العلوم البحتة في العصور الإسلامية، ص 220
73 - فيلون، كتاب الحيل الروحانية ومخانيق الماء، نشر كارا دي فو ، باريس 1903، ص 17
74 - أحمد يوسف الحسن، مقدمة كتاب الحيل لبني موسى، جامعة حلب، حلب 1981، ص 58
75 - وفيات الأعيان، م5، ص 162. أحمد يوسف الحسن، مقدمة كتاب الحيل لبني موسى، ص 31
76 - أحمد يوسف الحسن، مقدمة كتاب الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل، ص 49
77 - أنظر هيل، الترجمة الانجليزية لكتاب الحيل لبني موسى: Donald R.Hill, The Book of Ingenious Devices, Dordrecht 1979, p. 251.
78 - أنظر أحمد يوسف الحسن، مقدمة كتاب الحيل لبني موسى، ص 57
79 - أنظر ماجد عبد الله شمس، مقدمة لعلم الميكانيك العربي، جامعة بغداد، بغداد 1977.
80 - مقدمة كتاب الحيل لبني موسى، ص 64
81 - أنظر كتاب الحيل لبني موسى، ص 376 وما بعدها
82 - أنظر مقدمة كتاب الجامع بين العلم والعمل النافع، ص 49 وما بعدها
83 - الدميري، حياة الحيوان الكبرى، م1، ص 140. ابن عبد ربه، العقد الفريد، م3، ص 192. أنظر مهاجمة محمد الغزالي لأهل الجهل ممن يحرمون الغناء والاستماع، في :محمد الغزالي، السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث، القاهرة 1991، ص 71 وما بعدها.
84 - أحمد أمين، ضحى الإسلام، بيروت د.ت.، م2، ص 179
85 - نفسه، م2، ص 189
86 - الجاحظ، كتاب الحيوان، تحقيق عبد السلام هارون، القاهرة 1965، م3، ص18
87 - أنظر فؤاد سزكين، تاريخ التراث العربي، الأصل الألماني: Fuat sezgin, geschichte des arabischen schrifttums, leiden 1967, bd. 1, s. 421.
الترجمة العربية بقلم محمود فهمي حجازي، ومراجعة عرفة مصطفى وسعيد عبد الرحيم، جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض 1983، المجلد الأول، الجزء الثالث، ص 54 وما بعدها.
88 - أنظر سزكين، الأصل الألماني، م1، ص 431. الترجمة العربية، م1، ج3، ص 73
89 - أنظر شاخت، مقدمة كتاب المخارج في الحيل للشيباني، طبعة لا يبتزج 1930
90 - أنظر الهامش رقم 87 أعلاه
91 - شاخت، مقدمته لكتاب الحيل في الفقه للقزويني، هانوفر 1924
92 - أنظر ابن قيم الجوزية، اعلام الموقعين عن رب العالمين، تحقيق طه عبد الرءوف سعد، بيروت د.ت.، ج3، ص 159 وما بعدها
93 - أنظر الحسيني، طبقات الشافعية بيروت 1979، ص 145 وما بعدها. أنظر أيضا ابن عساكر، تبيين كذب المفتري، بيروت 1983، ص 260
94 - شاخت، مقدمة كتاب الحيل في الفقه للقزويني، مرجع سابق
95 - أنظر أحمد أمين، ضحى الإسلام، ح3، ص71
96 - أحمد أمين، ضحى الإسلام، م2، ص 154 وما بعدها
97 - السياسة والحيلة عند العرب، ص 203 وما بعدها
98 - ابن قيم، اعلام الموقعين، ج4، ص 16
99 - أحمد أمين، ضحى الإسلام، م2، ص 1919 وما بعدها
100 - السياسة والحيلة عند العرب، ص 215 وما بعدها
101 - أحمد أمين، ضحى الإسلام،م2، ص 192
102 - السياسة والحيلة عند العرب، ص 199
103 - أبوزهرة، أبو حنيفة، القاهرة 1977، ص 427
104 - الرهاوي، أدب الطبيب، ص 204
105 - نفسه، ص 209
106 - أمين اسعد خير الله، الطب العربي، ترجمة مصطفى أبو عز الدين، بيروت 1946، ص 121. أنظر ايضا حنيفة الخطيب، الطب عند العرب، بيروت 1986، ص 255 وما بعدها
107 - ابن أبي أصبيعة، عيون الأنباء في طبقات الأطباء، بيروت د.ت.، ص 374 وما بعدها
108 - الرهاوي، أدب الطبيب، ص 175 وما بعدها
109 - خير الله، الطب العربي، ص 126
110 - الحكيم راجي عباس التكريتي، طرائف الأطباء، بيروت 1984، ص 315
111 - الرهاوي، أدب الطبيب، ص 175
112 - ابن أبي أصيبعة، ص 187. حنيفة الخطيب، الطب عند العرب، ص 239 وما بعدها
113 - حنيفة الخطيب،الطب عند العرب، ص 238
114 - خير الله، الطب العربي، ص 120 وما بعدها. القفطي، إخبار العلماء بأخبار الحكماء، بيروت د.ت.، ص 94. ابن أبي أصيبعة، ص 188
115 - أدب الطبيب، ص 163 وما بعدها. ترجم المستشرق الألماني يوحنا كريستوف بيرجل هذه الرواية إلى الألمانية في كتابه:
J.C. Buergel, Allmacht und maechtigkeit, muenchen 1991, S. 171 f.
116 - حنيفة الخطيب، الطب عند العرب، ص 254
117 - خير الله، الطب العربي، ص 991. ابن أبي أصيبعة، ص 558
118 - ابن أبي أصيبعة، ص 290. حنيفة الخطيب، الطب عند العرب، ص 257
119 - حنيفة الخطيب، الطب عند العرب، ص 256 وما بعدها
120 - نفسه، ص 332

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق