الجمعة، 8 فبراير 2013

الاعلام الكذوب وضحاياه

الموضوعيّة قناع تضعه الذاتيّة على وجهها لممارسة الخداع، وما يسمح لها بذلك هو انّها تستخدم قناعاً جلديّ اللون وكأنّه بشرة طبيعية فيضيع الإنسان ولا يعود يعرف ما إذا كان يتعامل مع الوجه أو مع القناع!
ولعلّ أكثر الناس موضوعيّة، في الحياة، هم الذين ينكرون، بكلّ بساطة، وجودها أو، في الأقلّ، يقلّصون من نفوذها المسموم. وفي هذا المجال قول لـ"رولان بارت" Roland BARTHES وهو من ألمع الشخصيّات الثقافيّة التي عرفتها فرنسا في القرن العشرين ولا سيّما في ميدان النقد الأدبيّ والسيميائي، أي دراسة دلالات كلّ المظاهر الاجتماعيّة والانسانية الظاهرة أو المضمرة، وله عبارة مأثورة يقول فيها:" كلّ شيء دالّ"، أي ان الاشياء، كلّ الاشياء، لا تختلف عن الألفاظ من حيث قدرتها على توصيل رسائل. كان هذا الناقد اللامع يقول بالحرف الواحد" إنّ الموضوعيّة ذاتيّة مقنّعة", أي انه كان يعلن بصراحة أنّ تفكيك عناصر الموضوعيّة يحيل إلى مجموعة من الذاتيّات تلبس لباس الموضوعيّة. ومن هذا الباب يلج الخداع المتواري خلف نزاهتها أو عقلانيّتها المعلنة.
ومن هنا، فإنّ الإعلام الموضوعيّ, منطوقاً ومكتوباً ومرئيّاً, وهم من الأوهام، وخطورته تكمن في احتمال إيمان المشاهد أو القارىء بصدقيّته, وبراءته, وطيبة قلبه. إذ كلّ تصديق قد يعرّض مشاهد شاشة التلفزيون" السحريّة" لضياع البوصلة، وذهاب القدرة على الفصل بين الحقيقة والوهم. الإعلام محا السطر النحيل الشفّاف، أصلاً، والذي يفصل بين الوهم والحقيقة بقلمه السحريّ وصورته الملوّنة, المتلّونة, الفتّاكة التي يلعب زهوها الآسر بالأذهان. الإعلام ساحر( يمكن هنا، على سبيل المثال، بناء علاقة بين الإعلام الساحر والشاعر القديم "ساحر" القبيلة- ان من البيان لسحرا- والوظيفة الاعلامية التي كان يقوم بها الشاعر القديم، وعليه ألا يمكن القول:" وإنّ من الإعلام لسحراً؟"). أهمّ خاصيّة في السحر هو أنّه يريك المعدوم في هيأة الموجود, والميت في صورة الحيّ, واللامعقول في زيّ المعقول والخطأ في حلّة الصواب.
وعليه، لا بدّ من أن يأخذ المرء حذره في تعامله مع " روموت كونترول" الإعلام أو جهاز التحكّم الذي نظنّ أننا نتحكّم به، وهو, في الحقيقة, جهاز لعين وخبيث يتحكّم بنا, من تحت لتحت, لكنّه يقنعنا أنّنا أحرارٌ وأسياده وأنّ أزراره تحت سطوة أصابعنا. وهم جميل يصعب علينا ان نتخلّى عنه. وأحيل، هنا، إلى كتاب العالم الاجتماعيّ بيار بورديو Pierre BOURDIEU وعنوانه Sur la télévision ,suivi de l’emprise du journalisme لتبيان كيف يتحوّل المشاهد الى لعبة في يد الـ"روموت كنترول".
يقال إن الإعلام هو السلطة الرابعة, ربّما كان الأمر كذلك فيما مضى, إلاّ أنّه يتسلّل, اليوم, كاللصّ على أطراف أصابعه المتعددة الوسائط, ليتحوّل إلى السلطة الأولى بل إلى السلطان الأعلى واللاعب اللعوب. هل ثمة مهارة أبرع من ان تعرض على المرء وهماً فيراه حقيقة ناصعة البياض بلحمها وشحمها وعظمها؟
ان الإعلام يمتلك الكلمة امتلاكه للصورة أي انّه يمتلك أداتين من أشدّ أدوات الخداع والتمويه فتكاً بالعين والأذن. فالكلمة مخادعة, مراوغة, لسانها مزدوج ومشقوق كلسان الأفعى, تستخذم الكنايات والتوريات والمجازات والاستعارات وكلّها ألاعيب لغوية لا تحمد، دائماً، عقباها. تاريخ الحقيقة والمجاز لا يخلو من صفحات دامية لدى كلّ الحضارات. بل يذهب البعض إلى القول بأن "اللغة وجدت لخداع الآخرين"، وهذا ما يقوله ابن مسرّة الصوفيّ الأندلسي في عبارة مذهلة وهي ان الإنسان يستعمل اللسان " لتمويه الألفاظ وإخفاء المعاني". والصورة ليست اقلّ خداعاً من الكلمة بل إنّها تعادل- بحسب ما يقول الصينيون- ألف كلمة, أي أنّ قدرتها على الخداع أضعافُ أضعافِ قدرةِ الكلمة الضعيفة، والقاصرة.
الكلمة صنعت لنا في الماضي طاقيّة الإخفاء وبساط الريح والأحصنة المجنّحة والفانوس السحريّ, أمّا الصورة فإنها أرتنا الإنسان يطير في الجوّ كالعصافير, وأرتنا الديناصورات تسرح وتمرح فوق سطح الكرة الأرضية وتتجوّل في شوارع العواصم الصاخبة وكأنها من حيوانات القرن الحادي والعشرين. وهذا يعني ان الصورة والكلمة قادرتان على اللعب بنا قدرتهما على صناعة "حقيقة افتراضية" تدفعنا إلى العيش في تجاويفها اللزجة وأحشائها المظلمة. ألا يوجد، اليوم، أناس يعيشون في واقع افتراضيّ يحرمهم من العيش في "الواقع الحقيقي" والمتعة الحقيقية؟
هذا ما حصل للمواطن الأمريكي "جون ديفيس"، وهو عيّنة فاقعة وفاجعة عن أشباه له قد لا تراهم العين أو تلقطهم عدسات التصوير. التبست على الرجل الأمريكيّ الأمور التباساً مرعباً ‏فسقط ضحيّة إرهاب الإيهام الذي يبرع فيه الإعلام براعة قاتلة. وما أكثر ضحايا الإعلام في العالم, خصوصاً ‏أولئك الذين يظنون انّ شاشة التلفاز أو ورق الصحف امتداد طبيعي للمرآة الأسطوريّة الصادقة! ‏فالمواطن الأمريكي، بحسب ما ورد في جريدة "لوس انجلوس تايمز" في عددها الصادر في 11/6/2001, كان يصدّق الإعلام, ويضع قوله بمَنزلة الحقائق المُنزلة. كان يعتبر الأخبار التي يبثّها التلفزيون صادقة, ‏تنقل الحقيقة, ونسي أو لم يخطر بباله أنّ الإعلام لا يقول الحقيقة إلاّ عرضاً أو مضضاً( وكلّ إعلام ينقل الحقيقة هو إمّا إعلام ضعيف ليس له تأثير أو إعلام يكذب من أوّل الخطّ) ولعلّ هذا ما يشكّل إيديولوجيّته الخفيّة. إنّ "جون ديفيس" كان ولوعاً بسماع الأخبار ومتابعة الأحداث, ولقد صدّق ما كان يقوله الإعلام عن صدّام حسين وخطره على العالم وامتلاكه لأسلحة الدمار الشامل التي لا تترك حجراً على حجر, ولذا قرّر الاختباء، من أسلحة صدّام الفتّاكة، في أحد كهوف جنوب كاليفورنيا, وأخذ معه أولاده وزوجته, حيث عاشوا في الكهف عشر سنوات بعيداً عن أعين الناس وقد أحاط نفسه وعائلته، زيادة في الحيطة، بسياج من الشجر يخفي مداخل الكهف وخارجه, وامتنع عن الاتصال بالحياة المدنية حارماً نفسه وعائلته من كلّ ضروريات الحياة الصحّية والمعاشيّة, لخوفه الشديد من صدّام حسين وتصوّره أنّه سيأتي إلى كاليفورنيا في أقصى غرب أميركا ويفتك بالناس هناك. لقد حدث هذا بعد حرب الكويت عام 1991 واستمرّ حتى منتصف العام 2001, حيث اكتشف البوليس بالمصادفة الأمر وتمّ إنقاذ العائلة من هذا الوهم الشرس والرعب الذي افترس عشر سنوات من عمر جون ديفيس وعائلته. إنّ هذا المواطن الأمريكي كان ضحيّة إعلاميّة بامتياز. لقد صدّق ما قاله خبراء "الإرهاب" ورؤساء العالم" الحرّ" والمحلّلون "الموضوعيّون" الذين لا يحبّذون ممارسة الكذب!
هذا ما جرى في دولة تفتخر بإنجازاتها العلميّة والتكنولوجيّة والعسكريّة كما لا تنسى أن تفتخر باستضافتها على شاطئ محيطها " الحرّيّة" التي أضحت "تمثالاً"!
أحيانا أتساءل كم نسخة من "جون ديفيس" موجودة في رحاب الوطن يعيشون ضحايا إعلام يتقن سحر الإيهام ويتقن ببراعة مميتة تمويه صورتك في المرآة؟
الله أعلم, والموهومون لا يعلمون

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق