كتبهابلال عبد الهادي ، في 18 نيسان 2012 الساعة: 13:43 م
أدام الله لك السلامة، وأسعدك بالنعمة، وختم لك بالسعادة،
وجعلك من الفائزين.
فهمت كتاب صاحبك، ووقفت منه على تعد في القول، وحيف في الحكم؛
وسمعت قوله. وهو على كل حال حائر، وطريقه طريقهم، وكتبه تشاكل كتبهم، وألفاظه تطابق
ألفاظهم.
وكذلك حالنا وحال صاحب كتابك فيما يسخطه من أمرنا، أني لا أعتذر منه، وأستنكف من الانتساب إليه، بل أستحي من الكتابة، وأستنكف بأن أنسب إليها من البلاغة أن أعرف بها في غير موضعها، ومن السجع أن يظهر مني، ومن الصنعة أن تعرف في كتبي، ومن العجب بكثير ما يكون مني.
وقديماً كره ذلك أهل المروءة والأنفة، وأهل الاختيار للصواب والصد عن الخطأ. حتى إن معاوية مع تخلفه عن مراتب أهل السابقة، أملى كتاباً إلى رجل فقال فيه: " لهو أهون علي من ذرة، أو كلب من كلاب الحرة " ثم قال: " امح: من كلاب الحرة، واكتب: من الكلاب " . كأنه كره اتصال الكلام والمزاوجة وما أشبه السجع، وأري أنه ليس في موضعه.فصل منه
وهذا الكلام لا يزال ينجم من حشوة أتباع السلطان. فأما عليتهم ومصاصهم، وذوو البصائر والتمييز منهم، ومن فتقته الفطنة، وأرهفه التأديب، وأرهقه طول الفكر وجرى فيه الحياء وأحكمته التجارب، فعرف العواقب وأحكم التفصيل وتبطن غوامض التحصيل، فإنهم يعترفون بفضيلة التجار ويتمنون حالهم، ويحكمون لهم بالسلامة في الدين، وطيب الطعمة، ويعلمون أنهم أودع الناس بدناً وأهنؤهم عيشاً، وآمنهم سرباً، لأنهم في أفنيتهم كالملوك على أسرتهم، يرغب إليهم أهل الحاجات، وينزع إليهم ملتمسو البياعات، لا تلحقهم الذلة في مكاسبهم، ولا يستعبدهم الضرع لمعاملاتهم.
وليس هكذا من لابس السلطان بنفسه، وقاربه بخدمته؛ فإن أولئك لباسهم الذلة، وشعارهم الملق، وقلوبهم ممن هم لهم خول مملوءة، قد لبسها الرعب، وألفها الذل، وصحبها ترقب الاحتياج؛ فهم مع هذا في تكدير وتنغيص، خوفاً من سطوة الرئيس وتنكيل الصاحب، وتغيير الدول، واعتراض حلول المحن. فإن هي حلت بهم، وكثيراً ما تحل، فناهيك بهم مرحومين يرق لهم الأعداء فضلاً عن الأولياء.
فكيف لا يميز بين من هذا ثمرة اختياره وغاية تحصيله، وبين من قد نال الرفاهية والدعة، وسلم من البوائق، مع كثرة الإثراء وقضاء اللذات، من غير منة لأحد، ولا منة يعتد بها رئيس ومن هو من نعم المفضلين خلي، وبين من قد استرقه المعروف، واستعبده الطمع، ولزمه ثقل الصنيعة، وطوق عنقه الامتنان، واسترهن بتحمل الشكر.
فصل منها
وقد علم المسلمون أن خيرة الله تعالى من خلقه، وصفيه من عباده، والمؤتمن على وحيه، من أهل بيت التجارة، وهي معولهم وعليها معتمدهم، وهي صناعة سلفهم، وسيرة خلفهم.
ولقد بلغتك بسالتهم، ووصفت لك جلادتهم، ونعتت لك أحلامهم، وتقرر لك سخاؤهم وضيافتهم، وبذلهم ومواساتهم. وبالتجارة كانوا يعرفون. ولذلك قالت كاهنة اليمن " لله در الديار لقريش التجار " .
وليس قولهم: قرشي لقولهم: هاشمي، وزهري وتيمي؛ لأنه لم يكن لهم أب يسمى قريشاً فينتسبون إليه، ولكنه اسم اشتق لهم من التجارة والتقريش، فهو أفخم أسمائهم وأشرف أنسابهم، وهو الاسم الذي نوه الله تعالى به في كتابه، وخصهم به في محكم وحيه وتنزيله، فجعله قرآناً عربياً يتلى في المساجد، ويكتب في المصاحف، ويجهر به في الفرائض، وحظوة على الحبيب والخالص.
ولهم سوق عكاظ، وفيهم يقول أبو ذؤيب:
إذا ضربوا القباب على عكاظ … وقام البيع واجتمع الألوف
وقد غبر النبي صلى الله عليه وسلم برهة من دهره تاجراً، وشخص فيه مسافراً، وباع واشترى حاضراً، والله أعلم حيث يجعل رسالته.
ولم يقسم الله مذهباً رضياً، ولا خلقاً زكياً ولا عملاً مرضياً إلا وحظه منه أوفر الحظوظ، وقسمه فيه أجزل الأقسام.
ولشهرة أمره في البيع والشراء قال المشركون: " ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق " ، فأوحى الله إليه: " وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق " . فأخبر أن الأنبياء قبله كانت لهم صناعات وتجارات.
فصل منه
وإن الذي دعا صاحبك إلى ذم التجارة توهمه بقلة تحصيله، أنها تنقص من العلم والأدب وتقتطع دونهما وتمنع منهما. فأي صنف من العلم لم يبلغ التجار فيه غاية، أو يأخذوا منه بنصيب، أو يكونوا رؤساء أهله وعليتهم؟ !
وكذلك حالنا وحال صاحب كتابك فيما يسخطه من أمرنا، أني لا أعتذر منه، وأستنكف من الانتساب إليه، بل أستحي من الكتابة، وأستنكف بأن أنسب إليها من البلاغة أن أعرف بها في غير موضعها، ومن السجع أن يظهر مني، ومن الصنعة أن تعرف في كتبي، ومن العجب بكثير ما يكون مني.
وقديماً كره ذلك أهل المروءة والأنفة، وأهل الاختيار للصواب والصد عن الخطأ. حتى إن معاوية مع تخلفه عن مراتب أهل السابقة، أملى كتاباً إلى رجل فقال فيه: " لهو أهون علي من ذرة، أو كلب من كلاب الحرة " ثم قال: " امح: من كلاب الحرة، واكتب: من الكلاب " . كأنه كره اتصال الكلام والمزاوجة وما أشبه السجع، وأري أنه ليس في موضعه.فصل منه
وهذا الكلام لا يزال ينجم من حشوة أتباع السلطان. فأما عليتهم ومصاصهم، وذوو البصائر والتمييز منهم، ومن فتقته الفطنة، وأرهفه التأديب، وأرهقه طول الفكر وجرى فيه الحياء وأحكمته التجارب، فعرف العواقب وأحكم التفصيل وتبطن غوامض التحصيل، فإنهم يعترفون بفضيلة التجار ويتمنون حالهم، ويحكمون لهم بالسلامة في الدين، وطيب الطعمة، ويعلمون أنهم أودع الناس بدناً وأهنؤهم عيشاً، وآمنهم سرباً، لأنهم في أفنيتهم كالملوك على أسرتهم، يرغب إليهم أهل الحاجات، وينزع إليهم ملتمسو البياعات، لا تلحقهم الذلة في مكاسبهم، ولا يستعبدهم الضرع لمعاملاتهم.
وليس هكذا من لابس السلطان بنفسه، وقاربه بخدمته؛ فإن أولئك لباسهم الذلة، وشعارهم الملق، وقلوبهم ممن هم لهم خول مملوءة، قد لبسها الرعب، وألفها الذل، وصحبها ترقب الاحتياج؛ فهم مع هذا في تكدير وتنغيص، خوفاً من سطوة الرئيس وتنكيل الصاحب، وتغيير الدول، واعتراض حلول المحن. فإن هي حلت بهم، وكثيراً ما تحل، فناهيك بهم مرحومين يرق لهم الأعداء فضلاً عن الأولياء.
فكيف لا يميز بين من هذا ثمرة اختياره وغاية تحصيله، وبين من قد نال الرفاهية والدعة، وسلم من البوائق، مع كثرة الإثراء وقضاء اللذات، من غير منة لأحد، ولا منة يعتد بها رئيس ومن هو من نعم المفضلين خلي، وبين من قد استرقه المعروف، واستعبده الطمع، ولزمه ثقل الصنيعة، وطوق عنقه الامتنان، واسترهن بتحمل الشكر.
فصل منها
وقد علم المسلمون أن خيرة الله تعالى من خلقه، وصفيه من عباده، والمؤتمن على وحيه، من أهل بيت التجارة، وهي معولهم وعليها معتمدهم، وهي صناعة سلفهم، وسيرة خلفهم.
ولقد بلغتك بسالتهم، ووصفت لك جلادتهم، ونعتت لك أحلامهم، وتقرر لك سخاؤهم وضيافتهم، وبذلهم ومواساتهم. وبالتجارة كانوا يعرفون. ولذلك قالت كاهنة اليمن " لله در الديار لقريش التجار " .
وليس قولهم: قرشي لقولهم: هاشمي، وزهري وتيمي؛ لأنه لم يكن لهم أب يسمى قريشاً فينتسبون إليه، ولكنه اسم اشتق لهم من التجارة والتقريش، فهو أفخم أسمائهم وأشرف أنسابهم، وهو الاسم الذي نوه الله تعالى به في كتابه، وخصهم به في محكم وحيه وتنزيله، فجعله قرآناً عربياً يتلى في المساجد، ويكتب في المصاحف، ويجهر به في الفرائض، وحظوة على الحبيب والخالص.
ولهم سوق عكاظ، وفيهم يقول أبو ذؤيب:
إذا ضربوا القباب على عكاظ … وقام البيع واجتمع الألوف
وقد غبر النبي صلى الله عليه وسلم برهة من دهره تاجراً، وشخص فيه مسافراً، وباع واشترى حاضراً، والله أعلم حيث يجعل رسالته.
ولم يقسم الله مذهباً رضياً، ولا خلقاً زكياً ولا عملاً مرضياً إلا وحظه منه أوفر الحظوظ، وقسمه فيه أجزل الأقسام.
ولشهرة أمره في البيع والشراء قال المشركون: " ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق " ، فأوحى الله إليه: " وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق " . فأخبر أن الأنبياء قبله كانت لهم صناعات وتجارات.
فصل منه
وإن الذي دعا صاحبك إلى ذم التجارة توهمه بقلة تحصيله، أنها تنقص من العلم والأدب وتقتطع دونهما وتمنع منهما. فأي صنف من العلم لم يبلغ التجار فيه غاية، أو يأخذوا منه بنصيب، أو يكونوا رؤساء أهله وعليتهم؟ !
هل كان في التابعين أعلم من سعيد بن المسيب أو أنبل؟ وقد كان
تاجراً يبيع ويشتري، وهو الذي يقول: ما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله ولا
أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي - رضوان الله عليهم - قضاءً إلا وقد
علمته.
وكان أعبر الناس للرؤيا وأعلمهم بأنساب قريش. وهو من كان يفتي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم متوافرون. وله بعد علم بأخبار الجاهلية والإسلام، مع خشوعه وشدة اجتهاده وعبادته، وأمره بالمعروف، وجلالته في أعين الخلفاء، وتقدمه على الجبارين.
ومحمد بن سيرين في فقهه وورعه وطهارته.
ومسلم بن يسار في علمه وعبادته، واشتغاله بطاعة ربه.
وأيوب السختياني، ويونس بن عبيد، في فضلهما وورعهما.
وكان أعبر الناس للرؤيا وأعلمهم بأنساب قريش. وهو من كان يفتي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم متوافرون. وله بعد علم بأخبار الجاهلية والإسلام، مع خشوعه وشدة اجتهاده وعبادته، وأمره بالمعروف، وجلالته في أعين الخلفاء، وتقدمه على الجبارين.
ومحمد بن سيرين في فقهه وورعه وطهارته.
ومسلم بن يسار في علمه وعبادته، واشتغاله بطاعة ربه.
وأيوب السختياني، ويونس بن عبيد، في فضلهما وورعهما.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق