كتبهابلال عبد الهادي ، في 1 أيار 2011 الساعة: 15:38 م
الباب الثاني في الحكايات والأخبار ذوات الأشعار
كان أحمد بن المدبر، إذا مدحه أحد، ولم يرض بشعره، قال لغلامه: امض به إلى المسجد، ولا تفارقه حتى يصلي مائة ركعة، ثم خله، فتحاماه الشعراء إلا الأفراد المجيدون، فجاءه الحسين بن عبد السلام الضرير المعروف بالجمل، فاستأذنه في الإنشاد فقال له: أعرفت الشرط? قال: نعم، وأنشد:أردنا في أبي حسن مديحـا | كما بالمدح تنتجع الـولاة | |
فقلنا: أكرم الثقلـين طـراً | ومن كفاه دجلة والفـرات | |
فقالوا: يقبل المدحات لكـن | جوائزه عليهن الـصـلاة | |
فقلت لهم: وما تغني صلاتي | عيالي، إنما الشأن الزكـاة | |
فأما إذ أبـى إلا صـلاتـي | وعاقتني الهموم الشاغلات | |
فيأمر لي بكسر الصاد منها | لعلي أن تنشطني
الصلات |
لم أبك في مجلس منصور | شوقاً إلى الجنة والحور | |
لكن بكائي، لبكـا شـادن | تقيه نفسي كل محـذور | |
تنتسب الألسن في وصفه | إلى مدى عجز وتقصير |
خلياني والمعـاصـي | ودعا ذكر القصاص | |
واسقياني الخمر صرفا | في أباريق الرصاص | |
وعلى وجـه غـزال | طائع ليس بعاصصي | |
بين فـتـيان كــرام | قد تواصوا بالمعاصي | |
إن لي ربـاً غـفـوراً | وعلى الله خلاصـي |
لعمرك لو يعطي الأمير على اللحى | لأصبحت قد أيسرت منه زمانـي | |
لها درهم للدهن في كل جـمـعة | وآخر لـلـحـنـاء، يبـتـدران | |
ولولا نوال مـن يزيد بـن مـزيد | لصوت في حافاتها الجـلـمـان |
وحكى أبو جعفر الشيباني قال: أتانا يوماً أبو شاش الشاعر، ونحن في جماعة فقال: ما أنتم فيه? فقالوا: نذكر الزمان وفساده، قال: كلا، الزمان وعاء ما ألقي فيه من خير أو شر كان على حاله، ثم أنشأ يقول:
رأيت حلى تصان على أنـاس | وأخلاقاً تزال، ولا تصـان | |
يقولون الزمان بـه فـسـاد | وهم فسدوا، وما فسد الزمان |
أغفيت قبل الصبح، نوم مسهد | في ساعة ما كنت قبل أنامها | |
فرأيت أنك رعتني بـولـيدة | ممشوقة، حسن علي قيامها | |
وببدرة حملت إلي، وبـغـلة | شهباء ناجية، يصل لجامهـا |
وقال بعض الشعراء، قدمت على علي بن يحيى، فكتبت له:
رأيت في النوم أني راكب فرساً | ولي وصيف، وفي كفي دنانير | |
فجئت مستبشراً، مستشعراً فرحاً | وعند مثلك لي بالفعل تبشـير |
ومن ملح الصاحب بن عباد، ما يحكى عنه أن بعض الشعراء كتب إليه:
أبا من عطاياه تدني الغنـى | إلى راحتي من نأى أو دنا | |
كسوت المقيمين والزائرين | كساً، لم يخل مثلها ممكنا | |
وحاشية الدار يمشون فـي | ثياب من الخـز، إلا أنـا |
وقال المفضل: دخلت على الرشيد، وبين يديه جارية مليحة شاعرة وورد قد أهديت إليه، فقال: يا مفضل قل في هذا الورد شيئاً تشبهه به، فقلت:
كأنه خد معشـوق يقـبـلـه | فم الحبيب وقد أبقى به خجلا |
كأنه لون خدي، حين تدفـعـنـي | كف الرشيد، لأمر يوجب الغسلا |
وقال بعض الرواة: دخلت على أبي العشائر، أعوده من علة، فقلت: ما يجد الأمير? فأشار إلى غلام قائم بين يديه، ثم أنشد:
أسقم هذا الغلام جسمـي | بما بعينيه مـن سـقـام | |
فتور عـينـيه مـن دلال | أهدى فتوراً إلى عظامي | |
وامتزجت روحه بروحي | تمازج الماء بالـمـدام |
ناديته وهو حـي لا حـراك بـه | مكفن في ثـياب مـن رياحـين | |
فقلت: قم، قال: رجلي لا تطاوعني | فقلت: خذ، قال: كفي لا تواتيني |
يا سيدي، وأمير النـاس كـلـهـم | قد جار في حكمه من كان يسقيني | |
إني غفلت عن الساقي، فصيرنـي | كما تراني سليب العقـل والـدين | |
لا أستطيع نهوضاً؛ قد ذوى بدنـي | ولا أجيب لداع حـين يدعـونـي |
حجبت حقبة وصينت فجاءت | كجلاء العروس بعد الصيان | |
وكأن الأكف تصبغ من ضوء | سناها، بالورس والزعفران |
رققتها أيدي الهواجر، حـتـى | صيرت جسمها كجسم الهواء | |
فهي كالنور في الإنـاء، وكـا | لنار، إذ ما تصير في الأحشاء |
فإذا حسا منها الوضيع ثـلاثة | سمح الوضيع بفعل ذي القدر | |
في لون ماء الغيث، إلا أنهـا | بين الضلوع، كواقد الجمـر |
وكان بالبصرة رجل ذو ضياع، فأنفق ماله في الشراب، فباع ضيعة يوماً، فلما وقع البيع، قال المشتري: تأتي بالعشي أدفع ذلك المال وأشاهدك، قال له: لو كنت ممن يظهر بالعشي، ما بعت الضيعة، ثم أنشأ يقول:
أتلفت مالي في العقـار | وخرجت فيها عن عقار | |
حتى إذا كتب الكـتـاب، | وجاءني رسل التجـار | |
قالوا: الشهادة بالعشـي، | ونحن في صدر النهار | |
فأجبتهم؛ ردوا الكتـاب، | ولا تعيروا بانتظـاري | |
لو كنت أظهر بالعشـي، | لما سمحت ببـيع
داري |
يا أيها الناس قولوا أجمعين معـي | صلى الإله على موسى بن داود | |
كأن ديباجتي خـديه مـن ذهـب | إذا بدا لك في أثوابـه الـسـود | |
إني أعوذ بـداود، وأعـظـمـه | من أن أكلف حجاً يا ابـن داود | |
خبرت أن طريق الحج معطـشة | من الشراب، وما شربي بتصريد | |
والله ما في من أجر، فتطـلـبـه | ولا الثناء ولا ديني بمـحـمـود |
وكان الحكم بن عبدل أعرج أحدب، هجاء خبيث الهجاء، وكان الشعراء يقفون بباب الملوك، فلا يؤذن لهم، وكان يكتب حاجته على عصاه ويدفعها، فلا تؤخر له حاجة، فقال يحيى بن نوفل:
عصـا حـكـم بـــالـــبـــاب أول داخـــل | ونحـن عـلـى الأبـواب نـقـصـى ونـحـجـب | |
وكـانـت عـصـا مـوسـى لـفـــرعـــون آية | وهذي
لعمر الله أدهى وأعجب |
يا خـير مـنـتــصـــب يرجـــى لـــه الـــرشـــد | ويا إمـامـــاً بـــه قـــد أشـــرق الـــبـــلـــد | |
تشـــــــكــــــــو إلـــــــــــــــيك | عميد الملك
أرملة عدا عليها، فلم يترك لها لبد | |
وابـتـز مـنـي ضـياعـاً بـعـد مــنـــعـــتـــهـــا | ظلـمـاً وفـــرق مـــنـــي الأهـــل والـــولـــد |
في دون ما قلت، زال الصبر والجلـد | عني وأقرح مني القلب والـكـبـد | |
هذا أوان صلاة العصر، فانصرفـي | وأحضري الخصم في اليوم الذي أعد |
والمجلس السبت إن يقض الجلوس لنا | ننصفك منه، وإلا المجلس الأحـد |
وحكى الأصمعي قال: كان أعرابيان متآخيين بالبادية، ثم إن أحدهما استوطن الريف، واختلف إلى باب الحجاج، فولاه أصبهان، فسمع أخوه خبره، فسار إليه فأقام ببابه حيناً لا يصل إليه، ثم أذن له في الدخول، فأخذه الحاجب، فمشى به وهو يقول: سلم على الأمير، فلم يلتفت إليه، ثم أنشأ يقول:
فلست مسلماً ما دمت حياً | على زيد بتسليم الأمير |
أتذكر إذ لحافك جلد شـاة | وإذ نعلاك من جلد البعير |
فسبحان الذي أعطاك ملكـاً | وعلمك القعود على السرير |
وقالوا: تطهر؛ إنه يوم جـمـعة | فأبت من الحمام غير مطـهـر | |
تزودت منه شجة فوق حاجـبـي | بغير جهاد، بئس ما كان متجري | |
وما تعرف الأعراب مشياً بأرضها | فكيف ببيت ذي رخام ومرمـر |
إليك أزف حمام ابن مـوسـى | وإن فاق المنى طيبـاً وحـراً | |
تكاثرت اللصوص عليه، حتـى | ليحفى من يطيب به ويعـرى | |
ولم أفقد بـه ثـوبـاً، ولـكـن | دخلت "محمداً" وخرجت "بشرا" |
وقال بشار لراويته: أنشدني ما قال حماد في، فقال:
دعــيت إلـــى بـــرد، وأنـــت لـــغـــيره | وهبك ابن برد
نكت أمك من برد? |
وكان الحطيئة قبيح المنظر، كثير الشر، فالتمس يوماً إنساناً يهجوه، فلم يجده، فوقف على ماء، وجعل يقول:
أبت شفتاي اليوم إلا تكلـمـا | بشر ولا أدري لمن أنا قائله |
أرى لي وجهاً قبح الله خلقه | فقبح من وجه، وقبح حامله |
ما همتي إلا مقـارعة الـعـدا | خلق الزمان، وهمتي لم تخلق | |
والناس أعينهم إلى سلب الفتـى | لا يسألون عن الحجى والأولق | |
لكن من رزق الحجى حرم الغنى | ضدان مفترقان، أي تـفـرق | |
لو كان بالحيل الغنى، لوجدتنـي | بنجوم أقطار السماء تعلـقـي |
إن الذي رزق اليسار، فلم يصب | حمداً ولا أجراً، لغير موفـق | |
فالجد يدني كل شيء شـاسـع | والجد يفتح كل باب مغـلـق | |
فإذا سمعت بأن مجدوداً حـوى | عوداً، فأثمر في يديه، فحقـق | |
وإذا سمعت بأن محروماً أتـى | ماء ليشربه، ففاض، فصـدق |
وأحق خلق اللـه بـالـهـم امـرؤ | ذو همة يبـلـى بـرزق ضـيق | |
ومن الدليل على القضاء وكـونـه | بؤس اللبيب، وطيب عيش الأحمق | |
ولربما عرضت لنفسـي فـكـرة | فأود منها أنـنـي لـم أخـلـق |
وقيل للمنصور: إن أبا دلامة لا يحضر الصلاة، وأنه معتكف على الخمر، وقد أفسد فتيان العسكر، فلو أمرته بالصلاة معك لأصلحته وغيره، فلما دخل عليه قال أبو دلامة الماجن، قال: يا أمير المؤمنين، ما لنا والمجون? فقال: دعني من اشتكائك وتضرعك، وإياك أن تفوتك صلاة الظهر والعصر في مسجدي، فإن فاتتك لأحسنن أدبك، ولأطيلن حبسك، فوقع في أمر عظيم، فلزم المسجد أياماً، ثم كتب رقعة، ودفعها إلى المهدي، فأوصلها إلى أبيه، وفيها:
ألم تـعـلـمـا أن الـخـلـيفة لـزنـي | بمسجده والقصر، ما لي وللـقـصـر? | |
أصلي بها الأولى جمـيعـاً وعـصـرهـا | فويلي من الأولى، وويلي من العـصـر | |
أصليهما بالكره مـن غـير مـسـجـدي | فما لي في الأولى، وفي العصر، من أجر | |
يكلفنـي مـن بـعـد مـا شـبـت تـوبة | يحط بها عني الـثـقـيل مـن الـوزر | |
ووالله، مـا لـي نـية فـي صـلاتـهـا | ولا البر والإحسان والخـير مـن أمـري | |
لقد كان في قومـي مـسـاجـد جـمـعة | ولم ينشرح يوماً لغشـيانـهـا صـدري | |
ومـا ضـره، والـلـه يغـفـر ذنـبــه | لو أن ذنوب العالمين عـلـى ظـهـري |
وحكى إسحاق الموصلي قال: دخلت على الرشيد، وهو مستلق على قفاه، وهو يقول: أحسن والله، فتى قريش وظريفها وشاعرها، قلت: فيم يا أمير المؤمنين? قال في قوله:
لا أسأل الله تغييراً لما فـعـلـت | نامت، وقد أسهرت عيني عيناها | |
فالليل أطول شيء حين أفقـدهـا | والليل أقصر شيء حين ألقاهـا |
ولما بنى المأمون على بوران، وأراد غشيانها حاضت، فقالت: (أتى أمر الله فلا تستعجلوه)، فنام في فراش آخر، فلما أصبح دخل عليه أفاضل ندمائه يهنئونه، ويدعون له، فأنشدهم بديهاً:
فارس في الحرب منغمس | عارف بالطعن في الظلم | |
رام أن يدمي فـريسـتـه | فاتقـتـه مـن دم بـدم |
خاط لي بشر قباء | ليت عينيه سواء |
أمن صهباء صافية الـمـزاج | كأن شعاعها لهب الـسـراج | |
تهش لها القلوب، وتشتهـيهـا | إذا برزت ترقرق في الزجاج | |
أقاد إلى السجون بغـير جـرم | كأني بعض عمال الـخـراج | |
ولو معهم حبست، لكان خـيراً | ولكني حبست مع الـدجـاج | |
أمير المؤمنين، فدتك نفـسـي | ففيم حبستني وخرقت ساجـي | |
على أني، وإن لاقـيت شـرا، | لخيرك بعد ذاك الشـر راج |
وضلت ناقة لأعرابي في ليلة مظلمة، فأكثر طلبها، فلم يجدها، فلما طلع القمر وانبسط نوره وجدها إلى جانبه ببعض الأودية، وكان قد اجتاز بموضعها مراراً، فلم يرها؛ لشدة الظلام، فرفع رأسه إلى القمر وقال:
ماذا أقول، وقولي فـيك حـصـر | وقد كفيتني التفصيل والجـمـلا | |
إن قلت: لا زلت مرفوعاً، فأنت كذا | أو قلت: زانك ربي، فهو قد فعلا |
أغشى الطريق بقبتي ورواقها | وأحل في قلل الربى، وأقيم | |
إن امرءاً جعل الطريق لبيته | طبناً، وأنكر حقـه لـلـئيم |
وكان عبد الصمت مؤدب الوليد لوطياً زنديقاً، وكان سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت جميل الوجه شاعراً، فدخل على عبد الصمد، فأراده في نفسه، فسبه وخرج مغضباً، فدخل على هشام بن عبد الملك وهو يقول:
إنه والله، لـولا أنـت، لـم | ينج مني سالماً عبد الصمد |
إنه قد رام مني حـطة | لم يرمها قبله مني أحد |
رام جهلاً بي، وجهلاً بأبـي | يدخل الأفعى إلى غيل الأسد |
وقال أبو بكر الصولي: اجتمعت الشعراء بباب المعتصم، فبعث إليه محمد بن عبد الملك الزيات، وقال لهم: أمير المؤمنين يقرئكم السلام، ويقول لكم: من كان يحسن أن يقول مثل قول النمري في الرشيد فليدخل، وأنشد له:
إن المكارم والمـعـروف أودية | أحلك الله منها حيث تجـتـمـع | |
من لم يكن بك، يا هارون معتصما | فليس بالصلوات الخمس ينتفـع |
ثلاثة تشرق الدنيا ببـهـجـتـهـم | شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر | |
تحكي أنامـلـه فـي كـل نـائبة | الغيث والصمـصـامة الـذكـر |
يا بعيد الدار من وطنـه | مفرراً يبكي على شجنه | |
كلما هاجت صبـابـتـه | زادت الأسقام في بدنه | |
ولقد زاد الفـؤاد شـجـاً | هاتف يبكي على فننـه | |
شفه ما شفني، فبـكـى | كلنا يبكي على شجنـه |
وقال أيضاً الزبير بن بكار: أنشد منشد أبا العباس المخزومي:
بيناهم سـكـن بـجـيرتـهـم | ذكروا الفراق، فأصبحوا سفرا |
سألونا عن حالنا: كيف أنـتـم | وقرنا وداعهم بـالـسـؤال | |
ما نزلنا حتى رحلنا، فما نفرق | بين النزول والـتـرحـال |
تعب يكون به الرجاء مع الهوى | خير له من راحة في الـياس |
لولا كرامتكم لما عاتبتـكـم | ولكنتم عندي كبعض الناس |
وعن إسحاق الموصلي قال: غضب الفضل بن الربيع على جارية له، كانت أحب الناس إليه، وتأخرت عن استرضائه، فوجه إلي يعلمني بذلك، ويشكوها إلي، فكتبت إليه: لك العز والشرف، ولأعدائك الذل والتلف، استعمل قول العباس بن الأحنف:
تحمل عظيم الذنب ممن تحـبـه | وإن كنت مظلوماً فقل: أنا ظالم | |
فإنك إن لم تغفر الذنب في الهوى | تفارق من تهوى، وأنفك راغم |
وغضب الرشيد مرة على زبيدة أم جعفر وترضاها، فأبت أن ترضى، وأرق ليلة وقال: افرشوا لي على دجلة ففعلوا، وقعد ينظر إلى الماء، فسمع غناء في هذا الشعر:
جرى السيل، فاستبكاني السيل إذا جرى | وفاضت له من مقلـتـي غـروب | |
ومـا ذاك إلا أن تـيقـنـت أنـــه | يمـر بـواد أنـت مـنـه قـريب | |
يكون أجاجاً دونكم، فـإذا انـتـهـى | إليكم، تلقـى طـيبـكـم فـطـيب | |
فيا ساكني أكنـاف دجـلة، كـلـكـم | إلى القلب من أجل الحبيب حـبـيب |
وكان لمخارق من الكلف بجارية أم جعفر بهار ما لا غاية بعده، وعلمت بذلك أم جعفر، فشق على مخارق علم أم جعفر بحبه، فاستعمل الجفاء بينه وبينها؛ إجلالاً لأم جعفر، وطمعاً للسلو عنها، فبينما هو منصرف ليلة من الليالي من دار المأمون، وأم جعفر مشرفة على دجلة، فلما حاذى دارها رفع عقيرته، فتغنى بشعر العباس بن الأحنف:
إن تمنعوني ممري قـرب داركـم | فسوف أنظر من بعد إلـى الـدار | |
لا يقدرون على منعي وإن جهـدوا | إذا مررت فتسليمي بإضـمـاري | |
سيما الهوى عرفت، حتى شهرت بها | إني محب، وما بالحب مـن عـار |
أغـيب عـنـك بـود، لا يغـيره | نأي المحل، ولا صرف من الزمن | |
فإن أعش، فلعل الدهر يجمـعـنـا | وإن أمت، فقتيل الهم والـحـزن | |
قد حسن الله في عيني ما صنعـت | حتى أرى حسناً، ما ليس بالحسـن |
تعتل بالشغل عنا ما تكـلـمـنـا | والشغل للقلب ليس الشغل للبدن |
ويروى أن أبا نواس والعباس بن الأحنف والحسين الخليع، وصريع الغواني خرجوا إلى متنزه لهم، ومعهم رجل يقال له: يحيى بن المعلي، فحضرت الصلاة فقدموه يصلي بهم، فنسي: (الحمد)، وقرأ: (قل هو الله أحد) وأرتج عليه في نصفها فقال أبو نواس:
أكثر يحيى غلـطـاً | في قل هو الله أحد |
ونسي الحمد، ومـا | مرت له على خلد |
قام طويلاً راكعـاً | حتى إذا أعيا سجد |
كأنمـا لـسـانـه | شد بحبل من مسد |
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفـت | له عن عدو في ثياب صديق |
فإن يك باق إفك فرعون فيكـم | فإن عصا موسى بلف خصيب |
يا كثير الذنب عفو الله من ذنبك أكبر |
وقال أبو عمر الشيباني: دخلت على المأمون، فقال لي: يا أبا عمر، من أشعر الناس? قلت: يا أمير المؤمنين، اختلف العلماء في ذلك، وهم القدوة، ونحن المقتدون، وقد قالوا: أشعر الناس امرؤ القيس إذا ركب، والنابغة إذا رهب، وزهير إذا رغب، والأعشى إذا طرب، قال المأمون: من الذي يقول:
إذا ما أتت دون اللهاة من الفتى | دعا همه من صدره برحيل |
فتشمت في مفاصلـهـم | كتمشي البرء في السقم |
هي الخمر لا زالت تذيع فضائحـي | وتفعل ما شاءت بي الخمر من أمر | |
متى أكتسب مالاً، فللخمر شـطـره | ويحكم رب الخرد العين في الشطر |
أقل ما فيه من فضـائلـه | أمنك من طمثه ومن حبله |
وقال الأصمعي: قلت يوماً لبشار: رأيت رجال الرأي يتعجبون من أبياتك التي في المشورة، وهي قولك:
إذا بلغ الرأي المشورة، فاستعـن | بقول نصيح، أو مشورة حـازم | |
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة | فإن الخوافي عـدة لـلـقـوادم | |
وخل الهوينى للضعيف، ولا تكـن | نئوماً؛ فإن الحزم لـيس بـنـائم | |
وما خير كف أمسك الغل أختهـا | وما خير سيف لم يقـيد بـقـائم |
ودخل على الحجاج سليك بن سلكة فقال: أصلح الله الأمير، أعرني سمعك واغضض عني بصرك، واكفف عني عزك، فإن سمعت خطأ أو زللاً فدونك والعقوبة، قال: قل، قال: عصى عاص من العشيرة، فخلق على اسمي، وحرمت عطائي، وهدم منزلي، فقال الحجاج: هيهات، أما سمعت قول الشاعر:
جانيك من يجني عليك، وربمـا | تفدي الصحاح مبارك الجرب | |
ولرب مأخوذ بذنب عـشـيرة | ونجا المقارب صاحب الذنب |
ولما هجا الحطيئة الزبرقان بن بدر بالشعر الذي يقول فيه:
دع المكارم، لا ترحل لبـغـيهـا | واقعد، فإنك أنت الطاعم الكاسي |
ماذا تقول لأفـراخ بـذي مـرخ | حمر الحواصل لا ماء ولا شجر | |
ألقيت كاسبهم في قعر مظـلـمة | فاغفر عليك سلام الله يا عمـر | |
أنت الإمام الذي من بعد صاحبـه | ألقت إليك مقاليد النهى البشـر | |
ما آثروك بها، إذا قدموك لـهـا | لكن لأنفسهم كانت بهـا الأثـر |
إذا الـلـه عـادى أهـل لـؤم وذلة | فعادى بني العجلان رهط ابن مقبل |
قبيلتهـم لا يخـفـرون بـذمة | ولا يظلمون الناس حبة خردل |
ولا يردون المـاء إلا عـشـية | إذا صدر الوراد عن كل منهل |
وما سمي العجـلان إلا لـقـولـه | خذ العقب واحلب أيها العبد واعجل |
وكان بنو عبد المدان الحارثيون يفخرون بطول أجسامهم، حتى قال فيهم حسان بن ثابت:
لا بأس بالقوم من طول ومن غلظ | جسم البغال وأحلام العصافـير |
وكان بنو نمير أشراف قيس وذؤابتها، وكان الرجل منهم يفخر بذلك ويقول: النميري، ويمد صوته حتى قال جرير:
فغض الطرف إنك من نمير | فلا كعباً بلغت ولا كلابـا |
وكان بنو أنف الناقة يسمون بهذا الاسم، يسأل الرجل منهم عن نسبه فيخفيه، ولا ينتسب لأنف الناقة، حتى قال فيهم الحطيئة:
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم | ومن يسوى بأنف الناقة الذنبا |
أمـنـت بـداود وجـود يمـينــه | من المحدث المخشي والبؤس والفقر | |
فأصبحت لا أخشـى بـداود نـبـوة | من الحدثان، إذا شـددت بـه أزري | |
له حلم لقـمـان، وصـورة يوسـف | وحكم سليمان، وعدل أبـي بـكـر | |
فتى تفرق الأموال من جـود كـفـه | كما يفرق الشيطان من ليلة القـدر |
وقال الأصمعي: كنت عند الرشيد، إذ دخل عليه إبراهيم الموصلي فأنشده:
وآمرة بالبخل قلت لها: اقصـري | فليس إلى ما تأمـرين سـبـيل | |
فعالي فعال المكثرين تـجـمـلاً | ومالي كما تعـلـمـين قـلـيل | |
وكيف أخاف الفقر، أو أحرم الغنى | ورأي أمير المؤمنـين جـمـيل |
وقال الشيباني: ولد لأبي دلامة ابنة ليلاً، فأوقد السراج، وجعل يخيط خريطة شقق، فلما أصبح طواها بين أصابعه، وغدا بها إلى المهدي، فاستأذن عليه، فأذن له، وكان لا يحجب عنه، فأنشده:
لو كان يقعد فوق الشمس من كـرم | قوم، لقيل: اقعدوا يا آل عـبـاس | |
ثم ارتقوا من شعاع الشمس في درج | إلى السماء، فأنتم أكـرم الـنـاس |
بلــــــلـــــــت عـــــــلـــــــي | لا حييت
ثوبي فبال عليك شيطان رجيم | |
فمـــا ولـــدتـــك مـــريم أم عـــيســـــى | ولـم يكـفـلـك لـقـــمـــان الـــحـــكـــيم | |
ولــكـــن قـــد تـــضـــمـــك أم ســـوء | إلـــى لـــبـــاتـــهـــا، وأب لـــــــئيم |
وكتب أبو دلامة إلى عيسى بن موسى، وهو والي الكوفة رقعة فيها هذه الأبيات:
إذا جئت الأمير فـقـل سـلام | عليك ورحمة الرب الرحـيم | |
فأما بعـد ذاك فـلـي غـريم | من الأنصار قبح من غـريم | |
لزوم ما علمت لـبـاب داري | لزوم الكلب أصحاب الرقـيم | |
له مائة علي ونصـف أخـرى | ونصف النصف من صك قديم | |
دراهم ما انتفعت بها ولـكـن | حبوت بها شيوخ بني تـمـيم |
ولقي أبو دلامة أبا دلف في صيد له، وهو والي العراق، فأخذ بعنان فرسه، وأنشد:
إني حلفت لئن رأيتك سالـمـاً | بقرى العراق، وأنت ذو وفر | |
لتصلين على النبي مـحـمـد | ولتملأن دراهماً حـجـري |
ودخل رجل من الشعراء على يحيى بن خالد بن برمك فأنشده:
سألت الندى: هل أنت حر? فقال: لا | ولكنني عبد ليحـيى بـن خـالـد | |
فقلت: شراء? قال: لا، بـل وراثة | توارثني عن والـد بـعـد والـد |
وصنع بعض الناس وليمة، وكان فيها المبرد، وكانوا يسمعون غناء مغنية من وراء ستر، فاندفعت تغني:
وقالوا لها: هذا حبيبك مـعـرض | فقلت لهم: إعراضه أيسر الخطب | |
وما هي إلا نظـرة ثـم حـسـرة | فتصطك رجلاه، ويسقط للجنـب |
وأهدى رجل من الثقلاء إلى رجل من الظرفاء جملاً، ثم نزل عليه حتى أبرمه، فقال فيه:
يا مبرماً أهدى جـمـل | خذ وارتحل ألفي جمل | |
قال: ومـا أوقـرهــا | قلت: زبيب وعـسـل | |
قال: ومـن يقـودهـا | قلت: له ألفا بـطـل | |
قال: وما لـبـاسـهـم | قلت: حلـي وحـلـل | |
قال: وما سـلاحـهـم | قلت: سـيوف وأسـل | |
قال: عـبـيد لـي إذن | قلت: نعم، ثـم خـول | |
قال: وقد أضجرتـكـم | قلت: أجل، ثـم أجـل | |
قال: وقد أبرمـتـكـم | قلت له: الأمر جلـل | |
قال: وقد أثقـلـتـكـم | قلت له: فوق الثقـل | |
قال: فـإنـي راحــل | قلت: العجل، ثم العجل | |
يا جبـلاً مـن جـبـل | في جبل فوق الجبـل |
أصلحك الله، قل ما بـيدي | فما أطيق العيال إذ كثروا | |
أناخ دهر، ألقى بكلكـلـه | فأرسلوني إليك وانتظروا |
ووقف رجل من الشعراء إلى عبد الله بن طاهر، فأنشده:
إذا قيل: أي فتى تعلـمـون | أهش إلى البأس والنـائل? | |
وأضرب للهام يوم الوغـى | وأطعم في الزمن الماحل? | |
أشار إليك جـمـيع الأنـام | إشارة غرقى إلى ساحـل |
وقال أحمد بن مطير: أنشدت عبد الله بن طاهر أبياتاً، كنت مدحت بها بعض الولاة، وهي:
له يوم بـؤس فـيه لـلـنـاس أبــؤس | ويوم نـعـيم، فـيه لـلـنـاس أنـعـم | |
فيقطر يوم الجـود مـن كـفـه الـنـدى | ويقطر يوم البـؤس مـن كـفـه الـدم | |
فلو أن يوم الـبـؤس خـلـى عـقـابـه | على الناس لم يصبح على الأرض مجرم | |
ولـو أن يوم الـجـود خـلـى نـوالــه | على الأرض لم يصبح على الأرض معدم |
وحدث أحمد بن زهير قال: كان أحمد بن زيدان الكاتب قاعداً بين يدي يحيى بن أكثم يكتب، وكان شاباً جميلاً، فقرص يحيى خده، فاستحى ابن زيدان، واحمر وجهه، ورمى القلم من يده، فقال له: خذ القلم واكتب، فأخذ القلم وكتب:
أيا قمراً جمشته فـتـغـضـبـا | وأصبح من تيه به متجـنـبـا | |
إذا كنت للتخميش والقرص كارهاً | فكن أبداً يا مينتي متـنـقـبـا | |
ولا تظهر الأصداغ للناس فـتـنة | وتجعلها من فوق خدك عقربـا | |
فتقتل مشتاقاً، وتفتـن نـكـاسـا | وتترك قاضي المسلمين معذبـا |
تبرعت لي بالجود، حتى ملكتـنـي | وأعطيتني حتى حسبتك تـلـعـب | |
فأنت الندى وابن الندى وأبو الـنـدى | وحلف الندى، ما للندى عنك مذهب |
وزار إسماعيل بن خارجة صديق له، فلما كان بباب الدار وثب كلب فانصرف، وكتب إليه:
لو كنت أحمل خمراً حين زرتـكـم | لم ينكر الكلب أني صاحب الـدار | |
لكن أتيت، وريح المسك يقدمـنـي | وعنبر الهند مصبوب على الساري | |
فأنكر الكلب ريحي حين أبصرنـي | وكان يعرف ريح الزق والـنـار |
ودخل أعرابي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسأل عن الفقهاء، فدل على ابن أبي ذيب، فأتى خلقته، فقال: أيكم الذيب? فقال: ما تريد? قال: أنت هو? قال: نعم، فسأله عن مسألة في الطلاق، فقال: ما أراك خانثاً، فولى الأعرابي وهو يقول:
أتيت ابن ذيب، أطلب الفقه عنده | فطلق ليلى البت، بتت أناملـه | |
أتترك في فقه ابن ذيب حليلتـي | وعند ابن ذيب أهله، وحلائله? |
ثم اسبطرت تشتد فـي أثـري | تسأل أهل الطواف عن عمر |
أدور، ولولا أن أرى أم جعفـر | بأبياتكم، ما درت حـيث أدور | |
وما كنت زواراً، ولكن ذا الهوى | إذا لم يزر، لابد أن سـيزور |
فإن تصلي أصلك، وإن تبيني | بهجر بعد وصلك ما أبالي |
بزينب ألمم قبل أن ينزل الركب | وقل: إن تملينا، فما ملك القلب |
أهيم بدعد ما حييت، فإن أمـت | فوا كبدي من ذا يهيم بها بعدي |
ودخل كثير على سكينة بنت الحسين فقالت له: يا ابن جمعة، أخبرني عن قولك في عزة:
وما روضة بالحزن طيبة الثـرى | يحج الندى جثجاثها وعـرارهـا | |
بأطيب من أردان عزة مـوهـنـاً | وقد أوقدت بالمندل الرطب نارها |
ألم ترياني كلما جئت طـارقـاً | وجدت بها طيباً؛ وإن لم تطيب |
هممت وهمت، ثم هابت وهبتها | حياء، ومثلي بالحياء خـلـيق |
دعوتني، لا أريد بها سواها | دعوني هائماً، فيمن يهيم |
وكيف يداويني الطبيب من الجوى | وبرة عند الأعور بن سـنـان | |
ويلصق بطناً منتن الـريح دائمـاً | إلى بطن خود دائم الخفـقـان |
ومما شجانـي أنـهـا يوم ودعـت | تولت، وماء العين في الجفن حائر | |
فلما أعادت من بعـيد بـنـظـرة | إلي التفاتاً، أسلمته المـحـاجـر |
وقال الأصمعي: قدم أعرابي بعدل من خمر العراق إلى المدينة، فباعها إلا السود، فشكى ذلك إلى الدرامي، وكان قد تنسك، وترك الشعر، ولزم المسجد، فقال له: ما تجعل لي على أن أحتال لك بحيلة حتى تبيعها كلها? قال: حكمك، فعمد الدرامي إلى ثياب نسكه فألقاها عنه، وعاد إلى مثل شأنه الأول، وقال شعراً ودفعه إلى صديق له من المغنين، وقال له: تغن بهذا الشعر:
قل للمليحة في الخمار الأسود | ماذا أردت بزاهد متعـبـد | |
قد كان شمر للصـلاة رداءه | حتى وقفت له بباب المسجد | |
ردي عليه صلاته وصيامـه | لا تفتنيه بحق دين محـمـد |
وقال الأحوص يوماً لمعبد: امض بنا إلى عقيلة نتحدث معها، ونستمع من غنائها، وغناء جواريها، فمضيا، فألفيا على بابها معاذ الأنصاري وابن صياد، فاستأذنوا عليها، فأذنت لهم إلا الأحوص، فقالت: نحن على الأحوص غضاب فانصرف الأحوص وهو يلوم أصحابه على استبدادهم بها، وقال:
ضنت عقيلة عنك اليوم بـالـزاد | وآثرت حاجة الثاوي على الغادي | |
قولا لمنزلها: حييت مـن طـلـل | وللعقيق، ألا حـييت مـن وادي | |
إني وهبت نصيبي من مودتـهـا | لمعبد ومـعـاذ، وابـن صـياد |
أرى الإزار على لبنى فأحسـده | إن الإزار على ما ضم محسود |
وقال الأصمعي: كان أبو الطمحان شاعراً مجيداً، وكان يطلب الإذن على يزيد بن عبد الملك، فلم يصل إليه، فقال لبعض المغنين: ألا أعطيك بيتين من الشعر تغني بهما أمير المؤمنين، فإن سألك من قالها، فأخبره أني بالباب، فما رزقني الله منه فهو بيني وبينك، قال: هات، فأعطاه هذين البيتين:
يكاد الغمام الـحـر يرعـد أن رأى | محيا ابن مروان، وينهل بـارقـه | |
يظل فتيت المسك في رونق الضحى | تسيل به أصداغـه ومـفـارقـه |
وقال إبراهيم الموصلي: دخلت على هارون الرشيد، فلما رأيته قد أخذ في حديث الجواري وغلبتهن على الرجال، غنيته بأبياته التي يقول فيها:
ملـك الـثـلاث الآنـسـات عـــنـــانـــي | وحـلـلـن مـن قـلـبـي بـكـل مـكـــان | |
ما لـي تـطـاوعـنـي الـبـرية كـلـــهـــا | وأطـيعـهـن وهـن فـي عـصـــيانـــي | |
ما ذاك إلا أن سـلـــطـــان الـــهـــوى |
وبه قوين أعز من سلطاني |
وقال أبو العباس: حدثت أن أبا العباس عمر الوادي قال: أقبلت من مكة أريد المدينة، فسمعت غناء من القرى لم أر مثله، فقلت: والله لأتوصلن إليه، فإذا هو عبد أسود، فقلت: أعد علي ما سمعت، فقال: والله، لو كان عندي قرى أقريكه لفعلت، ولكني أجعله قراك، فإني، والله، ربما غنيت هذا الصوت وأنا جائع فأشبع، وربما غنيته وأنا كسلان فأنشط، وربما غنيته وأنا عطشان فأروى، ثم اندفع يغني:
وكنت إذا ما زرت سعدى بأرضـهـا | أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها | |
من الخفرات البيض، ود جلـيسـهـا | إذا ما انقضت أحدوثة لو تعـيدهـا |
وحكى الشيباني قال: كان بالعراق قينة، وكان أبو نواس يختلف إليها، فكانت تظهر له أنها لا تحب غيره، وكان كلما جاءها وجد عندها فتى يجلس إليها ويتحدث معها، فقال فيها:
ومظهرة لخلـق الـلـه وداً | وتلقى بالتحية والـسـلام | |
أتيت فؤادها أشكـو إلـيهـا | فلم أخلص إليه من الزحام | |
فيا من ليس يكفـيه خـلـيل | ولا خمسون ألفاً كل عـام | |
أراك بقية من قوم موسـى | فهم لا يصبرون على طعام |
تجهز كـفـاه، ويحـدر حـلـقـه | إلى الزور، ما ضمت عليه الأنامل | |
أتانا، وما سـاواه سـحـبـان وائل | بياناً وعلماً، ما الـذي هـو قـائل | |
فما زال عنه اللقم، حتـى كـأنـه | من العي، لما أن تكـلـم بـاقـل |
يا أيها الـخـارج مـن بـيتـه | وهارباً مـن شـدة الـخـوف | |
ضيفـك قـد جـاء بـزاد لـه | فارجع وكن ضيفاً على الضيف |
شهد الحطيئة يوم يلقى ربـه | أن الوليد أحق بـالـعـذر | |
نادى، وقد تمت صلاتـهـم | ليزيدهم خيراً على خـير | |
ليريدهم خيراً، ولو قبـلـوا | لقرنت بين الشفع والوتـر | |
كبحوا عنانك إذ جريت، ولو | تركوا عنانك لم تكن تجري |
كساني قميصاً مرتين، إذا انـتـشـى | وينزعه منـي إذا كـان صـاحـيا | |
فلي فرحة في سكره بـقـمـيصـه | وفي الصحو روعات تشيب النواصيا | |
فيا ليت حظي من سروري وترحتـي | بكسـوتـه أن لا عـلـي ولا لـيا |
متى تصحو، وقلبك مستطـار | وقد منع القرار، فلا قـرار | |
وقد تركتك صباً مستـهـامـا | فتـاة، لا تـزور ولا تـزار | |
إذا استنجزت منها الوعد، قالت: | كلام الليل يمحوه الـنـهـار |
أتعزلني، وقلبي مستطـار | كئيب، لا يقر به قـرار | |
بحب مليحة صادت فؤادي | بألحاظ، يخالطها احورار | |
ولما أن مددت يدي إليهـا | لألمسها بدا منها نـفـار | |
ولما جئت مقتضياً، أجابت | كلام الليل يمحوه النهار |
وليلى أقبلت في القصر سكرى | ولكن زين السكر الـوقـار | |
وهز الـريح أردافـاً ثـقـالا | وغصناً، فيه رمان صغـار |
وقد سقط الردا عن منكبيها | من التكريه، وانحل الإزار | |
فقلت: الوعد سيدتي، فقالت | كلام الليل يمحوه النهـار |
وحدث حماد بن إسحاق الموصلي قال: حدثني أبي قال: غدوت يوماً وأنا ضجر من ملازمة دار الخلافة، فركبت عازماً على أن أطوف في الصحراء وقلت لغلماني: إن جاء رسول الخليفة، فعرفوه أني ركبت في مهم لي، ومضيت وطفت ما بدا لي، وعدت وقد حمى النهار، فوقفت في ظل شارع لأستريح فلم ألبث أن جاء خادم يقود حماراً فارهاً، عليه جارية، عليها لباس فاخر، فرأيت لها شمائل ظريفة، وطرفاً فاتراً، فحدست أنها مغنية، فدخلت الدار التي كنت واقفاً عليها، فعلقها قلبي، ولم أستطع براحاً، وأقبل رجلان يتماشيان، لهما هيئة تدل على قدرهما، وهما راكبا، فحملني حب الجارية، وحسن حالهما أن توسلت بهما، فدخلت معهما، فظنا أن صاحب الدار دعاني، وظن هو أني معهما، فجلسنا ودعا بالطعام فأكلنا وجيء بالشراب، فخرجت الجارية، وفي يدها عود، فرأيت جارية حسناء، فغنت غناء صالحاً، فتمكنت من قلبي وشربنا، ثم قمت للبول، فسألهما صاحب الدار عني، فأنكراني، فقال: هذا طفيلي، ولكن ظريف، فأجملوا عشرته، فجئت وجلست، فغنت في لحن لي:
ذكرتك، أم مرت بنـا أم شـادن | أمام المطايا تستريب وتسـنـح | |
من المؤلفات الرمل، إذ ماء خدها | شعاع الضحى في لونه يتوضح |
قل لمن صد عاتبـا | ونأى عنك جانبـا | |
قد بلغت الذي أردت، | وإن كنت لاعـبـا | |
واعترفنا بما ادعيت، | وإن كنت كـاذبـا |
وتشبه هذه الحكاية حكاية إبراهيم بن المهدي، إذ تشفع إلى المأمون من طفيلي، قدمنا ذكره في الباب قبل هذا، فقال إبراهيم: يا أمير المؤمنين، هب لي ذنبه، أحدثك بحديث في التطفيل عن نفسي، قال: قل، قال: خرجت يوماً فمررت في سكك بغداد، فشممت رائحة أبزار وقذور قد فاحت، فسألت خياطاً عن رب الدار، فقال: هو رجل من التجار اسمه فلان، وخرج من شباك في أعلى الدار كف ومعصم، ما رأيت مثلهما قط، فذهب عقلي وبهت، فإذا رجلان مقبلان، فقال لي الخياط: هذان نديماه، وهما فلان وفلان، فحركت دابتي، ودخلت بينهما وقلت: قد استبطأكما أبو فلان، فأتينا الباب ودخلنا، فلم يشك صاحب الدار أني منهما، فرحب بي، وأجلسني في أجل موضع، فأتينا بالألوان، فكان طعمها أطيب من رائحتها، فقلت في نفسي: أكلت الألوان، وبقي الكف والمعصم، ثم سرنا إلى مجلس المنادمة، فإذا هو أنبل مجلس، وصاحب الدار يقبل باللطف والحديث علي؛ لما ظن أني منهما، فخرجت جارية تتثنى، كأنها خوط بان، فسلمت وجلست وأخذت عوداً وجسته، فتبينت الحذق في جسها، وغنت بهذا الصوت:
أشرت إليها: هل حفظـت مـودتـي | فردت بطرف العين: إني على العهد | |
فحدت عن الإظهار عمداً لـسـرهـا | وحادت عن الإظهار أيضاً على العمد |
أليس عجيباً أن بيتـاً يضـمـنـا | وإياك، لا نخلو، ولا نتكـلـم? | |
سوى أعين تشكو الهوى بجفونها | وترجع أحشاء على النار تضرم | |
إشارة أفواه، وغمز حـواجـب | وتكسير أجفان، وقلب مـتـيم |
ما للمنازل لا يجبن حـزينـا | أصممن أم بعد المدى فبلينا | |
راحوا العشية روحة مذكورة | إن متن متنا، أو حيين حيينا |
غداً محبك مطوياً على كـمـده | صب مدامعه تجري على جسده | |
له يد تسأل الرحمـن راحـتـه | مما به، ويد أخرى على كبـده | |
يا من رأى كلفاً مستهدفـاً أبـداً | كانت منيته في طـرفـه ويده |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق