الأربعاء، 13 فبراير 2013

مقدمة لسان العرب لابن منظور

قال ابن منظور عبد الله محمد بن المكرم بن أبي الحسن بن أحمد الأنصاري الخزرجي ، عفا الله عنه بكرمه : الحمد لله رب العالمين ، تبركا بفاتحة الكتاب العزيز ، واستغراقا لأجناس الحمد بهذا الكلام الوجيز ، إذ كل مجتهد في حمده ، مقصر عن هذه المبالغة ، وإن تعالى ؛ ولو كان للحمد لفظ أبلغ من هذا لحمد به نفسه ، تقدّس وتعالى ، نحمده على نعمه التي يواليها في كل وقت ويجدّدها ، ولها الأولوية بأن يقال فيها نعدّ منها ولا نعدّدها ؛ والصلاة والسلام على سيدنا محمد المشرَّف بالشفاعة ، المخصوص ببقاء شريعته إلى يوم الساعة ، وعلى آله الأطهار ، وأصحابه الأبرار ، وأتباعهم الأخيار ، صلاة باقية بقاء الليل والنهار .
أما بعد فإن الله سبحانه قد كرَّم الإنسان وفضله بالنطق على سائر الحيوان ، وشرَّف هذا اللسان العربيَّ بالبيان على كل لسان ، وكفاه شرفا أنه به نزل القرآن ، وأنه لغة أهل الجنان . روي عن ابن عباس رضي الله عنه
ما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أحبوا العرب لثلاث : لأني عربيّ ، والقرآن عربيّ ، وكلام أهل الجنة عربيّ)
وإني لم أزل مشغوفا بمطالعات كتب اللغات والاطلاع على تصانيفها ، وعلل تصاريفها ؛ ورأيت علماءها بين رجلين : أما من أحسن جمعه فإنه لم يحسن وضعه ، وأما من أجاد وضعه فإنه لم يُجد جمعه ، فلم يُفد حسنُ الجمع مع إساءة الوضع ، ولا نفعت إجادةُ الوضع مع رداءة الجمع . ولم أجد في كتب اللغة أجمل من تهذيب اللغة لأبي منصور محمد بن أحمد الأزهري ، ولا أكمل من المحكم لأبي الحسن علي بن إسماعيل بن سيده الأندلسي ، رحمهما الله ، وهما من أمّهات كتب اللغة على التحقيق ، وما عداهما بالنسبة إليهما ثنيَّات للطريق . غير أن كُلًّا منهما مطلب عسر المهلك ، ومنهل وعر المسلك ، وكأنَّ واضعه شرع للناس موردا عذبا وجلاهم عنه ، وارتاد لهم مرعًى مربعًا ومنعهم منه ؛ قد أخّر وقدّم ، وقصد أن يُعرب فأعجم . فرّق الذهن بين الثنائي والمضاعف والمقلوب وبدّد الفكر باللفيف والمعتل والرباعي والخماسي فضاع المطلوب ، فأهمل الناس أمرهما ، وانصرفوا عنهما ، وكادت البلاد لعدم الإقبال عليهما أن تخلو منهما . وليس لذلك سبب إلا سوء الترتيب ، وتخليط التفصيل والتبويب . ورأيت أبا نصر إسماعيل بن حماد الجوهري قد أحسن ترتيب مختصره ، وشهره ، بسهولة وضعه ، شهرة أبي دُلف بين باديه ومحتضره ، فخف على الناس أمره فتناولوه ، وقرب عليهم مأخذه فتداولوه وتناقلوه ، غير أنه في جو اللغة كالذرّة ، وفي بحرها كالقطرة ، وإن كان في نحرها كالدرّة ؛ وهو مع ذلك قد صحّف وحرّف ، وجزف فيما صرّف ، فأُتيح له الشيخ أبو محمد بن بري فتتبع ما فيه ، وأملى عليه أماليه ، مخرِّجًا لسقطاته ، مؤرِّخًا لغلطاته ؛ فاستخرت الله سبحانه وتعالى في جمع هذا الكتاب المبارك ، الذي لا يُساهَم في سعة فضله ولا يُشارَك ، ولم أخرج فيه عما في هذه الأصول ، ورتبته ترتيب [ الصحاح ] في الأبواب والفصول ؛ وقصدت توشيحه بجليل الأخبار ، وجميل الآثار ، مضافا إلى ما فيه من آيات القرآن الكريم ، والكلام على معجزات الذكر الحكيم ، ليتحلى بترصيع دررها عقده ، ويكون على مدار الآيات والأخبار والآثار والأمثال والأشعار حله وعقده ؛ فرأيت أبا السعادات المبارك بن محمد بن الأثير الجزري قد جاء في ذلك بالنهاية ، وجاوز في الجودة حد الغاية ، غير أنه لم يضع الكلمات في محلها ، ولا راعى زائد حروفها من أصلها ، فوضعت كُلًّا منها في مكانه ، وأظهرته مع برهانه ؛ فجاء هذا الكتاب بحمد الله واضح المنهج سهل السلوك ، آمنا بمنة الله من أن يصبح مثل غيره وهو مطروح متروك . عظُم نفعُه بم اشتمل من العلوم عليه ، وغني بما فيه عن غيره وافتقر غيرُه إليه ، وجمع من اللغات والشواهد والأدلة ، ما لم يجمع مثلُه مثلَه ؛ لأن كل واحد من هؤلاء العلماء انفرد برواية رواها ، وبكلمة سمعها من العرب شفاهًا ، ولم يأت في كتابه بكل ما في كتاب أخيه ، ولا أقول تعاظم عن نقل ما نقله بل أقول استغنى بما فيه ؛ فصارت الفوائد في كتبهم مفرقة ، وسارت أنجم الفضائل في أفلاكها هذه مغرّبة وهذه مشرّقة ؛ فجمعت منها في هذا الكتاب ما تفرّق ، وقرنت بين ما غرّب منها وبين ما شرّق ، فانتظم شمل تلك الأصول كلها في هذا المجموع ، وصار هذا بمنزلة الأصل وأولئك بمنزلة الفروع ، فجاء بحمد الله وفق البُغية وفوق المُنية ، بديع الإتقان ، صحيح الأركان ، سليم ا من لفظه لو كان . حللت بوضعه ذروة الحفاظ ، وحللت بجمعه عقدة الألفاظ ، وأنا مع ذلك لا أدّعي فيه دعوى فأقول شافهتُ أو سمعتُ ، أو فعلتُ أو صنعتُ ، أو شددتُ أو رحلتُ ، أو نقلتُ عن العرب العَرْباء أو حملتُ ؛ فكل هذه الدعاوى لم يترك فيها الأزهري وابن سيده لقائلٍ مقالًا ، ولم يُخليا فيه لأحدٍ مجالا ، فإنهما عيَّنا في كتابيهما عمن رويا ، وبرهنا عما حويا ، ونشرا في خطيهما ما طويا . ولعمري لقد جمعا فأوعيا ، وأتيا بالمقاصد ووفيا .
وليس لي في هذا الكتاب فضيلة أمتُّ بها ، ولا وسيلة أتمسك بسببها ، سوى أني جمعت فيه ما تفرَّق في تلك الكتب من العلوم ، وبسطت القول فيه ولم أشبع باليسير ، وطالِبُ العلم منهوم . فمن وقف فيه على صواب أو زلل ، أو صحة أو خلل ، فعهدته على المصنِّف الأوّل ، وحمده وذمه لأصله الذي عليه المعول . لأنني نقلت من كل أصل مضمونه ، ولم أبدل منه شيئًا ،
فيقال فإنما إثمه على الذين يبدلونه بل أديتُ الأمانة في نقل الأصول بالفص ، وما تصرفت فيه بكلام غير ما فيها من النص ؛ فليعتدّ منْ ينقل عن كتابي هذا أنه ينقل عن هذه الأصول الخمسة ، ولْيَغْنَ عن الاهتداء بنجومها فقد غابت لما أطلعتُ شمسَه .
والناقل عنه يمد باعه ويطلق لسانه ، ويتنوع في نقله عنه لأنه ينقل عن خزانة . والله تعالى يشكر ما له بإلهام جمعه من منة ، ويجعل بينه وبين محرِّفي كَلِمِه عن مواضعه واقيةً وجُنَّةً . وهو المسؤول أن يعاملني فيه بالنية التي جمعتُه لأجلها ، فإنني لم أقصد سوى حفظ أصول هذه اللغة النبوية وضبط فضلها ، إذ عليها مدار أحكام الكتاب العزيز والسنة النبوية ؛ ولأن العالِمَ بغوامضها يعلم ما توافق فيه النيةُ اللسانَ ، ويخالف فيه اللسانُ النيةَ ، وذلك لِما رأيتُه قد غلب ، في هذا الأوان ، من اختلاف الألسنة والألوان ، حتى لقد أصبح اللحن في الكلام يعد لحنًا مردودًا ، وصار النطقُ بالعربية من المعايب معدودًا . وتنافس الناسُ في نصانيف الترجمانات في اللغة الأعجمية ، وتفاصحوا في غير اللغة العربية ، فجمعت هذا الكتاب في زمنٍ أهلُهُ بغير لغته يفخرون ، وصنعته كما صنع نوحٌ الفلكَ وقومُه منه يسخرون ، وسميته [ لسانَ العرب ] وأرجو من كرم الله تعالى أن يرفع قدر هذا الكتاب وينفعَ بعلومه الزاخرة ، ويصلَ النفع به بتناقل العلماء له في الدنيا وبنطق أهل الجنة به في الآخرة ؛ وأن يكون من الثلاث التي ينقطع عمل ابن آدم إذا مات إلا منها ؛ وأن أنال به الدرجات بعد الوفاة بانتفاع كل من عمل بعلومه أو نقل عنها ؛ وأن يجعل تأليفه خالصا لوجهه الجليل ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .
قال عبد الله محمد بن المكرّم : شرطنا في هذا الكتاب المبارك أن نرتبه كما رتب الجوهري صحاحَه ، وقد قمنا ، والمنة لله ، بما شرطناه فيه . إلا أن الأزهري ذكر ، في أواخر كتابه ، فصلا جمع فيه تفسيرَ الحروف المقطَّعة ، التي وردت في أوائل سور القرآن العزيز ، لأنها ينطق بها مفرّقة غير مؤلّفة ولا منتظمة ، فتَرِد كل كلمة في بابها ، فجعل لها بابًا بمفردها ؛ وقد استخرتُ اللهَ تعالى وقدمتها في صدر كتابي لفائدتين : أهمهما مقدَّمُهما ، وهو التبرك بتفسير كلام الله تعالى الخاص به ، الذي لم يشاركه أحد فيه إلا من تبرك بالنطق به في تلاوته ، ولا يعلم معناه إلا هو ، فاخترت الابتداء به لهذه البركة ، قبل الخوض في كلام الناس ؛ والثانية أنها إذا كانت في أول الكتاب كانت أقرب إلى كل مُطالع من آخره ، لأن العادة أن يُطالع أول الكتاب ليكشف منه ترتيبه وغرض مصنفه ، وقد لا يتهيأ للمُطالع أن يكشف آخره ، لأنه إذا اطلع من خطبته أنه على ترتيب الصحاح أيِس أن يكون في آخره شيء من ذلك ، فلهذا قدَّمتُه في أوّل الكتاب .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق