الجمعة، 8 فبراير 2013

الحيل من كتاب التذكرة الحمدونية



الثاني والأربعون

في الحيل والخدائع المتوصّل بها

إلى نجح المطالب والمقاصد

الحيلة من فوائد الآراء المحكمة، ونتائج الآراء المبصرة، وهي حسنة ما لم يستبح بها محظور، أو يحظر مباح، وفضيلة ما قصد بها صاحبها سبيل الإصلاح، وقد سومح الكاذب في الحرب والإئتلاف، ورفع عنه الوزر في كذبه والاقتراف؛ وإنما يكذب بضرب من الخديعة، يجمع بها شتائت الأهواء بعد القطيعة.
وقد سئل بعض الفقهاء عن استجازتهم الحيل في الفقه، فقال: قد علمنا الله عز وجل ذلك؛ فإنه قال: " وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث " . واستعمل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وسلّم الخديعة في الحرب وقال: الحرب خدعة.
وقال حكيم: اللطف في الحيلة أجدى من الوسيلة.
وقيل: من لم يتأمل الأهمر بعين عقله لم يقع سيف حيلته إلاّ على مقاتله. والتثبّت يسهل طريق الرأي إلى الإصابة، والعجلة تضمن العثرة.

والأمور وإن كانت مقدرة، فمن تقدير الله عز وجل. أكثر ما جربناه أن يكون المحتال أقرب إلى المأثور، وأبعد من المحذور، من المفرط في الأمور، والمستسلم للخطوب، المؤخر لاستعمال الحزم.
على أن الخليل بن أحمد قال: من استعمل الحزم وقت الاستغناء عنه استغنى عن الاحتيال في وقت الحاجة إليه.
الأخبار في الحيل كان سعد القرظ زنجياً عبداً لعمار بن ياسر. وكان على نخلة يجتني منها، فسمع الزنج يتكلمون فيما بينهم، فأذّن فاجتمع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، فقال: ما حملك على الأذان؟ قال: خفت عليك، فأذّنت ليجتمع أصحابك. فأمره بعد ذلك بالأذان، فكان مؤذناً.
لما أراد شيرويه قتل أبيه أبرويز، قال أبرويز للداخل عليه ليقتله: إني أدلك على شيء فيه غناك لوجوب حقك علي. قال: ماهو؟ قال: الصندوق الفلاني. فذهب الرجل إلى شيرويه فأخبره الخبر، فأخرج الصندوق وإذا فيه رقعة وفي الرقعة حق، وعلى الحق مكتوب: فيه حب م أخذ منه واحدة افتضّ عشر أبكار، وكان أمره في البه كذا وكذا. فأخذ شيرويه منه حبة كان هلاكه فيها. فكان أول ميت أخذ ثأره من قاتله.
كان الحارث بن مارية الغساني الملك مكرماً لزهير بن جناب الكلبي ينادمه ويحادثه، فقدم على الملك رجلان من بني نهد بن زيد يقال لهما: سهل وحزن ابنا رزاح، وكان عندهما حديث من أحاديث العرب، فاجتباهما الملك ونزلا منه بالمكان الأثير، فحسدهما زهير بن جناب فقال: أيها الملك، هما والله عين لذي القرنين عليك يعني المنذر الأكبر جد النعمان بن المنذر وهما يكتبان إليه بعوزتك وخلل ما يريان منك. قال: كلا. فلم يزل زهير به حتى أوغر صدره. وكان إذا ركب بعث إليهما ببعيرين يركبان معه، فبعث إليهما بناقة واحدة، فعرفا الشر فلم يركب أحدهما وتوقف، فقال له الآخر: (من الطويل)
فإلا تجللها يعالوك فوقها … وكيف توقى ظهر ما أنت راكبه
فركبها مع أخيه ومضي بهما فقتلا، ثم إن الملك بحث عن أمرهما بعد ذلك فوجده باطلاً، فشتم زهيراً وطرده، فانصرف إلى بلاد قومه. وقدم رزاح أبو الغلامين إلى الملك، وكان شيخاً مجرباً عالماً، فأكرمه الملك وأعطاه دية ابنيه. وبلغ زهيراً مكانه، فدعا ابناً له يقال له عامر، وكان من فتيان العرب لساناً وبياناً، فقال له: إن رزاحاً قدم على الملك، فالحق به، فاحتل في أن تكفينيه. وقال: اذممني عند الملك ونل مني، وأثّر به آثاراً. فخرج الغلام حتى قدم الشام فتلطف في الدخول على الملك حتى وصل إليه، وأعجبه ما رأى منه، فقال له: من أنت؟ فقال: أنا عامر بن زهير بن جناب. قال: فلا حياك الله ولا حيا أباك الغادر الكذوب الساعي. فقال الغلام: نعم، فلا حياه الله، أنظر أيها الملك ما صنع بظهري، وأراه آثار الضرب. فقبل ذلك منه وأدخله في ندمائه. فبينا هو يوماً يحدثه إذ قال: أيها الملك لست أدع أن أقول الحق، وقد والله نصحك أبي، ثم أنشأ يقول: (من الوافر)
فيا لك نصحة لمّا تذقها … أراها نصحة ذهبت ضلالا
ثم تركه أياماً وقال له بعد ذلك: ما تقول أيها الملك في حية قد قطعت ذنبها وبقي رأسها؟ قال: ذاك أبوك وصنيعه بالرجلين ما صنع. قال: أبيت اللعن! فوالله ما قدم رزاح إلا لثأر بهما. فقال له: وما آية ذلك؟ قال: اسقه الخمر، ثم ابعث عليه عيناً يأتيك بخبره. فلما انتشى صرفه إلى قبته ومعه بنت له، وبعث عليه عيوناً. فلما دخل قبته قامت بنته تسانده فقال: (من الوافر)
دعيني من سنادك إن حزناوسهلاً ليس بعدهما رقود
ولا تسليني عن شبليك ماذا … أصابهما إذا اهترش الأسود
فإني لو ثأرت المرء حزناً … وسهلاً قد بدا لك ما أريد
فرجع القوم إلى الملك فأخبروه بما سمعوا، فأمر بقتل النهدي، ورد زهيراً إلى موضعه.

خرج عمرو بن العاص بن وائل السهمي وعمارة بن الوليد المخزومي، أخو خالد بن الوليد في تجارة إلى النجاشي بأرض الحبشة، وكان عمارة ذا محادثة للنساء. فلما ركبا في السفينة ومع عمرو امرأته أصابا من خمر معهما، فلما انتشى عمارة قال لامرأة عمرو: قبليني، فقال لها عمرو: قبلي ابن عمك، فقبلته وحذر عمرو. وراودها عمارة عن نفسها، فامتنعت. ثم إن عمراً جلس إلى ناحية السفينة يبول، فدفعه عمارة في البحر. فلما وقع سبح حتى أخذ بالقلس ونجا. فقال له عمارة: أما والله يا عمرو، لو علمت أنك تحسن السباحة ما فعلت، فاضطغنها عمرو؛ ومضيا في وجههما حتى قدما أرض اليمن. وكتب عمرو بن العاص إلى أبيه العاص: أن اخلعني وتبرأ من جريرتي إلى بني المغيرة وسائر بني مخزوم، وخشي على أبيه أن يتبع بجريرته وهو يرصد لعمارة ما يرصد. فمضى العاص بن وائل في رجال من قومه منهم: نبيه ومنبه ابنا الحجاج إلى بني المغيرة وغيرهم من بني مخزوم فقال: إن هذين الرجلين قد خرجا حيث علمتم، وكلاهما فاتك صاحب شر، وهما غير مأمونين على أنفسهما، ولا ندري ما يكون، وإني أبرأ إليكم من عمرو ومن جريرته وقد خلعته. فقال بنو المغيرة: فأنت تخاف عمراً على عمارة، قد خلعنا عمارة وتبرأنا إليك من جريرته فخل بين الرجلين. فقال السهميون: قد قبلنا، فابعثوا منادياً بمكة: إنا قد خلعناهما وتبرأ كل قوم من صاحبهم ومما جرَّ عليهم، ففعلوا. فقال الأسود بن عبد المطلب: طل والله دم عمارة إلى آخر الدهر. ولما اطمأنا بأرض الحبشة لم يلبث عمارة أن دب لامرأة النجاشي فاختلف إليها فأدخلته، فجعل إذا رجع من مدخله يخبر عمرو بن العاص بما كان من أمره، ويقول له عمرو: ما أصدقك أنك قدرت على هذا الشأن؛ إن المرأة أرفع من ذلك، وقد كان صدقه عمرو وكانا في منزل واحد، وإنما أراد التثبت ويريد أن يأتيه بشيء لا يستطيع دفعه إن هو رفعه إلى النجاشي. فقال له في بعض ما يذكر من أمرها: إن كنت صادقاً فقل لها: فلتدهنك من دهن النجاشي الذي لا يدهن به غيره، فإني أعرفه، أو ائتني به أصدقك. ففعل عمارة فجاء بقارورة من دهنه، فلما شمها عمرو عرفه وقال له عند ذلك: أشهد أنك صادق، ولقد أصبت شيئاً ما أصاب أحد مثله قط من العرب من امرأة الملك. ثم سكت عنه؛ حتى إذا اطمأن دخل على النجاشي فقال: أيها الملك، إن ابن عمي سفيه وقد خشيت أن يعرني أمره عندك، وقد أردت أن أعلمك شأنه فلم أفعل حتى استثبت، وأنه قد دخل على بعض نسائك فأكثر، وهذا من دهنك قد أعطته منه، ودهنني منه. فلما شم النجاشي الدهن قال: صدقت، هذا دهني الذي لا يكون إلا عند نسائي. ثم دعا بعمارة ودعا السواحر فجردنه من ثيابه ثم أمر فنفخن في إحليله. وقال النجاشي: لو قتلت قرشياً لقتلتك. فخرج عمارة هارباً يهيم مع الوحش، فلم يزل بأرض الحبشة حتى كانت خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فخرج إليه عبد الله بن أبي ربيعة وكان اسمه بحيرا، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله فرصده على ماء بأرض الحبشة، وكان يرده مع الوحش. فلما وجد ريح الإنس هرب، حتى إذا جهده العطش ورد فشرب حتى تملا، وخرجوا في طلبه. قال عبد الله فسعيت إليه فالتزمته، فجعل يقول: يا بحيراأرسلني، يا بحيرا أرسلني، فإني أموت إن أمسكتموني. قال عبد الله: وضبطته فمات في يدي مكانه. فواراه وانصرف. وكان شعره قد غطى على كل شيء منه. وفي ذلك يقول عمرو بن العاص من أبيات: (من الطويل)
إذا المرء لم يترك طعاماً يحبه … ولم يعص قلباً غاوياً حيث يمما
قضى وطراً منه يسيراً وأصبحت … إذا ذكرت أمثاله تملأ الفما

قال ابن الكلبي: كان عامر بن الظرب العدواني يدفع بالناس في الحج. فحج ملك من ملوك حمير، فرآه فقال: لا أترك هذا المعدي حتى أذله وأفسد عليه أمره. فلما رجع الملك إلى بلده وصدر الناس، أرسل إليه الملك: إني أحب أن تزورني، فأحبوك وأكرمك وأتخذك خلاً وصديقاً. فأتاه قومه فقالوا: تغدو ويغدو معك قومك فيصيبون من جنبك ويتجهون بجاهك. فخرج وأخرج معه نفراً من قومه. فلما قدم بلاد الملك تكشف له رأيه وأبصر سوء ما صنع بنفسه. فجمع إليه أصحابه فقال: ألا ترون أن الهوى يقظان والرأي نائم؟ وهو أول من قاله، فمن هناك يغلب الهوى الرأي ومن لم يغلب الهوى بالرأي ندم؛ عجلت حين عجلتم، ولن أعود بعد أعجل برأي؛ إنا قد تورطنا في بلاد هذا الملك، فلا تسبقوني بريث أمر أقيم عليه ولا بعجلة رأي أخف معه، دعوني وحيلتي، فإن رأيي لي ولكم.
فلما قدم على الملك ضرب عليه قبة وأكرمه وأكرم أصحابه، فقالوا: قد أكرمنا كما ترى، وبعد هذا ما هو خير منه. فقال: لا تعجلوا، فإن لكل آكل طعاماً، ولكل راع مرعى، ولكل مراح مريحاً، وتحت الرغوة الصريح. وهو أول من قاله. فمضوا أياماً، ثم بعث إليه الملك: إني قد رأيت أن أجعلك الناظر في أمور قومي، وقد رضيت عقلك، وأتفرغ أنا لما أريد، فما رأيك؟ قال: أيها الملك، ما أحسب أن رغبتك في قربي بلغت أن تخلع لي ملكك؛ وقد تفضلت إذ أهلتني لهذه المنزلة، فإن لي كنز علم لست أعمل إلا به، وتركته في الحي مدفوناً؛ وإن قومي أضناء بي، فاكتب لي سجلاً بحماية الطريق فيرى قومي طمعاً تطيب أنفسهم به غني، فأستخرج كنزي وأعود إليك وافداً. فكتب له سجلاً بحماية الطريق. وجاء إلى أصحابه فقال: ارتحلوا عني، حتى إذا برزوا قالوا: لم نر كاليوم وافد قوم أقل ولا أبعد نوالاً منك! فقال لهم: مهلاً فما على الرزق فوت، وغانم من نجا من الموت، ومن لم ير باطناً يعش واهناً. فلما قدم على قومه قال: رب أكلة تمنع أكلات وهو أول من قاله ولم يرجع إلى الملك.
قال أبو عبيدة: استب عمارة بن عقبة بن أبي معيط وحجر بن زيد الكندي، وكان حجر قد ولي أرمينية لمعاوية، وكان شريفاً. فقال حجر لعمارة: يا صفوري، فقال: اشهدوا. وارتفعا إلى المغيرة بن شعبة، فقال المغيرة: إني لأكره أن أدخل بين عامل أمير المؤمنين وبين ابن عمه، ارحلا إليه. فلما قدما عليه قال عمارة: يا أمير المؤمنين، ركب مني ما لم يركب من أحد؛ شتمت ونفيت عن حسبي ونسبي، فقال: لعلك أشهدت عليه؟ قال: نعم. قال: أصبت. ثم دخل حجر على معاوية وعنده معاوية بن حديج السكوني وسعد بن نمرة الهمذاني، فسلم، فقال معاوية: مرحباً وأهلاً وسهلاً برجل إن حددناه لم ينقص من مروءته ولا شرفه ولا منزلته عندنا شيء. فقال معاوية لابن حديج: أبصرته؟ قال: نعم، قال: أنا أشهد أني سمعتك تذكر أنه صفوري. قال: ويلك، انظر ما تقول. قال ابن حديج لسد: يا أبا سعيد، أما سمعته وهو يقول ذلك؟ قال: بلى غير مرة. قال: ويحكما اتقيا الله! قال ابن حديج لسعد: أما سمعته يقول ذلك؟ قال: بلى، هو لهذا أذكر منك. قال معاوية: عليكم لعنه الله! ثم قال: يا عمارة، المستشار مؤتمن، قال: فإني استشرتك، قال: أشير عليك أن تدع هذا الحد، قال: تركته.

قال الربيع بن زياد الحارثي: كنت عاملاً لأبي موسى الأشعري على البحرين، فكتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمره بالقدوم عليه هو وعماله، وأن يستخلفوا جميعاً. فلما قدمنا أتيت يرفأً فقلت: يا يرفأ، مسترشد وابن سبيل، أي الهيئات أحب إلى أمير المؤمنين أن يرى فيه عماله؟ فأومأ إلى الخشونة، فاتخذت خفين مطارقين، ولبست جبة صوف، ولثت عمامتي على رأسي، فدخلنا على عمر، فصفنا بين يديه، فصعد فينا وصوب، فلم تأخذ عينه أحداً غيري؛ فدعاني فقال: من أنت؟ قلت: الربيع بن زياد الحارثي. قال: وما تتولى؟ قلت: البحرين. قال: كم ترزق؟ قلت: ألفاً، قال: كثير! فما تصنع به؟ قلت: أتقوت منه شيئاً وأعود به على أقارب لي، فما فضل منهم فعلى فقراء المسلمين. قال: فلا بأس، ارجع إلى موضعك. فرجعت إلى موضعي من الصف، فصعد فينا بصره وصوب، فلم تقع عينه إلا علي، فدعاني وقال: كم سنك؟ قلت: خمس وأربعون قال: الآن حين استحكمت. ثم دعا بالطعام، وأصحابي حديث عهدهم بلين العيش، فأتي بخبز يابس وأكسار بعير. فجعل أصحابي يعافون ذلك، وجعلت آكل فأجيد، فجعلت أنظر إليه يلحظني من بينهم. ثم سبقت مني كلمة تمنيت أني سخت في الأرض معها، فقلت: يا أمير المؤمنين، إن الناس محتاجون إلى صلاحك، فلو عمدت إلى طعام ألين من هذا، فزجرني وقال: كيف قلت؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، أن ينظر إلى قوتك من الطحين فيخبز لك قبل إرادتك إياه بيوم، ويطبخ لك اللحم كذلك، فتؤتى بالخبز ليناً وباللحم غريضاً. فسكن من غربه، فقال: أها هنا عزب؟ فقلت: نعم، فقال: يا ربيع، إنا لو نشاء لملأنا هذه الرحاب من صلائق وسبائك وصناب، ولكني رأيت الله عز وجل نعى على قوم شهواتهم فقال: " أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها " ، ثم أمر أبا موسى بإقراري وأن يستبدل بأصحابي. غريب هذا الخبر.
السبائك: الرفاق، يريد ما يسبك من الدقيق. والصلائق: ما عمل بالنار طبخاً وشياً. والصناب: صباغ يتخذ من الخردل والزبيب، ومن ذلك قيل للفري: صنابي إذا كان في مثل ذلك اللون. والغريض: الطري، والإكسار جمع كسر. والكسر والوصل: العظم ينفصل بما عليه من اللحم. وقوله: نعى على قوم: أي عابهم بها ووبخهم. والمطارق: المرقع.
روي أن بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري وقد على عمر ابن عبد العزيز بخناصرة، فسدك بناحية من المسجد فجعل يصلي إليها ويديم الصلاة. فقال عمر رحمه الله للعلاء بن المغيرة البندار: إن كان سر هذا كعلانيته فهو رجل أهل العراق غير مدافع. فقال العلاء: أنا آتيك بخبره. فأتاه وهو يصلي بين المغرب والعشاء، فقال: اشفع صلاتك فإن لي إليك حاجة، ففعل. فقال له العلاء: قد عرفت حالي من أمير المؤمنين، فإن أنا أشرت بك إلى ولاية العراق، فما تجعل لي؟ قال: عمالتي سنة، وكان مبلغها عشرين ألف درهم، قال: فاكتب لي بذلك، قال: فارتد بلال إلى منزله فأتى بدواة وصحيفة، فكتب له بذلك. فأتى العلاء عمر بالكتاب، فلما رآه كتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، وكان والي الكوفة: أما بعد، فإن بلالاً غرنا بالله فكدنا نغتر، فسبكناه فوجدناه خبثاً كله.

كان عبد الملك بن مروان من أشد الناس حباً لعاتكة امرأته، وهي عاتكة بنت يزيد بن معاوية. فغضبت مرة على عبد الملك، وكان بينهما باب فحجبته، وأغلقت ذلك الباب. فشق غضبها عليه وشكاه إلى خاصته. فقال له عمر بن بلال الأسدي: ما لي عندك إن رضيت؟ قال: حكمك. فأتى عمر بابها وجعل يتباكى وأرسل إليها بالسلام. فخرجت إليه خاصتها ومواليها وجواريها وقلن: ما لك؟ قال: فزعت إلى عاتكة ورجوتها، وقد علمت بمكاني من أمير المؤمنين معاوية ومن أبيها بعده. قلن: وما لك؟ قال: ابناي لم يكن لي غيرهما، فقتل أحدهما الآخر، فقال أمير المؤمنين: أنا قاتل الآخر به، فقلت: أنا الولي وقد عفوت؛ قال: لا أعود الناس هذه العادة؛ وقد رجوت أن ينجي الله ابني هذا على يدها. فدخلن عليها فذكرن ذلك لها، فقالت: وكيف أصنع مع غضبي عليه وما أظهرت له؟ قلن: إذاً والله يقتل، فلم يزلن حتى دعت بثيابها فأحضرنها، ثم خرجت نحو الباب؛ وأقبل حديج الخصي وقال: يا أمير المؤمنين، هذه عاتكة قد أقبلت. قال: ويلك ما تقول؟ قال: قد والله طلعت. فأقبلت وسلمت فلم يرد عليها، فقالت: أما والله لولا عمر لما جئت، آلله أن تعدى أحد ابنيه على الآخر فقتله، أردت قتل الآخر به وهو الولي وقد عفا؟ قال: إني أكره أن أعود الناس هذه العادة. قالت: أنشدك الله يا أمير المؤمنين، فقد عرفت مكانه من أمير المؤمنين معاوية ومن أمير المؤمنين يزيد، وهو ببابي. فلم تزل به حتى أخذت رجله تقبلها، فقال: هو لك، ولم يبرحا حتى اصطلحا. ثم راح عمر بن بلال إلى عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين، كيف رأيت؟ قال: رأيت أثرك، فهات حاجتك. فقال: مزرعة بعبرتها وما فيها وألف دينار وفرائض لولدي وأهل بيتي وعيالي، قال: ذلك لك. ثم اندفع عبد الملك يتمثل بشعر كثير: (من الطويل)
وإني لأرعى قومها من جلالها … وإن أظهروا غشاً نصحت لهم جهدي
ولو حاربوا قومي لكنت لقومها … صديقاً ولم أحمل على قومها حقدي
أقبل واصل بن عطاء بن سفر في رفقة، فأحسوا بالخوارج، فقال واصل لأهل الرفقة: إن هذا ليس من شأنكم فاعتزلوا ودعوني وإياهم؛ وكانوا قد أشرفوا على العطب، فقالوا: شأنك. فخرج إليهم، فقالوا: ما أنت وأصحابك؟ قال: مشركون مستجيرون ليسمعوا كلام الله ويفهموا حدوده، قالوا: قد أجرناكم؛ قال: فعلمونا. فجعلوا يعلمونه أحكامهم، وجعل يقول: قد قبلت أنا وأصحابي؛ قالوا: فامضوا مصاحبين فإنكم إخواننا، قال: ليس ذاك لكم؛ قال الله: " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه " فأبلغونا مأمننا فنظر بعضهم إلى بعض ثم قالوا: ذاك لكم، فساروا بجمعهم حتى بلغوهم المأمن.
وهمّ الأزارقة بقتل رجل، فنزع ثوبه واتزر ولبى وأظهر الإحرام، فخلوا سبيله لقول الله عز وجل: " لا تحلوا شعائر الله " .
قدم محمد بن الحسن الفقيه العراق، فاجتمع الناس عليه يسألونهويسمعون كلامه فرفع خبره إلى الرشيد وقيل له: إن معه كتاب الزندقة. فبعث بمن كبسه وحمله وحمل معه كتبه، فأمر بتفتيشها. قال محمد: فخشيت على نفسي من كتاب الحيل، فقال لي الكاتب: ما ترجمة هذا الكتاب؟ فقلت: كتاب الخيل، فرمى به.
قال مروان بن الحكم يوماً لابن أبي عتيق: إني مشغوف ببغلة الحسن بن علي عليهما السلام؛ فقال له ابن أبي عتيق: إن دفعتها إليك أتقضي لي ثلاثين حاجة ؟ قال: نعم. قال: فإذا اجتمع الناس عندك العشية فإني آخذ في مآثر قريش ثم أمسك عن الحسن، فلمني على ذلك. فلما أخذ القوم مجالسهم أفاض في أولية قريش، فقال له مروان: ألا تذكر أوّليّة أبي محمد وله في هذا ما ليس لأحد؟ قال: إنما كنا في الأشراف، ولو كنا في ذكر الأنبياء لقدمنا لأبي محمد. لما خرج ليركب تبعه ابن أبي عتيق، فقال له الحسن وتبسم: ألك حاجة؟ قال: ركوب البغلة، فنزل الحسن كرم الله وجهه فدفعها إليه.
لما بايع الرشيد لأولاده الثلاثة بالعهد، تخلف رجل مذكور من الفقهاء، فأحضره وقال له: لم تخلفت عن البيعة؟ قال: عاقني يا أمير المؤمنين عائق. فأمر بقراءة كتاب البيعة، فلما قريء قال: يا أمير المؤمنين، هذه البيعة في عنقي إلى قيامي الساعة. فلم يفهم الرشيد ما أراد وقدّر أنه إلى قيام الساعة، وذهب ما كان في نفسه.

لما حبس ابن المقفع وألح عليه صاحب الاستخراج في العذاب، خشي على نفسه فقال لصاحب الاستخراج: عندك مال وأنا أربحك ربحاً ترضاه، وقد عرفت وفائي وسخائي وكتماني؟ فعندي مقدار هذا الشهر. فلما صار له عليه مال رفق به مخافة أن يموت تحت العذاب فيثوى ماله.
قال المغيرة بن شعبة: ما خدعني غير غلام من بني الحارث بن كعب؛ فإني ذكرن امرأة منهم، فقال لي: أيها الأمير، لا خير لك فيها، قلت: ولم؟ قال: رأيت رجلاً يقبلها، فأضربت عنها، فتزوجها الفتى، فأرسلت إليه: ألم تعلمني كذا وكذا من أمرها؟ قال: بلى، رأيت أباها يقبلها.
كان لعبد الله بن مطيع غلام مولد قد أدّبه وخرجه وصيره قهرمانه، وكان أتاهم قوم من العدو من ناحية البحر، فرآه يوماً يبكي، فقال: ما لك؟ قال: تمنيت أن أكون حراً فأخرج مع المسلمين. قال: وتحب ذاك؟ قال: نعم، قال: فأنت حر لوجه الله تعالى فاخرج، قال: فإنه قد بدا لي أن لا أخرج، قال: خدعتني والله.
أتي معن بن زائدة بثلاثمائة أسير من حضرموت، فأمر بضرب رقابهم. فقام فيهم غلام حتى سال عذاره، فقال: أنشدك الله أن تقتلنا ونحن عطاش، قال: اسقوهم، فلما شربوا قال: اضربوا أعناقهم، فقال الغلام:أنشدك الله أن تقتل أضيافك، فقال: أحسنت! وأمر بإطلاقهم.
مر شبيب بنيزيد الخارجي على غلام قد استنقع في الفرات، فقال: يا غلام، اخرج إلي لأسألك. فنظر الغلام فعرف شبيباً: فقال: إني أخاف، فهل آمن أنا إلى أن أخرج وألبس ثيابي؟ قال: نعم، قال: فوالله لا ألبسها اليوم ولا أخرج. فقال شبيب: أوّه! خدعني الغلام، وأمر رجلاً يحفظه له ولا تصيبه معرة ومضى، وسلم الغلام.
كان يختلف إلى أبي حنيفة رجل يتجمل بالستر الظاهر والسمت الحسن. فقدم رجل غريب فأودعه مالاً خطيراً وخرج حاجّاً، فلما عاد طالبه بالوديعة فجحده، فألح عليه الرجل فتمادى. وكاد صاحب المال يهيم، ثم استشار ثقة فقال له: كف عنه وصر إلى أبي حنيفة، فدواؤك عنده. فانطلق إليه وخلا به وأعلمه شأنه. فقال له أبو حنيفة: لا تعلم بهذا أحداً وامض راشداً وعد إلي غداً. فلما أمسى أبو حنيفة جلس كعادته للناس، وجعل كلما سئل عن شيء تنفس الصعداء. فقيل له في ذلك. فقال: إن هؤلاء، يعني عن السلطان، قد احتاجوا إلى رجل يبعثونه قاضياً إلى مكان وقالوا لي: اختر من أحببت، ثم أسبل كمه. وخلا بصاحب الوديعة وقال له: أترغب حتى أسميك؟ فذهب متمنعاً عليه، فقال أبو حنيفة: اسكت فإني أبلغ لك ما تحب. فانصرف الرجل مسروراً يظن الظنون بالجاه العريض والحال الحسنة. وصار رب المال إلى أبي حنيفة فقال له: امض إلى صاحبك ولا تخبره بما بيننا، ولوح بذكري وكفاك. فمضى الرجل واقتضاه وقال له: اردد علي مالي وإلا شكوتك إلى أبي حنيفة. فلما سمع ذلك وفّاه المال، وصار الرجل إلى أبي حنيفة وأعلمه برجوع المال إليه. فقال: استر عليه، وغدا الرجل إلى أبي حنيفة طامعاً في القضاء، فنظر إليه أبو حنيفة وقال له: قد نظرت في أمرك فرفعت قدرك عن القضاء.
ونظير هذه الحكاية، قال الحسن بن أبي مالك: أتى رجل أبا حنيفة بالمدينة فقال له: قد وصفوك لي وأريدك أن تخلصني من يمين عجلت فيها، وقد استفتيت ابن شبرمة وابن أبي ليلى وعطاء وغيرهم، فلم يخرجوني من مسألتي بحال. قال: وما هي؟ قال له: إني حلفت أن أطأ امرأتي في شهر رمضان بالنهار، فقال له أبو حنيفة: فإذا أخرجتك عن يمينك تعاود؟ قال: لا. قال: اذهب فاعمل على أن تسافر بامرأتك ثلاثة أيام. فإذا جاوزت أبيات المدينة فافطر وتفطر زوجتك وطأ ولا تعاود ما كان منك، واقض أيام فطرك بعد انقضاء سفرك. قال: فقبل رأسه ودعا له وانصرف.
أرسل أحمد بن طولون والي مصر إلى أبي ابراهيم المزني في الحضور، فقال للرسول: عد إلي، فلما مضى الرسول قال: والله لا حضرت عنده إن شاء الله. فلما عاد الرسول إليه قال: اعذرني، فعلي يمين ليس لها كفارة، فظن الرسول أنها يمين الطلاق، وإنما أراد ما حلف به ولا كفارة فيه.

قال أبو يوسف: بقيت على باب الرشيد حولاً لا أصل إليه، حتى حدثت مسألة، وذلك أن بعض أهله كانت له جارية، فحلف أنه لا يبيعها إياه ولا يهبها له. وأراد الرشيد شراءها فلم يجد أحداً يفتيه في ذلك. فقلت لابن الربيع: أعلم أمير المؤمنين أن بالباب رجلاً من الفقهاء عنده الشفاء من هذه الحادثة. فدخل فأخبره، فأذن لي، فلما وصلت مثلت بين يديه، فقال لي: ما تقول؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، أقوله لك وحدك أم بحضرة الفقهاء؟ قال: بل بحضرة الفقهاء، وليكون الشك أبعد. وأمر فأحضر الفقهاء، وأعيد عليهم السؤال، فكل قال: لا حيلة عندنا. فأقبل أبو يوسف فقال: المخرج منها أن يهب لك نصفها ويبيعك نصفها فإنه لا يقع الحنث. فقال القوم: صدق! فعظم أمري عند الرشيد، وعلم أني أتيت بما عجزوا عنه، ثم قال له الرشيد: هي مملوكة ولا بد أن تستبرأ، ووالله إن بت الليلة ولم أبت معها أظن نفسي ستزهق. قال: قلت: يعتقها أمير المؤمنين ويتزوجها، فإن الحرة لا تستبرأ.
وقف أحمد بن أبي خالد بين يدي المأمون، وخرج يحيى بن أكثم من بعض المستراحات، ووقف. فقال له المأمون: اصعد إلى السرير، فصعد فجلس على طرفه، فقال أحمد: يا أمير المؤمنين، إن يحيى صديقي وأخي ومن أثق به في أمري كله ويثق بي، وقد تغير عما كنت أعهده عليه، فإن رأيت أن تأمره بالعود إلى ما كان عليه لي، فإني له على مثله. فقال المأمون: يا يحيى إن فساد أمر الملوك بفساد الحال بين خاصتهم، وما يعدلكما عندي أحد، فما هذا النزاع بينكما؟ فقال له يحيى: والله يا أمير المؤمنين إنه ليعلم أني له على أكثر مما وصف، وأنني أثق بمثل ذلك منه، ولكنه رأى منزلتي هذه منك، فخاف أن أتغير له يوماً فأقدح فيه عندك، فتقبل قولي فيه، فأحب أن يكون هذا. فتأمرني بامريء لو بلغ نهاية مساءتي ما قدرت أن أذكره بسوء عندك؟ فقال المأمون: كذلك هو يا أحمد؟ قال: نعم، قال: أستعين بالله عليكما! ما رأيت أتم دهاء ولا أقرب فطنة منكما.
ولي أبو بردة بن أبي موسى القضاء بالكوفة بعد الشعبي، وكان يحكم بأن رجلاً لو قال لمملوك لا يملكه: أنت حر، فإن المملوك يعتق، ويؤخذ ثمنه من المعتق. قال: وعشق رجل من بني عبس جارية لجار له وجن بها وجنت به، وكان يشكو ذاك إليها، فلقيها يوماً فقال لها: إلى الله أشكو أنه لا حيلة لي فيك. فقالت: بلى والله، إن لك لحيلة ولكنك عاجز؛ هذا أبو بردة يقضي في العتق بما علمت. فقال لها: أشهد إنك لصادقة. ثم قدمها إلى مجلس للنخع فيه قوم معدلون، فقال: هذه جارية آل فلان أشهدكم أنها حرة، فألقت ملحقتها على رأسها. وبلغ ذلك مواليها فقدموه إلى أبي بردة، فأنفذ عتقها أبو بردة، وألزم الرجل ثمنها. فلما أمر به إلى السجن خاف أنها إذا طال أمرها تصير إلى أول من يطلبها وأن يخيب فيما صنع في أمرها، فقال: أصلح الله القاضي، لابد من حبسي؟ قال: لا بد أو تعطيهم ثمنها؛ قال: فليس مثلي من يحبس في شيء يسير، أشهدكم أني قد أعتقت كل مملوك لأبي بردة، وكل مملوك لآل أبي موسى، وكل مملوك لمذحج، فخلى سبيله ورجع عن ذلك القضاء.
خطب سلمان الفارسي إلى عمر بن الخطاب ابنته، فلم يستجز رده، فأنعم له، وشق ذلك عليه وعلى ابنه عبد الله بن عمر. فشكا ذلك عبد الله إلى عمرو بن العاص، فقال له: أفتحب أن أصرف سلمان عنكم؟ فقال له: هو سلمان، وحاله في المسلمين حاله! قال: أحتال له حتى يكون هو التارك لهذا الأمر والكاره له. قال: وددنا ذلك. فمر سلمان بعمرو في طريق فضرب بيده على منكبه وقال له: هنيئاً أبا عبد الله! قال: وما ذاك؟ قال: هذا أمير المؤمنين عمر يريد أن يتواضع بك فيزوجك. قال: وإنما يزوجني ليتواضع بي؟ قال: نعم، قال: لا جرم والله لا خطبت إليه أبداً.
كتب معاوية إلى عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة أن يقدما عليه. فقدم عمرو من مصر، والمغيرة من الكوفة، فقال عمرو للمغيرة: ما جمعنا إلا ليعزلنا، فإذا دخلت إليه فاشك الضعف، واستأذنه أن تأتي للطائف أو المدينة، فإني إذا دخلت عليه سألته ذلك، فإنه يظن أنا نريد أن نفسد عليه. فدخل المغيرة فسأله أن يعفيه فأذن له؛ ودخل عليه عمرو فسأله أن يعفيه فأذن له. ودخل عليه عمرو بعد ذلك، فقال لهما معاوية: قد تواطأتما على أمر وإنكما لتريدان شراً، ارجعا إلى عملكما.

وكتب المغيرة بن شعبة إلى معاوية حين كبر وخاف العزل: أما بعد فإنه قد كبرت سني، ورق عظمي وقرب أجلي وسفهني رجال قريش، فرأي أمير المؤمنين في عمله موفق. فكتب إليه معاوية: أما ما ذكرت من كبر سنك، فإنك أكلت بسنك عمرك؛ وأما ما ذكرت من اقتراب أجلك، فإني لو كنت أستطيع دفع المنية لدفعتها عن آل أبي سفيان، وأما ما ذكرت من العمل ف: (من الرجز)
ضحّ رويداً يدرك الهيجا حمل
فاستأذن معاوية في القدوم فأذن له. قال الربيع بن هزيم: فخرج المغيرة وخرجنا معه إلى معاوية. فقال له: يا مغيرة، كبرت سنك وقرب أجلك ولم يبق منك شيء، ولا أظنني إلا مستبدلاً بك. قال: فانصرف إلينا ونحن نعرف الكآبة فيه، فقلنا: ما تريد أن نصنع؟ قال: ستعلمون ذلك. فأتى معاوية فقال: يا أمير المؤمنين، إن الأنفس يغدى عليها ويراح، ولست في زمن أبي بكر وعمر؛ وقد اجترح الناس، فلو نصبت لنا علماً من بعدك نصير إليه، مع أني قد دعوت أهل العراق إلى يزيد فركنوا إليه حتى جاءني كتابك. قال: يا أبا محمد، انصرف إلى عملك، فأحكم هذا الأمر لابن أخيك. فأقبلنا على البريد نركض.
أصابت المسلمين جولة بخراسان، فمر فيهم شعبة بن ظهير على بغلة له، فرآه بعض الرجالة، فتقدم له على جذم حائط، فلما حاذاه جال في عجز بغلته، فقال له: اتق الله فإنها لا تحملني وإياك؛ قال: امض فإني والله ما أقدر أن أمشي؛ قال: إنك تقتلني وتقتل نفسك، قال: امض فهو ما أقول لك. قال شعبة: فصرف وجه البغلة قبل العدو، فقال له: إلى أين تريد؟ قال: أنا أعلم أني مقتول، فلأن أقتل مقبلاً خير من أن أقتل مدبراً. فنزل الرجل عن بغلته.
سأل عبد الله بن الزبير معاوية شيئاً، فمنعه، فقال: والله ما أجهل أن ألزم هذه البنيّة، فلا أشتم لك عرضاً ولا أقصب لك حسباً، ولكن أسدل عمامتي من بين يدي ذراعاً ومن خلفي ذراعاً، وأقعد في طريق أهل الشام، فأذكر سيرة أبي بكر وعمر فيقول الناس: هذا ابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن الصديق، فقال معاوية: حسبك بهذا شراً، وقضى حاجته.
أتى رجل الأحنف فلطمه، فقال له: لم لطمتني؟ قال: جعل لي جعل على أن ألطم سيد بني تميم، قال: ما صنعت شيئاً، عليك بجارية بن قدامة فإنه سيدهم. فانطلق فلطم جارية، فأخذه فقطع يده؛ وإنما أراد الأحنف ذلك.
قال عمر بن يزيد الأسدي: خفنا أيام الحجاج وجعلنا نودع متاعنا، وعلم جار لنا، فخشيت أن يظهر أمرنا، فعمدت إلى سفط فيه لبن ودفعته إليه، فمكث عنده حتى أمنا، فطلبته منه، فقال لي: ما وجدت أحداً تودعه لبناً غيري؟! وتوجه عمرو بن العاص حين فتح قيسارية إلى مصر، وبعث إلى علجها فأرسل إليه أن أرسل إلي رجلاً من أصحابك أكلمه. فنظروا فقال عمرو ما أرى لهذا أحداً غيري، فخرج ودخل على العلج وكلمه، فسمع كلاماً لم يسمع مثله قط، فقال: حدثني، هل في أصحابك مثلك؟ قال: لا تسل عن هواني عليهم، إلا أنهم بعثوني إليك وعرضوني لما عرضوني لا يدرون ما تصنع بي. فأمر له بجائزة وكسوة، وبعث إلى البواب: إذا مر بك فاضرب عنقه وخذ ما معه. فخرج من عنده، فمر برجل من نصارى العرب من غسان فعرفه، فقال: يا عمرو، إنك قد أحسنت الدخول، فأحسن الخروج، فرجع، فقال له الملك: ما ردك؟ قال: نظرت فيما أعطيتني فلم أجده يسع بني عمي، فأردت أن أجيئك بعشرة منهم تعطيهم هذه العطية وتكسوهم بهذه الكسوة، فيكون معروفك عند عشرة خيراً من أن يكون عند واحد. قال: صدقت، فأعجل بهم إلي. وبعث إلى البواب أن خل سبيله. فخرج عمرو وهو يتلفت حتى إذا أمن قال: لا أعود إلى مثلها أبداً، فما فارقها عمرو حتى صالحه. فلما أتي بالعلج قال: أنت هو؟ قال عمرو: نعم على ما كان من غدرك.

كان لأيمن بن خزيم الأسدي منزلة من معاوية، وكان معاوية قد ضعف عن النساء، وكان يكره أن يذكر عنده أحد يوصف بالجماع. فجلس ذات يوم وفاختة زوجته قريبة منه حيث تسمع الكلام. فقال: يا أيمن، ما بقي من طعامك وشرابك وجماعك وقوتك؟ فقال: يا أمير المؤمنين أنا والله آكل الجفةة الكبيرة الدرمك والقدر، وأشرب الرفد العظيم ولا أقنع بالغمر، وأركض بالمهر الأرن ما أحضر، وأجامع من أول الليل إلى السحر. قال: فغم ذلك معاوية، وكلامه هذا بأذني فاختة فجفاه معاوية. فشكا أيمن ذلك إلى امرأته، فقالت: أذنبت ذنباً، فوالله ما معاوية بعنت ولا متجن قال: لا والله إلا كذا وكذا، الت: هذا والله الذي أغضبه عليك، قال: فأصلحي ما أفسدت، قالت: كفيتك. فأتت معاوية فوجدته جالساً للناس، فأتت فاختة فقالت: ما لك؟ قالت: جئت استعدي على أيمن، قالت: وما له؟ قالت: ما أدري أرجل هو أم امرأة؟ وما كشف لي ثوباً منذ تزوجني؛ قالت: فأين قوله لأمير المؤمنين؟ وحكت لها ما قال؛ قالت: ذاك والله الباطل. وأقبل معاوية فقال: من هذه عندك يا فاختة؟ قالت: هذه امرأة أيمن جاءت تشكوه، قال: وما لها؟ قالت: زعمت أنها لا تدري أرجل هو أم امرأة، وأنه لم يكشف لها ثوباً منذ تزوجها. قال: كذاك هو؟ قالت: نعم، فرق بيني وبينه، فرق الله بينه وبين روحه. قال معاوية: أوخير من ذلك؟ هو ابن عمك وقد صبرت عليه دهراً، فأبت، فلم يزل يطلب إليها حتى سمحت له بذلك، فأعطاها وأحسن إليها، وعادت منزلة أيمن عند معاوية كما كانت.
حلف بعض الأعراب أن لا يكشف لامرأته ثوباً، فسأل القاضي، فأمره باعتزالها، فقالت مريم بنت الحريش: تكشف هي ثوبها صاغرة قمية، فأمره القاضي بذلك.
حدث المدائني أن مخارق بن عفار ومعن بن زائدة في فوارس لقيا رجلاً في بلاد الشرك ومعه جارية لم ير مثلها شباباً وحمالاً، فصاحوا به: خل عنها، ومعه قوس له، فرمى بعضهم فجرحه، فهابوا الإقدام عليه؛ ثم عاد ليرمي فانقطع وتره، فأسلم الجارية وأسند في جبل كان قريباً منه، فابتدروا الجارية وكان في أذنها قرط وفيه درة، فانتزعه بعضهم، فقالت: وما قدر هذه؟ فكيف لو رأيتم درتين في قلنسوته؟ فأتبعوه، فقال: ما لكم، ألم أدع لكم بغيتكم؟ قالوا ألق ما في قلنسوتك، فرفع قلنسوته فإذا فيها وتر للقوس كان قد أعده وأنسيه من الدهش، فلما رآه عقده في قوسه، فولى القوم ليس لهم همة إلا أن ينجوا بأنفسهم وخلوا عن الجارية.
قال المدائني: كان الحجاج حسوداً لا ينشيء صنيعة إلا أفسدها؛ فلما وجه عمارة بن تميم اللخمي إلى ابن الأشعث وعاد بالفتح حسده، فعرف ذلك عمارة وكره منافرته، وكان عاقلاً رفيقاً. فظل يقول: أصلح الله الأمير، أنت أشرف العرب، من شرفته شرف، ومن صغرته صغر، ما ابن الأشعث وخلعه؟ حتى استوفد عبد الملك الحجاج وسار عمارة معه يلاطفه، وقدموا على عبد الملك، وقامت الخطباء بين يديه في أمر فقال الحجاج: يا أمير المؤمنين، سل الحجاج عن طاعتي وبلائي، فقال الحجاج: يا أمير المؤمنين، لقد أخلص الطاعة وأبلى الجميل وأظهر البأس، من أيمن الناس نقيبة، وأعفهم سريرة. فلما بلغ آخر التقريظ قال عمارة: أرضيت يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم، فرضي الله عنك. قال عمارة: فلا رضي الله عن الحجاج يا أمير المؤمنين ولا حفظه ولا عافاه؛ فهو الأخرق السييء التدبير، الذي قد أفسد عليك العراق وألب الناس عليك، وما أتيت إلا من خرقه وقلة عقله وفسالة رأيه وجهله بالسياسة، ولك منه يا أمير المؤمنين أمثالها إن لم تعزله. فقال الحجاج: مه يا عمارة! فقال: لا مه ولا كرامة! يا أمير المؤمنين، كل امرأة له طالق وكل مملوك له حر إن سرت تحت راية الحجاج أبداً. فقال عبد الملك: ما عندنا أوسع لك.
قدم معاوية المدينة ودخل المسجد، وسعد بن أبي وقاص جالس إلى ركن المنبر. فصعد المنبر فجلس في مجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له سعد: يا معاوية، أجهلت أم جننت فنداويك؟ فقال: يا أبا إسحاق، إني قدمت على قومي على غير تأهب لهم، وأنا باعث لهم بأعطياتهم إن شاء الله تعالى. فسمع الناس كلام معاوية ولم يسمعوا كلام سعد. وانصرف الناس يقولون: كلمه سعد في العطاء فأجابه إليه.

جاء بازيار لعبد الله بن طاهر فأعلمه أن بازياً له انحط على عقاب فقتلها، فقال: اذهب فاقطف رأسه، فقال: إنه قتل العقاب! فقال: اقتله فإني لا أحب لشيء أن يجتريء على ما فوقه. وأراد أن يبلغ ذلك المأمون فيسكن إلى جانبه.
غضب المأمون على رجل فقال له: لأقتلنك ولآخذن مالك، اقتلوه! فقال أحمد بن أبي داود: إذا قتلته، فمن أين تأخذ المال؟ قال: من ورثته. فقال: إذن تأخذ مال الورثة، وأمير المؤمنين يأبى ذلك. فقال: يؤخر حتى يستصفى ماله، فانفض المجلس وسكن غضبه، وتوصل إلى خلاصه من بعد.
مرض مولى لسعيد بن العاص ولم يكن له من يخدمه، فبعث إلى سعيد فلما أتاه قال: إنه ليس لي وارث غيرك، وها هنا ثلاثون ألف درهم مدفونة، فإذا أنا مت فخذها بارك الله لك فيها. فقال سعيد حين خرج من عنده: ما أرانا إلا وقد أسأنا إلى مولانا وقصرنا في تعاهده، وهو من شيوخ موالينا. فبعث إليه تعاهده، ووكل به من يخدمه. فلما مات كفنه وشهد جنازته، فلما رجع إلى البيت أمر بأن يحفر الموضع، فلم يجد فيه شيئاً. وجاء صاحب الكفن فطالب بالكفن، فقال: والله لقد هممت أن أنبش عن ابن الفاعلة.
بعث يزيد بن معاوية عبد الله بن عضاه الأشعري إلى ابن الزبير فقال له: إن أول أمرنا كان حسناً فلا تفسده بأخرة. قال ابن الزبير: إنه ليست ليزيد في عنقي بيعة. فقال له: لو كانت، أكنت تفي بها؟ قال: نعم. قال: يا معشر المسلمين. قد سمعتم ما قال، وقد بايعتم ليزيد، وهو يأمركم بالرجوع عن بيعته.
جاءت امرأة إلى أبي حنيفة فقالت: إن زوجي حلف بطلاقي أن أطبخ قدراً أطرح فيها مكوكاً من الملح فلا يتبين طعم الملح فيما يؤكل منها، فقال: خذي قدراً واجعلي فيها الماء، واطرحي فيها مكوكاً ملحاً واطرحي فيه بيضاً واسلقيه، فإنه لا يوجد طعم الملح في البيض.
قال الحجاج لمحمد بن عمير بن عطارد: اطلب لي امرأة حسنة أتزوجها، قال: قد وجدتها إن زوجها أبوها. قال: ومن هذا الذي يمتنع من تزويجي؟ قال: أسماء بن خارجة، يدعي أنه لا كفؤ لبناته إلا الخليفة. قال: فأضمرها الحجاج إلى أن دخل عليه أسماء، فقال: ما هذا الفخر والتطاول؟ قال: أيها الأمير، إن تحت هذا شيئاً، قال: بلغني أنك تزعم أن لا كفؤ لبناتك إلا الخليفة! فقال: والله ما الخليفة بأحب أكفائهن إلي، ولنظرائي من العشيرة أحب إلي منه؛ لأن من خالطني منهم حفظني في حرمتي، وإن لم يكن يحفظني قدرت على أن أنتصف منه، والخليفة لا ينتصف منه إلا بمشيئته، وحرمته مضيمة مطرحة، مقدم عليها من ليس مثلها، ولسان ناصرها أقطع. قال: فما تقول في الأمير خاطباً هنداً؟ فزوجه إياها وحولها إليه، فلما أتى على الحديث حولان دخل أسماء على الحجاج فقال: هل أتى الأمير ولد بحمد الله تعالى على هيئته يسر به؟ قال: أما من هند فلا. فقال: ولد الأمير من هند ومن غير هند عندي بمنزلة؛ قال: والله إني لأحب من هند؛ قال: فما يمنع الأمير من الضر، فإن الأرحام تتغاير، قال: أو تقول هذا القول وعندي هند؟ قال: أحب أن يفشو نسل الأمير، فقال: ممن؟ قال: على الأمير بهذا الحي من تميم، فنساؤهم مناجيب؛ قال: فأيهن؟ قال: ابنة محمد بن عمير، قال: إنه لا فارغة له، قال: ما فعلت فلانة ابنته؟ فلما دخل إليه محمد بن عمير، قال: ألا تزوج الأمير؟ قال: لا فارغة لي، قال: فأين فلانة؟ قال: زوجتها من ابن أخي البارحة، قال: أحضر ابن أخيك، فإن أقر بهذا ضربت عنقه. فجيء بابن أخيه وأبلغ ما قال الحجاج. فلما مثل بين يديه قال: بارك الله لك يا فتى؟ قال: في ماذا؟ قال: في مصاهرتك لعمك البارحة، قال: ما صاهرته البارحة ولا قبلها، قال: فانصرف راشداً. ولم ينصرف محمد حتى زوجه ابنته. وحضر بعد ذلك يوماً جماعة من الأشراف باب الحجاج فحجب الجميع غير أسماء ومحمد. فلما دخلا قال: مرحباً بصهري الأمير، سلاني ما تريدان أشفعكما، فلم يبقيا عانياً إلا أطلقاه، ولا مجمراً إلا أقفلاه. فلما خرجنا أتبعهما الحجاج من يحفظ كلامهما، فلما فارقا الدار ضرب أسماء يده على كتف محمد وأنشأ يقول: (من الطويل)
جزيتك ما أسديته يا ابن حاجب … وفاء كعرف الديك أو قدة النسر
في أبيات كثيرة. فعاد الرجل فأخبر الحجاج. فقال: لله در ابن خارجة إذا وزن بالرجال رجح!

مر زياد بأبي العريان فقال: من هذا؟ قيل: زياد بن أبي سفيان، فقال: رب أمر قد نقضه الله، وعبد قد رده الله. فسمعها زياد فكره الإقدام عليه وكتب بها إلى معاوية، فأمره بأن يبعث إليه ألف دينار ويمر ويسمع ما يقول. ففعل زياد ذلك، ومر به فقال: من هذا؟ قالوا: زياد، قال: رحم الله أبا سفيان، لكأنهاتسليمته ونغمته. فكتب بها زياد إلى معاوية، فكتب إلى أبي العريان: (من البسيط)
ما لبثتك دنانير رشيت بها … أن لونتك أبا العريان ألوانا
فدعا أبو العريان وأملى عليه إلى معاوية: (من البسيط)
من يسد خيراً يجده حين يطلبه … أو يسد شراً يجده حيثما كانا
لما كتب أمان عبد الله بن علي واستفتي ابن المقفع فيه، وكان كاتب أخيه سليمان بن علي، وأكد سليمان بن علي وإخوته الأيمان والعهود على المنصور في أمانه قال لهم المنصور: هذا لازم إلا إذا وقعت عيني عليه، فمل دخل داره أمر أن يعدل به ولم يره المنصور فحبس. فكانت هذه تعد من حيل المنصور.
ولما كتب المنصور إلى عامله بالبصرة بقتل ابن المقفع جاء عمومته فأحضروا الشهود بأن ابن المقفع دخل إلى دار الوالي ولم يخرج منها، فطالبوه بالقود منه. قال المنصور: إن أنا أقدت من عاملي وقتلته، ثم خرج عليكم ابن المقفع من هذا الباب، من الذي يرضى بأن أقتله بعاملي قوداً منه؟ فسكن القوم وأهدروا دم ابن المقفع.
لما دخل الضحاك بن بشر الشيباني الخارجي الكوفة قيل له: لم تقتل أهل الأطراف ومعك بالكوفة أصل الإرجاء أبو حنيفة؟ فأرسل إليه فأحضره. فلما رآه قال: اضربوا عنقه، من قبل أن يكلمه. فقال أبو حنيفة: كفرت، قال: ولم؟ قال: تقتل رجلاً لم تسمع كلامه؟ قال: ما تقول في الإيمان؟ قال: هو قول. قال: قد صح كفرك، اضربوا عنقه. قال: تضرب عنق رجل لم تستتبه؟ قال: فما تقول؟ قال: أنا تائب، فتركه.
قال عباس بن سهل الساعدي: لما ولي عثمان بن حيان المري المدينة، عرض ذات يوم بذكر الفتنة، فقال له بعض جلسائه: عباس بن سهل كان شيعة لابن الزبير، وكان قد وجهه في جيش إلى المدينة. قال عباس: فتغيظ علي وآلى ليقتلني. فبلغت ذلك فتواريت عنه حتى طال علي ذلك، فلقيت بعض جلسائه، فشكوت ذلك إيه وقلت: قد أمنني أمير المؤمنين عبد الملك، فقال لي: ما يخطر ذكرك إلا تغيظ عليك وأوعدك؛ وهو ينشط في الحوائج على طعامه ويشكر، فأحضر طعامه ثم كلمه بما تريد. ففعلت، فأتي بجفنه ضخمة من الثردة عليها اللحم. فقلت: لكأني أنظر إلى جفنة حيان بن معبد يتكاوس الناس عليها بناحيته؛ ووصفت له ناحية. فجعل يقول: أرأيته؟ فقلت: لعمري كأني أنظر إليه حين خرج علينا وعليه مطرف خز يجر هدبه يتعلق به حسك السعدان، ما يكفه عنه؛ ثم يؤتى بجفنة كأني أنظر إلى الناس يتكاوسون عليها، منهم القائم ومنهم القاعد. قال: ومن أنت رحمك الله؟ قلت: آمني أمنك الله، قال: قد آمنتك، قلت: أنا عباس بن سهل الساعدي، قال: فمرحباً بك وأهلاً أهل الشرف والحق. قال عباس: فرأيتني وما بالمدينة رجل أوجه مني عنده. قال: فقال بعض القوم بعد ذلك: يا عباس، أأنت رأيت حيان بن معبد يسحب الخز يتكاوس الناس على جفنته؟ فقلت: والله لقد رأيته ونزلنا ناحية فأتانا في رحالنا وعليه عباءة قطوانية، فجعلت أذوده بالسوط عن رحالنا خيفة أن يسرقني.
قال الشعبي: وجهني عبد الملك بن مروان إلى ملك الروم فلما وصلت إليه جعل يسألني عن أشياء فأخبره بها. فأقمت عنده أياماً، ثم كتب جواب كتابي، فلما انصرفت دفعته إلى عبد الملك، فجعل يقرأ ويتغير لونه. ثم قال: يا شعبي، علمت ما كتب به إلى الطاغية؟ قلت: يا أمير المؤمنين كانت الكتب مختومة، ولو لم تكن مختومة ما قرأتها وهي إليك. قال: إنه كتب إلي: إن العجب من قوم يكون فيهم مثل من أرسلت به فيملكون غيره. قال: فقلت: يا أمير المؤمنين ذاك لأنه لم يرك. قال: فسري عنه. ثم قال: إنه حسدني عليك فأراد أن أقتلك.
أخذ الحكم بن أيوب إياس بن معاوية في ظنة الخوارج، فقال له الحكم: إنك خارجي منافق، وأوسعه شتماً. ثم قال له: ائتني بكفيل، فقال: اكفل أيها الأمير بي، فما أحد أعرف منك بي. قال: وما علمي بك وأنا من أهل الشام وأنت من أهل العراق؟ فقال له إياس: ففيم هذه الشهادة منذ اليوم؟ وقد احتال بمثلها بعض أهل زماننا.

كان بهروز الخادم الغبائي وهو على العراق قد أولع بتتبع الباطنية وقتلهم، ونصب لهم بعض العلويين ممن يزعم أنه كان على مذهبهم وتاب وادعى معرفتهم؛ وملأ السجن منهم، وقتل بشراً كثيراً ادعى عليهم هذا المذهب.فدخل يوماً محاسن بن حفص المغني دار بهروز، فرأى هذا العلوي، فأعتقه وألطف له في السلام والسؤال وذاك لا يعرفه. فبهت إليه وقال له: من أنت؟ قال: أوما تعرفني؟ أنا صديقك. فقال: والله ما أعرفك. وكان هذا بحضرة القاضي أحمد بن سلامة الكرخي. فقال له محاسن: يا سيدنا، اشهد عليه أنه لا يعرفني، فضحك الحاضرون وصارت نادرة.
دعا المنصور بن أبي ليلى وأراده على القضاء فأبى، فتوعده إن لم يفعل، فأبى أن يفعل. ثم إن غداء المنصور حضر فأتي بصحفة فيها مثال رأس، فقال لابن أبي ليلى: خذ أيها الرجل من هذا. قال ابن أبي ليلى: فجعلت أضرب بيدي إلى الشيء. فإذا وضعته في فمي سال فلا أحتاج إلى مضغه. فلما فرغ جعل يلحس الصحفة، فقال له: يا محمد، أتدري ما كنت تأكل؟ قال: لا يا أمير المؤمنين، قال: هذا مخ الثنيان بالسكر الطبرزد؛ وتدري بكم يقوم بهذه الصحفة علينا؟ قلت: لا يا أمير المؤمنين؛ قال: تقوم بثلاثمائة وبضعة عشر؛ قال: أتدري لم ألحسها؟ هذه صحفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنا أطلب البركة بذلك. فلما خرج ابن أبي ليلى من عنده رفع رأسه إلى الربيع وقال: لقد أكل الشيخ عندنا أكلة لا يفلح بعدها أبداً. فلما كان عشاء ذلك اليوم راح ابن أبي ليلى إلى المنصور فقال: يا أمير المؤمنين فكرت فيما عرضت علي، فرأيت أنه لا يسعني خلافك، فولاه القضاء؛ ثم قال للربيع: كيف رأيت حديثي بالشيخ؟ عاتبت أم جعفر الرشيد في تقريظه للمأمون دون ابنها محمد، فدعا خادماً بحضرته وقال: وجه إلى محمد وعبد الله خادمين خصيين يقولان لكل واحد منهما على الخلوة ما يفعل به إذا أفضت الخلافة إليه. فأما محمد فإنه قال للخادم: أقطعك وأعطيك وأقدمك. وأما المأمون فإنه رمى الخادم بدواة كانت بين يديه وقال: يا ابن اللخناء، تسألني عما أفعل بك يوم يموت أمير المؤمنين وخليفة رب العالمين، وإني لأرجو أن نكون جميعاً فداء له. فرجعا بالخبرين، فقال الرشيد لأم جعفر: كيف ترين؟ ما أقدم ابنك إلا طلباً لرضاك وتركاً للحزم.
ومما ضربوه مثلاً على لسان الحيوان قالوا: صاد رجل قبرة، فلما صارت في يده قالت: وما تريد أن تصنع بي؟ قال: أريد أن أذبحك وآكلك، قالت: فإني لا أشفي من قرم، ولا أشبع من جوع، فإن تركتني علمتك ثلاث كلمات هي خير لك من أكلي. أما الأولى فأعلمك وأنا في يدك، وأما الثانية فأعلمك وأنا على الشجرة، وأما الثالثة فأعلمك وأنا على الجبل. فقال: هات الأولى، قالت: لا تلهفن على ما فاتك، فتركها وصارت على الشجرة، ثم قالت: لا تصدق ما لا يكون، ثم قالت: يا شقي، لو ذبحتني لأخرجت من حوصلتي درتين هما خير لك من كنز. فعض على شفتيه متلهفاً ثم قال: علميني الثالثة، فقالت: أنت قد أنسيت الثنتين فكيف أعلمك الثالثة؟ ألم أقل لك: لا تلهفن على ما فاتك ولا تصدقن ما لا يكون؟ وأنا وريشي ولحمي لا يكون وزنه درتين، فكيف يكون في حوصلتي ذلك، ثم طارت فذهبت.
قال الحجاج يوماً: علي بعدو الله معبد الجهني، وكان في حبسه قد حبسه في القدر، فأتي به وهو شيخ ضعيف، فقال: تكذب بقدر الله؟ قال: أيها الأمير، ما أحب إليك أن تكون عجولاً، إن أهل العراق أهل بهت وبهتان، وإني خالفتهم في أمر فشهدوا علي. قال: وفيم خالفتهم؟ قال: زعموا أن الله تعالى قدر عليهم وقضى قتل عثمان، وزعمت أنا أنهم كذبوا في ذلك، قال: صدقت أنت وكذبوا، خلوا سبيله.

كان أبو الهيجاء عبد الله بن هحمدان يسير بالحاج في أيام المقتدر، وكانت بينهوبين الهجري سليمان بن الحسن الجنابي وقعة بالهبير، فأسر أبا الهيجاء، ونفس به عن القتل لبأسه وفضائله، فاستحياه واستباح الحاج. وكان فيمن أسر العم، وهو عم السيدة أم المقتدر. فلما حصلا عنده في بلده أكرم أبا الهيجاء وبسطه وأكثر من محاضرته. قال أبو الهيجاء في حديث طويل: فكنت أغض من العم عنده وأطنز به وبغيره ممن حصل في الأسر من أصحاب المقتدر حتى استللتهم منه. ثم إنه طمع في العم طمعاً شديداً، واستعصى علي في إطلاقه خاصة، حتى قلت له في بعض الأيام: يدري السيد بكم يقوم هذا المخنث على السلطان في كل سنة؟ قال: لا والله؛ قلت: إنك لو أردت أن تنكب صاحبه بأكثر من إطلاقه وإرساله لما قدرت. قال: وكيف؟ قلت: لأنه يرزق منه في كل سنة لنفسه وولده وسبيه وهم قوم على صورته في التخنيث والبلاء، وهذا رأسهم في الثكل والعمى، مائة ألف دينار، وفي يده من الأقطاع والأملاك ما ارتفاعه مائة ألف دينار، وتقضى له حوائج في السنة بمثلها، فيتهيأ أن يكون في النكبات أكثر من هذا، وهو معه لا يصلح لطفىء سراج بقال.
قال: قد والله صدق أبو الهيجاء، أطلقوا هذا إلى لعنة الله. فكان هذا أصل خلاصه. قال أبو الهيجاء: وهو الآن يشكوني ويقول: كان يستخف بي ويلطمني بحضرة العدو ويخشن اللفظ. وقد كانت العلة، والقصة أقبح وبها نجا.
كان معاوية إذا أتاه عن بطريق من بطارقة الروم كيد للإسلام احتال له فأهدى إليه وكاتبه حتى يغري به ملك الروم. فكانت رسله تأتيه بأن هناك بطريقاً يؤذي الرسل ويطعن عليهم ويسيء عشرتهم. فقال معاوية: أي ما في عمل الإسلام أحب إليه؟ فقيل له: الخفاف الحمر ودهن البان، فألطفه بها حتى عرفت رسله باعتياده. ثم كتب إليه كتاباً كأنه جواب كتابه منه يعلمه فيه أنه وثق بما وعده به من نصره وخذلان ملك الروم؛ وأمر الرسول لأن يظهر على الكتاب، فلما ذهبت رسله في أوقاتها ثم رجعت إليه، قال: ما حدث هناك؟ قال: فلان البطريق رأيناه مقتولاً مصلوباً؛ فقال: أنا أبو عبد الرحمن.
لما أكره الحجاج بن يوسف عبد الله بن جعفر على أن يزوجه ابنته استأجله في نقلها سنة. ففكر عبد الله في الانفكاك منه، فألقي في روعه خالد بن يزيد بن معاوية فكتب إليه يعلمه ذلك، وكان الحجاج تزوجها بإذن عبد الملك. فورد على خالد كتابه ليلاً فاستأذن من ساعته على عبد الملك، فقيل له: أفي هذا الوقت؟ فقال: إنه أمر لا يؤخر، فأعلم عبد الملك بذلك فأذن له. فلما دخل عليه قال له عبد الملك: فيم السرى يا أبا هاشم؟ قال: أمر جليل لم آمن أن أؤخره فتحدث علي حادثة فلا أكون قضيت حق بيعتك. قال: وما هو؟ قال: أتعلم أنه كان بين حيين من العداوة ما كان بين آل الزبير وآل أبي سفيان؟ قال: لا، قال: فإن تزوجي إلى آل الزبير حلل ما كان لهم في قلبي، فما أهل بيت أحب إلي اليوم منهم. قال: فإن ذلك ليكون. قال: فكيف أذنت للحجاج أن يتزوج من بني هاشم وأنت تعلم ما يقولون وما يقال فيهم، والحجاج من سلطانك بحيث علمت؟ فجزاه خيراً، وكتب إلى الحجاج بعزمه أن يطلقها، فطلقها.
فغدا الناس عليه يعزونه عنها.
تقدم رجل إلى سوار بن عبد الله يدعي داراً وامرأة تدافعه وتقول لسوار: إنها والله خطة ما وقع فيها كتاب قط. فأتى المدعي بشاهدين فعرفهما سوار، فشهدا له بالدار. فجعلت المرأة تنكر إنكاراً يعضده التصديق ثم قالت: سل عن الشهود، فإن الناس يتغيرون. فرد المسألة، فحمد الشاهدان، فلم يزل يريث أمورهم ويسأل الجيران، وكل يصدق المرأة، والشاهدان قد ثبتا. فشكا ذلك إلى عبيد الله بن الحسن العنبري وهو ابن عم سوار. فقال له عبيد الله: أنا أحضر معك مجلس الحكم وآتيك بالجلية إن شاء الله. فقال للشاهدين: ليس للقاضي أن يسألكما كيف شهدتما ولكن أنا أسألكما، فقالا: أراد هذا الحج، فأدارنا على حدود الدار من خارج وقال: هذه داري، فإن حدث بي حدث فلتبع وتقسم على سبيل كذا. قال: فعندكما غير هذه الشهادة؟ قالا: لا، قال: الله أكبر! وكذا لو أدرتكما على دار سوار وقلت لكما مثل هذه المقالة، أكنتما تشهدان بها لي؟ ففهما أنهما قد اغترا، فكان سوار بعدها إذا سأل عن عدالة الشاهد يتبع المسألة أن يقول: أفجائز للعدالة هو؟

خرج عمرو بن العاص بن وائل السهمي وعمارة بن الوليد المخزومي، أخو خالد بن الوليد في تجارة إلى النجاشي بأرض الحبشة، وكان عمارة ذا محادثة للنساء. فلما ركبا في السفينة ومع عمرو امرأته أصابا من خمر معهما، فلما انتشى عمارة قال لامرأة عمرو: قبليني، فقال لها عمرو: قبلي ابن عمك، فقبلته وحذر عمرو. وراودها عمارة عن نفسها، فامتنعت. ثم إن عمراً جلس إلى ناحية السفينة يبول، فدفعه عمارة في البحر. فلما وقع سبح حتى أخذ بالقلس ونجا. فقال له عمارة: أما والله يا عمرو، لو علمت أنك تحسن السباحة ما فعلت، فاضطغنها عمرو؛ ومضيا في وجههما حتى قدما أرض اليمن. وكتب عمرو بن العاص إلى أبيه العاص: أن اخلعني وتبرأ من جريرتي إلى بني المغيرة وسائر بني مخزوم، وخشي على أبيه أن يتبع بجريرته وهو يرصد لعمارة ما يرصد. فمضى العاص بن وائل في رجال من قومه منهم: نبيه ومنبه ابنا الحجاج إلى بني المغيرة وغيرهم من بني مخزوم فقال: إن هذين الرجلين قد خرجا حيث علمتم، وكلاهما فاتك صاحب شر، وهما غير مأمونين على أنفسهما، ولا ندري ما يكون، وإني أبرأ إليكم من عمرو ومن جريرته وقد خلعته. فقال بنو المغيرة: فأنت تخاف عمراً على عمارة، قد خلعنا عمارة وتبرأنا إليك من جريرته فخل بين الرجلين. فقال السهميون: قد قبلنا، فابعثوا منادياً بمكة: إنا قد خلعناهما وتبرأ كل قوم من صاحبهم ومما جرَّ عليهم، ففعلوا. فقال الأسود بن عبد المطلب: طل والله دم عمارة إلى آخر الدهر. ولما اطمأنا بأرض الحبشة لم يلبث عمارة أن دب لامرأة النجاشي فاختلف إليها فأدخلته، فجعل إذا رجع من مدخله يخبر عمرو بن العاص بما كان من أمره، ويقول له عمرو: ما أصدقك أنك قدرت على هذا الشأن؛ إن المرأة أرفع من ذلك، وقد كان صدقه عمرو وكانا في منزل واحد، وإنما أراد التثبت ويريد أن يأتيه بشيء لا يستطيع دفعه إن هو رفعه إلى النجاشي. فقال له في بعض ما يذكر من أمرها: إن كنت صادقاً فقل لها: فلتدهنك من دهن النجاشي الذي لا يدهن به غيره، فإني أعرفه، أو ائتني به أصدقك. ففعل عمارة فجاء بقارورة من دهنه، فلما شمها عمرو عرفه وقال له عند ذلك: أشهد أنك صادق، ولقد أصبت شيئاً ما أصاب أحد مثله قط من العرب من امرأة الملك. ثم سكت عنه؛ حتى إذا اطمأن دخل على النجاشي فقال: أيها الملك، إن ابن عمي سفيه وقد خشيت أن يعرني أمره عندك، وقد أردت أن أعلمك شأنه فلم أفعل حتى استثبت، وأنه قد دخل على بعض نسائك فأكثر، وهذا من دهنك قد أعطته منه، ودهنني منه. فلما شم النجاشي الدهن قال: صدقت، هذا دهني الذي لا يكون إلا عند نسائي. ثم دعا بعمارة ودعا السواحر فجردنه من ثيابه ثم أمر فنفخن في إحليله. وقال النجاشي: لو قتلت قرشياً لقتلتك. فخرج عمارة هارباً يهيم مع الوحش، فلم يزل بأرض الحبشة حتى كانت خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فخرج إليه عبد الله بن أبي ربيعة وكان اسمه بحيرا، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله فرصده على ماء بأرض الحبشة، وكان يرده مع الوحش. فلما وجد ريح الإنس هرب، حتى إذا جهده العطش ورد فشرب حتى تملا، وخرجوا في طلبه. قال عبد الله فسعيت إليه فالتزمته، فجعل يقول: يا بحيراأرسلني، يا بحيرا أرسلني، فإني أموت إن أمسكتموني. قال عبد الله: وضبطته فمات في يدي مكانه. فواراه وانصرف. وكان شعره قد غطى على كل شيء منه. وفي ذلك يقول عمرو بن العاص من أبيات: (من الطويل)

إذا المرء لم يترك طعاماً يحبـه
ولم يعص قلباً غاوياً حيث يممـا
قضى وطراً منه يسيراً وأصبحت
إذا ذكرت أمثاله تملأ الـفـمـا

قال ابن الكلبي: كان عامر بن الظرب العدواني يدفع بالناس في الحج. فحج ملك من ملوك حمير، فرآه فقال: لا أترك هذا المعدي حتى أذله وأفسد عليه أمره. فلما رجع الملك إلى بلده وصدر الناس، أرسل إليه الملك: إني أحب أن تزورني، فأحبوك وأكرمك وأتخذك خلاً وصديقاً. فأتاه قومه فقالوا: تغدو ويغدو معك قومك فيصيبون من جنبك ويتجهون بجاهك. فخرج وأخرج معه نفراً من قومه. فلما قدم بلاد الملك تكشف له رأيه وأبصر سوء ما صنع بنفسه. فجمع إليه أصحابه فقال: ألا ترون أن الهوى يقظان والرأي نائم? وهو أول من قاله، فمن هناك يغلب الهوى الرأي ومن لم يغلب الهوى بالرأي ندم؛ عجلت حين عجلتم، ولن أعود بعد أعجل برأي؛ إنا قد تورطنا في بلاد هذا الملك، فلا تسبقوني بريث أمر أقيم عليه ولا بعجلة رأي أخف معه، دعوني وحيلتي، فإن رأيي لي ولكم.
فلما قدم على الملك ضرب عليه قبة وأكرمه وأكرم أصحابه، فقالوا: قد أكرمنا كما ترى، وبعد هذا ما هو خير منه. فقال: لا تعجلوا، فإن لكل آكل طعاماً، ولكل راع مرعى، ولكل مراح مريحاً، وتحت الرغوة الصريح. وهو أول من قاله. فمضوا أياماً، ثم بعث إليه الملك: إني قد رأيت أن أجعلك الناظر في أمور قومي، وقد رضيت عقلك، وأتفرغ أنا لما أريد، فما رأيك? قال: أيها الملك، ما أحسب أن رغبتك في قربي بلغت أن تخلع لي ملكك؛ وقد تفضلت إذ أهلتني لهذه المنزلة، فإن لي كنز علم لست أعمل إلا به، وتركته في الحي مدفوناً؛ وإن قومي أضناء بي، فاكتب لي سجلاً بحماية الطريق فيرى قومي طمعاً تطيب أنفسهم به غني، فأستخرج كنزي وأعود إليك وافداً. فكتب له سجلاً بحماية الطريق. وجاء إلى أصحابه فقال: ارتحلوا عني، حتى إذا برزوا قالوا: لم نر كاليوم وافد قوم أقل ولا أبعد نوالاً منك! فقال لهم: مهلاً فما على الرزق فوت، وغانم من نجا من الموت، ومن لم ير باطناً يعش واهناً. فلما قدم على قومه قال: رب أكلة تمنع أكلات وهو أول من قاله ولم يرجع إلى الملك.
قال أبو عبيدة: استب عمارة بن عقبة بن أبي معيط وحجر بن زيد الكندي، وكان حجر قد ولي أرمينية لمعاوية، وكان شريفاً. فقال حجر لعمارة: يا صفوري، فقال: اشهدوا. وارتفعا إلى المغيرة بن شعبة، فقال المغيرة: إني لأكره أن أدخل بين عامل أمير المؤمنين وبين ابن عمه، ارحلا إليه. فلما قدما عليه قال عمارة: يا أمير المؤمنين، ركب مني ما لم يركب من أحد؛ شتمت ونفيت عن حسبي ونسبي، فقال: لعلك أشهدت عليه? قال: نعم. قال: أصبت. ثم دخل حجر على معاوية وعنده معاوية بن حديج السكوني وسعد بن نمرة الهمذاني، فسلم، فقال معاوية: مرحباً وأهلاً وسهلاً برجل إن حددناه لم ينقص من مروءته ولا شرفه ولا منزلته عندنا شيء. فقال معاوية لابن حديج: أبصرته? قال: نعم، قال: أنا أشهد أني سمعتك تذكر أنه صفوري. قال: ويلك، انظر ما تقول. قال ابن حديج لسد: يا أبا سعيد، أما سمعته وهو يقول ذلك? قال: بلى غير مرة. قال: ويحكما اتقيا الله! قال ابن حديج لسعد: أما سمعته يقول ذلك? قال: بلى، هو لهذا أذكر منك. قال معاوية: عليكم لعنه الله! ثم قال: يا عمارة، المستشار مؤتمن، قال: فإني استشرتك، قال: أشير عليك أن تدع هذا الحد، قال: تركته.
كان عبد الملك بن مروان من أشد الناس حباً لعاتكة امرأته، وهي عاتكة بنت يزيد بن معاوية. فغضبت مرة على عبد الملك، وكان بينهما باب فحجبته، وأغلقت ذلك الباب. فشق غضبها عليه وشكاه إلى خاصته. فقال له عمر بن بلال الأسدي: ما لي عندك إن رضيت? قال: حكمك. فأتى عمر بابها وجعل يتباكى وأرسل إليها بالسلام. فخرجت إليه خاصتها ومواليها وجواريها وقلن: ما لك? قال: فزعت إلى عاتكة ورجوتها، وقد علمت بمكاني من أمير المؤمنين معاوية ومن أبيها بعده. قلن: وما لك? قال: ابناي لم يكن لي غيرهما، فقتل أحدهما الآخر، فقال أمير المؤمنين: أنا قاتل الآخر به، فقلت: أنا الولي وقد عفوت؛ قال: لا أعود الناس هذه العادة؛ وقد رجوت أن ينجي الله ابني هذا على يدها. فدخلن عليها فذكرن ذلك لها، فقالت: وكيف أصنع مع غضبي عليه وما أظهرت له? قلن: إذاً والله يقتل، فلم يزلن حتى دعت بثيابها فأحضرنها، ثم خرجت نحو الباب؛ وأقبل حديج الخصي وقال: يا أمير المؤمنين، هذه عاتكة قد أقبلت. قال: ويلك ما تقول? قال: قد والله طلعت. فأقبلت وسلمت فلم يرد عليها، فقالت: أما والله لولا عمر لما جئت، آلله أن تعدى أحد ابنيه على الآخر فقتله، أردت قتل الآخر به وهو الولي وقد عفا? قال: إني أكره أن أعود الناس هذه العادة. قالت: أنشدك الله يا أمير المؤمنين، فقد عرفت مكانه من أمير المؤمنين معاوية ومن أمير المؤمنين يزيد، وهو ببابي. فلم تزل به حتى أخذت رجله تقبلها، فقال: هو لك، ولم يبرحا حتى اصطلحا. ثم راح عمر بن بلال إلى عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين، كيف رأيت? قال: رأيت أثرك، فهات حاجتك. فقال: مزرعة بعبرتها وما فيها وألف دينار وفرائض لولدي وأهل بيتي وعيالي، قال: ذلك لك. ثم اندفع عبد الملك يتمثل بشعر كثير: (من الطويل)

وإني لأرعى قومها من جـلالـهـا
وإن أظهروا غشاً نصحت لهم جهدي
ولو حاربوا قومي لكنت لقـومـهـا
صديقاً ولم أحمل على قومها حقدي

أقبل واصل بن عطاء بن سفر في رفقة، فأحسوا بالخوارج، فقال واصل لأهل الرفقة: إن هذا ليس من شأنكم فاعتزلوا ودعوني وإياهم؛ وكانوا قد أشرفوا على العطب، فقالوا: شأنك. فخرج إليهم، فقالوا: ما أنت وأصحابك? قال: مشركون مستجيرون ليسمعوا كلام الله ويفهموا حدوده، قالوا: قد أجرناكم؛ قال: فعلمونا. فجعلوا يعلمونه أحكامهم، وجعل يقول: قد قبلت أنا وأصحابي؛ قالوا: فامضوا مصاحبين فإنكم إخواننا، قال: ليس ذاك لكم؛ قال الله: " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه " فأبلغونا مأمننا فنظر بعضهم إلى بعض ثم قالوا: ذاك لكم، فساروا بجمعهم حتى بلغوهم المأمن.
وهمّ الأزارقة بقتل رجل، فنزع ثوبه واتزر ولبى وأظهر الإحرام، فخلوا سبيله لقول الله عز وجل: " لا تحلوا شعائر الله ".
قدم محمد بن الحسن الفقيه العراق، فاجتمع الناس عليه يسألونهويسمعون كلامه فرفع خبره إلى الرشيد وقيل له: إن معه كتاب الزندقة. فبعث بمن كبسه وحمله وحمل معه كتبه، فأمر بتفتيشها. قال محمد: فخشيت على نفسي من كتاب الحيل، فقال لي الكاتب: ما ترجمة هذا الكتاب? فقلت: كتاب الخيل، فرمى به.
قال مروان بن الحكم يوماً لابن أبي عتيق: إني مشغوف ببغلة الحسن بن علي عليهما السلام؛ فقال له ابن أبي عتيق: إن دفعتها إليك أتقضي لي ثلاثين حاجة ? قال: نعم. قال: فإذا اجتمع الناس عندك العشية فإني آخذ في مآثر قريش ثم أمسك عن الحسن، فلمني على ذلك. فلما أخذ القوم مجالسهم أفاض في أولية قريش، فقال له مروان: ألا تذكر أوّليّة أبي محمد وله في هذا ما ليس لأحد? قال: إنما كنا في الأشراف، ولو كنا في ذكر الأنبياء لقدمنا لأبي محمد. لما خرج ليركب تبعه ابن أبي عتيق، فقال له الحسن وتبسم: ألك حاجة? قال: ركوب البغلة، فنزل الحسن كرم الله وجهه فدفعها إليه.
لما بايع الرشيد لأولاده الثلاثة بالعهد، تخلف رجل مذكور من الفقهاء، فأحضره وقال له: لم تخلفت عن البيعة? قال: عاقني يا أمير المؤمنين عائق. فأمر بقراءة كتاب البيعة، فلما قريء قال: يا أمير المؤمنين، هذه البيعة في عنقي إلى قيامي الساعة. فلم يفهم الرشيد ما أراد وقدّر أنه إلى قيام الساعة، وذهب ما كان في نفسه.
لما حبس ابن المقفع وألح عليه صاحب الاستخراج في العذاب، خشي على نفسه فقال لصاحب الاستخراج: عندك مال وأنا أربحك ربحاً ترضاه، وقد عرفت وفائي وسخائي وكتماني? فعندي مقدار هذا الشهر. فلما صار له عليه مال رفق به مخافة أن يموت تحت العذاب فيثوى ماله.
قال المغيرة بن شعبة: ما خدعني غير غلام من بني الحارث بن كعب؛ فإني ذكرن امرأة منهم، فقال لي: أيها الأمير، لا خير لك فيها، قلت: ولم? قال: رأيت رجلاً يقبلها، فأضربت عنها، فتزوجها الفتى، فأرسلت إليه: ألم تعلمني كذا وكذا من أمرها? قال: بلى، رأيت أباها يقبلها.
كان لعبد الله بن مطيع غلام مولد قد أدّبه وخرجه وصيره قهرمانه، وكان أتاهم قوم من العدو من ناحية البحر، فرآه يوماً يبكي، فقال: ما لك? قال: تمنيت أن أكون حراً فأخرج مع المسلمين. قال: وتحب ذاك? قال: نعم، قال: فأنت حر لوجه الله تعالى فاخرج، قال: فإنه قد بدا لي أن لا أخرج، قال: خدعتني والله.
أتي معن بن زائدة بثلاثمائة أسير من حضرموت، فأمر بضرب رقابهم. فقام فيهم غلام حتى سال عذاره، فقال: أنشدك الله أن تقتلنا ونحن عطاش، قال: اسقوهم، فلما شربوا قال: اضربوا أعناقهم، فقال الغلام:أنشدك الله أن تقتل أضيافك، فقال: أحسنت! وأمر بإطلاقهم.
مر شبيب بنيزيد الخارجي على غلام قد استنقع في الفرات، فقال: يا غلام، اخرج إلي لأسألك. فنظر الغلام فعرف شبيباً: فقال: إني أخاف، فهل آمن أنا إلى أن أخرج وألبس ثيابي? قال: نعم، قال: فوالله لا ألبسها اليوم ولا أخرج. فقال شبيب: أوّه! خدعني الغلام، وأمر رجلاً يحفظه له ولا تصيبه معرة ومضى، وسلم الغلام.
كان يختلف إلى أبي حنيفة رجل يتجمل بالستر الظاهر والسمت الحسن. فقدم رجل غريب فأودعه مالاً خطيراً وخرج حاجّاً، فلما عاد طالبه بالوديعة فجحده، فألح عليه الرجل فتمادى. وكاد صاحب المال يهيم، ثم استشار ثقة فقال له: كف عنه وصر إلى أبي حنيفة، فدواؤك عنده. فانطلق إليه وخلا به وأعلمه شأنه. فقال له أبو حنيفة: لا تعلم بهذا أحداً وامض راشداً وعد إلي غداً. فلما أمسى أبو حنيفة جلس كعادته للناس، وجعل كلما سئل عن شيء تنفس الصعداء. فقيل له في ذلك. فقال: إن هؤلاء، يعني عن السلطان، قد احتاجوا إلى رجل يبعثونه قاضياً إلى مكان وقالوا لي: اختر من أحببت، ثم أسبل كمه. وخلا بصاحب الوديعة وقال له: أترغب حتى أسميك? فذهب متمنعاً عليه، فقال أبو حنيفة: اسكت فإني أبلغ لك ما تحب. فانصرف الرجل مسروراً يظن الظنون بالجاه العريض والحال الحسنة. وصار رب المال إلى أبي حنيفة فقال له: امض إلى صاحبك ولا تخبره بما بيننا، ولوح بذكري وكفاك. فمضى الرجل واقتضاه وقال له: اردد علي مالي وإلا شكوتك إلى أبي حنيفة. فلما سمع ذلك وفّاه المال، وصار الرجل إلى أبي حنيفة وأعلمه برجوع المال إليه. فقال: استر عليه، وغدا الرجل إلى أبي حنيفة طامعاً في القضاء، فنظر إليه أبو حنيفة وقال له: قد نظرت في أمرك فرفعت قدرك عن القضاء.
ونظير هذه الحكاية، قال الحسن بن أبي مالك: أتى رجل أبا حنيفة بالمدينة فقال له: قد وصفوك لي وأريدك أن تخلصني من يمين عجلت فيها، وقد استفتيت ابن شبرمة وابن أبي ليلى وعطاء وغيرهم، فلم يخرجوني من مسألتي بحال. قال: وما هي? قال له: إني حلفت أن أطأ امرأتي في شهر رمضان بالنهار، فقال له أبو حنيفة: فإذا أخرجتك عن يمينك تعاود? قال: لا. قال: اذهب فاعمل على أن تسافر بامرأتك ثلاثة أيام. فإذا جاوزت أبيات المدينة فافطر وتفطر زوجتك وطأ ولا تعاود ما كان منك، واقض أيام فطرك بعد انقضاء سفرك. قال: فقبل رأسه ودعا له وانصرف.
أرسل أحمد بن طولون والي مصر إلى أبي ابراهيم المزني في الحضور، فقال للرسول: عد إلي، فلما مضى الرسول قال: والله لا حضرت عنده إن شاء الله. فلما عاد الرسول إليه قال: اعذرني، فعلي يمين ليس لها كفارة، فظن الرسول أنها يمين الطلاق، وإنما أراد ما حلف به ولا كفارة فيه.
قال أبو يوسف: بقيت على باب الرشيد حولاً لا أصل إليه، حتى حدثت مسألة، وذلك أن بعض أهله كانت له جارية، فحلف أنه لا يبيعها إياه ولا يهبها له. وأراد الرشيد شراءها فلم يجد أحداً يفتيه في ذلك. فقلت لابن الربيع: أعلم أمير المؤمنين أن بالباب رجلاً من الفقهاء عنده الشفاء من هذه الحادثة. فدخل فأخبره، فأذن لي، فلما وصلت مثلت بين يديه، فقال لي: ما تقول? فقلت: يا أمير المؤمنين، أقوله لك وحدك أم بحضرة الفقهاء? قال: بل بحضرة الفقهاء، وليكون الشك أبعد. وأمر فأحضر الفقهاء، وأعيد عليهم السؤال، فكل قال: لا حيلة عندنا. فأقبل أبو يوسف فقال: المخرج منها أن يهب لك نصفها ويبيعك نصفها فإنه لا يقع الحنث. فقال القوم: صدق! فعظم أمري عند الرشيد، وعلم أني أتيت بما عجزوا عنه، ثم قال له الرشيد: هي مملوكة ولا بد أن تستبرأ، ووالله إن بت الليلة ولم أبت معها أظن نفسي ستزهق. قال: قلت: يعتقها أمير المؤمنين ويتزوجها، فإن الحرة لا تستبرأ.
وقف أحمد بن أبي خالد بين يدي المأمون، وخرج يحيى بن أكثم من بعض المستراحات، ووقف. فقال له المأمون: اصعد إلى السرير، فصعد فجلس على طرفه، فقال أحمد: يا أمير المؤمنين، إن يحيى صديقي وأخي ومن أثق به في أمري كله ويثق بي، وقد تغير عما كنت أعهده عليه، فإن رأيت أن تأمره بالعود إلى ما كان عليه لي، فإني له على مثله. فقال المأمون: يا يحيى إن فساد أمر الملوك بفساد الحال بين خاصتهم، وما يعدلكما عندي أحد، فما هذا النزاع بينكما? فقال له يحيى: والله يا أمير المؤمنين إنه ليعلم أني له على أكثر مما وصف، وأنني أثق بمثل ذلك منه، ولكنه رأى منزلتي هذه منك، فخاف أن أتغير له يوماً فأقدح فيه عندك، فتقبل قولي فيه، فأحب أن يكون هذا. فتأمرني بامريء لو بلغ نهاية مساءتي ما قدرت أن أذكره بسوء عندك? فقال المأمون: كذلك هو يا أحمد? قال: نعم، قال: أستعين بالله عليكما! ما رأيت أتم دهاء ولا أقرب فطنة منكما.
ولي أبو بردة بن أبي موسى القضاء بالكوفة بعد الشعبي، وكان يحكم بأن رجلاً لو قال لمملوك لا يملكه: أنت حر، فإن المملوك يعتق، ويؤخذ ثمنه من المعتق. قال: وعشق رجل من بني عبس جارية لجار له وجن بها وجنت به، وكان يشكو ذاك إليها، فلقيها يوماً فقال لها: إلى الله أشكو أنه لا حيلة لي فيك. فقالت: بلى والله، إن لك لحيلة ولكنك عاجز؛ هذا أبو بردة يقضي في العتق بما علمت. فقال لها: أشهد إنك لصادقة. ثم قدمها إلى مجلس للنخع فيه قوم معدلون، فقال: هذه جارية آل فلان أشهدكم أنها حرة، فألقت ملحقتها على رأسها. وبلغ ذلك مواليها فقدموه إلى أبي بردة، فأنفذ عتقها أبو بردة، وألزم الرجل ثمنها. فلما أمر به إلى السجن خاف أنها إذا طال أمرها تصير إلى أول من يطلبها وأن يخيب فيما صنع في أمرها، فقال: أصلح الله القاضي، لابد من حبسي? قال: لا بد أو تعطيهم ثمنها؛ قال: فليس مثلي من يحبس في شيء يسير، أشهدكم أني قد أعتقت كل مملوك لأبي بردة، وكل مملوك لآل أبي موسى، وكل مملوك لمذحج، فخلى سبيله ورجع عن ذلك القضاء.
خطب سلمان الفارسي إلى عمر بن الخطاب ابنته، فلم يستجز رده، فأنعم له، وشق ذلك عليه وعلى ابنه عبد الله بن عمر. فشكا ذلك عبد الله إلى عمرو بن العاص، فقال له: أفتحب أن أصرف سلمان عنكم? فقال له: هو سلمان، وحاله في المسلمين حاله! قال: أحتال له حتى يكون هو التارك لهذا الأمر والكاره له. قال: وددنا ذلك. فمر سلمان بعمرو في طريق فضرب بيده على منكبه وقال له: هنيئاً أبا عبد الله! قال: وما ذاك? قال: هذا أمير المؤمنين عمر يريد أن يتواضع بك فيزوجك. قال: وإنما يزوجني ليتواضع بي? قال: نعم، قال: لا جرم والله لا خطبت إليه أبداً.
كتب معاوية إلى عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة أن يقدما عليه. فقدم عمرو من مصر، والمغيرة من الكوفة، فقال عمرو للمغيرة: ما جمعنا إلا ليعزلنا، فإذا دخلت إليه فاشك الضعف، واستأذنه أن تأتي للطائف أو المدينة، فإني إذا دخلت عليه سألته ذلك، فإنه يظن أنا نريد أن نفسد عليه. فدخل المغيرة فسأله أن يعفيه فأذن له؛ ودخل عليه عمرو فسأله أن يعفيه فأذن له. ودخل عليه عمرو بعد ذلك، فقال لهما معاوية: قد تواطأتما على أمر وإنكما لتريدان شراً، ارجعا إلى عملكما.
وكتب المغيرة بن شعبة إلى معاوية حين كبر وخاف العزل: أما بعد فإنه قد كبرت سني، ورق عظمي وقرب أجلي وسفهني رجال قريش، فرأي أمير المؤمنين في عمله موفق. فكتب إليه معاوية: أما ما ذكرت من كبر سنك، فإنك أكلت بسنك عمرك؛ وأما ما ذكرت من اقتراب أجلك، فإني لو كنت أستطيع دفع المنية لدفعتها عن آل أبي سفيان، وأما ما ذكرت من العمل ف: (من الرجز)

ضحّ رويداً يدرك الهيجا حمل

فاستأذن معاوية في القدوم فأذن له. قال الربيع بن هزيم: فخرج المغيرة وخرجنا معه إلى معاوية. فقال له: يا مغيرة، كبرت سنك وقرب أجلك ولم يبق منك شيء، ولا أظنني إلا مستبدلاً بك. قال: فانصرف إلينا ونحن نعرف الكآبة فيه، فقلنا: ما تريد أن نصنع? قال: ستعلمون ذلك. فأتى معاوية فقال: يا أمير المؤمنين، إن الأنفس يغدى عليها ويراح، ولست في زمن أبي بكر وعمر؛ وقد اجترح الناس، فلو نصبت لنا علماً من بعدك نصير إليه، مع أني قد دعوت أهل العراق إلى يزيد فركنوا إليه حتى جاءني كتابك. قال: يا أبا محمد، انصرف إلى عملك، فأحكم هذا الأمر لابن أخيك. فأقبلنا على البريد نركض.
أصابت المسلمين جولة بخراسان، فمر فيهم شعبة بن ظهير على بغلة له، فرآه بعض الرجالة، فتقدم له على جذم حائط، فلما حاذاه جال في عجز بغلته، فقال له: اتق الله فإنها لا تحملني وإياك؛ قال: امض فإني والله ما أقدر أن أمشي؛ قال: إنك تقتلني وتقتل نفسك، قال: امض فهو ما أقول لك. قال شعبة: فصرف وجه البغلة قبل العدو، فقال له: إلى أين تريد? قال: أنا أعلم أني مقتول، فلأن أقتل مقبلاً خير من أن أقتل مدبراً. فنزل الرجل عن بغلته.
سأل عبد الله بن الزبير معاوية شيئاً، فمنعه، فقال: والله ما أجهل أن ألزم هذه البنيّة، فلا أشتم لك عرضاً ولا أقصب لك حسباً، ولكن أسدل عمامتي من بين يدي ذراعاً ومن خلفي ذراعاً، وأقعد في طريق أهل الشام، فأذكر سيرة أبي بكر وعمر فيقول الناس: هذا ابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن الصديق، فقال معاوية: حسبك بهذا شراً، وقضى حاجته.
أتى رجل الأحنف فلطمه، فقال له: لم لطمتني? قال: جعل لي جعل على أن ألطم سيد بني تميم، قال: ما صنعت شيئاً، عليك بجارية بن قدامة فإنه سيدهم. فانطلق فلطم جارية، فأخذه فقطع يده؛ وإنما أراد الأحنف ذلك.
قال عمر بن يزيد الأسدي: خفنا أيام الحجاج وجعلنا نودع متاعنا، وعلم جار لنا، فخشيت أن يظهر أمرنا، فعمدت إلى سفط فيه لبن ودفعته إليه، فمكث عنده حتى أمنا، فطلبته منه، فقال لي: ما وجدت أحداً تودعه لبناً غيري?! وتوجه عمرو بن العاص حين فتح قيسارية إلى مصر، وبعث إلى علجها فأرسل إليه أن أرسل إلي رجلاً من أصحابك أكلمه. فنظروا فقال عمرو ما أرى لهذا أحداً غيري، فخرج ودخل على العلج وكلمه، فسمع كلاماً لم يسمع مثله قط، فقال: حدثني، هل في أصحابك مثلك? قال: لا تسل عن هواني عليهم، إلا أنهم بعثوني إليك وعرضوني لما عرضوني لا يدرون ما تصنع بي. فأمر له بجائزة وكسوة، وبعث إلى البواب: إذا مر بك فاضرب عنقه وخذ ما معه. فخرج من عنده، فمر برجل من نصارى العرب من غسان فعرفه، فقال: يا عمرو، إنك قد أحسنت الدخول، فأحسن الخروج، فرجع، فقال له الملك: ما ردك? قال: نظرت فيما أعطيتني فلم أجده يسع بني عمي، فأردت أن أجيئك بعشرة منهم تعطيهم هذه العطية وتكسوهم بهذه الكسوة، فيكون معروفك عند عشرة خيراً من أن يكون عند واحد. قال: صدقت، فأعجل بهم إلي. وبعث إلى البواب أن خل سبيله. فخرج عمرو وهو يتلفت حتى إذا أمن قال: لا أعود إلى مثلها أبداً، فما فارقها عمرو حتى صالحه. فلما أتي بالعلج قال: أنت هو? قال عمرو: نعم على ما كان من غدرك.
كان لأيمن بن خزيم الأسدي منزلة من معاوية، وكان معاوية قد ضعف عن النساء، وكان يكره أن يذكر عنده أحد يوصف بالجماع. فجلس ذات يوم وفاختة زوجته قريبة منه حيث تسمع الكلام. فقال: يا أيمن، ما بقي من طعامك وشرابك وجماعك وقوتك? فقال: يا أمير المؤمنين أنا والله آكل الجفةة الكبيرة الدرمك والقدر، وأشرب الرفد العظيم ولا أقنع بالغمر، وأركض بالمهر الأرن ما أحضر، وأجامع من أول الليل إلى السحر. قال: فغم ذلك معاوية، وكلامه هذا بأذني فاختة فجفاه معاوية. فشكا أيمن ذلك إلى امرأته، فقالت: أذنبت ذنباً، فوالله ما معاوية بعنت ولا متجن قال: لا والله إلا كذا وكذا، الت: هذا والله الذي أغضبه عليك، قال: فأصلحي ما أفسدت، قالت: كفيتك. فأتت معاوية فوجدته جالساً للناس، فأتت فاختة فقالت: ما لك? قالت: جئت استعدي على أيمن، قالت: وما له? قالت: ما أدري أرجل هو أم امرأة? وما كشف لي ثوباً منذ تزوجني؛ قالت: فأين قوله لأمير المؤمنين? وحكت لها ما قال؛ قالت: ذاك والله الباطل. وأقبل معاوية فقال: من هذه عندك يا فاختة? قالت: هذه امرأة أيمن جاءت تشكوه، قال: وما لها? قالت: زعمت أنها لا تدري أرجل هو أم امرأة، وأنه لم يكشف لها ثوباً منذ تزوجها. قال: كذاك هو? قالت: نعم، فرق بيني وبينه، فرق الله بينه وبين روحه. قال معاوية: أوخير من ذلك? هو ابن عمك وقد صبرت عليه دهراً، فأبت، فلم يزل يطلب إليها حتى سمحت له بذلك، فأعطاها وأحسن إليها، وعادت منزلة أيمن عند معاوية كما كانت.
حلف بعض الأعراب أن لا يكشف لامرأته ثوباً، فسأل القاضي، فأمره باعتزالها، فقالت مريم بنت الحريش: تكشف هي ثوبها صاغرة قمية، فأمره القاضي بذلك.
حدث المدائني أن مخارق بن عفار ومعن بن زائدة في فوارس لقيا رجلاً في بلاد الشرك ومعه جارية لم ير مثلها شباباً وحمالاً، فصاحوا به: خل عنها، ومعه قوس له، فرمى بعضهم فجرحه، فهابوا الإقدام عليه؛ ثم عاد ليرمي فانقطع وتره، فأسلم الجارية وأسند في جبل كان قريباً منه، فابتدروا الجارية وكان في أذنها قرط وفيه درة، فانتزعه بعضهم، فقالت: وما قدر هذه? فكيف لو رأيتم درتين في قلنسوته? فأتبعوه، فقال: ما لكم، ألم أدع لكم بغيتكم? قالوا ألق ما في قلنسوتك، فرفع قلنسوته فإذا فيها وتر للقوس كان قد أعده وأنسيه من الدهش، فلما رآه عقده في قوسه، فولى القوم ليس لهم همة إلا أن ينجوا بأنفسهم وخلوا عن الجارية.
قال المدائني: كان الحجاج حسوداً لا ينشيء صنيعة إلا أفسدها؛ فلما وجه عمارة بن تميم اللخمي إلى ابن الأشعث وعاد بالفتح حسده، فعرف ذلك عمارة وكره منافرته، وكان عاقلاً رفيقاً. فظل يقول: أصلح الله الأمير، أنت أشرف العرب، من شرفته شرف، ومن صغرته صغر، ما ابن الأشعث وخلعه? حتى استوفد عبد الملك الحجاج وسار عمارة معه يلاطفه، وقدموا على عبد الملك، وقامت الخطباء بين يديه في أمر فقال الحجاج: يا أمير المؤمنين، سل الحجاج عن طاعتي وبلائي، فقال الحجاج: يا أمير المؤمنين، لقد أخلص الطاعة وأبلى الجميل وأظهر البأس، من أيمن الناس نقيبة، وأعفهم سريرة. فلما بلغ آخر التقريظ قال عمارة: أرضيت يا أمير المؤمنين? قال: نعم، فرضي الله عنك. قال عمارة: فلا رضي الله عن الحجاج يا أمير المؤمنين ولا حفظه ولا عافاه؛ فهو الأخرق السييء التدبير، الذي قد أفسد عليك العراق وألب الناس عليك، وما أتيت إلا من خرقه وقلة عقله وفسالة رأيه وجهله بالسياسة، ولك منه يا أمير المؤمنين أمثالها إن لم تعزله. فقال الحجاج: مه يا عمارة! فقال: لا مه ولا كرامة! يا أمير المؤمنين، كل امرأة له طالق وكل مملوك له حر إن سرت تحت راية الحجاج أبداً. فقال عبد الملك: ما عندنا أوسع لك.
قدم معاوية المدينة ودخل المسجد، وسعد بن أبي وقاص جالس إلى ركن المنبر. فصعد المنبر فجلس في مجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له سعد: يا معاوية، أجهلت أم جننت فنداويك? فقال: يا أبا إسحاق، إني قدمت على قومي على غير تأهب لهم، وأنا باعث لهم بأعطياتهم إن شاء الله تعالى. فسمع الناس كلام معاوية ولم يسمعوا كلام سعد. وانصرف الناس يقولون: كلمه سعد في العطاء فأجابه إليه.
جاء بازيار لعبد الله بن طاهر فأعلمه أن بازياً له انحط على عقاب فقتلها، فقال: اذهب فاقطف رأسه، فقال: إنه قتل العقاب! فقال: اقتله فإني لا أحب لشيء أن يجتريء على ما فوقه. وأراد أن يبلغ ذلك المأمون فيسكن إلى جانبه.
غضب المأمون على رجل فقال له: لأقتلنك ولآخذن مالك، اقتلوه! فقال أحمد بن أبي داود: إذا قتلته، فمن أين تأخذ المال? قال: من ورثته. فقال: إذن تأخذ مال الورثة، وأمير المؤمنين يأبى ذلك. فقال: يؤخر حتى يستصفى ماله، فانفض المجلس وسكن غضبه، وتوصل إلى خلاصه من بعد.
مرض مولى لسعيد بن العاص ولم يكن له من يخدمه، فبعث إلى سعيد فلما أتاه قال: إنه ليس لي وارث غيرك، وها هنا ثلاثون ألف درهم مدفونة، فإذا أنا مت فخذها بارك الله لك فيها. فقال سعيد حين خرج من عنده: ما أرانا إلا وقد أسأنا إلى مولانا وقصرنا في تعاهده، وهو من شيوخ موالينا. فبعث إليه تعاهده، ووكل به من يخدمه. فلما مات كفنه وشهد جنازته، فلما رجع إلى البيت أمر بأن يحفر الموضع، فلم يجد فيه شيئاً. وجاء صاحب الكفن فطالب بالكفن، فقال: والله لقد هممت أن أنبش عن ابن الفاعلة.
بعث يزيد بن معاوية عبد الله بن عضاه الأشعري إلى ابن الزبير فقال له: إن أول أمرنا كان حسناً فلا تفسده بأخرة. قال ابن الزبير: إنه ليست ليزيد في عنقي بيعة. فقال له: لو كانت، أكنت تفي بها? قال: نعم. قال: يا معشر المسلمين. قد سمعتم ما قال، وقد بايعتم ليزيد، وهو يأمركم بالرجوع عن بيعته.
جاءت امرأة إلى أبي حنيفة فقالت: إن زوجي حلف بطلاقي أن أطبخ قدراً أطرح فيها مكوكاً من الملح فلا يتبين طعم الملح فيما يؤكل منها، فقال: خذي قدراً واجعلي فيها الماء، واطرحي فيها مكوكاً ملحاً واطرحي فيه بيضاً واسلقيه، فإنه لا يوجد طعم الملح في البيض.
قال الحجاج لمحمد بن عمير بن عطارد: اطلب لي امرأة حسنة أتزوجها، قال: قد وجدتها إن زوجها أبوها. قال: ومن هذا الذي يمتنع من تزويجي? قال: أسماء بن خارجة، يدعي أنه لا كفؤ لبناته إلا الخليفة. قال: فأضمرها الحجاج إلى أن دخل عليه أسماء، فقال: ما هذا الفخر والتطاول? قال: أيها الأمير، إن تحت هذا شيئاً، قال: بلغني أنك تزعم أن لا كفؤ لبناتك إلا الخليفة! فقال: والله ما الخليفة بأحب أكفائهن إلي، ولنظرائي من العشيرة أحب إلي منه؛ لأن من خالطني منهم حفظني في حرمتي، وإن لم يكن يحفظني قدرت على أن أنتصف منه، والخليفة لا ينتصف منه إلا بمشيئته، وحرمته مضيمة مطرحة، مقدم عليها من ليس مثلها، ولسان ناصرها أقطع. قال: فما تقول في الأمير خاطباً هنداً? فزوجه إياها وحولها إليه، فلما أتى على الحديث حولان دخل أسماء على الحجاج فقال: هل أتى الأمير ولد بحمد الله تعالى على هيئته يسر به? قال: أما من هند فلا. فقال: ولد الأمير من هند ومن غير هند عندي بمنزلة؛ قال: والله إني لأحب من هند؛ قال: فما يمنع الأمير من الضر، فإن الأرحام تتغاير، قال: أو تقول هذا القول وعندي هند? قال: أحب أن يفشو نسل الأمير، فقال: ممن? قال: على الأمير بهذا الحي من تميم، فنساؤهم مناجيب؛ قال: فأيهن? قال: ابنة محمد بن عمير، قال: إنه لا فارغة له، قال: ما فعلت فلانة ابنته? فلما دخل إليه محمد بن عمير، قال: ألا تزوج الأمير? قال: لا فارغة لي، قال: فأين فلانة? قال: زوجتها من ابن أخي البارحة، قال: أحضر ابن أخيك، فإن أقر بهذا ضربت عنقه. فجيء بابن أخيه وأبلغ ما قال الحجاج. فلما مثل بين يديه قال: بارك الله لك يا فتى? قال: في ماذا? قال: في مصاهرتك لعمك البارحة، قال: ما صاهرته البارحة ولا قبلها، قال: فانصرف راشداً. ولم ينصرف محمد حتى زوجه ابنته. وحضر بعد ذلك يوماً جماعة من الأشراف باب الحجاج فحجب الجميع غير أسماء ومحمد. فلما دخلا قال: مرحباً بصهري الأمير، سلاني ما تريدان أشفعكما، فلم يبقيا عانياً إلا أطلقاه، ولا مجمراً إلا أقفلاه. فلما خرجنا أتبعهما الحجاج من يحفظ كلامهما، فلما فارقا الدار ضرب أسماء يده على كتف محمد وأنشأ يقول: (من الطويل)

جزيتك ما أسديته يا ابن حاجـب
وفاء كعرف الديك أو قدة النسر

في أبيات كثيرة. فعاد الرجل فأخبر الحجاج. فقال: لله در ابن خارجة إذا وزن بالرجال رجح!

مر زياد بأبي العريان فقال: من هذا? قيل: زياد بن أبي سفيان، فقال: رب أمر قد نقضه الله، وعبد قد رده الله. فسمعها زياد فكره الإقدام عليه وكتب بها إلى معاوية، فأمره بأن يبعث إليه ألف دينار ويمر ويسمع ما يقول. ففعل زياد ذلك، ومر به فقال: من هذا? قالوا: زياد، قال: رحم الله أبا سفيان، لكأنهاتسليمته ونغمته. فكتب بها زياد إلى معاوية، فكتب إلى أبي العريان: (من البسيط)

ما لبثتك دنانير رشيت بها
أن لونتك أبا العريان ألوانا

فدعا أبو العريان وأملى عليه إلى معاوية: (من البسيط)

من يسد خيراً يجده حين يطلبه
أو يسد شراً يجده حيثما كانا

لما كتب أمان عبد الله بن علي واستفتي ابن المقفع فيه، وكان كاتب أخيه سليمان بن علي، وأكد سليمان بن علي وإخوته الأيمان والعهود على المنصور في أمانه قال لهم المنصور: هذا لازم إلا إذا وقعت عيني عليه، فمل دخل داره أمر أن يعدل به ولم يره المنصور فحبس. فكانت هذه تعد من حيل المنصور.
ولما كتب المنصور إلى عامله بالبصرة بقتل ابن المقفع جاء عمومته فأحضروا الشهود بأن ابن المقفع دخل إلى دار الوالي ولم يخرج منها، فطالبوه بالقود منه. قال المنصور: إن أنا أقدت من عاملي وقتلته، ثم خرج عليكم ابن المقفع من هذا الباب، من الذي يرضى بأن أقتله بعاملي قوداً منه? فسكن القوم وأهدروا دم ابن المقفع.
لما دخل الضحاك بن بشر الشيباني الخارجي الكوفة قيل له: لم تقتل أهل الأطراف ومعك بالكوفة أصل الإرجاء أبو حنيفة? فأرسل إليه فأحضره. فلما رآه قال: اضربوا عنقه، من قبل أن يكلمه. فقال أبو حنيفة: كفرت، قال: ولم? قال: تقتل رجلاً لم تسمع كلامه? قال: ما تقول في الإيمان? قال: هو قول. قال: قد صح كفرك، اضربوا عنقه. قال: تضرب عنق رجل لم تستتبه? قال: فما تقول? قال: أنا تائب، فتركه.
قال عباس بن سهل الساعدي: لما ولي عثمان بن حيان المري المدينة، عرض ذات يوم بذكر الفتنة، فقال له بعض جلسائه: عباس بن سهل كان شيعة لابن الزبير، وكان قد وجهه في جيش إلى المدينة. قال عباس: فتغيظ علي وآلى ليقتلني. فبلغت ذلك فتواريت عنه حتى طال علي ذلك، فلقيت بعض جلسائه، فشكوت ذلك إيه وقلت: قد أمنني أمير المؤمنين عبد الملك، فقال لي: ما يخطر ذكرك إلا تغيظ عليك وأوعدك؛ وهو ينشط في الحوائج على طعامه ويشكر، فأحضر طعامه ثم كلمه بما تريد. ففعلت، فأتي بجفنه ضخمة من الثردة عليها اللحم. فقلت: لكأني أنظر إلى جفنة حيان بن معبد يتكاوس الناس عليها بناحيته؛ ووصفت له ناحية. فجعل يقول: أرأيته? فقلت: لعمري كأني أنظر إليه حين خرج علينا وعليه مطرف خز يجر هدبه يتعلق به حسك السعدان، ما يكفه عنه؛ ثم يؤتى بجفنة كأني أنظر إلى الناس يتكاوسون عليها، منهم القائم ومنهم القاعد. قال: ومن أنت رحمك الله? قلت: آمني أمنك الله، قال: قد آمنتك، قلت: أنا عباس بن سهل الساعدي، قال: فمرحباً بك وأهلاً أهل الشرف والحق. قال عباس: فرأيتني وما بالمدينة رجل أوجه مني عنده. قال: فقال بعض القوم بعد ذلك: يا عباس، أأنت رأيت حيان بن معبد يسحب الخز يتكاوس الناس على جفنته? فقلت: والله لقد رأيته ونزلنا ناحية فأتانا في رحالنا وعليه عباءة قطوانية، فجعلت أذوده بالسوط عن رحالنا خيفة أن يسرقني.
قال الشعبي: وجهني عبد الملك بن مروان إلى ملك الروم فلما وصلت إليه جعل يسألني عن أشياء فأخبره بها. فأقمت عنده أياماً، ثم كتب جواب كتابي، فلما انصرفت دفعته إلى عبد الملك، فجعل يقرأ ويتغير لونه. ثم قال: يا شعبي، علمت ما كتب به إلى الطاغية? قلت: يا أمير المؤمنين كانت الكتب مختومة، ولو لم تكن مختومة ما قرأتها وهي إليك. قال: إنه كتب إلي: إن العجب من قوم يكون فيهم مثل من أرسلت به فيملكون غيره. قال: فقلت: يا أمير المؤمنين ذاك لأنه لم يرك. قال: فسري عنه. ثم قال: إنه حسدني عليك فأراد أن أقتلك.
أخذ الحكم بن أيوب إياس بن معاوية في ظنة الخوارج، فقال له الحكم: إنك خارجي منافق، وأوسعه شتماً. ثم قال له: ائتني بكفيل، فقال: اكفل أيها الأمير بي، فما أحد أعرف منك بي. قال: وما علمي بك وأنا من أهل الشام وأنت من أهل العراق? فقال له إياس: ففيم هذه الشهادة منذ اليوم? وقد احتال بمثلها بعض أهل زماننا.
كان بهروز الخادم الغبائي وهو على العراق قد أولع بتتبع الباطنية وقتلهم، ونصب لهم بعض العلويين ممن يزعم أنه كان على مذهبهم وتاب وادعى معرفتهم؛ وملأ السجن منهم، وقتل بشراً كثيراً ادعى عليهم هذا المذهب.فدخل يوماً محاسن بن حفص المغني دار بهروز، فرأى هذا العلوي، فأعتقه وألطف له في السلام والسؤال وذاك لا يعرفه. فبهت إليه وقال له: من أنت? قال: أوما تعرفني? أنا صديقك. فقال: والله ما أعرفك. وكان هذا بحضرة القاضي أحمد بن سلامة الكرخي. فقال له محاسن: يا سيدنا، اشهد عليه أنه لا يعرفني، فضحك الحاضرون وصارت نادرة.
دعا المنصور بن أبي ليلى وأراده على القضاء فأبى، فتوعده إن لم يفعل، فأبى أن يفعل. ثم إن غداء المنصور حضر فأتي بصحفة فيها مثال رأس، فقال لابن أبي ليلى: خذ أيها الرجل من هذا. قال ابن أبي ليلى: فجعلت أضرب بيدي إلى الشيء. فإذا وضعته في فمي سال فلا أحتاج إلى مضغه. فلما فرغ جعل يلحس الصحفة، فقال له: يا محمد، أتدري ما كنت تأكل? قال: لا يا أمير المؤمنين، قال: هذا مخ الثنيان بالسكر الطبرزد؛ وتدري بكم يقوم بهذه الصحفة علينا? قلت: لا يا أمير المؤمنين؛ قال: تقوم بثلاثمائة وبضعة عشر؛ قال: أتدري لم ألحسها? هذه صحفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنا أطلب البركة بذلك. فلما خرج ابن أبي ليلى من عنده رفع رأسه إلى الربيع وقال: لقد أكل الشيخ عندنا أكلة لا يفلح بعدها أبداً. فلما كان عشاء ذلك اليوم راح ابن أبي ليلى إلى المنصور فقال: يا أمير المؤمنين فكرت فيما عرضت علي، فرأيت أنه لا يسعني خلافك، فولاه القضاء؛ ثم قال للربيع: كيف رأيت حديثي بالشيخ? عاتبت أم جعفر الرشيد في تقريظه للمأمون دون ابنها محمد، فدعا خادماً بحضرته وقال: وجه إلى محمد وعبد الله خادمين خصيين يقولان لكل واحد منهما على الخلوة ما يفعل به إذا أفضت الخلافة إليه. فأما محمد فإنه قال للخادم: أقطعك وأعطيك وأقدمك. وأما المأمون فإنه رمى الخادم بدواة كانت بين يديه وقال: يا ابن اللخناء، تسألني عما أفعل بك يوم يموت أمير المؤمنين وخليفة رب العالمين، وإني لأرجو أن نكون جميعاً فداء له. فرجعا بالخبرين، فقال الرشيد لأم جعفر: كيف ترين? ما أقدم ابنك إلا طلباً لرضاك وتركاً للحزم.
ومما ضربوه مثلاً على لسان الحيوان قالوا: صاد رجل قبرة، فلما صارت في يده قالت: وما تريد أن تصنع بي? قال: أريد أن أذبحك وآكلك، قالت: فإني لا أشفي من قرم، ولا أشبع من جوع، فإن تركتني علمتك ثلاث كلمات هي خير لك من أكلي. أما الأولى فأعلمك وأنا في يدك، وأما الثانية فأعلمك وأنا على الشجرة، وأما الثالثة فأعلمك وأنا على الجبل. فقال: هات الأولى، قالت: لا تلهفن على ما فاتك، فتركها وصارت على الشجرة، ثم قالت: لا تصدق ما لا يكون، ثم قالت: يا شقي، لو ذبحتني لأخرجت من حوصلتي درتين هما خير لك من كنز. فعض على شفتيه متلهفاً ثم قال: علميني الثالثة، فقالت: أنت قد أنسيت الثنتين فكيف أعلمك الثالثة? ألم أقل لك: لا تلهفن على ما فاتك ولا تصدقن ما لا يكون? وأنا وريشي ولحمي لا يكون وزنه درتين، فكيف يكون في حوصلتي ذلك، ثم طارت فذهبت.
قال الحجاج يوماً: علي بعدو الله معبد الجهني، وكان في حبسه قد حبسه في القدر، فأتي به وهو شيخ ضعيف، فقال: تكذب بقدر الله? قال: أيها الأمير، ما أحب إليك أن تكون عجولاً، إن أهل العراق أهل بهت وبهتان، وإني خالفتهم في أمر فشهدوا علي. قال: وفيم خالفتهم? قال: زعموا أن الله تعالى قدر عليهم وقضى قتل عثمان، وزعمت أنا أنهم كذبوا في ذلك، قال: صدقت أنت وكذبوا، خلوا سبيله.
أطرد الحجاج عمران بن حطان، أحد بني عمرو بن شيبان بن ذهل، وكان رأس القعدة من الخوارج الصفرية، فكان يتنقل في القبائل، فإذا نزل في حي انتسب نسباً يقرب منه. فنزل مرة عند روح بن زنباع الجذامي، وكان يقري الأضياف، فانتمى له من الأزد. وكان لا يسمع شعراً نادراً ولا غريباً عند عبد الملك، فيسأل عنه عمران بن حطان إلا عرفه وزاد فيه. فذكر ذلك لعبد الملك فقال: إن لي جاراً من الأزد ما أسمع من أمير المؤمنين خبراً ولا شعراً إلا عرفه وزاد فيه. قال: خبرني بعض أخباره، فخبره وأنشده فقال: إن اللغة عدنانية، وإني لأحسبه عمران بن حطان، حتى تذاكروا قول عمران بن حطان: (من البسيط)

يا ضربة من تقي ما أراد بـهـا
إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
وإني لأذكره حيناً فـأحـسـبـه
أوفى البرية عند اللـه مـيزانـا

فلم يدر عبد الملك امن هو، فرجع روح فسأل عمران بن حطان عنه فقال: هذا يقوله عمران بن حطان يمدح به عبد الرحمن بن ملجم لعنه الله ولعن مادحه، قاتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام. فرجع روح فأخبره، فقال عبد الملك: ضيفك عمران بن حطان قبحه الله، اذهب فجيء به، فرجع إليه فقال: إن أمير المؤمنين قد أحب أن يراك. قال له عمران: قد أردت أن أسألك ذلك فاستحيين منك، فامض فإني بالأثر. فرجع روح إلى عبد الملك فخبره، فقال له عبد الملك: أما إنك سترجع فلا تجده. فرجع وعمران بن حطان قد احتمل، وخلف رقعة فيها: (من البسيط)

يا روح كم من أخي مثوىً نزلت بـه
قد ظنّ طنك من لـحـم وغـسـان
حتى إذا خفته فارقـت مـنـازلـه
من بعد ما قبل عمران بن حـطـان
قد كنت جارك حولاً لا تـروعـنـي
فيه روائع مـن إنـس ولا جــان
حتى أردت بي العظمى فأدركـنـي
ما أدرك الناس من خوف ابن مروان
فاعذر أخاك ابن زنـبـاع فـإن لـه
في النائبات خطـوبـاً ذات ألـوان
يومـاً يمـان إذا لاقـيت ذا يمــن
وإن لقيت مـعـدياً فـعـدنـانـي
لو كنت مستغفراً يومـاً لـطـاغـية
كنت المقدم في سـري وإعـلانـي
لكـن أبـت لـي آيات مـطـهـرة
عند التلاوة فـي طـه وعـمـران

لما طالت الحرب بين الخوارج وبين المهلب بن أبي صفرة، ورأى ثباتهم وأنهم كلما تفرقوا بالحرب عادوا وتجمعوا باتفاق أهوائهم، علم أنه لا يظفر بهم تاماً ويستأصلهم إلا باختلاف يقع بينهم. وكان في الخوارج حداد يعمل نصالاً مسمومة فيرمي بها أصحاب المهلب، فوجه المهلب رجلاً من أصحابه بكتاب وألف درهم إلى عسكر قطري والخوارج، فقال: ألق هذا الكتاب في العسكر واحذر على نفسك. وكان الحداد يقال له: أبزى. فمضى الرجل، وكان في الكتاب: أما بعد، فإن نصالك قد وصلت إلي، وقد وجهت إليك بألف درهم فاقبضها، وزدنا من هذه النصال. فوقع الكتاب إلى قطري فدعا بأبزى، فقال له: ما هذا الكتاب? قال: لا أدري، قال: فهذه الدراهم? قال: لا أعلم علمها، فأمر به فقتل. فجاء عبد ربه الصغير مولى بني قيس بن ثعلبة فقال له: أقتلت رجلاً على غير ثقة ولا تبين? قال: فما حال هذه الدراهم? قال: يجوز أن يكون أمرها كذباً ويجوز أن يكون حقاً. فقال له قطري: فقتل رجل في صلاح الناس غير منكر، وللإمام أن يحكم بما رآه صلاحاً، وليس للرعية أن تعترض عليه. فتنكر عبد ربه في جماعة معه ولم يفارقوه. فبلغ ذلك المهلب فدس إليه رجلاً نصرانياً، فقال له: إذا رأيت قطرياً فاسجد له، فإذا نهاك فقل: إنما سجدت لك، ففعل النصراني فقال له قطري: إنما السجود لله، فقال: ما سجدت إلا لك. فقال له رجل من الخوارج: قد عبدك من دون الله، وتلا: "إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون". فقال له قطري: إن هؤلاء النصارى قد عبدوا المسيح بن مريم فما ضر المسيح ذلك شيئاً. فقام رجل من الخوارج إلى النصراني فقتله، فأنكر ذلك عليه وقال: أقتلت ذمياً! فاختلفت الكلمة، فبلغ ذلك المهلب غوجه إليهم رجلاً يسألهم عن شيء تقدم به إليه. فقال: أرأيتم رجلين خرجا مهاجرين إليكما، فمات أحدهما في الطريق، وبلغكم الآخر فامتحنتموه فلم يجز المحنة، ما تقولون فيهما? فقال بعضهم: أما الميت فمؤمن من أهل الجنة، وأما الذي لم يجز فكافر حتى يجيزها. فقال له قوم آخرون: بل هما كافران حتى يجيز المحنة. فكثر الاختلاف بينهم، وكان سبب تفرقهم وتمكن المسلمين منهم وانقطاع دابرهم.
كان أبو جعفر المنصور أيام بني أمية إذا دخل البصرة دخل مستتراً يجلس في حلقة أزهر السمان المحدث. فلما أفضت إليه الخلافة قدم عليه، فرحب به وقربه وقال: حاجتك يا أزهر، قال: يا أمير المؤمنين، داري متهدمة، وعلي أربعة آلاف دينار، وأريد أن أزوج محمداً ابني، فوصله باثني عشر ألفاً وقال: قد قضينا حاجتك يا أزهر، فلا ت?أتنا طالباً، فأخذها وانصرف. فلما كان بعد سنة أتاه، فقال: له أبو جعفر: ما جاء بك يا أزهر? قال: جئت مسلّماً. قال: إنه يقع في خلد أمير المؤمنين أنك جئت طالباً، فقال: ما جئت إلا مسلّماً. قال: قد أمرنا لك باثني عشر ألفاً، واذهب ولا تأتنا طالباً ولا مسلّماً. فأخذها ومضى، فلما كان بعد سنة أتاه، قال: ما جاء بك يا أزهر? قال: جئت عائداً، قال: إنه وقع في خلدي أنك جئت طالباً، قال: ما جئت إلا عائداً، قال: قد أمرنا لك باثني عشر ألفاً، ولا تأتنا طالباً ولا مسلّماً ولا عائداً، فأخذها وانصرف. فلما مضت السنة أقبل، قال: ما جاء بك يا أزهر? قال: دعاء كنت أسمعه منك يا أمير المؤمنين تدعو به جئت لأكتبه فإنه مستجاب. فضحك المنصور وقال: إنه غير مستجاب؛ وذاك أني دعوت الله تعالى أن لا أراك، فلم يستجب لي، وقد أمرنا لك باثني عشر ألفاً، وتعال إذا شئت، فقد أعيتني الحيلة فيك.

أكثر الأحوص من التشبيب بأم جعفر، وهي امرأة من الأنصار، ولم يكن بينهما معرفة، فنهاه عنها أخوها أيمن فلم ينته. فاستعدى عليه عمر بن عبد العزيز، فربطهما في حبل ودفع إليهما سوطين وقال لهما: تجالدا، وقد ذكرنا خبرهما في ذلك في باب الأجوبة الدامغة. فلم أعيا أم جعفر أمر الأحوص جاءت إليه وهي منتقبة فوقفت عليه في مجلس قومه ولا يعرفها، فقالت: اقضني ثمن الغنم التي ابتعتها مني، قال: ما ابتعت منك شيئاً. فأظهرت كتاباً قد وضعته عليه وبكت وشكت حاجة وضراً وقالت: يا قوم كلموه، فلامه قومه وقالوا له: أوصل إلى المرأة حقها. فجعل يحلف وما يعرفها ولا رآها قط. فكشف وجهها وقالت: ويلك، وما تعرفني?! فجعل يحلف مجتهداً أنه ما رآها قط ولا يعرفها، حتى استفاض قولها وقوله، واجتمع الناس وكثروا وسمعوا ما دار بينهما، وكثر لغطهم. ثم قامت وقالت: يا عدو الله، صدقت، والله ما لي عليك حق ولا تعرفني، وقد حلفت على ذلك وأنت صادق، وأنا أم جعفر وأنت تقول: قلت لأم جعفر، وقالت لي أم جعفر في شعرك. فخجل الأحوص وانكسر عند ذلك، وبرئت عندهم.
سأل ابن جامع المغني الرشيد في أن يأذن له في المهارشة بين الدويك والكلاب، وأن لا يحد في النبيذ، فأذن له وكتب له كتاباً إلى العثماني عامله على مكة. فلما وصل الكتاب قال: كذبت، أمير المؤمنين لا يحل ما حرم الله، وهذا كتاب مزور، والله لئن ثقفتك على حال من هذه الأحوال لأؤدبنك أدبك. فحذره ابن جامع.
ووقع بين العثماني وحماد البربري وهو على البريد ما يقع بين العمال. فلما حج الرشيد قال حماد لابن جامع: أعني عليه حتى نعزله، قال: أفعل، فابدأ أنت فقل لأمير المؤمنين إنه ظالم فاجر واستشهدني، قال له ابن جامع: هذا لا يقبل في العثماني، ويفهم أمير المؤمنين كذبنا، ولكني أحتال من جهة ألطف من هذه. قال: فسأله الرشيد ابتداء فقال له: يا ابن جامع، كيف أميركم العثماني? قال: خير أمير وأفضله وأعدله وأقومه بالحق لولا ضعف في عقله؛ قال: وما ضعفه? قال: قد أفنى الكلاب قال: وما دعاه إلى قتلها? قال: زعم أن كلباً دنا من عثمان بن عفان يوم ألقي على الكناس فأكل وجهه، فغضب على الكلاب فهو يقتلها. فقال: هذا ضعيف العقل فاعزلوه. فكان ذلك سبب عزله.
ولي بعض العرب السعاية على أحياء من العرب والنظر في أمورهم. فاختصم إليه اثنان في غنم كل واحد منهما يدعيها، وليس هناك من يشهد لواحد منهما، فأمرهما أن يجعلا الغنم في موضع وكان فيها كلب لصاحب الغنم وأن يبيتا بالقرب منها، فلما كان الليل أتاهما فقال لأحدهما: قم فأتني برأس من الغنم. فمضى لذلك فنبحه الكلب فعاد، فقال له: اثبت مكانك، ودعا الآخر وقال: اذهب فجئني برأس منها، فجاءه به ولم ينبحه الكلب، فحكم له بالغنم.
واختصم إليه اثنان زعم أحدهما أن الآخر عبد له، والآخر ينكر. فقال لمدعي العبد: ما اسم العبد? قال: ميمون، وقال للآخر سراً: ما اسمك: قال: عبد الله. فأجلسهما، ولها عنهما ساعة واشتغل بغيرهما، ثم قال: يا ميمون، فقال: لبيك، قال: اذهب مع مولاك.
واختصم إليه شيخ وشاب في امرأة معها صبي كل يدعي أنها زوجته، وأن الصبي ابنه منها، وليس مع واحد منهما بينة، والمرأة تعترف للشاب. ففرق بينهم وأجلس الصبي بين يديه، وأخرج تمراً فأطعمه منه، ثم أعطاه منه وقال: اذهب به إلى أمك. فذهب إليها فأعطاها التمر وعاد إليه. فأعطاه تمراً وقال: اذهب بهذا إلى أبيك، فذهب فأعطاه الشيخ، وعاد فأعطاه منه وقال: اذهب به إلى أبيك فأعطاه الشيخ أيضاً. فحكم بالمرأة والولد للشيخ. وتهدد الشاب حتى أقر بالقصة على حقيقتها.
ابتاع شريك بن عبد الله القاضي من رجل مملوكاً عبداً أو أمة، فوجد به عيباً فرده على البائع بالعيب، فقال له البائع: لا تردده، أنا أربح لك فيه دنانير، وقال: أوتفعل? قال: نعم، قال: فبعه. فذهب البائع ولم يعرضه، فلما أبطأ على شريك دعا به، فقال له: ألم تقل إنك تربح? قال: بلى، قد قلت ذلك؛ قال: فأين الربح? قال: ما عرضته؛ قال: فاردد علينا الثمن، قال: ليس إلى ذلك سبيل، قد رضيته بعد العيب أمرتني بعرضه. فعلم شريك أنه قد وجب عليه، فأمسك.
كان سراقة البارقي شاعراً ظريفاً أسره المختار في بعض حروبه، فأمر بقتله، فقال: والله لا تقتلني حتى تنقض دمشق حجراً حجراً. فقال المختار: من يخرج أسرارنا? ثم قال: من أسرك? قال: قوم على خيل بلق عليهم ثياب بيض لا أراهم في عسكرك. فأقبل المختار على أصحابه فقال: إن عدوكم يرى من هذا ما لا ترون، ثم قال له: إني قاتلك، قال: والله يا أمير آل محمد إنك لتعلم أن هذا ليس باليوم الذي تقتلني فيه. قال: ففي أي يوم أقتلك? قال: يوم تضع كرسيك على باب مدينة دمشق فتدعوني يومئذ فتضرب عنقي. فقال: يا شرطة الله! من يذيع حديثك? ثم خلى عنه، فقال سراقة: (من الوافر)

ألا أبلغ أبا إسـحـاق أنـي
رأيت الخيل دهماً مصمتات
كفرت بوحيكم وجعلت نذراً
علي قتالكم حتى الممـات
أرى عيني مـا لـم تـرأياه
كلانا عالم بالـتـرهـات

يروى: ترياه. وهو من أبيات لعروض الشواهد. والحرف الذي فيه الزحاف مفاعيل أصله مفاعلتن أسكن خامسه وحذف سابعه، فما أسكن خامسه يسمى معصوباً، وما يحذف سابعه يسمى مكفوفاً. ويروى: ترأياه بإظهار الهمز إعادة له إلى الأصل، وهو شاذ.
سخر الرشيد على حميد الطوسي فدعا له بالنطع والسيف فبكى، فقال: ما يبكيك? قال: والله يا أمير المؤمنين ما أفزع من الموت فإنه لا بد واقع، وإنما بكيت أسفاً على خروجي من الدنيا وأمير المؤمنين ساخط علي، فضحك وعفا عنه وقال: (من البسيط)

إن الكريم إذا خادعته انخدعا

ولى عبد الملك بن مروان أخاه بشراً الكوفة، وكان شاعراً ظريفاً غزلاً، وبعث معه روح بن زنباع، وكان شيخاً متورعاً، فثقل على بشر مراقبته. فذكر ذلك لنديم له، فتوصل إلى أن دخل بيته ليلاً في خفية، فكتب على حائط قريب من مجلسه: (من البسيط)

ياروح من لبـنـيات وأرمـلة
إذا نعاك لأهل المغرب الناعي
إن ابن مروان قد حانت منيتـه
فاحتل لنفسك يا روح بن زنباع

فاستوحش من ذلك، وخرج من الكوفة حتى أتى عبد الملك، فحدثه بذلك، فاستغرب ضحكاً، فقال: ثقلت على بشر وأصحابه، فاحتالوا لك.
أراد المنصور أن يعقد للمهدي ويقدمه على عيسى بن موسى، فأراده على ذلك وأداره عليه وكتب إليه، فأبى وأجاب بجواب عنيف في آخره: (من البسيط)

خيّرت أمرين ضاح الحزم بينهما
إما صغار وإما فتـنة غـمـم
وقد هممت مراراً أن أساقيكـم
كأس المنية لولا الله والـرحـم
ولو فعلت لزالت عنكـم نـعـم
بكفر أمثالها تستنزل الـنـقـم

فلما يئس منه قال لخالد بن برمك: إن كانت عندك حيلة فقدمها فقد أعيتنا وجوه الحيل. قال: يا أمير المؤمنين، ضم إلي ثلاثين رجلاً من كبار الشيعة، فمضوا إليه، فلم يزدد إلا نبوّاً، فخرجوا، فقال لهم خالد: ما الحيلة? فأعضلتهم، فقال: ما هي إلا أن نخبر أمير المؤمنين أنه قد أجاب ونشهد عليه إن أنكر، قالوا: نفعل. فصاروا إلى المنصور وقالوا: قد أجاب، وخرج التوقيع بالبيعة للمهدي وكتب بذلك إلى الآفاق، وجاء عيسى فأنكر وشهدوا عليه بالإجابة. وكان المهدي يعرف ذلك لخالد، ويصف جزالة الرأي فيه.
وجد شاب قتيلاً بظهر الطريق أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلم يقدر على قاتله، فقال: اللهم أظفرني بقاتله، حتى إذا كان على رأس الحول وجد صبي ملقى موضع القتيل، فقال: ظفرت بدم القتيل إن شاء الله. فدفعه إلى ظئر وقال لها: إن جاءتك امرأة تقبله وترحمه أعلميني. فلما شب وطال إذا هي بجارية قالت لها: إن سيدتي تطلب أن تذهبي إليها؛ ففعلت، فضمته إلى صدرها وقبلته، وتلك بنت شيخ من الأنصار. فأخبرت عمر، فاشتمل على سيفه ةوخرج إلى منزلها فوجد الشيخ متكئاً على باب داره، فقال: ما فعلت بنتك? قال: جزاها الله خيراً، هي من أعرف الناس بحق الله وحق أبيها؛ وذكر من حسن صلاتها وصيامها وقيامها بدينها. فقال: أحببت أن أزيدها رغبة، فدخل وأخرج من هناك، وقال: أصدقيني خبر القتيل والصبي وإلا ضربت عنقك؛ وكان عمر رضي الله عنه لا يكذب. فقالت: كانت عندي عجوز قد تأممتها، فعرض لها سفر فقالت: لي بنت أحب أن أضمها إليك وكان لها ابن أمرد، فجاءت به في هيئة الجارية وأنا لا أشعر، فمكث عندي ما شاء الله؛ ثم اعتقلني وأنا نائمة، فما شعرت حتى خالطني فمددت يدي إلى شفرة فضربته وأمرت أن يلقى على الطريق، وقد أراني اشتملت منه على هذا الصبي ، فألقيته حيث وجد. فقا لها عمر رحمة الله عليه: صدقتني بارك الله فيك، ثم وعظها ودعا لها وخرج. فقال للشيخ: بارك الله لك في ابنتك، فنعم البنت بنتك.
تحاكمت امرأتان إلى إياس في كبة غزل، فقال لإحداهما: على أي شيء كببت غزلك? قال: على كسرة، وقال للأخرى: على أي شيء كببت غزلك? قالت: على خرقة، فنقضت الكبة فإذا هي على كسرة. فسمع بذلك ابن سيرين فقال: ويح له، فما أفهمه!

كان مصعب بن الزبير لا يقدر على عائشة بنت طلحة زوجته إلا بتلاح يناله منها وينالها منه، فشكا ذلك إلى ابن أبي فروة كاتبه، فقال: أنا أكفيك إن أذنت لي، قال: نعم، افعل ما شئت، فإنها أفضل شيء عندي في الدنيا. فأتاها ليلاً معه أسودان، فاستأذن عليها، فقالت له: في مثل هذه الساعة? قال: نعم، فأدخلته. فقال للأسودين: احفرا ها هنا بئراً، فقالت له مولاتها: ما تصنع بالبئر? قال: شؤم مولاتك؛ أمرني هذا الفاجر أن أدفنها حية، وهو أسفك خلق الله لدم حرام. قالت عائشة: فأنظرني أذهب إليه، قال: هيهات لا سبيل إلى ذلك. وقال للأسودين: احفرا، فلما رأت الجد منه بكت وقالت: يا ابن أبي فروة، إنك لقاتلي? قال: ما منه بد، وإني لأعلم أن الله سيخزيه بعدك، ولكنه كافر الغضب. قالت: وفي أي شيء غضبه? قال: في امتناعك عليه، وقد ظن أنك تبغضينه وتتطلعين إلى غيره، فقد جن. فقالت: أنشدك الله إلا عاودته، قال: أخاف أن يقتلني. فبكت وبكى جواريها، فقال: قد رققت لك، وحلف أنه يغرر بنفسه، ثم قال لها: فما أقول? قالت: تضمن عني أني لا أعود أبداً، قال: فما لي عندك? قالت: قيام بحقك ما عشت، فقال: أعطيني المواثيق؛ فأعطته، فقال: مكانكما. وأتى مصعباً وأخبره الخبر، فقال: استوثق منها بالأيمان، قال: قد فعلت؛ وصلحت بعد ذلك لمصعب. حدث عقبة بن سلم قال: دعاني أبو جعفر المنصور فسألني عن اسمي ونسبي، فقلت أنا عقبة بن سلم بن نافع الأزدي، قال: إني لأرى لك هيئة وموضعاً، وإني لأريدك لأمر أنا معني به، قلت: أرجو أن أصدق ظن أمير المؤمنين، قال: فأخف شخصك وأتني يوم كذا وكذا، فأتيته فقال: إن بني عمنا قد أبوا إلا كيداً لملكنا، ولهم شيعة بخراسان بقرية يقال لها كذا وكذا، يكاتبونهم ويرسلون إليهم بألطاف وصدقات، فاخرج بكسى وألطاف حتى تأتيهم متنكراً بكتاب أكتبه عن أهل تلك القرية، ثم تسير ناحيتهم، فإن كانوا نزعوا عن رأيهم علمت ذلك وكنت على حذر منهم حتى تلقى عبد الله بن حسن متخشعاً، فإن جبهك وهو فاعل فاصبر وعاوده أبداً حتى يأنس بك، فإذا ظهر لك ما في قلبه فاعجل إلي. ففعل ذلك حتى أنس عبد الله بناحيته، وقال له عقبة: الجواب، فقال: أما الكتاب فلا أكتب، ولكن أنت كتابي إليهم، فأقرئهم السلام، وأخبرهم أني خارج لوقت كذا وكذا. فشخص عقبة حتى قدم على أبي جعفر وأخبره الخبر. قال صالح صاحب المصلى: إني لواقف على رأس أبي جعفر وهو يتغذى بأوطاس وهو متوجه إلى مكة، ومعه على مائدته عبد الله بن الحسن، وأبو الكرام الجعفري وجماعة من بني العباس، فأقبل على عبد الله بن الحسن فقال: يا أبا محمد، محمد وإبراهيم قد استوحشا من ناحيتي، وأني أحب أن يأنسا بي ويأتياني، فأصلهما وأزوجهما وأخلطهما بنفسي. قال: وعبد الله يطرق طويلاً ويقول: وحقك يا أمير المؤمنين ما لي بهما ولا بموضعهما من البلاد علم، ولقد خرجا عن يدي؛ فيقول: لا تفعل يا أبا محمد، واكتب إليهما وإلى من يوصل كتابك إليهما، قال: فامتنع أبو جعفر من غدائه ذلك اليوم إقبالاً على عبد الله، وعبد الله يحلف أنه لا يعرف موضعهما، وأبو جعفر يكرر عليه: لا تفعل يا أبا محمد، لا تفعل يا أبا محمد. وقال أبو جعفر لعقبة بن مسلم: إذا فرغنا من الطعام فلحظتك، فامثل بين يدي عبد الله، فإنه سيصرف بصره عنك، فدر حتى تغمز ظهره بإبهام رجلك حتى يملأ عينيه منك، ثم حسبك، وإياك أن يراك ما دام يأكل. ففعل عقبة ذلك، فلما رآه عبد الله وثب حتى جثا بين يدي أبي جعفر وقال: يا أمير المؤمنين أقلني أقالك الله، قال: لا أقالني الله إن أقلتك، ثم أمر بحبسه.
كان عيسى بن جعفر متنوقاً، فخاطره الرشيد على مائة ألف أن يلبس ثوباً ليس له مثله، فلما لبسه قال له عيسى: عندي فرش من هذا، فأحضره، وأخذ المال. ثم خاطره على مائة ألف أن يلبس جبة ليس له مثلها، فأحضر أحسن منها، وانصرف بمائتي ألف، فاغتاظ الرشيد. فقال له ابراهيم بن المهدي: إن أحببت أن تسترجع المائتين ومثلهما، فخاطره والبس البردة. ودعا به وخاطره فغلبه وأخذ أربعمائة ألف وأعطاها ابراهيم.
أراد عمر رضي الله عنه أن يعزل المغيرة بن شعبة عن العراق بجبير بن مطعم وأن يكتم ذلك، وأمر بالجهاز. وأحس بذلك المغيرة فأمر جليساً له أن يدس امرأته - وكانت تسمى لقاطة الحصى - لتدور في المنازل حتى دخلت منزل جبير، فوجدت امرأته تصلح امره، فقالت: إلى أين يخرج زوجك? قال: إلى العمرة، قالت: كتمك، ولو كان لك عنده منزلة لأطلعك. فجلست متغضبة فدخل إليها جبير وهي كذلك، فلم تزل به حتى أخبرها، وأخبرت لقاطة الحصى. ودخل المغيرة على عمر: فقال: بارك الله لأمير المؤمنين في رأيه وتوليته جبيراً. فقال: كأني بك يا مغيرة فعلت كذا، فقص عليه الأمر كأنما شاهده وقال: أنشدك الله، هل كان ذلك? قال: اللهم نعم. ثم رقي المنبر وقال: أيها الناس، من يدلني على المخلط المزيل النسيخ وحده? فقام المغيرة فقال: ما يعرف ذاك في أمتك غيرك؛ فولاه، ولم يزل والي العراق حتى طعن عمر.
يقال إن الفيل من طبعه الهرب من السنور، فحكي عن هارون مولى الأزد الذي كان يرد على الكميت ويفخر بقحطان، وكان شاعر أهل المولتان أنه خبأ معه هراً تحت حضنه، ومشى بسيفه إلى الفيل وفي خرطومه السيف، والفيالون يذمرونه؛ فلما دنا منه ألقى الهر على وجهه فأدبر الفيل هارباً وتساقط الذين على ظهره، وكبر المسلمون، وكان سبب الهزيمة.
من الخدائع والحيل في الحرب ما فعله كسرى بن هرمز بالروم. وذلك أن شهريزار المقيم بثغر الروم وطأ ملكهم على الغدر بكسرى في خبر طويل، فسار قيصر في أربعين ألفاً وخلف شهريزار في أرض الروم، وكان رجل فارس همة وشجاعة ومعه رجال فارس وأساورتها. وتفرق عن كسرى جنده، وكانوا قد أبغضوه. فعلم أن لا طاقة له بالروم، فعمد إلى قس نصراني مستبصر في دينه، وقال: إني أكتب معك كتاباً لطيفاً في حريرة وأجعله في قناة إلى شهريزار، انطلق به فإن قيصر وجنوده لا يتهمونك، فادفع كتابي هذا إلى شهريزار. وأعطاه على ذلك ألف دينار. وقد علم كسرى أن القس لا يذهب بكتابه ولا يحب هلكة الروم. وكان في الكتاب: إني كتبت إليك وقد دنا قيصر مني، وقد أحسن الله إليك بصنيعك، وقد فرقت لهم الجيوش، وإني تاركه حتى يدنو مني فيكون قريباً من المدائن، ثم أبث الخيول في يوم كذا، فإذا كان ذلك اليوم فأغر على من قبلك، فإنه استئصالهم.
فخرج القس بالكتاب حتى لقي قيصر، وقد كانت أرض العراق صورت له، وصور النهروان في غير حين المد ولم يصور المد ولا الجسر، فلما انتهى إليه انتهى المد وليس عليه جسر. فلما قرأ الكتاب قال: ها الحق، وانصرف منهزماً، وأتبعه كسرى بإياس بن قبيصة الطائي وكان يعجب به، فأدركه أياس بساتيدما، فأدركهم مرعوبين، فقتلهم قتل الكلاب، ونجا قيصر في جماعة من أصحابه.
لما أراد هشام صرف خالد بن عبد الله القسري عن العراق، وكان بحضرته رسول ليوسف بن عمر ورد عليه من اليمن وهو يتقلدها، فدعا به وقال: إن صاحبك لمتعد طوره، يسأل فوق قدره؛ وأمر بتخريق ثيابه وضربه أسواطاً وقال له: الحق بصاحبك، فعل الله بك وفعل. ودعا بسالم الكاتب على ديوان الرسائل وقال له: اكتب إلى يوسف بن عمر بشيء أمره به، واعرض الكتاب علي. فمضى سالم ليكتب ما أمره به، وخلا هشام وكتب كتاباً صغيراً إلى يوسف وفيه: سر إلى العراق فقد وليتك إياه، وإياك أن يعلم أحد بك، واشفني من ابن النصرانية وعماله؛ وأمسكه في يده.
وحضر سالم بالكتاب الذي كتبه فعرضه عليه، فاغتفله وجعل الكتاب الصغير في طيه، وختمه ودفعه إلى الربيع وقال له: ادفعه إلى رسول يوسف. فلما وصل الرسول إلى يوسف قال له: ما وراءك? قال: الشر؛ أمير المؤمنين ساخط عليك، وقد أمر بتخريق ثيابي وضربي، ولم يكتب جواب كتبك، هذا كتاب صاحب الديوان. ففض الكتاب فقرأه، فلما انتهى إلى آخره وقف على الكتاب الصغير الذي بخط هشام. فاستخلف ابنه الصلت بن يوسف على اليمن، وصار إلى العراق. وكان يخلف سالماً الكاتب على ديوان الرسائل بشير بن أبي دلجة من أهل الأردن، وكان فطناً، فلما وقف على ما كان من هشام قال: هذه حيلة وقد ولي يوسف العراق وكتب إلى عالم أجمة سالم، وكان واداً له ويقال له عياض: إن أهلك قد بعثوا إليك بالثوب اليماني، فإذا أتاك كتابي فالبسه واحمد الله، وأعلم طارقاً ذلك. فعرف عياض ذلك لطارق بن أبي زياد، وكان عامل خالد على الكوفة وما يليها ثم ندم بشير على ما كتب به إلى عياض، فكتب إليه: إن القوم قد بدا لهم في البعثة إليك يالثوب اليماني، فعرف أيضاً عياض طارقاً. فقال طارق: الخبر في الكتاب الأول، ولكن صاحبك ندم وخاف أن يظهر أمره. وركب من ساعته إلى خالد فخبره الخبر فقال له: ما ترى? قال: تركب من ساعتك إلى امير المؤمنين، فإذا رآك استحيا منك، وزال شيء إن كان في نفسه عليك، فلم يقبل ذلك، فقال له: أفتأذن لي أن أصير إلى حضرته وأضمن له جميع مال هذه السنة? قال: وما مبلغ ذلك? قال: مائة ألف ألف، وآتيك بعهدك، قال: ومن أين هذه? والله ما أملك عشرة آلاف درهم فقال: أتحمل أنا وسعيد بن راشد بأربعين ألف ألف وكان سعيد بن راشد يتقلد له الفرات ومن الوصي وأبان بن الوليد عشرين ألف ألف، وتفرق الباقي على باقي العمال. فقال له: إني إذاً للئيم، إذ أسوغ قوماً شيئاً ثم أرجع عليهم به. فقال له: إنما نقيك ونقي أنفسنا ببعض أموالنا، وتبقى النعم علينا فيك وعليك، ونستأنف طلب الدنيا خير من أن نطالب بالأموال وقد حصلت عند تجار الكوفة، فيتقاعسون عنا ويتربصون بنا فنقتل وتذهب أنفسنا ونحصل الأموال يأكلونها، فأبى وودعه وبكى وقال: هذا آخر العهد بك.
ووافاهم يوسف، ومات طارق في العذاب وغيره من عمال خالد. ولقي خالد ومن بقي شراً عظيماً.
ثقل على أبي العباس الصفاح هيبة الجند لأبي مسلم. فشكا ذلك إلى خالد بن برمك، فقال له: مره بعرضهم وإسقاط من لم يكن من أهل خراسان منهم، ففعل ذلك. فجلس أبو مسلم للعرض، فأسقط في أول يوم بشراً كثيراً، ثم جلس في اليوم الثاني فأسقط بشراً كثيراً، ثم جلس في اليوم الثالث فلم يقم إليه أحد، فدعا ثانية فلم يجب، ودعا ثالثة فلم يقم أحد. وقام إليه رجل فقال: علام تسقط الناس أيها الرجل منذ ثلاث? قال: أسقط من لم يكن من أهل خراسان. قال: فابدأ بنفسك أيها الرجل فإنك من أهل أصفهان وقد دخلت في أهل خراسان. فوثب من مجلسه وقال: هذا أمر أبرم بليل، وحسبك من شر سماعه، وفطن للحيلة وبلغ أبا العباس فسره.
كان خالد بن برمك يتقلد لأبي جعفر فارس. فخافه أبو أيوب المورياني، فلم يزل يغري به ابا جعفر ويكيده عنده حتى عزله ونكبه وقرر عليه ثلاثة آلاف ألف درهم، ولم يكن له غير سبعمائة ألف، فحلف له على ذلك فلم يصدقه. فأسعفه الأماثل بالمال، واتصل ذلك بأبي جعفر، فتحقق قوله وصدقه وصفح له عن المال. فشق ذلك على أبي أيوب، وأحضر بعض الجهابذة، ودفع إليه مالاً، وأمره أن يعترف بأنه لخالد، ودس إلى أبي جعفر من سعى بالمال، وأحضر الجهبذ وسأله عن المال فاعترف به، وأحضر خالداً فسأله عن ذلك، فحلف بالله أنه لم يجمع مالاً قط، ولا ذخر ذخيرة، ولا يعرف هذا الجهبذ، ودعا إلى كشف الحال، فتركه أبو جعفر بحضرته، وأحضر الجهبذ فقال له: أتعرف خالداً إن رأيته? قال: نعم يا أمير المؤمنين أعرفه إذا رأيته، فالتفت إلى خالد فقال: قد أظهر الله براءتك، وهذا مال أصبناه بسببك. ثم قال للجهبذ: هذا خالد، فكيف لم تعرفه? فقال: الأمان يا أمير المؤمنين، واخبره الخبر، فكان بعد ذلك لا يقبل شيئاً في خالد.
قال أبو عبيدة: أصاب رجل من الضباب ناقة ضالة فنحرها وسلق لحمها، فلم ينشب أن جاء جمل ضال فنحره وفعل به فعلته بالناقة. فجاء صاحب الناقة ينشدها وأبصر اللحم، فسأله فقال: انزل نطعمك، فنزل فأطعمه وأخرج إليه ثيل الجمل يابساً وقال: جمل لنا كسر، ثم جاء صاحب الجمل ينشده ففعل به فعلته بصاحب الناقة وأخرج إليه ضرع الناقة، وقال: ناقة لنا كسرت، وقال: (من الوافر)

وملتمس قعوداً ظـل يشـوى
له منـه ويتـبـعـه قـدير
فلما أن رأى ضرعاً نضيجـاً
تبـين أنـه خـلــف درور
فلمـا أن تـروح جـاء بـاغ
أضلته عـلاة عـيسـجـور
فراع فـؤاده مـنـهـا قـديد
على الأطناب مصفوف شرير
فقال طلبتها أدمـاء جـلـسـا
نمى من فوقها قـرد وثـير
فأذهب شكه ثيل فـأمـسـى
يظن بأن نـاقـتـه بـعـير

العلاة: الصلبة، شبهت بعلاة الحداد وهي السندان، والعيسجور: السريعة. والجلس: المشرفة، من الجلس وهو ما ارتفع من الأرض.

نوادر من هذا الباب

اختلف ابراهيم بن هشام وقرشي في حرف، فحكما أبا عبيدة بن محمد بن عمار فقال: أما أفرس الكلامين فما يقول الأمير. أما ما يقول النحويون الخبثاء فما يقول هذا.
خطب رجل امرأة فقالت له: إن في تقززاً، وأخاف أن أرى منك بعض ما أتقزز منه فتنصرف نفسي عنك. فقال الرجل: أرجو ألا تري ذلك. فتزوجها فمكث أياماً معها، ثم قعد يوماً يتغدى فلما رفع الخوان تناول ما سقط من الطعام تحت الخوان وأكله. فنظرت إليه وقالت له: أما كان يقنعك ما على ظهر الخوان حتى تلتقط ما تحته? قال: بلغني أنه يزيد في القوة على الباه، فكانت بعد ذلك تفعله هي، وتفت له الخبز كما يفت للفروج.
ركض رجل دابة وهو يقول: الطريق، الطريق، فصدم رجلاً لم يتقدم عن طريقه، فاستعدى عليه فتخارس الرجل، فقال العامل: هذا أخرس، قال: أصلحك الله! يتخارس عمداً. والله ما زال يقول: الطريق الطريق، فقال الرجل: ما تريد وقد قلت لك: الطريق، الطريق? قال العامل: صدق.
اختلف نصراني إلى أبي دلامة يتطبب لابن له، فوعده إن برأن على يديه أن يعطيه ألف درهم. فبرأ ابنه. فقال المتطبب: إن الدراهم ليست عندي ولكن والله لأوصلنها إليك؛ إدع على جاري فلاه هذه الدراهم فإنه موسر، وأنا وابني نشهد لك، فليس دون أخذها شيئ. فصار النصراني بالجار إلى ابن شبرمة؛ فسأله البينة، فطلع عليه أبو دلامة وابنه، ففهم القاضي، فملا جلس بين يديه قال أبو دلامة: (من الطويل)

إن الناس غطوني تغطيت عنهم
وإن بحثوا عني ففيهم مباحث

قال ابن شبرمة: ومن ذا الذي يبحثك يا أبا دلامة? ثم قال للمدعي: قد عرفت شأنك، فخل عن الخصم ورح العشية. فراح إليه وغرمها من ماله.
وشهد أبو عبيدة عند عبيد الله بن الحسن العنبري على شهادة رجل عدل، فقال عبيد الله للمدعي: أما أبو عبيدة فقد عرفته، فزدني شهوداً.
وروي أن وكيعاً شهد عند إياس بن معاوية، فقال: يا أبا المطرف، ما لك والشهادة? إنما نتشهد الموالي والتجار والسقذاط، قال: صدقت، وانصرف. فقيل له: خدعك ولم يقبل شهادتك فردك. فقال: لو علمت لعلوته بالقضيب.
وشهد الفرزدق عند بعض القضاة فقال: قد قبلت شهادة أبي فراس، فزيدونا شهوداً، فقيل للفرزدق: إنه لم يقبل شهادتك، قال: وما يمنعه من ذلك وقد قذفت ألف محصنة? عتبت عائشة بنت طلحة على مصعب بن الزبير فهجرته، فقال مصعب: هذه عشرة آلاف لمن احتال لي أن تكلمني. فقال له ابن أبي عتيق: عد لي المال؛ ثم صالر إلى عائشة، فجعل يستعتبها لمصعب فقالت: والله ما عزمي أن أكلمه أبداً. فلما رأى جدها قال: يا ابنة عم، إنه ضمن لي إن كلمته عشرة آلاف درهم، فكلميه حتى آخذها، ثم عودي إلى ما عودك الله من سوء الخلق.
قال أشعب: جاءتني جارية بدينار وقال: هذا وديعة عندك.
فجعلته بين ثنيي الفراش، فجاءت بعد أيام فقالت: يا أبي، الدينار، فقلت: ارفعي الفراش وخذي ولده. وكنت تركت إلى جنبه درهماً، فتركت الدينار وأخذت الدرهم، وعادت بعد أيام فوجدت معه درهماً آخر فأخذته، وعادت في الثالثة كذلك. فلما رأيتها في الرابعة بكيت، فقالت: ما يبكيك? قلت: مات دينارك في النفاس، قالت: وكيف يكون للدينار نفاس? قلت: يا فاسقة، تصدقين بالولادة ولا تصدقين بالنفاس?! تنبأ رجل في أيام المأمون فقال: أنا أحمد النبي، فحمل إليه فقا له: مظلوم أنت فتنصف? فقال: ظلمت في ضيعتي، فتقدم بإنصافه، ثم قال له: ما تقول في دعواك? فقال: أنا أحمد النبي، فهل تذمه أنت? أخذت الخوارج رجلاً فقالوا: ابرأ من عثمان وعلي، فقال: أنا من علي، ومن عثمان بريء. تناظر شيطان الطاق وأبو حنيفة مرة في الطلاق. فقال له أبو حنيفة: أنتم معشر الشيعة لا تقدرون على أن تطلقوا نساءكم، فقال شيطان الطاق، نحن نقدر على أن نطلق على جميع من خالفنا نساءهم، فكيف لا نقدر على ذلك في نسائنا? وإن شئت طلقت عليك امرأتك. فقال أبو حنيفة: افعل. قال: قد طلقتها بأمرك، فقد قلت لي افعل.
مر طفيلي إلى باب عرس فمنع من الدخول، فذهب إلى أصحاب الزجاج ورهن رهناً وأخذ عشرة أقداح، وجاء وقال للبواب: افتح حتى أدخل هذه الأقداح التي طلبوها، ففتح له ودخل فأكل وشرب، ثم حمل الأقداح وردها إلى صاحبها فقال: لم يرضوها، وأخذ رهنه.
وجاء آخر إلى باب عرس، فمنع من الدخول، فمضى وعاد وقد جعل إحدى نعليه في كمه وعلق الأخرى بيده، وأخذ خلالاً يتخلل به، وجاء فدق الباب، فقال له البواب: ما لك? قال: الساعة خرجت وبقيت نعلي هناك، فقال: ادخل. فدخل وأكل مع القوم، وخرج.
مر عبد الأعلى القاص بقوم وهو يتمايل سكراً، فقال إنسان: هذا عبد الأعلى القاص، فقال: ما أكثر من يشبهني بذاك الرجل الصالح! نظر مزيد يوماً إلى امرأته تصعد في درجة، فقال لها: أنت طالق إن صعدت، وأنت طالق إن وقفت، وأنت طالق إن نزلت. فرمت بنفسها من حيث بلغت. فقال لها: فداك أبي وأمي! إن مات مالك احتاج إليك أهل المدينة في أحكامهم.
قال بهلول يوماً: أنا والله أشتهي من فالوذج ومن سرقين، فقالوا: والله لنبصرنه كيف يأكل. فاشتروا له الفالوذج وأحضروا السرقين، فأقبل على الفالوذج وترك السرقين، فقالوا له: لم تركت هذا? قال: أقول لكم أنا والله وقع لي أنه مسموم، من شاء يأكل منكم ربع رطل حتى آكل الباقي.
وجاء فوقف عند شجرة ملساء فقال: من يعطيني نصف درهم حتى أصعد، فعجب الناس فأعطوه، فأحرزه ثم قال: هاتوا سلماً، قالوا: كان السلم في الشرط? قال: وكان بلا سلم في الشرط? قال الجاحظ: وقفت على قاص قد اجتمع عليه خلق كثير ومعهم جماعة من الخصيان، فوقفت إلى جانبه وجعلت أشير إلى الناس أنه هو ذا يجود، قال وهو يفرح بذلك فلم يعطه أحد شيئاً، فالتفت إلي خفياً وقال: الساعة إن شاء الله أعمل الحيلة، ثم صاح: حدثنا فلان عن فلان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال، قال رب العالمين عز وجل: ما أخذت كريمتي عبد من عبيدي إلا عوضته في الجنة. أتدرون ما الكريمتان في هذا الموضع? قال الناس: ما هما? فبكى وقال: هما الخصيتان، الخصيتان! وهو يتباكى. فجعل كل واحد من الخصيان يحل منديله حتى اجتمعت له دراهم كثيرة.
وقص واحد معه تعاويذ يبيعها، فجعلوا يسمعون قصصه ولا يشترون التعاويذ، فأخذ محبرته وقال: من يشتري مني كل تعويذة بدرهم حتى أقوم فأغوص في هذه المحبرة باسم الله الأعظم الذي كتبته في هذه التعاويذ? فاشتريت منه التعاويذ في ساعة، وجمع الدراهم وقالوا: قم فادخل الآن في المحبرة، فنزع ثيابه وتهيأ، والجهال يظنون أنه يغوص فيها. فبدرت ارمأة من خلف الناس وتعلقت به وقالت: أنا امرأته، من يضمن لي نفقته حتى أتركه يدخل? فإنه دخلها عام أول وبقيت ستة أشهر بلا نفقة.
كان مالك بن الريب المازني من تميم لصاً فاتكاً شجاعاً شاعراً يقطع الطريق ومعه أبو حردبة أحد بني أثالة بن مازن، وغويث أحد بني كعب بن مالك بن حنظلة، وشظاظ مولى لبني تميم وكان أخبثهم. فقال مالك لأبي حردبة وشظاظ: ما أعجب ما عملتم في سرقكم? فقال أبو حردبة: أعجب ما سرقت وأعجب ما صنعت أني صحبت رفقة فيها رحل على جمل فأعجبني، فقلت لصاحبي: والله لأسرقن رحله، ثم لا رضيت أو آخذ عليه جعالة؛ فرصدته حتى رأيته قد خفق رأسه فأخذت بخطام جمله فعدلت به عن الطريق حتى إذا صيرته في موضع لا يغاث فيه إن استغاث أنخت البعير وصرعته وأوثقت يديه ورجليه، وقدت الجمل فغيبته؛ ثم رجعت إلى الرفقة وقد فقدوا صاحبهم وهم يسترجعون، فقلت: ما لكم? فقالوا: صاحب لنا فقدناه، فقلت: أنا أعلم الناس بأثره؛ فجعلوا لي جعالة، فخرجت بهم أتبع الأثر حتى وقفوا عليه فقالوا: ما لك? قال: لا أدري، نعيت فانتبهت فإذا بخمسين رجلاً قد أخذوني فقاتلتهم فغلبوني. قال أبو حردبة: فجعلت أضحك من كذبه، وأعطوني جعالتي وذهبوا بصاحبهم.
وأعجب ما سرقت أنه مر بي رجل معه ناقة وجمل، وهو على الناقة، فقلت: لآخذنهما جميعاً. فجعلت أعارضه وقد خفق رأسه، فدرت فأخذت الجمل فحللته وسقته، فغيبته في القصيم، وهو الموضع الذي كانوا فيه يسرقون، ثم انتبه فلم ير جمله فنزل وعقل ناقته ومضى في طلب الجمل، فجئت فحللت عقال ناقته وسقتها.
قال شظاظ: أعجب ما رأيت في لصوصيتي أن رجلاً من أهل البصرة كان له بنت عم ذات مال كثير وهو وليها، وكانت له نسوة فأبت أن تتزوجه. فحلف أن لا يزوجها من أحد إضرارً بها وكان يخطبها رجل غني من أهل البصرة، فحرصت عليه، وأبى الآخر أن يزوجها منه؛ ثم إن ولي الأمر حج حتى إذا كان بالدو على مرحلة من البصرة وهو منزل الرفاق إذا صدرت أو وردت مات الولي فدفن برابية وشيد على قبره، فتزوجت الرجل الذي كان يخطبها. قال شظاظ: ويخرج رفقة من البصرة معهم بز ومتاع، فتبصرتهم وما معهم، واتبعتهم من البصرة حتى نزلوا؛ فلما ناموا بيتهم فأخذت متاعهم. ثم إن القوم أخذوني وضربوني ضرباً مبرحاً وجرحوني. قال: وذلك في ليلة قرة، وسلبوني كل كثير وقليل فتركوني عرياناً. قال: وتماوت لهم، وارتحل القوم، فقلت: كيف أصنع? ثم ذكرت قبر الرجل فأتيت فنزعت لوحه، ثم احتفرت فيه سرباً فدخلت فيه، ثم سددت علي باللوح وقلت: لعلي الآن أفيق فأتبعهم. قال: ومر الرجل الذي تزوج بالمرأة بالرفقة، فمر بالقبر الذي أنا فيه فوقف عليه وقال لرفقته: والله لأنزلن إلى قبر فلان، حتى أنظر هل يحمي بضع فلانة? قال شظاظ: وعرفت صوته فقلعت اللوح ثم خرجت عليه بالسيف من القبر وقلت: بلى ورب الكعبة لأحمينها. قال: فوقع والله على وجهه مغشياً عليه ما يتحرك ولا يعقل، وسقط من يده خطام الراحلة، فأخذت وعهد الله بخطامها، فجلست عليها وعلى كل أداة وثياب ونقد كان معه، ووجهتها قصد مطلع الشمس هارباً من الناس فنجوت بها، وكنت بعد ذلك أسمعه يحدث الناس بالقصة ويحلف لهم أن الميت الذي كان منعه من تزوج المرأة خرج عليه من قبره فسلبه وكتفه، فبقي يومه ثم هرب. والناس يعجبون منه؛ فعاقلهم يكذبه، والأحمق منهم يصدقه، وأنا أعرف القصة وأضحك معهم كالمتعجب.
قالوا: فزدنا، قال: أنا أزيدكم أعجب من هذا وأحمق من هذا الرجل: إني لأمشي في الطريق أبتغي شيئاً أسرقه، فلا والله ما وجدت شيئاً. قال: وشجرة ينام تحتها الركبان بمكان ليس فيه ظل غيرها، فإذا أنا برجل يسير على حمار له، فقلت له: أتسمع? قال: نعم، فقلت له: إن المقيل الذي تريد أن تقيل فيه يخسف بالدواب فاحذره. فلم يلتفت إلى قولي، ورمقته حتى إذا نام أقبلت على حماره فأخذته، حتى إذا برزت به قطعت طرف أذنه وذنبه وخبأت الحمار؛ وأبصرته حين استيقظ من نومه، فقام يطلب الحمار ويقفو أثره، فبينا هو كذلك إذا نظر إلى طرف ذنبه وأذنيه فقال: لعمري لقد حذرت لو نفعني الحذر. واستمر هارباً خوفاً أن يخسف به. فأخذت جميع ما بقي من رحله فحملته على الحمار واستمررت، فألحق بأهلي.
كان بهلول يجمع ما يوهب له عند مولاة له من كندة وكانت له كالأم، وربما أخفىعنها شيئاً ودفنه. فجاء يوماً بعشرة دراهم كانت معه إلى خربة فدفنها فيها، ولمحه رجل، فلما خرج بهلول ذهب الرجل وأخذ الدراهم، وعاد بهلول فلم يجدها. وقد كان رأى الرجل يوم دفنها، فعلم أنه صاحبه. فجاء إليه فقال: اعلم يا أخي أن لي دراهم مدفونة في مواضع كثيرة متفرقة، وأريد جمعها في موضع دفنت فيه هذه الأيام عشرة دراهم، فإنه أحرز من كل موضع، فاحسب كم تبلغ جملتها? قال: هات، قال: خذ عشرون درهماً في موضع كذا، وخمسون درهماً في موضع كذا، حتى طرح عليه مقدار ثلاثمائة درهم؛ ثم قام من بين يديه ومر. فقال الرجل في نفسه: الصواب أن أرد العشرة دراهم إلى الموضع الذي أخذتها منه حتى يجمع إليها هذه الجملة ثم آخذها، فردها. وجاء بهلول فدخل الخربة وأخذ الدراهم وخري مكانها وغطاه بالتراب ومر. وكان الرجل مترصداً لبهلول وقت دخوله وخروجه، فلما خرج مر بالعجلة فكشف عن الموضع وتلوثت يده بالخراء ولم يجد شيئاً، ففطن لحيلة بهلول عليه. ثم إن بهلولاً عاد إليه بعد أيام فقال: احسب سيدي عشرين وخمسة عشر درهماً وعشرة دراهم وشم يدك. فوثب الرجل ليضربه، وعدا بهلول.
وجاز بهلول بسوق البزازين فرأى قوماً مجتمعين على باب دكان ينظرون إلى نقب قد نقب على بعضهم. فاطلع في النقب، فقال: كأنكم لا تعلمون ذا من عمل من? قالوا: لا، قال: فإني أعلم، فقال الناس: هذا مجنون يراهم في الليل ولا يتحاشونه، فأنعموا له القول لعله يخبر بذلك فسألوه أن يخبرهم فقال: إني جائع فهاتوا أربعة أرطال رقاق ورأسين. فأحضروا ذلك، فلما استوفى قال: هو ذا، أشتهي شيئاً حلواً، فأحضروا له رطلين فالوذج، فأكله وقام وتأمل النقب ثم قال: كأنكم ليس تعلمون ذا من عمل من? قالوا: لا، قال: هذا من عمل اللصوص ولا شك، وعدا.
ولما مات والد بهلول خلف ستمائة درهم، فحجر عليها القاضي، فجاءه يوماً فقال له: أيها القاضي، ادفع لي مائة درهم حتى أقعد في الحلقات، فإن أحسنت أن أتجر بها دفعت إلي الباقي. فدفع إليه ذلك، فذهب وأتلفه، وعاد إلى مجلس القاضي وقال له: إني قد أتلفت المائة فتفضل بردها، فقد أسأت إذ دفعت إلي ولم يثبت عندك رشدي. قال القاضي: صدقت، والتزم المائة من ماله.
قيل: إن هشام بن عبد الملك حج، فلما قدم المدينة نزل رجل من الأشراف من أهل الشام وقوادهم بجنب دار الدلال المخنث. وكان الشامي يسمع غناء الدلال فيصغي إليه، ويصعد فوق السطح ليقرب من الصوت. ثم بعث إلى الدلال: إما أن تزورنا وإما أن نزورك. فبعث إليه الدلال: بل تزورنا، فبعث الشامي بما يصلح ومضى إليه. وكان للشامي غلمان روقة، فمضى بغلامين منهم كأنهما درتان مكنونتان، فغناه الدلال: (من الكامل المرفل)

قد كنت آمـل فـيكـم أمـلاً
والمرء ليس بمدرك أمـلـه
حتى بدا لي منـكـم خـلـف
فزجرت قلبي عن هوى جهله
ليس الفتى بـمـخـلـد أبـداً
حقاً وليس بـفـائت أجـلـه

فاستحسن الشامي غناءه فقال: زدني، فقال: أوما سمعت ما يكفيك? قال: لا والله ما يكفيني. قال: فإن لي حاجة، قال: وما هي? قال: تبيعني أحد هذين الغلامين أو كليهما؛ قال: اختر أيهما شئت، فاختار أحدهما، فقال له الشامي: هو لك، فقبله منه الدلال، ثم غناه صوتاً آخر، فقال له الشامي: أحسنت، ثم قال: أيها الرجل الجميل، إن لي حاجة، قال الدلال: وما هي? قال: أريد وصيفة ولدت في حجر صالح، ونشأت في خير، جميلة الوجه مجدولة، وضيئة، جعدة في بياض، مشربة حمرة، حسنة القامة، سياطية، أسيلة الخد، عذبة اللسان، لما شكل ودل، تملأ العينوالنفس. فقال له الدلال: قد أصبتنها لك، فما لي عليك إن دللتك? قال: غلامي هذا. قال: إذا رأيتها وقلبتها فالغلام لي? قال: نعم. قال: فأتى امرأة كنى عنها ولم يذكر اسمها، فقال لها: جعلت فداك، إنه نزل بي رجل من قواد هشام له ظرف وسخاء، وجاءني زائراً فأكرمته، ورأيت معه غلامين كأنهما الشمس الطالعة المنيرة والكواكب الزاهرة، ما وقعت عيني على مثلهما، ولا ينطلق لساني بوصفهما، فوهب لي أحدهما والآخر عنده، وإن لم يصر إلي فنفسي خارجة. قالت: فتريد ماذا? قال: طلب مني وصيفة يشتريها على صفة لا أعرفها في أحد إلا في ابنتك، فهل لك أن تريه إياها? قالت: وكيف لك بأن يدفع الغلام إليك إذا رآها? قال: إني قد شرطت عليه ذلك عند النظر لا عند البيع، قالت: فشأنك، ولا يعلم بذلك أحد. فمضى الدلال وجاء بالشامي معه. فلما صار إلى المرأة أدخلته، فإذا هو بحجلة وفيها امرأة على سرير مشرف ببزة جميلة. فوضع له كرسي وجلس. فقالت له: أمن العرب أنت? قال: نعم، قالت: من أيهم? قال: من خزاعة، قالت: مرحباً بك وأهلاً، أي شيء طلبت? فوصف لها الصفة، قالت: قد أصبتها، وأصغت إلى جارية لها فدخلت، فمكثت هنيهة ثم خرجت. فنظرت إليها، فقالت لها المرأة: يا حبيبتي، اخرجي. فخرجت وصيفة ما رأى مثلها، فقالت لها: أقبلي فأقبلت. ثم قالت لها: أدبري، فأدبرت؛ تملأ العين والنفس؛ فما بقي منها شيء إلا وضع يده عليه؛ فقالت: أتحب أن نؤزرها لك? قال: نعم، قالت: يا حبيبتي اتزري، فضمها الإزار وظهرت محاسنها الخفية، فضرب يده على عجيزتها وصدرها، ثم قالت: أتحب أن تجردها? قال: نعم، قالت: يا حبيبتي، أوضحي، فألقت الإزار، فإذا أحسن خلق الله كأنها السبيكة. فقالت: يا أخا العرب، كيف رأيت? قال: منية المتمني، بكم تقولين? قالت: ليس يوم النظر يوم البيع، ولكن تعود غداً حتى نبايعك، فلا تنصرف إلا على رضاً، فانصرف من عندها، فقال له الدلال: أرضيت? قال نعم، ما كنت أحسب أن مثل هذه في الدنيا، وإن الصفة لتقصر دونها، ثم دفع إليه الغلام الثاني.
فلما كان من الغد قال له الشامي: قم بنا، فمضيا حتى قرعا الباب فأذن لهما، فدخلا فسلما، ورحبت المرأة بهما، ثم قالت للشامي: أعطنا ما تبذل، قال: ما لها عندي ثمن إلا وهي أكثر منه، فقولي يا أمة الله، قالت: بل قل، فأنا لم نوطئك أعقابنا ونحن نريد خلافك، وأنت لها رضاً. قال: ثلاثة آلاف دينار، فقالت: والله لقبلة من هذه خير من ثلاثة آلاف دينار، قال: فأربعة آلاف، قلت: غفر الله لك أيها الرجل، قال: والله ما معي غيرها ولو كان لزدتك، إلا رقيق ودواب وخرثي أحمله إليك، قالت: ما أراك إلا صادقاً، ثم قالت: أتدري من هذه? قال: تخبريني، قالت: ابنتي فلانة بنت فلان، وأنا فلانة بنت فلان، قد كنت أردت أن أعرض عليك وصيفة عندي فأحببت إذا رأيت غداً غلظ أهل الشام وجفاءهم ذكرت ابنتي، فعلمت أنكم في غير شيء، قم راشداً. فقال للدلال: أخدعتني? قال: أولا ترضى أن ترى ما رأيت من مثلها وتهب مائة غلام مثل غلامك? قال: أما هذا فنعم، وخرج من عندها.
كان حمزة بن بيض يسامر عبد الملك بن بشر بن مروان ، وكان عبد الملك يعبث به عبثاً شديداً. فوجه إليه ليلة برسول وقال: خذه على أي حال وجدته ولا تدعه لغيرها، وحلفه على ذلك. ومضى الرسول فهجم عليه، فوجده يريد الخلاء، فقال: أجب الأمير، فقال: ويحك، إني أكلت طعاماً كثيراً وشربت نبيذاً حلواً وقد أخذني بطني. فقال: والله ما تفارقني أو تمضي إليه، ولو سلحت ثيابك. فجهد في الخلاص فلم يقدر ومضى به إلى عبد الملك، فوجده قاعداً في طارمة له، وجارية جميلة كان يتحظاها جالسة بين يديه تسجر الند. فجلس يحادثه وهو يعالج ما به. قال حمزة: فعرضت لي ريح فقلت: أسرحها وأستريح لعل ريحها لا تبين مع هذا البخور. فأطلقتها، فغلبت والله ريح الند وغمرته. فقال: ما هذا يا حمزة? فقلت: علي في عهد الله وميثاقه وعلي المشي والهدي إن كنت فعلتها، وما هذا إلا عمل الجارية الفاجرة، فغضب وأحفظ، وخجلت الجارية فما قدرت على الكلام، ثم جاءتني الأخرى فسرحتها وسطع والله ريحها فقال: ما هذا ويلك? أنت والله الآفة? فقال: امرأته طالق ثلاثاً إن كنت فعلتها، قلت: وهذه اليمين لازمة لي إن كنت فعلتها، وما هو إلا عمل الجارية. فقال: ويلك ما قصتك? قومي إلى الخلاء إن كنت تجدين حساً، فزاد خجلها وأطرقت. وطمعت فيها وسرحت الثالثة، فسطع من ريحها ما لم يكن في الحساب، فغضب عبد الملك حتى كاد يخرج من جلده، ثم قال: يا حمزة، خذ هذه الجارية الزانية قد وهبتها لك وامض فقد نغصت علي ليلتي. فأخذت بيدها وخرجت. فلقيني خادم له فقال: ما تريد أن تصنع? فقلت: أمضي بهذه، قال: لا تفعل، فو الله إن فعلت ليبغضنك بغضاً ما تنتفع به بعده أبداً، وهذه مائتا دينار فخذها ودع الجارية فإنه يتحظاها وسيندم على هبته إياها لك. قلت: والله لا نقصتك من خمسمائة دينار، قال: ليس غير ما قلت لك. فلم تطب نفسي أن أضيعها فقلت: هاتها، فأعطانيها وأخذ الجارية. فلما كان بعد ثلاث دعاني عبد الملك، فلما قربت من داره لقيني الخادم فقال: هل لك في مائة دينار أخرى وتقول ما لا يضرك ولعله ينفعك? قلت: وماذا? قال: إذا دخلت إليه ادعيت عنده الفسوات الثلاث ونسبتها إلى نفسك، وتنضح عن الجارية ما قرفتها به. قلت: هاتها، فدفعها إلي. فلما دخلت على عبد الملك وقفت بين يديه وقلت له: لي الأمان حتى أخبرك بخبر يسرك ويضحكك? قال: لك الأمان، فقلت: فسوات غيري. فضحك حتى سقط على قفاه وقال: ويلك، لم لم تخبرني? قال، فقلت: أردت بذلك خصالاً: منها أني قمت فقضيت حاجتي، وقد كان رسولك قد منعني من ذلك، ومنها أني أخذت جاريتك، ومنها أني كافيتك على أذاك لي بمثله. قال: وأين الجارية? قلت: ما برحت من دارك ولا خرجت حتى سلمتها إلى فلان الخادم وأخذت منه مائتي دينار. فسر بذلك وأمر لي بمائتي دينار أخرى وقال: هذه لجميل فعلك بي وتركك أخذ الجارية.
إذا أشعب جدياً بلبن أمه وغيرها حتى بلغ غاية. ومن مبالغته في ذلك أن قال لزوجته أم ابنه وردان: إني أحب أن ترضعيه بلبنك. قال: ففعلت: ثم جاء به إسماعيل بن جعفر بن محمد فقال: تالله إنه لابني قد رضع بلبن زوجتي، وقد حبوتك به ولم أر أحداً يستأهله سواك. فنظر إسماعيل إلى قنة من القنن، فأمر به فذبح وسمط. فأقبل عليه أشعب فقال: المكافأة، فقال: والله ما عندي اليوم شيء ونحن من تعرف، وذلك غير فائت لك. فلما أيس قام من عنده فدخل على أبيه جعفر، ثم اندفع يشهق حتى التقت أضلاعه ثم قال: أخلني، قال: ما معك أحد يسمع ولا عليك عين، قال: وثب إسماعيل ابنك على ابني فذبحه وأنا أنظر إليه. فارتاع جعفر وصاح: ويلك! وفيم? وتريد ماذا? قال له: أما ما أريد والله ما لي في إسماعيل حيلة، ولا يسمع هذا سامع بعدك أبداً. فجزاه خيراً وأدخله منزله وأخرج إليه مائتي دينار وقال له: خذ هذه، ولك عندنا ما تحب. قال: وخرج إلى إسماعيل لا يبصر ما يطأ عليه؛ وإذا به مسترسل في مجلسه. فلما رأى وجه أبيه أنكره وقام إليه، فقال: يا إسماعيل، فعلتها بأشعب? قتلت ولده. قال: فاستضحك وقال: جاءني بجدي من صفته، وخبره الخبر. فأخبره أبوه بما كان منه وصار إليه. وكان جعفر عليه السلام يقول لأشعب: رعتني راعك الله، فيقول: روعة ابنك والله بنا في الجدي أكثر من روعتك بالمائتي دينار.
ودعا الحسن بن الحسن علي أشعب فأقام عنده، وكان عند الحسن شاة، فقال لأشعب: أنا أشتهي أن آكل من كبد هذه الشاة، فقال له أشعب: بأبي أنت وأمي. أعطنيها وأنا أذبح لك أسمن شاة بالمدينة، فقال له: أخبرك أني أشتهي كبد هذه الشاة وتقول لي أسمن شاة بالمدينة? اذبح يا غلام، فذبحها وشوي له من كبدها وأطايبها فأكل. وقال من غد: يا أشعب، أنا أشتهي من كبد نجيبي هذا لنجيب عنده ثمنه ألوف دراهم فقال له أشعب: في ثمن هذا والله غناي، فأعطنيه وأنا والله أطعمك من كبد كل جزور بالمدينة. فقال: أخبرك أني أشتهي كبد هذا وتطعمني من غيره? يا غلام، انحر، فنحر النجيب وشوى كبده فأكلا. فلما كان اليوم الثالث قال له: يا أشعب، أنا والله أشتهي أن آكل من كبدك؛ قال: سبحان الله! أتأكل أكباد الناس? قال: قد أخبرتك، فوثب أشعب فرمى بنفسه من درجة عالية فانكسرت رجله، فقيل له: ويلك، أظننت أنه يذبحك? فقال: والله لو أن كبدي وجميع أكباد العالمين اشتهاها لأكلها. وإنما فعل الحسن ما فعل حيلة على أشعب وتوطئة للعبث به.
وروي أن الرشيد ساوم في عنان جارية الناطفي، فبلغ ذلك أم جعفر فشق عليها، فدست إلى أبي نواس في أمرها فقال يهجوها: (من المنسرح)

إن عنان النطاف جارية
أصبح حرها للنيك ميدانا
ما يشتريها إلا ابن زانية
أو فلطبان يكون من كانا

فبلغ الرشيد شعره فقال: لعن الله أبا نواس وقبحه، فلقد أفسد علي لذتي بما قال فيها، ومنعني من شرائها.
وقال الأصمعي بعثت إلى أم جعفر أن أمير المؤمنين قد لهج بذكر هذه الجارية عنان، فإن صرفته عنها فلك حكمك. قال: وكنت أريغ لأن أجد للقول فيها موضعاً فلا أجده ولا أقدم عليه هيبة له، إذ دخلت عليه يوماً وفي وجهه أثر الغضب، فانخزلت. فقال: ما لك يا أصمعي? فقلت: رأيت في وجه أمير المؤمنين أثر غضب، فلعن الله من أغضبه. فقال: هذا الناطفي، والله لولا أني لم أجر في حكم قط متعمداً لجعلت على كل جبل منه قطعة، وما لي في جاريته أرب غير الشعر. فذكرت رسالة أم جعفر فقلت: أجل والله ما فيها غير الشعر، أفيسر أمير المؤمنين أن يجامع الفرزدق? فضحك حتى استلقى على قفاه، واتصل قولي بأم جعفر، فأجزلت لي الجائزة.
ويروى أنه لما استامها أبى أن يبيعها إلا بمائة ألف دينار. ثم مات الناطفي، فروي أن الرشيد اشتراها من تركته بمائتين وخمسن ألف درهم، وخرج بها معه إلى خراسان وأولدها ابنين ماتا، ومات الرشيد وماتت عنان بعده.
أمر زياد بضرب عنق رجل فقال: أيها الأمير، إن لي بك حرمة، قال: وما هي? قال: إن أبي جارك بالبصرة، قال: ومن أبوك? قال: نسيت اسم نفسي فكيف اسم أبي? فرد زياد كمه إلى فيه وعفا عنه.
ركب رجلاً دين عجز عن ادائه، فقال له بعض غرمائه: أما أعلمك حيلة تتخلص بها على أن تقضيني? قال: لك ذلك. فتوثق منه ثم قال له: كل من لقيك من غرمائك وغيرهم فلا تزد على النباح عليه، فإنك إن عرفت بذلك قالوا: ممسوس، فكفوا عنك. ففعل، فلما كفوا عنه أتاه معلم بالحيلة وقال: الشرط أملك، فنبح عليه، فقال: وعلي أيضاً? فلم يزده على النباح حتى يئس منه وتركه.

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق