وقال - أدام الله دولته - ليلةً : أحب أن أسمع كلاماً في
مراتب النظم والنثر ، وإلى أي حدٍ ينتهيان ، وعلى أي شكل يتفقان ، وأيهما أجمع
للفائدة ، وأرجع بالعائدة ، وأدخل في الصناعة ، وأولى بالبراعة ؟ ؟ فكان الجواب :
إن الكلام على الكلام صعب . قال : ولم ؟ قلت : لأن
الكلام على الأمور المعتمد فيها على صور وشكولها التي تنقسم بين المعقول وبين ما
يكون بالحس ممكن ، وفضاء هذا متسع ، والمجال فيه مختلف . فأما الكلام على الكلام
فإنه يدور على نفسه ، ويلتبس بعضه ببعضه ؛ ولهذا شق النحو وما أشبه النحو من
المنطق ، وكذلك النثر والشعر وعلى ذلك
. وقد قال الناس في هذين الفنين ضروباً من القول لم يبعدوا فيها من الوصف الحسن ،
والإنصاف
المحمود ، والتنافس المقبول ، إلا ما خالطه من التعصب والمحك ، لأن صاحب هذين
الخلقين لا يخلو من بعض المكابرة والمغالطة وبقدر ذلك يصيرله مدخلٌ فيما يراد
تحقيقه من بيان الحجة أو قصورها عما يرام من البلوغ بها ، وهذه آفةٌ معترضةٌ في
أمور الدين والدنيا ، ولا مطمع في زوالها ، لأنها ناشئةٌ من الطبائع المختلفة ،
والعادات السيئة ، لكني مع هذه الشوكة الحادة ، والخطة الكادة ؛ أقول ما وعيته عن
أرباب هذا الشأن ، والمنتمين لهذا الفن ، وإن عن شيءٌ يكون شكلاً لذلك وصلته به
تكميلاً للشرح ،
واستيعاباً للباب ، وصمداً للغاية ، وأخذاً بالحياطة ، وإن كان المنتهى منه غير
مطموع فيه ، ولا موصولٍ إليه ؛ والله المعين . قال شيخنا أبو سليمان : الكلام ينبعث
في أول مبادئه إما من عفو البديهة ، وإما من كد الروية ، وإما أن يكون مركباً منهما
، وفيه قواهما بالأكثر والأقل ؛ ففضيلة عفو البديهة أنه يكون أصفى ، وفضيلة كد
الروية أنه يكون أشفى ، وفضيلة المركب منهما أنه يكون أوفى ؛ وعيب عفو البديهة أن
تكون صورة العقل فيه أقل ؛ وعيب كد الروية أن تكون صورة الحس فيه أقل ، وعيب المركب
منهما بقدر قسطه منهما : الأغلب والأضعف ؛ على أنه إن خلص هذا المركب من شوائب
التكلف ، وشوائن التعسف ، كان بليغاً مقبولاً رائعاً حلواً ، تحتضنه الصدور ،
وتختلسه الآذان ، وتنتهبه المجالس ، ويتنافس فيه المنافس بعد المنافس ، والتفاضل
الواقع بين البلغاء في النظم والنثر ، إنما هو في هذا المركب الذي يسمى تأليفاً
ورصفاً ؛ وقد يجوز أن تكون صورة العقل في البديهة أوضح ، وأن تكون صورة الحس في
الروية الوح إلا أن ذلك من غرائب آثار النفس ونوادر أفعال الطبيعة ، والمدار على
العمود الذي سلف نعته ، ورسا أصله .
وسمعت أبا عابدٍ الكرخي صالح بن علي يقول : النثر أصل الكلام ، والنظم فرعه ؛والأصل أشرف من الفرع ،
والفرع أنقص من الأصل ؛ لكن لكل واحد منهما زائناتٌ وشائنات ، فأما زائنات
النثر فهي ظاهرةٌ ، لأن جميع الناس في أول كلامهم يقصدون النثر ، وإنما يتعرضون
للنظم في الثاني بداعيةٍ عارضة ، وسببٍ باعث ، وأمرٍ معين . قال : ومن شرفه أيضاً
أن الكتب القديمة والحديثة النازلة من السماء على ألسنة الرسل بالتأييد الإلهي مع
اختلاف اللغات كلها منثورةٌ مبسوطة ، متباينة الأوزان ، متباعدة الأبنية ، مختلفة
التصاريف ، لا تناقد للوزن ، ولا تدخل في الأعاريض ؛ هذا أمرٌ لا يجوز أن يقابله ما
يدحضه ، أو يعترض عليه بما يحرضه . قال : ومن شرفه أيضاً أن الوحدة فيه أظهر ،
وأثرها فيه أشهر ، والتكلف منه أبعد ، وهو إلى الصفاء أقرب ، ولا توجد الوحدة
غالبةً على شيء إلا كان ذلك دليلاً على حسن ذلك الشيء وبقائه ، وبهائه ونقائه . قال
: ومن فضيلة النثر أيضاً كما أنه إلهي بالوحدة ، كذلك هو طبيعيٌ بالبدأة ،
والبدأة في الطبيعيات وحدة ، كما أن الوحدة في الإلهيات بدأة ، وهذا كلامٌ
خطير . قال : ألا ترى أن الإنسان لا ينطق في أول حاله من لدن
طفوليته إلى زمانٍ مديدٍ إلا بالمنثور المتبدد ، والميسور المتردد ؛ ولا
يلهم إلا ذاك ، ولا يناغى إلا بذاك ؛ وليس كذلك المنظوم ، لأنه
صناعي ؛ ألا ترى أنه داخلٌ في حصار العروض وأسر الوزن وقيد
التأليف ، مع توقي الكسر ، واحتمال أصناف الزحاف ، لأنه لما هبطت درجته عن
تلك الربوة العالية ، دخلته الآفة من كل ناحية . قال : فإن قيل : إن النظم قد سبق
العروض بالذوق ، والذوق طباعي ؛ قيل في الجواب : الذوق وإن كان طباعياً فإنه مخدوم
الفكر ، والفكر مفتاح الصنائع البشرية ، كما أن الإلهام مستخدم للفكر ، والإلهام
مفتاح الأمور الإلهية . قال : ومن شرف النثر أيضاً أنه مبرأٌ من التكلف ،
منزهٌ عن الضرورة ، غنيٌ عن الاعتذار والافتقار ، والتقديم والتأخير ، والحذف
والتكرير ، وما هو أكثر من هذا مما هو مدون في كتب القوافي والعروض
لأربابها الذين استنفدوا غايتهم فيها . وقال عيسى الوزير : النثر من قبل العقل ،
والنظم من قبل الحس ، ولدخول النظم في طي! الحس دخلت إليه الآفة ،
وغلبت عليه الضرورة ، واحتيج إلى الإغضاء عما لا يجوز مثله في الأصل الذي هو النثر
.
وقال ابن طرارة - وكان من فصحاء أهل العصر بالعراق - :
النثر كالحرة ، والنظم كالأمة ، والأمة قد تكون أحسن وجهاً ، وأدمث شمائل ،
وأحلى حركات ؛ إلا أنها لا توصف بكرم جوهر الحرة ولا بشرف عرقها وعتق نفسها وفضل
حيائها . وقال : ولشرف النثر قال الله تعالى في التنزيل : ‘ إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً
منثوراً ‘ ولم يقل : لؤلؤاً منظوماً ؛ ونجوم السماء منتثرة وإن كان انتثارها على نظام ، إلا أن نظامها في حد العقل ،
وانتثارها في حد الحس ، لأن الحكمة إذا غطيت نفسها كانت الغلبة للصورة القائمة
بالقدرة . وقال أحمد بن محمد كاتب ركن الدولة : الكلام المنثور أشبه بالوشي ، والمنظوم أشبه بالنير المخطط
، والوشي يروق ما لا يروق غيره . ويقال : كنا في نثار فلان ، ولا يقال : كنا
في نظام فلان . وقال ابن هندو الكاتب : إذا نظر في النظم والنثر على استيعاب
أحوالهما وشرائطهما ، والاطلاع على هواديهما وتواليهما كان أن المنظوم فيه نثرٌ من وجه ، والمنثور فيه نظمٌ من وجه
، ولولا أنهما يستهمان هذا النعت لما ائتلفا ولا اختلفا . وقال ابن كعب
الأنصاري :
من شرف النثر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم ينطق إلا به آمراً وناهياً ،
ومستخبراً ومخبراً ، وهادياً وواعظاً ، وغاضباً وراضياً ، وما سلب النظم إلا لهبوطه عن درجة النثر ، ولا نزه عنه إلا
لما فيه من النقص ، ولو تساويا لنطقبهما ، ولما اختلفا خصّ بأشرفهما الذي هو
أجول في جميع المواضع ، وأجلب لكل ما يطلب من المنافع . فهذا قليل من كثير مما يكون
تبصرةً لباغي هذا الشأن ، ولمن يتوخى حديثه عند كل إنسان .
فضل النظم على النثر
وأما ما يفضل به النظم على النثر فأشياء سمعناها من هؤلاء
العلماء الذين كانت سماء علمهم دروراً ، وبحر أدبهم متلاطماً ، وروض فضلهم مزدهراً
، وشمس حكمتهم طالعة ، ونار بلاغتهم مشتعلة ، وأنا آتي على ما يحضرني من ذلك ،
منسوباً إليهم ، ومحسوباً لهم ، ليكون حقهم به مقضياً ، وذكرهم على مرّ الزمان
طرياً .
قال السلامي : من فضائل النظم أن صار لنا صناعةً برأسها ،
وتكلم الناس في قوافيها ، وتوسعوا في تصاريفها وأعاريضها ، وتصرفوا بحورها ،
واطلعوا على عجائب ما استخزن فيها من آثار الطبيعة الشريفة ، وشواهد القدرة الصادقة
؛ وما هكذا النثر ، فإنه قصر عن هذه الذروة الشامخة ، والقلة العالية ؛
فصار بذلك بذلةً لكافة الناطقين من الخاصة والعامة والنساء
والصبيان . وقال أيضاً : من فضائل النظم أنه لا يغني ولا يحدى إلا بجيده ولا يؤهل
للحن الطنطنة ، ولا يحلى بالإيقاع الصحيح غيره ، لأن الطنطنات والنقرات ، والحركات
والسكنات لا تتناسب إلا بعد اشتمال الوزن والنظم عليها ، ولو كان فعل هذا بالنثر
كان منقوصاً ، كما لو لم يفعل هذا بالنظم لكان محسوساً ؛ والغناء معروف
الشرف ، عجيب الأثر ، عزيز القدر ، ظاهر النفع في معاينة الروح ، ومناغاة
العقل ، وتنبيه النفس ، واجتلاب الطرب وتفريج الكرب ؛ وإثارة الهزة ، وإعادة العزة
، وإذكار العهد ، وإظهار النجدة ، واكتساب السلوة ؛ وما لا يحصى عدده
.
ويقال : ما أحسن هذه الرسالة لو كان فيها بيتٌ من الشعر ،
ولا يقال : ما أحسن هذا الشعر لو كان فيه شيءٌ من النثر ، لأن صورة المنظوم
محفوظة ، وصورة المنثور ضائعة .
وقال ابن نباتة : من فضل النظم أن الشواهد لا توجد إلا فيه
، والحجج لا تؤخذ إلامنه ، أعني ان العلماء والحكماء والفقهاء والنحويين واللغويين
يقولون : قال الشاعر ؛ وهذا كثيرٌ في الشعر ، والشعر قد أتى به ، فعلى هذا الشاعر
هو صاحب الحجة ، والشعر هو الحجة .
وقال الخالع : للشعراء حلبة ، وليس للبلغاء حلبة ، وإذا
تتبعت جوائز الشعراء التي وصلت إليهم من الخلفاء وولاة العهود والأمراء والولاة في
مقاماتهم المؤرخة ، ومجالسهم الفاخرة ، وأنديتهم المشهورة ، وجدتها خارجةً عن الحصر
، بعيدةً من الإحصاء ؛ وإذا تتبعت هذه الحال لأصحاب النثر لم نجد شيئاً من ذلك ؛
والناس يقولون : ما أكمل هذا البليغ لو قرض الشعر ولا يقولون : ما أشعر هذا الشاعر
لو قدر على النثر وهذا لغنى الناظم عن الناثر ، وفقر
الناثر إلى الناظم ؛ وقد قدم الناس أبا علي البصير على أبي العيناء ، لأن
أبا علي جمع بين الفضيلتين ، وضرب بالسيفين في الحومتين ، وفاز بالقدحين المعليين
في المكانين .
وقال لنا الأنصاري :
سمعت ابن ثوابة الكاتب يقول : لو تصفحنا ما صار إلى أصحاب النثر من كتاب البلاغة ،
والخطباء الذين ذبوا عن الدولة ، وتكلموا في صنوف أحداثها وفنون ما جرى الليل
والنهار به ؛ مما فتق به الرتق ، ورتق به الفتق ، وأصلح به الفاسد ، ولم به الشعث ،
وقرب به البعيد ، وبعد به القريب ، وحقق به الحق ، وأبطل به الباطل ، لكان يوفى على
كل ما صار إلى جميع من قال الشعر ولاك القصيد ، ولهج بالقريض ، واستماح بالمرحمة ؛
ووقف موقف المظلوم ، وانصرف انصراف
المحروم ؛ وأين من يفتخر بالقريض ، ويدل بالنظم ، ويباهي بالبديهة ، من وزير
الخليفة ، ومن صاحب السر ، وممن ليس بين لسانه ولسان صاحبه واسطة
، ولا بين أذنه وأذنه حجاب ؟ ومتى كانت الحاجة إلى الشعراء كالحاجة إلى
الوزراء ؟ ومتى قام وزير لشاعر للخدمة أو للتكرمة ؟ ومتى قعد شاعرٌ لوزير على رجاء
وتأميل ؟ بل لا ترى شاعراً إلا قائماً بين يدي خليفةٍ أووزيرٍ أو أميرٍ
باسط اليد ، ممدود الكف ، يستعطف طالباً ، ويسترحم سائلاً ؛ هذا مع الذلة والهوان ،
والخوف من الخيبة والحرمان ، وخطر الرد عليه في لفظٍ يمر ، وإعرابٍ يجري ،
واستعارةٍ تعرض ، وكنايةٍ تعترض ، ثم يكون مقلياً مشيناً بما يظن به من الهجاء الذي
ربما دلاه في حومة الموت ، وقد برأ الله تعالى بإحسانه القديم ومنه الجسيم صاحب
البلاغة من هذا كله ، وكفاه مؤونة الغدر به ، والضرر فيه .
قال : وكان ابن ثوابة إذا جال في هذه الأكناف لا يلحق شأوه
، ولا يشق غباره ، ولا يطمع في جوابه . قال : وله مناظراتٌ واسعةٌ في هذا الباب مع
جماعةٍ من أهل زمانه ناقضوه وعارضوه ، وكاشفوه وواجهوه ؛ فثبت لهم ، وانتصف منهم ،
وأربى عليهم ، ولم يقلع عن مسالطتهم ومبالطتهم إلى أن نكصوا على أعقابهم ، وراجعوا
ما هو أولى بهم .
قال أبو سليمان : المعاني المعقولة بسيطةٌ في
بحبوحة النفس ؛ لا يحوم عليها شيءٌ قبل الفكر ، فإذا لقيها الفكر
بالذهن الوثيق والفهم الدقيق القى ذلك إلى العبارة ، والعبارة حينئذ تتركب بين وزنٍ
هو النظم للشعر ، وبين وزن هو سياقه الحديث ؛ وكل هذا راجعٌ إلى نسبةٍ صحيحة أو
فاسدة ، وصورةٍ حسناء أو قبيحة ، وتأليفٍ مقبولٍ أو ممجوج ، وذوقٍ حلوٍ أو مر
وطريقٍ سهلٍ أو وعر ، واقتضابٍ مفضلٍ أو مردود ، واحتجاجٍ قاطعٍ أو مقطوع ، وبرهانٍ
مسفرٍ أو مظلم ، ومتناولٍ بعيدٍ أو قريب ، ومسموعٍ مألوفٍ أو غريب . قال : فإذا كان
الأمر في هذه الحال على ما وصفنا فللنثر فضيلته التي لا تنكر ، وللنظم شرفه الذي لا
يجحد ولا يستر ، لأن مناقب النثر في مقابلة مناقب النظم ، ومثالب النظم في مقابلة
مثالب النثر ؛ والذي لابد منه فيهما السلامة والدقة ، وتجنب العويص ، وما يحتاج إلى
التأويل والتخليص .وقد قال بعض العرب : خير الكلام ما لم يحتج معه إلى كلام
.
في مجلس الأخفش
ووقف أعرابيٌ على مجلس الأخفش فسمع كلام أهله في النحو وما
يدخل معه ، فحار وعجب ، وأطرق ووسوس ، فقال له الأخفش : ما تسمع يا أخا العرب ؟ قال
: أراكم تتكلمون بكلامنا في كلامنا بما ليس من كلامنا . وقال أعرابيٌ آخر
:
مازال أخذهم في النحو يعجبني . . . حتى سمعت كلام الزنج
والروم
وقال أبو
سليمان : نحو العرب فطرة ، ونحونا فطنة ؛ فلو كان إلى الكمال
سبيلٌ لكانت فطرتهم لنا مع فطنتنا ، أو كانت فطنتنا لهم مع فطرتهم .
الين واليانغ
قال : لما
تميزت الأشياء في الأصول، تلاقت ببعض التشابه في الفروع ، ولما تباينت الأشياء
بالطبائع ، تألفت بالمشاكلة في الصنائع ، فصارت من حيث افترقت مجتمعة ، ومن حيث
اجتمعت مفترقة ، لتكون قدرة الله - عز وجل - آتيةً على كل شيء ، وحكمته موجودةً في
كل شيء ، ومشيئته نافذةً في كل شيء . وقد أنشد بعض الأعراب ما يقتضي هذا المكان
رسمه فيه ، لأنه موافق لما نحن فيه في ذكره ووصفه . قال :
ماذا لقيت من المستعربين ومن . . . تأسيس نحوهم هذا الذي
ابتدعوا
إن قلت قافيةً فيه يكون لها . . . معنىً يخالف ما قاسوا
وما وضعوا
قالوا لحنت وهذا الحرف منخفضٌ . . . وذاك نصبٌ
وهذا ليس يرتفع
وحرشوا بين عبد الله واجتهدوا . . . وبين زيدٍ وطال الضرب
والوجع
إني نشأت بأرضٍ لا تشب بها . . . نار المجوس ولا تبنى بها
البيع
ولا يطا القرد والخنزير ساحتها . . . لكن بها الهيق
والسيدان والصدع
ما كل قولي معروفٌ لكم فخذوا . . . ما تعرفون وما لم
تعرفوا فدعوا
كم بين قومٍ قد احتالوا لمنطقهم . . . وآخرين على إعرابهم
طبعوا
وبين قوم رأوا شيئاً معاينةً . . . وبين قومٍ رووا بعض
الذي سمعوا
ضروب البلاغة
فهذا هذا . وقال أبو سليمان : البلاغة ضروب : فمنها
بلاغة الشعر ومنها بلاغة الخطابة ومنه بلاغة النثر ، ومنها بلاغة المثل ،
ومنها بلاغة العقل ، ومنها بلاغة البديهة ، ومنها بلاغة التأويل . قال :
- فأما بلاغة الشعر فأن يكون نحوه مقبولاً ، والمعنى من كل
ناحية مكشوفاً ، واللفظ من الغريب بريئاً ، والكناية لطيفة ، والتصريح احتجاجاً ،
والمؤاخاة موجودة ، والمواءمة ظاهرة .
- وأما بلاغة الخطابة فأن يكون اللفظ قريباً ، والإشارة
فيها غالبة ، والسجع عليها مستولياً ، والوهم في أضعافها سابحاً ، وتكون فقرها
قصاراً ، ويكون ركابها شوارد إبل .
- وأما بلاغة النثر فأن يكون اللفظ متناولاً ، والمعنى
مشهوراً ، والتهذيب مستعملاً ، والتأليف سهلاً ، والمراد سليماً ، والرونق عالياً ،
والحواشي رقيقة ، والصفائح مصقولة ، والأمثلة خفيفة المأخذ ، والهوادي متصلة ،
والأعجاز مفصلة .
- وأما بلاغة المثل فأن يكون اللفظ مقتضباً ، والحذف
محتملاً ، والصورة محفوظة ،والمرمى لطيفاً ، والتلويح كافياً ، والإشارة مغنية ،
والعبارة سائرة .
- وأما بلاغة العقل فأن يكون نصيب
المفهوم من الكلام أسبق إلى النفس من مسموعه إلى الأذن ، وتكون الفائدة من طريق
المعنى أبلغ من ترصيع اللفظ ، وتقفية الحروف ، وتكون البساطة فيه أغلب من التركيب ،
ويكون المقصود ملحوظاً في عرض السنن ، والمرمي يتلقى بالوهم لحسن الترتيب .
- وأما بلاغة البديهة فأن يكون انحياش اللفظ للفظ في وزن
انحياش المعنى للمعنى ، وهناك يقع التعجب للسامع ، لأنه يهجم بفهمه على ما لا يظن
أنه يظفر به كمن يعثر بمأموله ، على غفلةٍ من تأميله ، والبديهة قدرةٌ روحانية ، في
جبلةٍ بشرية ، كما أن الروية صورةٌ بشرية ، في جبلةٍ روحانية .
- وأما بلاغة التأويل فهي التي تحوج لغموضها إلى التدبر
والتصفح ، وهذان يفيدان من المسموع وجوهاً مختلفة كثيرةً نافعةً ، وبهذه البلاغة
يتسع في أسرار معاني الدين والدنيا ، وهي التي تأولها العلماء بالاستنباط من كلام
الله عز وجل وكلام رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) في الحرام والحلال ، والحظر
والإباحة ، والأمر والنهي ، وغير ذلك مما يكثر ؛ وبها تفاضلوا ، وعليها تجادلوا ،
وفيها تنافسوا ، ومنها استملوا ، وبها اشتغلوا ؛ ولقد فقدت هذه البلاغة لفقد الروح
كله ، وبطل الاستنباط أوله وآخره ، وجولان النفس واعتصار الفكر إنما يكونان بهذا
النمط في أعماق هذا الفن ؛ وها هنا تنثال الفوائد ، وتكثر العجائب ، وتتلاقح
الخواطر ، وتتلاحق الهمم ، ومن أجلها يستعان بقوى البلاغات المتقدمة بالصفات
الممثلة ، حتى تكون معينةً ورافدةً في إثارة المعنى المدفون ، وإنارة المراد
المخزون .
وأمثلة هذه الأبواب موجودةٌ في الكتب ، ولولا ذلك لرسمت في
هذا المكان لكل فن مثالاً وشكلت شكلاً ، ولو فعلت ذلك لكنت مكرراً لما قد سبق إليه
، ومتكلفاً ما قد لقن من قبل على أن الزهد في هذا الشأن قد وضع عنا وعن غيرنا مؤونة
الخوض فيه ، والتعني به ، والتوفر عليه ، وتقديمه على ما هو أهمّ منه ، أعني طلب
القوت الذي ليس إليه سبيل إلا ببيع الدين ، وإخلاق المروءة ، وإراقة ماء الوجه ،
وكدّ البدن ، وتجرّع الأسى ، ومقاساة الحرقة ، ومضّ الحرمان ، والصبر على ألوانٍ
وألوان ؛ والله المستعان .
بهجة الخلافة الغاربة
وقد كان هذا الباب يتنافس فيه أوان كان للخلافة
بهجة ، وللنيابة عنها بهاء ، وللديانة معتقد ، وللمروءة عاشق ، وللخير
منتهز ، وللصدق مؤثر ، وللأدب شراة ، وللبيان سوق ، وللصواب طالب ، وفي العلم راغب
؛ فأما اليوم واليد عنه مقبوضة ، والذيل دونه مشمر ، والمتحلي بجماله مطرود ،
والمباهي بشرفه مبعد ، فما يصنع به ، ولله أمرٌ هو بالغه . وقال ابن دأب : قال لي
ابن موسى : اجتمعنا عند عبد الملك بن مروان فقال : أي الآداب أغلب على الناس ؟
فقلنا فأكثرنا في كل نوع ؛ فقال عبد الملك : ما الناس إلى شيء أحوج منهم إلى إقامة
ألسنتهم التي بها يتعاورون القول ، ويتعاطون البيان ، ويتهادون الحكم ، ويستخرجون
غوامض العلم من مخابئها ؛ ويجمعون ما تفرق منها ؛ إن الكلام فارقٌ للحكم بين الخصوم
، وضياءٌ يجلو ظلم الأغاليط ، وحاجة الناس إليه كحاجتهم إلى مواد الأغذية .وقد قال
زهير :
فقلنا : لم يقله زهير ، إنما قاله زيادٌ الأعجم ؛ فقال :
لا ، قاله من هو أعظم تجربةً وأنطق لساناً منه . وقال أبو العيناء : سمعت العباس بن
الحسن العلوي يصف كلام رجل فقال : كلامه سمحٌ سهل ، كأن بينه وبين القلوب نسب ،
وبينه وبين الحياة سبب ؛ كأنما هو تحفة قادم ، ودواء مريض ، وواسطة قلادة .
ورأيت أبا إسحاق الصابي وهو يعجب من فصلٍ قرأه من كتاب ورد
عليه ، وهو : أشعر قلبك يأس مجاوز السبيل ، مقصرٍ عن الشوط . وقال ابن ذكوان : سمعت
إبراهيم بن العباس الصولي يقول : ما سمعت كلاماً محدثاً أجزل في رقة ، ولا أصعب في
سهولة ، ولا أبلغ في إيجاز ، من قول العباس بن الأحنف :
تعالي نجدد دارس العهد بيننا . . . كلانا على طول الجفاء
ملوم
أناسيةٌ ما كان بيني وبينها . . . وقاطعةٌ حبل الصفاء
ظلوم
بين النظم والنثر
وفي الجملة ، أحسن الكلام ما رق لفظه ، ولطف معناه ،
وتلألأ رونقه ، وقامت صورته بين نظمٍ كأنه نثر ، ونثرٍ كأنه نظم ،
يطمع مشهوده بالسمع ، ويمتنع مقصوده على الطبع ؛ حتى إذا رامه مريغٌ حلق، وإذا حلق
أسف، أعني يبعد على المحاول بعنف، ويقرب من المتناول بلطف. وما رأيت أحداً تناهى في
وصف النثر بجميع ما فيه وعليه غير قدامة ابن جعفر في المنزلة الثالثة من كتابه ؛
قال لنا علي بن عيسى الوزير : عرض على قدامة كتابه سنة عشرين وثلثمائة ؛ واختبرته
فوجدته قد بالغ وأحسن ، وتفرد في وصف فنون البلاغة في المنزلة الثالثة بما لم يشركه
فيه أحد من طريق اللفظ والمعنى ، مما يدل على المختار المجتبى والمعيب المجتنب .
ولقد شاكه فيه الخليل بن أحمد في وضع العروض ؛ ولكني وجدته هجين اللفظ ،
ركيك البلاغة في وصف البلاغة ، حتى كأن ما يصفه ليس ما يعرفه ،
وكأن ما يدل به غير ما يدل عليه . والعرب تقول : فلان يدل ولا يدل ، حكاه ابن
الأعرابي ، وهذا لا يكون إلا من غزارة العلم ، وحسن التصور ، وتوارد المعنى ، ونقد
الطبع ، وتصرف القريحة . قال : ولولا أن الأمر على ما ذكرت لكان ذلك الطريق الذي
سلكه، والفن الذي ملكه، والكنز الذي هجم عليه، والنمط الذي ظفر به؛ قد برز في أحسن
معرض، وتحلى بألطف كلام، وماس في أطول ذيل، وسفر عن أحسن وجه، وطلع من أقرب نفق ،
وحلق في أبعد أفق. وابن المراغي يقول كثيراً - وهو شيخٌ من جلة العلماء ، وله سهمٌ
وافٍ في زمرة البلغاء - : ما أحسن معونة الكلمات القصار ، المشتملة على الحكم
الكبار ، لمن كانت بلاغته في صناعته بالقلم واللسان ، فإنها توافيه عند الحاجة ،
وتستصحب أخواتها على سهولة ؛ وهكذا مصاريع أبيات الشعر ؛ فإنها تختلط بالنثر
متقطعةً وموزونة ، ومنتثرةً ومنضودة . قال لي ابن عبيدٍ الكاتب : بلغني هذا الوصف
عن هذا الشيخ ؛ فبلوته بالتتبع فوجدته على ما قال ؛ وما أشبه ما ذكره إلا بالصرّة
المعدة عند الإنسان ، لما يحتاج إليه في الوقت المهم والأمر الملم ؛ فهذا هذا
.
فقال - أدام الله دولته ، وكبت أعداءه - : قدم هذا الباب
فقد أتى على ما لم أظنّ أنه يؤتى عليه ويهتدى إليه - إذا شئت ؛ وانصرفت .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق