نعوت ومسميات وقواعد في
«رسالة آداب المُؤاكَلة» للشيخ بدرالدين الغزيّ
ثقافـة وآداب الطعام عند العرب
عبدالمجيد عبدالحميد
موائد الطعام باختلاف أنواعها دليل رُقِيّ وذوق وموارد وحياة وحضارة للشعوب. وما يلاحظه الفردُ منّا من قراءة أيّ كتاب طبخ، تلكم العلائق بينه وبين الطبّ في المنطقة العربيّة. فقد حرص العرب على تناول وطبخ ما يصفه الأطباء، لا بل أنّهم اعتبروا الطبخ مهنة راقية شريفة، لأنّ الأطباء المسلمون كانوا يمارسونها، وأنّ أهم الطبخات كانت قد صدرت عن أطباء مُعترف لهم بطول الباع.
وعندما يُوصي الأطباء بطبخةٍ مُعينة، فإنّهم غالباً ما يشيرون إلى فوائدها، وتأثيرها على مَن يتناولها، وكيف تزيل بعض الأمراض، أو تُداوي بعض الآلام. وهذا ما دفع البروفيسور البريطاني بجامعة أكسفورد ديفيد وينز، إلى إعداد “ أربعين طبخة عربيّة عراقيّة عباسيّة”، كما وردت في أحد كتب الطبخ الذي ألفّه الشاعر العربيّ كشاجم، وصورها ونشرها في كتاب. ومن يتتبع ذلك فإنّهُ سيقرأ عن عشرات كتب الطبخ العراقيّة ـ العباسيّة، ومنها كتاب مشهور جداً هو “مناهج الدكان فيما يستعمله الإنسان، من منافع الأغذية ودفع مضارها”، للطبيب البغداديّ المشهور ابن جزلة، المتوفى سنة 493 هجرية.
ومن رسائل الأكل والمُؤاكَلة في هذا المقام والتي أُلِفَت في سِفْرِ الحضارة العربيّة الإسلاميّة ما كتبه الشيخ بدر الدين محمّد الغزيّ (1499م ـ 1577م)، أحد الأعلام الكبار في القرن العاشر الهجريّ والسادس عشر الميلاديّ، وأحد فقهاء الشافعيّة، “رسالة آداب المُؤاكَلة”، وهي محفوظة ضمن مخطوطات دار الكتب الظاهريّة في القاهرة، وأولها: “قطعة من تيسير التبيان في تفسير القرآن”، وثانيها: “التفسير المنظوم الصغير”، وهو يحتوي على نصوص من القرآن الكريم متتابعة، ثم تفسير كلّ واحد منها نظماً، وقد تضمن النظمُ نصّ الآيات بالحرف. وثالثها: الثالث من التفسير المنظوم الكبير. وهو بخط المؤلف نفسه، وفي شذرات الذهب وكشف الظنون أنّه مائة ألف بيت وثمانون ألف بيت.
ذكر المائدة والسُفْرة
عُرِفَ عن الشيخ بدرالدين الغزيّ غزارة التأليف حتى نيفّت مُصنفاته على مائة وبضعة عشر كتاباً جمعها ابنه المؤرخ نجم الدين محمّد الذي كان كأبيه الشيخ غزير التأليف، ومن مؤلفاته أيضاً كتابه “ألطف السّحر وقطف السَمر من تراجم أعيان الطبقة الأولى من القرن الحادي عشر”، وهو ذيل على كتابه الكواكب. و”رسالة آداب المُؤاكَلة” للشيخ بدرالدين محمّد الغزيّ التي تولى تحقيقها الدكتور عمر موسى باشا، والصادرة عن منشورات الجمل كولونيا (ألمانيّة) ـ بغداد، وتقع في ثمانين صفحة من القطع المتوسط، على جانب من الأهميّة، إذ تُمثل بعض مظاهر النثر وتطوره في هذا العصر الذي ندرسه ونؤرخه، وسوف نلاحظ أنّ أسلوب المؤلف حُرّ طليق غير مُقيّد بالتصنّع السجعيّ والبديعيّ ممّا كان معروفاً.
ولكنّ رغم أنّ الرسالة المذكورة، على صغرها، تمثل مظهراً من الحياة الاجتماعية من أسماء الأطعمة والمآكل والأشربة وما يتعلق بها من ذكر المائدة والسُفْرة والصِحَاف والقِصَاع وغير ذلك ممّا تطالعنا به الرسالة المذكورة. كما تُوضح “رسالة آداب المُؤاكَلة” للقارئ بعض العادات الاجتماعيّة والتقاليد الحضاريّة المرعيّة في عصر ننعتهُ بالانحطاط والتأخر؛ وقلما نعثر في آداب الأمم الأخرى على مثل هذه الرسالة التي أوضحت العيوب القبيحة عند الأمم كلّها، وإنّ غرض المؤلف من إيرادها هو حثّ النّاس على تجنبها لأنّ مَن عرفها، وتقييد بها كان خبيراً بآداب المُؤاكَلة كما يقول المؤلف نفسه.
وتدلّ رسالة الغزيّ الطريفة على دقّة المؤلف في اختيار النعوت والمُسميّات، حيث ذكر “النهم” وشفعهُ بثلاثة نماذج، فتحدث عن “النهم الناثر”، و”النهم الصّامت”، و”النهم المُسابق”، وكرر قوله: “وهو مَن قسّم النهم أيضا” ثلاث مرّات. ولا شكّ أنّ المؤلف كان ينطلق مَن وصفَ ذلك كلّه مِن مُنطلق نفسيّ، ومُنطلق اجتماعيّ من خلال رؤية ذاتيّة. ويضاف إلى ذلك كلّه هذا التحليل الدقيق في إطلاق النعوت، فتحدث عن “المُوزّع”، وأشار إلى أنّه “هو أيضاً فضوليّ”. ولم يكتفِ الغزيّ بذلك، وإنّما كان يشيرُ على الصفات المُتضادة، فقد أورد ذكر “حاطب ليل” وأتبعه مباشرة “الصعب” وشرحه قائلاً: “وهو ضدّ حاطب ليل”. وهذه الدقّة اللغويّة عند مؤلف رسالة آداب المُؤاكَلة” في أنواع النهم الثلاثة، والترادف، والتضاد تُعطينا فكرة عن أصالته اللغويّة في اشتقاق الألفاظ وتوليدها. ومن باب الترادف ما ذكرهُ وما سمعه مُكرراً على الألسنة، فقد ذكر “المُقطّع”، وقال: “إنّه يُسمّى “القطّاع”، وذكر “اللطّاع” وقال “إنّه يُسمى “اللحّاس”، وذكر “المُمتحن، وقال: إنّه يُسمّى “المُحس” و”المُحتال”، وذكر المؤلف “المُغالي”، وقال: إنّه “المُستغنم”، وهكذا يبلغ عدد المُترادفات سبعاً وثمانين لفظة، وليس إيجادها بالأمر السهل.
الألفاظ العربيّة الأصيلة
ولعلّ أوّل ما يلاحظ على رسالة المؤلف استخدامه للألفاظ العربيّة ألأصيلة المعروفة عند العرب قديماً، كما نلاحظ أنّه قد استخدم ألفاظاً مُعرّبة، وكانت مُستعملة في عصره، عرّبها العرب، أو معروفة قبله كـ “الجردبيل، والطباهج، السكرجات، الرشتا”، ويبعضها لم تُورده معاجم اللغة العربيّة. كما نلاحظ في الرسالة الطريفة للغزيّ أنّه استخدم بعض معاني الألفاظ في غير ما وُضِعَت له، فقد كان بعضها منقولاً من الاستعمال اليوميّ، وبعضها الآخر من ابتكاره واجتهاده الخاصّ، وقد أجاز لنا المؤرخ ابن الأثير مثل هذا الأمر، واشترط في المعنى المنقول أن يكون غير مُستقبح أو مُستكره، كما هو الشأن في استخدام “حاطب ليل” و”المنقط”، و”المُرنِّح”، و”الملقُّو”... ثم أنّ مُعظم الألفاظ الواردة في الرسالة قد جاءت بصيغة “اسم الفاعل المُشتق”، ممّا هو معروف مُستعمل أو غير مُستعمل في الصيغة نفسها، هذا بالإضافة إلى الصيغ والاشتقاقات الأخرى كما هو واضح فيها. كذلك أورد المؤلف ما حضره من الشواهد الشعريّة المُختارة لشعراء سابقين أو مُولدين أو مُحدثين، وأشار إشارات عارضة على بعض ما جاء في السُنّة النبويّة ممّا يتعلق بآداب المُؤاكَلة في ثلاثة مواضع: أولها يتعلق بتصغير اللُقمة خلال الأكل، وثانيها التنديد بالضيف الفضوليّ الذي يقوم بتفريق الطعام على غُلمان ربّ المنزل، لأنّ في ذلك إشعاراً ببخلهِ، وثالثها الإشارة إلى القيام بإطعام الهرّة ونحوها، لأنّ ذلك من وظائف ربّ المنزل وحده. يُضاف إلى ذلك أنّه لم يَنْسَ أن يعرض عرضاً عابراً بعض آداب مُؤاكلة النساء، ووصيته لربّ المنزل، وخصوصاً بعد امتناعهنّ عن الأكل، وهذا ممّا يُحسن أن يعملهُ لغيره.
النعوت والمُسميّات
يلاحظ على الشيخ الغزيّ في رسالته ذكره لأسماء بعض المآكل والمطاعم المعروفة عند العرب كـ”الهرايس، الأكارع، الكَبَاب”، وجدير بالذكر أنّ في كتاب ألمالي لأبي علي القالي، وفقه اللغة للثعالبيّ، بحثاً مُفصلاً في أسماء أطعمة العرب؛ كما أنّه ـ الغزيّ ـ يذكر منها ما أخذوه عن غيرهم من الأمم الأخرى كـ”الطباهج، السكرجات، والرشتا”... أما أسماء رسالته فهي: “الحَكّاك، الزّاحِف، المُجوِّع، المُشنِّع، المُتَثاقلُ، المُدمِّعُ، المُبَلِّغُ، المُقَطِّعُ، المُبَعْبِعُ، المُرْقِعُ، الرّشافُ، الدّفَاعُ، اللّطّاع، المِعْطَاشُ، المُعَرِّض، النفّاخُ، الممتدّ، الجرّافُ، المُزَفّرُ، المدسّم، المُغَثَي، المُقَزِّزُ، العائِبُ، المُستبِدُ، المُهْمِلُ، الجَمَلِيُّ، المُخرِّب، المُصَفِّّفُ، الفُضُوليُّ، الطّفيليُّ، الجَرْدَبيلُ، المُشغْل، الملقُّو، النّهِمُ، النّاثِرُ، المُسابِقُ، الصّامت، الصّعْبُ، البحّاث، البهّات، العابِثُ، الحامِدُ، المُبقِّّي، المُسْتَظْهِرُ، المُسْتهلِكُ، المُحتمي، المُرَنّخ، المُمَلْعِقُ، المُتطاوِلُ، المُشَيِّعُ، المُتَلًفِّتُ، المُنقِّطُ، المُرَشِّشُ، المُوسّخُ، الضّارِبُ، المَصّاصُ، الأكْتَعُ، المُوهِمُ، المُتقييءُ، المُوَزِّعُ، المُوفِّرُ، المُحِّدث، المُستأثِرُ، المُتُعدِّي، اللفّافُ، الغصّاصُ، النثّارُ، البقّارُ، المُمتَحِنُ، المُحتَالُ، المُغالِي، المُفرِّقُ، المُخْتَلِسُ، المُعزِّلُ، المُوحِشُ، المُتَشكِّي، المُستأذنُ، المُغْتَنِمُ، وأخيراً المُتخلّلُ”.
الحَكّاك، النفّاخ والنّاثر...
وأول النعوت والمُسميّات التي بدأها المؤلف في “رسالة آداب المُؤاكَلة” هي “الحَكّاك” التي قال عنها: “وهو الذي يحُكُّ رأسهُ ومَوضعاً في بَدَنِهِ بعدَ غسْلِ يدِهِ وقبل الأكل؛ فقد حكى بعضهم أنّ رجُلاُ غَسَلَ معَ المأمون يدَهُ، وأبطأ الطعام، فسبقتهُ يدُهُ إلى رأسهِ، فقال المأمون: أعِدْ غسلَ يَدِكَ، فغسلها ثم لم يلبث أن سبقت يدُهُ إلى لِحيتِهِ، فقال له: أعِدْ غسلَها، قال: ولا يَلي غِْسْلَ اليدّ إلاّ الخُبزُ! بينما قال عن “النفّاخُ” بأنّهُ: الذي يتناولُ اللقمة الحّارة فينفُخُها بفِيْهِ ابتغاء تبريدها، وكان سبيلُه الكفَّّّّّّ عن الطعام إلى أن يمكنهُ تناولُهُ. و”النّاثِرُ” هو مِن قِسمِ النّهمِ، وهو مَن يَنْثُرُ مِن النّهمِ الخبزَ لُقَماً بينَ يديهِ. في حين يكون “البهّات”: الذي يَبْهَتُ في وجهِ مُؤاكليه حتى يَبْهَتهُمْ ويأخذ الّحمَ مِن بين أيديهم، ونجد “المُمَلْعِقُ”: هو مَن يتخذُ مِن الخُبز ملاعقَ يحتملُ بها المَرَقَ، وقلّما يسلمُ منْ تلويثِ ثيابه ولحيتهِ! وحول نعت “المُرَشّشُ” قال: بأنّه مَن يتناولُ القطعة القويّة مِن اللّحم بيديهِ، ويروم قطعاً أو يلوي فخْذَ الّدجاج ليفُكّهُ، فيُرشّشُ على جُلسائه.
الكتاب: رسالة في آداب المُؤاكَلة
المؤلف: الشيخ بدرالدين الغزيّ
المُحقق: د. عمر موسى باشا
الناشر: منشورات الجمل كولونيا ـ بغداد
ثقافـة وآداب الطعام عند العرب
عبدالمجيد عبدالحميد
موائد الطعام باختلاف أنواعها دليل رُقِيّ وذوق وموارد وحياة وحضارة للشعوب. وما يلاحظه الفردُ منّا من قراءة أيّ كتاب طبخ، تلكم العلائق بينه وبين الطبّ في المنطقة العربيّة. فقد حرص العرب على تناول وطبخ ما يصفه الأطباء، لا بل أنّهم اعتبروا الطبخ مهنة راقية شريفة، لأنّ الأطباء المسلمون كانوا يمارسونها، وأنّ أهم الطبخات كانت قد صدرت عن أطباء مُعترف لهم بطول الباع.
وعندما يُوصي الأطباء بطبخةٍ مُعينة، فإنّهم غالباً ما يشيرون إلى فوائدها، وتأثيرها على مَن يتناولها، وكيف تزيل بعض الأمراض، أو تُداوي بعض الآلام. وهذا ما دفع البروفيسور البريطاني بجامعة أكسفورد ديفيد وينز، إلى إعداد “ أربعين طبخة عربيّة عراقيّة عباسيّة”، كما وردت في أحد كتب الطبخ الذي ألفّه الشاعر العربيّ كشاجم، وصورها ونشرها في كتاب. ومن يتتبع ذلك فإنّهُ سيقرأ عن عشرات كتب الطبخ العراقيّة ـ العباسيّة، ومنها كتاب مشهور جداً هو “مناهج الدكان فيما يستعمله الإنسان، من منافع الأغذية ودفع مضارها”، للطبيب البغداديّ المشهور ابن جزلة، المتوفى سنة 493 هجرية.
ومن رسائل الأكل والمُؤاكَلة في هذا المقام والتي أُلِفَت في سِفْرِ الحضارة العربيّة الإسلاميّة ما كتبه الشيخ بدر الدين محمّد الغزيّ (1499م ـ 1577م)، أحد الأعلام الكبار في القرن العاشر الهجريّ والسادس عشر الميلاديّ، وأحد فقهاء الشافعيّة، “رسالة آداب المُؤاكَلة”، وهي محفوظة ضمن مخطوطات دار الكتب الظاهريّة في القاهرة، وأولها: “قطعة من تيسير التبيان في تفسير القرآن”، وثانيها: “التفسير المنظوم الصغير”، وهو يحتوي على نصوص من القرآن الكريم متتابعة، ثم تفسير كلّ واحد منها نظماً، وقد تضمن النظمُ نصّ الآيات بالحرف. وثالثها: الثالث من التفسير المنظوم الكبير. وهو بخط المؤلف نفسه، وفي شذرات الذهب وكشف الظنون أنّه مائة ألف بيت وثمانون ألف بيت.
ذكر المائدة والسُفْرة
عُرِفَ عن الشيخ بدرالدين الغزيّ غزارة التأليف حتى نيفّت مُصنفاته على مائة وبضعة عشر كتاباً جمعها ابنه المؤرخ نجم الدين محمّد الذي كان كأبيه الشيخ غزير التأليف، ومن مؤلفاته أيضاً كتابه “ألطف السّحر وقطف السَمر من تراجم أعيان الطبقة الأولى من القرن الحادي عشر”، وهو ذيل على كتابه الكواكب. و”رسالة آداب المُؤاكَلة” للشيخ بدرالدين محمّد الغزيّ التي تولى تحقيقها الدكتور عمر موسى باشا، والصادرة عن منشورات الجمل كولونيا (ألمانيّة) ـ بغداد، وتقع في ثمانين صفحة من القطع المتوسط، على جانب من الأهميّة، إذ تُمثل بعض مظاهر النثر وتطوره في هذا العصر الذي ندرسه ونؤرخه، وسوف نلاحظ أنّ أسلوب المؤلف حُرّ طليق غير مُقيّد بالتصنّع السجعيّ والبديعيّ ممّا كان معروفاً.
ولكنّ رغم أنّ الرسالة المذكورة، على صغرها، تمثل مظهراً من الحياة الاجتماعية من أسماء الأطعمة والمآكل والأشربة وما يتعلق بها من ذكر المائدة والسُفْرة والصِحَاف والقِصَاع وغير ذلك ممّا تطالعنا به الرسالة المذكورة. كما تُوضح “رسالة آداب المُؤاكَلة” للقارئ بعض العادات الاجتماعيّة والتقاليد الحضاريّة المرعيّة في عصر ننعتهُ بالانحطاط والتأخر؛ وقلما نعثر في آداب الأمم الأخرى على مثل هذه الرسالة التي أوضحت العيوب القبيحة عند الأمم كلّها، وإنّ غرض المؤلف من إيرادها هو حثّ النّاس على تجنبها لأنّ مَن عرفها، وتقييد بها كان خبيراً بآداب المُؤاكَلة كما يقول المؤلف نفسه.
وتدلّ رسالة الغزيّ الطريفة على دقّة المؤلف في اختيار النعوت والمُسميّات، حيث ذكر “النهم” وشفعهُ بثلاثة نماذج، فتحدث عن “النهم الناثر”، و”النهم الصّامت”، و”النهم المُسابق”، وكرر قوله: “وهو مَن قسّم النهم أيضا” ثلاث مرّات. ولا شكّ أنّ المؤلف كان ينطلق مَن وصفَ ذلك كلّه مِن مُنطلق نفسيّ، ومُنطلق اجتماعيّ من خلال رؤية ذاتيّة. ويضاف إلى ذلك كلّه هذا التحليل الدقيق في إطلاق النعوت، فتحدث عن “المُوزّع”، وأشار إلى أنّه “هو أيضاً فضوليّ”. ولم يكتفِ الغزيّ بذلك، وإنّما كان يشيرُ على الصفات المُتضادة، فقد أورد ذكر “حاطب ليل” وأتبعه مباشرة “الصعب” وشرحه قائلاً: “وهو ضدّ حاطب ليل”. وهذه الدقّة اللغويّة عند مؤلف رسالة آداب المُؤاكَلة” في أنواع النهم الثلاثة، والترادف، والتضاد تُعطينا فكرة عن أصالته اللغويّة في اشتقاق الألفاظ وتوليدها. ومن باب الترادف ما ذكرهُ وما سمعه مُكرراً على الألسنة، فقد ذكر “المُقطّع”، وقال: “إنّه يُسمّى “القطّاع”، وذكر “اللطّاع” وقال “إنّه يُسمى “اللحّاس”، وذكر “المُمتحن، وقال: إنّه يُسمّى “المُحس” و”المُحتال”، وذكر المؤلف “المُغالي”، وقال: إنّه “المُستغنم”، وهكذا يبلغ عدد المُترادفات سبعاً وثمانين لفظة، وليس إيجادها بالأمر السهل.
الألفاظ العربيّة الأصيلة
ولعلّ أوّل ما يلاحظ على رسالة المؤلف استخدامه للألفاظ العربيّة ألأصيلة المعروفة عند العرب قديماً، كما نلاحظ أنّه قد استخدم ألفاظاً مُعرّبة، وكانت مُستعملة في عصره، عرّبها العرب، أو معروفة قبله كـ “الجردبيل، والطباهج، السكرجات، الرشتا”، ويبعضها لم تُورده معاجم اللغة العربيّة. كما نلاحظ في الرسالة الطريفة للغزيّ أنّه استخدم بعض معاني الألفاظ في غير ما وُضِعَت له، فقد كان بعضها منقولاً من الاستعمال اليوميّ، وبعضها الآخر من ابتكاره واجتهاده الخاصّ، وقد أجاز لنا المؤرخ ابن الأثير مثل هذا الأمر، واشترط في المعنى المنقول أن يكون غير مُستقبح أو مُستكره، كما هو الشأن في استخدام “حاطب ليل” و”المنقط”، و”المُرنِّح”، و”الملقُّو”... ثم أنّ مُعظم الألفاظ الواردة في الرسالة قد جاءت بصيغة “اسم الفاعل المُشتق”، ممّا هو معروف مُستعمل أو غير مُستعمل في الصيغة نفسها، هذا بالإضافة إلى الصيغ والاشتقاقات الأخرى كما هو واضح فيها. كذلك أورد المؤلف ما حضره من الشواهد الشعريّة المُختارة لشعراء سابقين أو مُولدين أو مُحدثين، وأشار إشارات عارضة على بعض ما جاء في السُنّة النبويّة ممّا يتعلق بآداب المُؤاكَلة في ثلاثة مواضع: أولها يتعلق بتصغير اللُقمة خلال الأكل، وثانيها التنديد بالضيف الفضوليّ الذي يقوم بتفريق الطعام على غُلمان ربّ المنزل، لأنّ في ذلك إشعاراً ببخلهِ، وثالثها الإشارة إلى القيام بإطعام الهرّة ونحوها، لأنّ ذلك من وظائف ربّ المنزل وحده. يُضاف إلى ذلك أنّه لم يَنْسَ أن يعرض عرضاً عابراً بعض آداب مُؤاكلة النساء، ووصيته لربّ المنزل، وخصوصاً بعد امتناعهنّ عن الأكل، وهذا ممّا يُحسن أن يعملهُ لغيره.
النعوت والمُسميّات
يلاحظ على الشيخ الغزيّ في رسالته ذكره لأسماء بعض المآكل والمطاعم المعروفة عند العرب كـ”الهرايس، الأكارع، الكَبَاب”، وجدير بالذكر أنّ في كتاب ألمالي لأبي علي القالي، وفقه اللغة للثعالبيّ، بحثاً مُفصلاً في أسماء أطعمة العرب؛ كما أنّه ـ الغزيّ ـ يذكر منها ما أخذوه عن غيرهم من الأمم الأخرى كـ”الطباهج، السكرجات، والرشتا”... أما أسماء رسالته فهي: “الحَكّاك، الزّاحِف، المُجوِّع، المُشنِّع، المُتَثاقلُ، المُدمِّعُ، المُبَلِّغُ، المُقَطِّعُ، المُبَعْبِعُ، المُرْقِعُ، الرّشافُ، الدّفَاعُ، اللّطّاع، المِعْطَاشُ، المُعَرِّض، النفّاخُ، الممتدّ، الجرّافُ، المُزَفّرُ، المدسّم، المُغَثَي، المُقَزِّزُ، العائِبُ، المُستبِدُ، المُهْمِلُ، الجَمَلِيُّ، المُخرِّب، المُصَفِّّفُ، الفُضُوليُّ، الطّفيليُّ، الجَرْدَبيلُ، المُشغْل، الملقُّو، النّهِمُ، النّاثِرُ، المُسابِقُ، الصّامت، الصّعْبُ، البحّاث، البهّات، العابِثُ، الحامِدُ، المُبقِّّي، المُسْتَظْهِرُ، المُسْتهلِكُ، المُحتمي، المُرَنّخ، المُمَلْعِقُ، المُتطاوِلُ، المُشَيِّعُ، المُتَلًفِّتُ، المُنقِّطُ، المُرَشِّشُ، المُوسّخُ، الضّارِبُ، المَصّاصُ، الأكْتَعُ، المُوهِمُ، المُتقييءُ، المُوَزِّعُ، المُوفِّرُ، المُحِّدث، المُستأثِرُ، المُتُعدِّي، اللفّافُ، الغصّاصُ، النثّارُ، البقّارُ، المُمتَحِنُ، المُحتَالُ، المُغالِي، المُفرِّقُ، المُخْتَلِسُ، المُعزِّلُ، المُوحِشُ، المُتَشكِّي، المُستأذنُ، المُغْتَنِمُ، وأخيراً المُتخلّلُ”.
الحَكّاك، النفّاخ والنّاثر...
وأول النعوت والمُسميّات التي بدأها المؤلف في “رسالة آداب المُؤاكَلة” هي “الحَكّاك” التي قال عنها: “وهو الذي يحُكُّ رأسهُ ومَوضعاً في بَدَنِهِ بعدَ غسْلِ يدِهِ وقبل الأكل؛ فقد حكى بعضهم أنّ رجُلاُ غَسَلَ معَ المأمون يدَهُ، وأبطأ الطعام، فسبقتهُ يدُهُ إلى رأسهِ، فقال المأمون: أعِدْ غسلَ يَدِكَ، فغسلها ثم لم يلبث أن سبقت يدُهُ إلى لِحيتِهِ، فقال له: أعِدْ غسلَها، قال: ولا يَلي غِْسْلَ اليدّ إلاّ الخُبزُ! بينما قال عن “النفّاخُ” بأنّهُ: الذي يتناولُ اللقمة الحّارة فينفُخُها بفِيْهِ ابتغاء تبريدها، وكان سبيلُه الكفَّّّّّّ عن الطعام إلى أن يمكنهُ تناولُهُ. و”النّاثِرُ” هو مِن قِسمِ النّهمِ، وهو مَن يَنْثُرُ مِن النّهمِ الخبزَ لُقَماً بينَ يديهِ. في حين يكون “البهّات”: الذي يَبْهَتُ في وجهِ مُؤاكليه حتى يَبْهَتهُمْ ويأخذ الّحمَ مِن بين أيديهم، ونجد “المُمَلْعِقُ”: هو مَن يتخذُ مِن الخُبز ملاعقَ يحتملُ بها المَرَقَ، وقلّما يسلمُ منْ تلويثِ ثيابه ولحيتهِ! وحول نعت “المُرَشّشُ” قال: بأنّه مَن يتناولُ القطعة القويّة مِن اللّحم بيديهِ، ويروم قطعاً أو يلوي فخْذَ الّدجاج ليفُكّهُ، فيُرشّشُ على جُلسائه.
الكتاب: رسالة في آداب المُؤاكَلة
المؤلف: الشيخ بدرالدين الغزيّ
المُحقق: د. عمر موسى باشا
الناشر: منشورات الجمل كولونيا ـ بغداد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق