كتبهابلال عبد الهادي ، في 26 نيسان 2011 الساعة: 17:51 م
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم وبه أستفتح
الحمد لله الذي افتتح بالحمد كتابه، وألهمه عباده، وجعله مستزيداً لهم من فضله، وذريعةً إلى ما قرّب منه وأزلف، و صلى الله على محمد نبيّه وخاتم رسله، وصفوته من خلقِه، وخيرته من عباده، صلاةً تُزلفه لديه، وتُحظيه عنده، وسلم تسليماً.إن الله عز وجل خلق خلقه لعبادته، وأمرهم بطاعته، ونهاهم عنا حرمه، ووعدهم رحمته، وحذرهم عقابه، فكان أحسنهم طاعةً له، وأشدهم تقرباً منه، وأبعدهم مما حرمه ونهى عنه العلماء، وذوو العقل والفضل من خلقه؛ فإنه يُروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله يعاقب العاقل بما لا يعاقب به الجاهل " . ففضّل الله جل اسمه ذكر العالِم في زمانه على سائر نظرائه من خلقه، وجعله قدوة لأهل عصره، وذكراً لمن يبقى بعده.
من ذلك ما يُروى أن الأحنف بن قيس رأى الناس بالبصرة يقصدون الحسن البصري في أمورهم، ويسألونه عن أحوال دينهم؛ فقال: كادت العلماء أن يكونوا أرباباً؛ وكل عزٍّ لم يوطد بعلم فإلى ذل يصير.
ويروى من غير وجه: سمعنا أن زيد بن ثابت أتى عبد الله بن عباس فتلقّاه عبدُ الله، وأخذ بركاب بغلته حتى نزل عنها، فلامه زيد على ما فعله، فقال: كذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه أن نفعل بعلمائنا. فقال له زيد: ادنُ مني، فدنا منه، فقبّل يده ثم قال: كذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه أن نفعل بأهل بيته.
وإنما سلك زيد في ذلك ما يُروى أن رسول الله صلى الله عليه قال: " لا يحلّ لأحد أن يقبّل يد أحدٍ إلا يدَ عالم أو يد رجل من أهل بيتي " . ويروى أنه قال: " إذا كان يوم القيامة قيل للعابد قم فادخل الجنة، ويقال للعالم: قم فاشفع " . وقال عليه السلام: " فضل العلم خيرٌ من فضل العمل " ؟ وقال الله جلّ ثناؤه: " إنما يخشى اللهَ من عبادهِ العلماءُ " . فجعل - عزّ اسمه - العالمين بحدوده هم الخائفين من عقابه، وأولياءه وأهل طاعته.
ثم أفضل العلم ما عُمل به؛ وانتُفع بثمرته، فإنه يقال: إن أبعدَهم من الله عالمٌ لا يُنتفع بعلمه. وقال بعض الحكماء: فلانٌ أحوجُ إلى كذا من علم إلى عمل، ومن قولٍ إلى فعل، ومن قدرة إلى عفو؛ وعلى ذلك قول الشاعر:
لا خيرَ في القولِ إلاّ الفعل يتبعُه … والفعلُ للقولِ ما أتبعتَه أَدَمُ
وقال سلمان: إنك لن تكون عالماً حتى تكون به متعلِّماً، ولن تكون بالعلم عالماً حتى تكون به عاملاً.
ولكن الله - جل ذكره - لم يُؤت عباده من العلم إلا قليلاً، فمن لم يكن نصيبه في ذلك القليل كالمحتوي على أكثره، ولم يكن أغلب الخصال عليه عقله، وأشرف ما يعتقده عليه تقواه لم يعدّ فاضلاً. وقال أمير المؤمنين عليه السلام: " قيمة كل امرئ ما يُحسن " .
وللعالِم سقطات، وللمتقي هفوات. وكان ابن عمر يقول: إذا ترك العالم قولَ لا أدري أصيبت مَقاتله.
وقال علي رحمة الله عليه: يا بردَها على الكبد من عالم يقول: لا أدري.
وأحسن ما رُوي في جبلّة الإنسان التي جُبل عليها كلامٌ يروى عن علي رحمة الله عليه؛ يشبّه بكلام الأنبياء عليهم السلام، يصدق ذلك ما روي عنه أنه مسح يده على بطنه، وقال: كُنَيْف ملئ علماً؛ أما والله لو طُرحت لي وسادة لقضيتُ لأهل التوراة بتوراتهم، ولأهل الإنجيل بإنجيلهم، ولأهل القرآن بقرآنهم. وكان رسول الله صلى الله عليه يقول: " أنا مدينة العلم وعليّ بابها " . وكان كلامه في فطرة الإنسان كلامَ من قد عرف ذلك من نفسه، أو يقرؤه في كفه: وأعجب ما في الإنسان قلبه، وله مَوادُّ من الحكمة، وأضداد من خلافها، فإن سنح له الرجاء أذله الطمع، وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص، وإن ملكه اليأس قتله الأسف، وإن عرَض له الغضب استبد به الغيظ، وإن أُسعد بالرضا نسي التحفظ، وإن ناله الخوف شغله الحذر، وإن اتسع له الأمر استلبته الغِرّة، وإن أفاد مالاً أطغاه الغنى، وإن عارضته فاقة فضحه الجزع، وإن جهده الجوع قعد به الضعف، وإن أفرط في الشبع كظَّتْه البِطنة، فكل تقصير به مضرّ، وكل إفراط له مفسد.
وأفضل ما قُصد له من العلوم كتاب الله - جل ذكره - والمعرفة بما حلّ فيه من حلاله وحرامه وأحكامه، وإعراب لفظه وتفسير غريبه. ويروى أن المأمون أمر معلّم الواثق - وقد سأله عما يعلّمه إياه - أن يعلّمه كتاب الله جل اسمه، وأن يقرئه عهدَ أردشير، ويحفّظه كتاب كليلة ودمنة.
وأفضل العلوم بعدُ علمُ اللغة وإعراب الكلام، فإن بذلك يُقرأ القرآن، وعليه تُروى الأخبار والأشعار، وبه يزين المرء كتابه، ويُحلّي لفظه، قال الله عز وجلّ: " بلسانٍ عربي مبين " . قال الشاعر:
النحو يُطلق من لسان الألكَنِ … والمرءَ تُعظمه إذا لم يلحَنِ
فإذا طلبتَ من العلوم أجلَّها … فأجلُّها منها مقيمُ الألسنِ
وقال صلى الله عليه وسلم: " أعربوا في كلامكم تعربوا في كتاب الله " .
وقال عمر بن الخطاب رحمة الله عليه: تعلّموا العربية تُحرزوا المروءة.
ولحن رجل بين يدي سليمان بن عبد الملك بعد أن فاوضه فوجده عاقلاً، فقال سليمان: زيادة عقل على منطقٍ هُجْنة، وزيادة منطقٍ على عقلٍ خدعة. وأحسنُ الأشياء ما شاكل بعضُه بعضاً.
وكان الصدر الأول من أصحاب رسول الله صلى الله عليه يعربون طبعاً، حتى خالطهم العجم ففسدت ألسنتهم، وتغيرت لغاتهم.
ويروى أن عمر بن عبد العزيز رأى قوماً من الفرس ينظرون في النحو فقال: لئن أصلحتموه لأنتم أول من أفسده.
ويروى أن رجلاً قال لبعض العلماء: أسألك عن شيء من الغريب، فقال: هو كلام القوم، وإنما أنت وأمثالك فيه غرباء.
وذُكر أن السبب الذي بُني له أبواب النحو وعليه أُصّلت أصوله أن ابنة أبي الأسود الدئلي قالت: يا أبتِ ما أشدُّ الحرِّ! قال: الحَصباء بالرَّمضاء. قالت: إنما تعجبتُ من شدته، قال: أوَ قد لحن الناس؟ فأخبر بذلك علياً - رحمة الله عليه - فأعطاه أصولاً بنى بها، وعمل بعده عليها، فأخذه عن أبي الأسود عنبسة بن مَعْدان المَهْري الذي يقال له عنبسة الفيل.
وأبو الأسود أول من نقد المصاحف. ثم أخذ النحو عن عنبسة ميمون الأقرن، ثم أخذه عن ميمون عبد الله بن أبي إسحق الحضرمي الذي يقول فيه الفرزدق:
فلو كان عبدُ الله مولىً هجوتُه … ولكنّ عبدَ الله مولى مواليا
ثم أخذه عنه عيسى بن عمر، وأخذه عن عيسى الخليلُ بن أحمد الفُرْهودي، ثم أخذه عن الخليل سيبويه - واسمع عمرو بن عثمان الحارثي - ثم أخذه عن سيبويه الأخفش، وهو سعيد بن مَسعدة المُجاشعي.
وأفضل ما في الإنسان المعبّر عن شأنه المبين لمعرفته لسانُه، وقال الشاعر:
لسانُ الفتى نِصفٌ ونصفٌ فؤادُه … فلم يبقَ إلاّ صورةُ اللحم والدم
وكائنْ ترى من صامتٍ لك مُعجِبٍ … زيادتُه أو نقصُه في التكلم
وقال الآخر:
وما المرءُ إلا الأصغرانِ لسانُه … ومعقولُه والجسمُ خلْقٌ مُصوَّرُ
فإن طُرّةٌ راقَتك يوماً فربما … أمرَّ مذاقُ العودِ والعودُ أخضرُ
وقال عمرو بن العاص: لسان المرء قطعةٌ من عقله، وظنه قطعة من علمه. وقيل: ما الإنسان لولا اللسان إلا بهيمة مهملة، أو صورة ممثَّلة. وقال علي رحمة الله عليه: المرء مخبوءٌ تحت لسانه.
وقال النمر بن تَوْلَب:
أعِذْني رَبِّ من حَصَرٍ وعيّ … ومن نفسٍ أعالجُها عِلاجا
وقال الآخر:
وما بي من عيٍّ ولا أنطق الخَنا … إذا جمعَ الأقوامَ في الخَطبِ مَحفِلُ
وقال أحيحة بن الجُلاح:
والصمتُ أحسنُ بالفتى … ما لم يكن عِيٌّ يَشينُهْ
والقولُ ذو خَطَلٍ إذا … ما لم يكن لُبٌّ يُعينُهْ
وبعد معرفة النحو علم الدين، والفقه والتفقه فيه، ومعرفة الحلال والحرام منه. وقيل للحسين: ما المروءة؟ قال: الدين المتوسط.
وقال له رجل: علِّمني ديناً وسُوطا، لا ذاهباً فَروطا، ولا ساقطاً هَبوطا. فقال: نعم، خير الأمور أوساطها. وأنشد أبو عبيدة:
لا تذهبنّ في الأمور فرَطا … وكن من الناس جميعاً وسَطا
وعلى قدْر دين الرجل حُسن مُنقلبه، وعلى حسب سريرته منزلته من ربه. وإنما يُبين عن الناس أعمالهم، ويُلحقهم بالصُّلاّح آثارهم - واعتمدنا تأليف هذا الكتاب، والحثّ على طلب الأدب والترغيب فيه، والحض على الإكثار منه، فإن المستكثر من شيء، إن لم يدرك آخره ولم يأت على غابره استكثر من الصواب، واستقل من الخطأ، وتزيّن به عند الناس، واستتر به من لؤم الأصل، وإنما الإنسان بنفسه وابنُ خبره.
وقالت عائشة: كل لؤم دونه شرف فالشرف أولى به، وكل شرف دونه لؤم فاللؤم أولى به.
وقال الشاعر:
كن ابنَ من شئتَ واكتسب أدبا … يُغنيك محمودُه عن النسب
وكان بعض العلماء إذا سأل عن قال: أعصاميّ هو أم عظاميّ؟ أي أهو ممن يفخر بآبائه وسلفه وبمن قد مضى من أهله، وهو خال مما كانوا فيه، أم هو بنفسه، كما قال الشاعر:
نفسُ عصامٍ سوّدتْ عصاما … وعلّمته الكَرَّ والإقداما
وجعلْته مَلِكا هُماما
وسنذكر في كتابنا هذا أبواباً من كلام العرب وبعض ما روى عنها، ونثراً من أخبارها، ونفصل ذلك بأشعار وأخبار من قديم وحديث وما بينهما، ونقدّم العذر في تقصير إن وقع فيه أو خلل إن لزمه، فإنا ألفناه من غير خلوة به ولا تمييز لما تضمنه، ونسأل الله توفيقه وحُسن معونته، ونتوكل عليه ونسترشده، وبه الحول والقوة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق