الجمعة، 8 فبراير 2013

ذكروا أن الحجاج بن يوسف أرق، ذات ليلة، فبعث إلى ابن القرية، فقال: أرقت، فحدثني حديثاً يقصر على طول ليلي، ولكن من مكر النساء وفعالهن. فقال: أصلح الله الأمير! ذكروا أن رجلاً يقال له عمرو بن عامر من أهل البصرة، كان معروفاً بالنسك والسخاء. وكانت له زوجة يقال لها جميلة، وله صديق من النساك. فاستودعه عمرو ألف دينار، وقال: إن حدثت بي حادثة، ورأيت أهلي محتاجين، فأعطهم هذا المال. فعاش ما عاش، ثم دعي فأجاب، فمكثت جميلة بعده حيناً، ثم ساءت حالها، وأمرت خادمتها يوماً ببيغ خاتمها لغداء يوم أو عشاء ليلة. فبينا الخادمة تعرض الخاتم على البيع، إذ لقيها الناسك صديق عمرو، فقال: فلانة? قالت: نعم. قال: حاجتك? فأخبرته بسوء الحال، وما اضطرت إليه مولاتها من بيع خاتمها، فهملت عيناه دموعاً، ثم قال: إن لعمرو قبلي ألف دينار، فأعلمي بذلك صاحبتك. فأقبلت الجارية ضاحكة مستبشرة، وهي تقول: رزق حلال عاجل من كد مولاي الكريم الفاضل. فلما سمعت مولاتها ذلك، سألتها عن القصة، فأخبرتها، فخرت ساجدة، وحمدت ربها، وبعثت بالجارية إلى الناسك، فأقبل الناسك ومعه المال، فلما دخل الدار، كره أن يدفع المال إلى أحد سواها؛ فخرجت، فلما نظر إلى جمالها وكمالها، أخذت مجامع قلبه، وفارقه النهى، وذهب عنه الحياء، وأنشأ يقول:

قد سلبت الجسم والقلب معاً وبريت العظم مما تلحظين
فارددي قلب عميدٍ واقبلـي صلة الضعفين مما ترتجين

فأطرقت جميلة لقوله طويلاً، ثم قالت: ويحك، ألست المعروف بالنسك المنسوب إلى الورع? قال: بلى. ولكن نور وجهك سل جسمي، فتداركيني بكلمة تقيمين لها أودي. فهذا مقام اللائذ بك! قالت: أيها المرائي المخادع! أخرج عني مذموماً مدحوراً. فخرج عنها، وقد هام قلبه، وأضحت جميلة تعمل الحيلة في استخراج حقها، فأتت الملك ترفع إليه ظلامتها، فلم تصل إليه، فأتت الحاجب، فشكت إليه، فأعجب بها إعجاباً شديداً، وقالت: إن لوجهك صورة أدفعها عن هذا، ولا يجعل بمثلك الخصومة فهل لك في ضعفي مالك في ستر ورفق? فقالت: سوءة لامرأة حرة تميل إلى ريبة. فانصرفت إلى صاحب الشرطة، فأنهت ظلامتها إليه، فأعجب بها وقال: إن حجتك على الناسك لا تقبل إلا بشاهدين عدلين، وأنا مشترٍ خصومتك، إن أنت نزلت عند مسرتي. فانصرفت عنه إلى القاضي، فشكت إليه، فأخذت بقلبه، وكاد القاضي يجن إعجاباً بها، وقال: يا قرة العين! إنه لا يزهد في أمثالك، فهل لك في مواصلتي وغناء الدهر? فانصرفت، وباتت تحتال في استخراج حقها، فبعثت الجارية إلى نجار، فعمل لها تابوتاً بثلاثة أبواب، كل منها مفرد؛ ثم بعثت الجارية إلى الحاجب أن يأتيها إذا أصبح، وإلى صاحب الشرطة أن يأتيها ضحوة، وإلى القاضي أن يأتيها إذا تعالى النهار، وإلى الناسك أن يأتيها إذا انتصف النهار.
فأتاها الحاجب، فأقبلت عليه تحدثه، فما فرغت من حديثها حتى قالت لها الجارية: صاحب الشرطة بالباب، فقالت للحاجب: ليس في البيت ملجأ إلا هذا التابوت، فأدخل أي بيت شئت منه. فدخل الحاجب بيتاً من التابوت فأقفلت عليه. ودخل صاحب الشرطة، فأقبلت جميلة عليه تضاحكه وتلاطفه، فما كان بأسرع من أن قالت الجارية: القاضي بالباب؛ فقال صاحب الشرطة: أين أختبئ? فقالت: لا ملجأ إلا هذا التابوت، وفيه بيتان، فادخل أيهما شئت، فدخل، فأقفلت عليه، فلما دخل القاضي، قالت: مرحباً وأهلاً، وأقبلت عليه بالترحيب والتلطيف. فبينا هي كذلك، إذ قالت الجارية: الناسك بالباب، فقال القاضي: ماذا ترين في رده? فقالت: مالي إلى رده سبيل. قال: فكيف الحيلة? قالت: إني مدخلتك هذا التابوت، ومخاصمته، فاشهد لي بما تسمع، واحكم بيني وبينه بالحق.
قال: نعم، فدخل البيت الثالث، فأقفلت عليه.
ودخل الناسك، فقالت له: مرحباً بالزائر الجاني، كيف بدا لك في زيارتنا? قال: شوقاً إلى رؤيتك، وحنيناً إلى قربك. قالت: فالمال، ما تقول فيه: أشهد الله على نفسك برده، اتبع رأيك… قال: اللهم إنني أشهدك الله لجميلة عندي ألف دينار وديعة زوجها.
فلما سمعت ذلك هتفت بجاريتها، وخرجت مبادرة نحو باب الملك، فأنهت ظلامتها إليه، فأرسل الملك إلى الحاجب، وصاحب الشرطة، والقاضي، فلم يقدر على واحد منهم؛ فقعد لها، وسألها البينة، فقالت: يشهد تابوت عندي فضحك الملك وقال: يحتمل ذلك لجمالك. فبعث بالعجلة فوضع التابوت فيها، وحمل إلى بين يدي الملك، فقامت وضربت بيدها إلى التابوت وقالت: أعطي الله عهداً لتنطقن بالحق، وتشهدن بما سمعت، أو لأضرمنك ناراً، فإذا ثلاثة أصوات من جوف التابوت تشهد على إقرار الناسك لجميلة بألف دينار. فكبر ذلك على الملك، فقالت جميلة: لم أجد في المملكة قوماً أوفى ولا أقوم بالحق من هؤلاء الثلاثة فأشهدتهم على غريمي، ثم فتحت التابوت وأخرجت ثلاثة النفر، وسألها الملك عن قصتها فأخبرته، وأخذت حقها من الناسك، فقال: الحجاج: لله درها ما أحسن ما احتالت لاستخراج حقها

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق