الثلاثاء، 12 فبراير 2013

المنام في قبضة اللغة/ اللغة والاحلام


 لا أظنّ أحداً لا يعيش حياة مناميّة، بمسرّاتها وكوابيسها، ولكن البعض يأخذها باستخفاف، والبعض الآخر يحملها على محمل الجدّ. فالناس تختلف على كلّ شيء حتّى على المنامات.  بعض الكتّاب تخرج مؤلفاتهم من رحم منام! فمن يقرأ مقدّمات كتب تراثنا العربيّ يلحظ أن ثمة دافعاً ما يحثّ الكاتب على التأليف، ولكن الدوافع المنامية هي من أكثر الدوافع طرافة، كأن يرى النائم شخصاً ما أو صوتاً يطرق سمعه يأمره بتغيير مسلك حياته أو اهتماماته، وما ان ينهض من نومه حتى يكون غرض التأليف جاهزاً لا يحتاج إلاّ إلى تبييض. قد يبدو هذا الكلام من قبيل أضغاث الأحلام، إلاّ أنّه واقع موثّق بأقلام كتّاب كبار من تراثنا العربيّ، واكتفي هنا بالاشارة الى العلاّمة جار الله الزمخشري حيث يقول في مقدّمة مقاماته ما يلي:" ندَبَهُ لإنشائها أنَهُ أرِيَ في بعض ِإغفاآتِ الفجرِ كأنّما صَوَّتَ بهِ منْ يقولُ لهُ يا أبا القاسمِ أجَلٌ مكتوبٌ، وأمَلٌ مكذوبٌ. فهَبَّ مِنْ إغفاآته تلكَ مَشخوصاً بهِ ممّا هالَهُ منْ ذلكَ ورَوَّعَه، ونَفّرَ طائرهُ وفزَّعَه، وضمَّ إلى هذه الكلماتِ ما ارتفعَت بهِ مقامَة" ولكن المنام غيّر، أيضاً، مجرى حياته العملية إذ إنه قرر تلبية رغبات منامه أو ترجمتها إلى سلوك حياتيّ، فأخذ " على نفسهِ الميثاقَ للّهِ (...) أنْ لا يطأ بأخمَصِهِ عتَبَةَ السلطانِ(...) وأنْ يربأَ بنفسهِ ولسانهِ عن قرْضِ الشعرِ فيهم، ورفعِ العقيرةِ في المدحِ بينَ أيديهم". ولا ريب في أنّ المنقّب عن الكتب التي خرجت من أرحام الأحلام لن يخرج من تنقيبه صفر اليدين.
ولكن سأتناول هنا مسألة تربط المنام باللغة. ما لفت نظري هو سلطان اللغة على تفسير المنام، بمعنى التصاق معنى المنام بلغة الرائي، دلالة المنام تحكمها لغة الكلام. وحين نقول اللغة لا يغيب عن بالنا ان هناك أكثر من خمسة آلاف لغة في العالم. وهذا يعني بكلّ بساطة أنّ المنام الواحد قد يحمل ما لا يقلّ عن خمسة آلاف تفسير أو معنى، وهذا إنّ دلّ على شيء فإنّما يدلّ على خصوبة عارمة للعالم المناميّ. وحين نتكلّم على أثر اللغة في تفسير المنام فهذا يعني، أيضاً، عدم تغييب طبيعة اللغة الثنائية، حيث شطر منها يتعلّق بحيّز الحقيقة، وشطر آخر يتعلّق بحيّز المجاز. إنّ من يتعامل مع حقيقة اللغة وحدها كمن يحاول أن يعيش خارج الحقيقة. ومن يكتفي بمجازها وحده لن يستذوق طعم الحياة. الحركة بنت نقيضين كما الحياة نفسها، فليس بمقدور الذكورة وحدها ان تنجب الحياة، وليس بمقدور الانوثة وحدها أن تنتج الحياة.
اللغة بكلّ حالاتها تأخذ دورها في تفسير المنامات، فهناك الأضداد أي الكلمات التي تحمل معنيين نقيضين، ككلمة "مأتم" التي تعني الاجتماع لمناسبة الأتراح، ولكن من يعود الى المعجم اللغوي يدرك أنّها تعني أيضاً مجمع الأفراح، توارى في الاستعمال معنى الفرح في الظلّ ولكن المعجم احتفظ لنا بهذه الثنائية الضدية. وهناك المشترك اللفظيّ أي الكلمة الواحدة التي تحمل عدّة دلالات مثل كلمة عين التي تعني النبع أو الجاسوس او جوهر الشيء أو الباصرة، وهناك المترادفات بل حتى الأخطاء اللغوية تؤخذ بالحسبان في تقرير مصير المنامات. فنحن نعرف احتمال وقوع التصحيف والتحريف في الكتابة، وهناك تفاسير لا تتبع سنّة العربية في قراءة الكلمات أي من اليمين الى اليسار وانما تتبع سنة اخرى هي قراءة الكلمة من اليسار الى اليمين، أي أنّ المعبّر قد يقرأ الكلام طرداً وعكساً. وقد يأخذ المعبّر شطراً من الكلمة لا الكلمة كلّها، بمعنى ان المنامات لا تتعامل مع الأشياء وإنّما مع أسمائها. وسلطان الأسماء يغلب في أمكنة كثيرة سلطان الأشياء. فنحن نستعيذ، أحياناً، من أسماء الأشياء لا من مكوّناتها لأن ما يعكّر صفو المعنى هو الاسم لا المسمّى.
وحتى لا يبقى كلامي معلقا في الهواء فإني سأستعين بما ورد في "تفسير الاحلام الكبير"  لابن سيرين شيخ المعبّرين العرب، دون منازع، والتفت إلى طريقته في تفسير بعض المنامات تفسيراً لغويّاً خالصاً.
في اللغة جناس وأشكال الجناس متعددة، هناك الجناس الكامل والناقص. وللجناس دور حاسم في فكفكة خيوط المنام. فما معنى الثريا في المنام؟ انها في الواقع تشير إلى نجم في الأعالي، اي أنّ مكانته الجغرافية السامية لا غبار عليها، إلاّ أن المنامات مرّغت هذا الكوكب بالرغام، فثمة في العربية كلمة الثرى أي التراب، والانسان حين ينتهي أجله يعود الى الثرى، والثرى على شبهٍ صوتي بالثريّا، ومن هنا فإنّ المعبر لم ير إلاّ الثرى في الثريّا، وعليه تحولت دلالة الثريّا، مناميّاً، من طبيعة نورانيّة وايجابية الى دلالة قاتمة ومخيّبة للظنّ ، والسبب يعود الى الطبيعة اللغوية للثريّا لا لأيّ عنصر آخر! وقد يرى المرء أنّه يعبر الصحراء، الصحراء ربع غير مستحبّ، فهي تعرض الانسان للتهلكة، ولكن للصحراء مترادفات كثيرة تشبه الكثبان المتحركة التي تلعب بمآل الرمال والدلالات، فأنت قد ترى الصحراء أو ترى أنك تعبرها ولكن تسميتها في المنام هي "المفازة". هنا، يتحوّل اسم مفازة بسحر ساحر أو بسحر لغويّ دلالة إيجابية تشير إلى الفوز ونيل المرغوب، وانتقال " من شدّة إلى رخاء، ومن ضيق إلى سعة، ومن ذنب إلى توبة، ومن خسران إلى ربح، ومن مرض إلى صحّة" بحسب ما يقول ابن سيرين.  ترى لو لم تكن كلمة "مفازة" من مترادفات الصحراء هل كان من الممكن أن يحتفظ المنام بمعناه؟
ولننظر كيف تعاملت المنامات مع الذهب، فالذهب شؤم، وموت، و"ذهاب" للممتلكات والأرواح، فمن يرى في المنام، على قولة ابن سيرين، أنّ عينيه من ذهب فعليه أن يتوقّع "ذهاب" بصره. وهل رأي ابن سيرين بالنعنع في المنام غير رأي لغويّ حين نراه يربط بين النعنع والموت! كيف تسلّل الموت إلى عروق النعنع الفوّاحة؟ أليس السبب هو اشتراك النعنع بأصوات تتصادى مع صوت النعيّ. "النون" و"العين"  الموجودان في النعيّ غيّرا مصير النعنع  في المنام العربيّ!
وبالنسبة للورد فإنّ عاملين يدخلان في التفسير: عاملاً صوتياً وعاملاً معجمياً. فمن معاني الورد في المنام "الإنجاب"، ولكن كيف اندسّ معنى الإنجاب الى الورد؟ ان السبب هو ما يعرف في العربية بالإبدال الصوتيّ أي إبدال حرف بحرف، لقد أُبدلت الراء الموجودة في الورد بحرف اللام فصار الورد ولداً، أمّا معنى عودة غائب أو استلام رسالة من غائب فمردّه إلى احتمال أن تتحوّل الوردة إلى فعل "وَرَدَ"، ومن هنا صار من الممكن أن ترى في الورد " ورود غائب أو كتاب".  ورؤية الخرنوب لا تبشّر بالخير لأنّها تعني الخراب وهو موجود في المقطع الاوّل والمقطع الثالث(خر...ب) من اسمها السيء الحظّ  المناميّ في العربية!
وقد يكون تفسير المنام ابن حكاية مرتبطة بالاسم  فبحسب ما ترويه كتب قصص الانبياء فإنّ الوقوف بعرفة  يدلّ على الاجتماع بالحبيب المفارق، والألف المجانب. لأنّ آدم التقى بحوّاء بعد الافتراق بعرفة، وبذاك سمّيت عرفة، لأنّهما به تعارفا، على ما يقول ابن سيرين.
بلال عبد الهادي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق