كونفوشيوس وحياتنا المعاصرة (1-2)
حسين إسماعيل
كونفوشيوس هو أول من بلور الفكر الصيني في صياغات منهجية وقوالب فكرية متكاملة أُطلق عليها المدرسة الكونفوشية، التي كانت أول فكر منهجي في تاريخ الثقافة الصينية وأثّرت في مجتمع وثقافة وحياة الصينيين لفترة استمرت أكثر من ألفي عام. فعندما ولد فيلسوف الصين الكبير كانت هناك مدارس وكان هناك فكر، بل إن كونغ فو تسي، المعروف خارج الصين باسم كونفوشيوس، شرع وهو في العشرين من عمره يدرس المهارات الأساسية الست في الصين القديمة، وهي الثقافة والعلاقات العامة والعسكرية والووشو (الكونغ فو) والكتابة والحساب؛ التي كان يجب توفرها في من يريد أن يشتغل بالسياسة. معنى ذلك أن الصين عرفت قبل كونفوشيوس بزمن طويل مدارس فكرية أرست الأسس لمهارات فكرية ينبغي أن يتعلمها ويجيدها من أراد أن يقتحم عالم الفكر والسياسة ويمارس العمل السياسي في المجتمع الصيني القديم. وكما هو الحال في تاريخ الأمم الأخرى، كان ارتباط مدرسة فكرية معينة بسلطة الدولة يضمن لها الاستمرار والقوة والتطور، وهذا بالضبط ما حدث مع المدرسة الكونفوشية في الصين، التي وضع أصولها كونفوشيوس (551- 479 ق م) خلال فترة الربيع والخريف (770-476 ق م)، وطورها من بعده الفلاسفة الكونفوشيون. ففي عام 134 قبل الميلاد استطاع العالم الكونفوشي دونغ تشونغ شو (179-104 ق م) إقناع الإمبراطور هان وو دي (على العرش 140-87 ق م) إمبراطور أسرة هان الغربية (140ق م – 9 م) بجعل الكونفوشية الفكر الرسمي للدولة. وهكذا أصبح الفكر الكونفوشي الفلسفة المسيطرة في الصين لفترة طويلة، وامتد تأثيرها على كافة مناحي الحياة.
خرج كونفوشيوس إلى النور في عصر عمته الفوضى وانحدرت فيه القيم الأخلاقية في مجتمع دويلة لو (مقاطعة شاندونغ حاليا)، إبان عصر الربيع والخريف (770- 476 ق.م). وهو سليل أسرة من النبلاء، ولكنها كانت فقيرة عندما رُزقَت به. وزاد الأمر سوءا أن والده مات وهو في الثالثة من عمره، بينما ماتت أمه وهو في ربيعه السابع عشر. ولا شك أن هذه الظروف جعلت الفتى كونغ فو تسي، أكثر إصرارا على التفوق والنجاح، وبالفعل أقبل على دراسة العلوم التي كانت وسيلة ارتقاء السلم الاجتماعي، كما أسلفنا. ووضع كونفوشيوس أمامه هدف العودة بالمجتمع إلى ما كان عليه من نزاهة وأمانة في بداية أسرة تشو الغربية (القرن الحادي عشر ق. م – 771 ق.م) وإعادة نظام الدرجات الاجتماعية الهرمي الهيراركي.
في سن الثلاثين استوعب كونفوشيوس المهارات الست التي أشرنا إليها، والتي كانت مؤهلات ممارسة العمل السياسي، وازدادت شهرته وسعى إليه كثيرون طلبا للعلم، فأنشأ مدرسة خاصة في داره، هي الأولى من نوعها في الصين، ومارس فيها مهنة التدريس، من أجل نشر الثقافة التقليدية لأسرة تشو وإعداد تلاميذه وفقا للمُثل التي آمن بها ودعا إليها، على أساس أن هؤلاء سيصبحون يوما أعمدة المجتمع وقادة الفكر من خلال المناصب التي سيشغلونها. اعتبر كونفوشويس التدريس سبيلا آخر للانضمام إلى النخبة السياسية، ولهذا أمضى حياته كلها ما بين التدريس والعمل السياسي، حيث شغل منصب المسؤول عن دائرة الشؤون القانونية في حكومة دويلة لو، وكان عمره خمسين عاما، ولكنه ترك العمل بالحكومة بعد مكيدة سياسية دبرها له الحاسدون والكارهون. بعد استقالته من المنصب الحكومي، شرع كونفوشيوس يتجول مع تلاميذه بين الدويلات، واستمر هكذا لمدة أربع عشرة سنة، سعيا لإصلاح المجتمع وتحقيق المُثل التي دعا إليها، ولكن مسعاه لم ينجح، إذ لم يفلح المصلح الاجتماعي في تحقيق ما أراده، فأقفل عائدا إلى دويلة لو، حيث مات ودفن بها بعد ثلاث سنوات.
لقد مارس كونفوشيوس طوال حياته السياسة والتعليم، بكل ما بين الُمثل السياسية والواقع الاجتماعي القاسي من تناقضات، وحاول أن يحقق المُثل التي آمن بها على أرض الواقع في المجتمع، وبذل من أجل ذلك جهودا مضنية، برغم علمه أن تحقيق هذه المُثل أمر صعب. لم ينجح كونفوشيوس في عالم السياسة ولكنه أصبح أعظم معلم في تاريخ الصين، فقد كان مقبلا على التعليم داعيا له، وهو القائل: "إذا كان ثمة ثلاثة أفراد يسيرون معا فحتما واحد منهم معلم لي".
قبل كونفوشيوس، كان التعليم حكرا على أبناء الطبقات العليا في المجتمع، ولكن كونفوشيوس قبل في المدرسة الخاصة غير الحكومية التي أقامها، تلاميذه بدون النظر إلى أصولهم العائلية، وأعد أكثر من ثلاثة آلاف تلميذ، وزاد عدد المتفوقين منهم على السبعين. وربما يبدو للبعض أن هذا يتناقض مع دعوته إلى الهيراركية الهرمية الاجتماعية ولكن ذلك يؤكد أن كونفوشيوس اعتبر التعليم، مثل الماء والهواء، حقا لكل إنسان بغض النظر عن وضعه الاجتماعي أو طبقته، ولعله أول صيني اعتبر التعليم أحد الحقوق الأساسية للإنسان. ويرجع لكونفوشيوس أيضا الفضل في وضع هيكل النظام التعليمي القديم في الصين، من حيث أهدافه التربوية ومناهجه الدراسية وأساليبه التعليمية. لقد سعى إلى تعليم تلاميذه الأخلاق والكفاءة، اقتناعا منه بأن هدف التعليم هو بناء شخص كريم الخلق. كان يطلب من تلاميذه أن يقرءوا أمهات الكتب ثم يشرحها لهم بصورة إبداعية، واستطاع أن يعلم تلاميذه من الواقع ويثقفهم وفقا لاستعدادات وإمكانات كل منهم، وكان يوقظ ضمائرهم ويجعلهم يتعلمون ذاتيا ويتنافسون في الدراسة، ويبذلون أقصى الجهود في سبيل التقدم. كان منطلق دعوة كونفوشيوس إلى "حق الجميع في التعليم"، هو اقتناعه بأن جميع البشر خلقوا متساويين، ولكنهم يختلفون عند الممارسة نتيجة تأثير البيئة والعادات المختلفة، ولذلك فإن كل فرد قادر على الارتقاء بنفسه عن طريق التربية والتعليم.
المبادئ الأساسية للكونفوشية هي الولاء وطاعة الأهل والاستقامة والسلطة المطلقة للحاكم على المحكوم وللأب على الابن وللزوج على الزوجة، إضافة إلى حب الخير والحكمة والإيمان، وقد نَفَذت تلك المبادئ في حياة وتفكير وعادات الصينيين. وتحتل التربية الأخلاقية مكانة محورية في النظام التعليمي الكونفوشي، أما التربية في المجالات الأخرى فتحتل مكانة ثانوية، حيث رأى كونفوشيوس أيضا أن الأخلاق ينبغي أن تكون الأساس لمن يريد أن يمارس العمل السياسي، بينما تأتي المهارات الأخرى في مراتب تالية للأساس الأخلاقي. وقال كونفوشيوس: "على المعلم أن يُدرّسَ بدون ملل ويُعلِم الناس دون سأم". وقال: "إن الذي يستطيع، بمحاكاة القديم، أن يكتسب معلومات عن الجديد يصلح أن يكون معلما." ودعا كونفوشوس إلى أن يكون التعليم بالقول والفعل، وأن يدرس المعلم والتلاميذ معا ويتعاونون ويتقدمون معا، وأن يمارس المعلم التدريس والتفكير في نفس الوقت، وهو ذات المعنى الذي دعى إليه العالم التربوي الصيني تشو يونغ شين. وشجع كونفوشيوس الطلاب على تجاوز معلميهم في العلم والمعرفة، فقال: "احترم الشباب، فمن يُدريك، لعلهم يصبحون يوما، ما أنت عليه الآن"، ودعا كونفوشيوس المسؤول الذي ينجز مهامه إلى تكريس نفسه للدراسة، والطالب الذي يكمل دراساته إلى تكريس نفسه لواجباته كمسؤول". وقد كانت هذه الفكرة ذات أهمية خاصة في تاريخ الصين، حيث أنها كانت الإرهاصات الأولى لنظام الامتحان الإمبراطوري الذي ظهر أولا في زمن أسرة سوي ( 581 - 618 م)، وكان وسيلة اختيار الموظفين الحكوميين واستمر حتى زمن آخر أسرة إمبراطورية في تاريخ الصين، أسرة تشينغ.
مفهوم رن، الذي قد لا يمكن ترجمته ترجمة دقيقة إلى لغة أخرى، وقد يعني المروءة أو النزوع إلى الخير، واحد من المفاهيم الأساسية للكونفوشية، بل مفهوم محوري في الثقافة الكونفوشة. المعنى الجوهري للنزوع إلى الخير أو المروءة هو أن تحب الآخرين. الإنسان، أولا يجب أن يحب أسرته، ومن هنا يكون توسيع مدى حبه للعالم كله. ويدعو مفهوم النزوع إلى الخير البشر للتعاطف مع بعضهم البعض. فهو مفهوم يدمج بين الوعي بالذات وفهم الطبيعة الإنسانية أيضا كروح عميقة للنزعة الإنسانية. وجوهر النزوع إلى الخير هو الاعتراف بالقيمة الحقيقية للآخرين، والقدرة على أن ترى أنهم لا يختلفون فعلا عن نفسك. وتنقل كتب التراث الصيني عن المفكر الكونفوشي الكبير منغ تسي، المعروف خارج الصين باسم منشيوس (372-289 ق م)، أنه حكى قصة عن الملك تشي شوان، وهو حاكم دويلة تشي خلال فترة الدويلات المتحاربة (475- 221 ق.م)، تقول إن الملك صادف في إحدى جولاته جماعة من الناس يهمون بذبح بقرة، فتألم لمشهد الحيوان الذي يرتعد خوفا، فأمر بوقف عملية الذبح. وعلق منغ تسي على ذلك بأن تصرف الملك يجسد مبدأ (رن)، أي المروءة أو النزوع إلى الخير. كما أن الرؤية الكونفوشية للنزوع إلى الخير تؤكد على التربية الذاتية لتحقيق تناغم الفرد مع نفسه وتنظيم الدولة. ومحور منظومة المعايير الخلقية التي طرحها كونفوشيوس هو الرحمة وحب الناس. وقد دعا كونفوشيوس إلى تهذيب أبناء الشعب بالآداب الاجتماعية لغرس الرحمة في قلوبهم وإثارة اهتمامهم بالمراتب الهيراركية أي الهرمية الاجتماعية، في سبيل الحفاظ على انضباط ووئام الأسرة والمجتمع. كما اهتم كونفوشيوس بالأخلاق بدلا من المصلحة الخاصة، مؤكدا على دور الأخلاق في حكم البلاد. ودعا إلى الحكم الرحيم وتحقيق الخير الاقتصادي لأبناء الشعب والعقاب الخفيف والتعليم السياسي لأبناء الشعب.
وبعد النزوع إلى الخير يأتي مفهوم التوازن والتناغم (تشونغخه)، ويلخص كونفوشيوس هذا المفهوم في فلسفته حول مبدأ الوسطية. يعتقد كونفوشيوس أن لكل ظاهرة وجهين متعارضين يوجدان في حالة من التوازن النسبي. عندما يتجاوز التوتر بين الجانبين حدا معينا، يضطرب هذا الاعتماد المتبادل مما يسفر عن ظواهر شديدة وربما عكس الوضع الأصلي. وينبغي أن يكون هدف الإدارة الحكومية هو استعادة الحالة الأصلية للتوازن النسبي والحفاظ عليها، وهذا يتحقق بتوظيف مبدأ التوسط للتسوية بين الجانبين المتطرفين. هذا التوسط يجب أو يُدى؟ ( ربما المقصود يؤدى) بحيادية، وبروح من الاعتدال والتعاون. ومن الضروري اللجوء إلى إجراءات لا تكون لينة للغاية ولا صارمة جدا، من أجل الحفاظ على النظام ومنع مزيد من النزاعات.
لم يتحدث كونفوشيوس عن أعاجيب وأعمال قوة واضطرابات أو أرواح، وإنما أوضح العلاقات الاجتماعية، فمحور الكونفوشية كما أسلفنا هو النزوع إلى الخير، التي حددها كونفوشيوس بشكل أساسي باحترام الأبوين والأخوة والأخوات. ولكن مفهوم النزوع إلى الخير في الكونفوشية لا يقتصر على الأخلاق فحسب، وإنما أيضا يشمل معاملة الآخرين باحترام، كما أنه، المرشد في ممارسة السياسية ومعيار السلوك الإنساني. وحدد كونفوشيوس طريقتين لإقامة الدولة على أساس النزوع إلى الخير؛ الأولى، الأمانة والتسامح، والثانية هي الالتزام بالشعائر والطقوس. وقد شرح الطريقة الأولى بالقول: "إذا أردت أن أُقيم مَثلا طيبا في حياتي، أساعد الآخرين على إقامة المثل الطيب، وإذا حاولت أن أحقق المثل، أساعد الآخرين على تحقيقه." وقد قال المفكر الكونفوشي، منشيوس: "إذا كنت كبيرا، وأريد أن يحترمني الناس، عليّ أن أحترم الآخرين أولا، وإذا كنت طفلا وأريد أن يحبني الناس، علي أن أحب الآخرين أولا." واعتقد كونفوشيوس أنه ينبغي على المرء أن يسيطر على نفسه ويرتقي بأخلاقه إلى الدرجة العالية ويحقق ذلك بأفعاله، فيستطيع أن يفيد الآخرين في تحقيق الخير. وإذا تناقضت مصالح الحياة والأخلاق لا يجوز التضحية بالأخلاق من أجل مصالح الحياة، فقال: "لا تدع أحدا يسبقك إلى فعل الخير، حتى ولو كان مُعلمك". وحسب الفكر الكونفوشي، إذا ارتقى المرء إلى منزلة طيبة، استطاع أن يفعل ما يشاء دون أن يناقض الأخلاق، فالفقراء يهتمون بأخلاقهم وبعد أن يصبحوا أثرياء يخدمون المجتمع بثروتهم.
وهكذا فإن الفكر الكونفوشي اشتمل على مبادئ الأخلاق والتربية والسياسة في إطار منظومة كاملة وضعها كونفوشيوس، وعلى مدى سنوات طويلة ظلت المثل العليا لكونفوشيوس الهدف الذي يسعى إليه الصينيون جيلا بعد جيل.
كان كونفوشيوس يلقي تعاليمه على تلاميذه ويشرح لهم ولم يدون أي مؤلف في حياته، وبعد وفاته، جمع طلابه كلماته في كتاب ((المحاورات)).
هناك ستة مؤلفات تنسب للمدرسة الكونفوشية هي "الشعر" (شي)، و"الوثائق" (شو)، و"الطقوس" (لي)، و"التنجيم" (يي)، و"الموسيقى" (يويه)، و"الربيع والخريف" (تشون تشيو). كتاب "الشعر" عبارة عن ديوان للشعر الصيني. وكتاب "التنجيم" يشتمل على حِكَم سياسية وفلسفة حياة الإنسان. كتاب "الوثائق"، عبارة عن جمع لوثائق أسرات شيا وشانغ وتشو. أما كتاب "الطقوس" فهو تسجيل للآداب والمراسم التي سادت في فترة أسرة تشو، وهي الفترة التي كانت تمثل النموذج الأمثل للسياسة والمجتمع في الدولة. كتاب "الموسيقى" يتحدث عن النظريات الموسيقية في عصره، ولكن هذا الكتاب اندثر. وكتاب "الربيع والخريف" عبارة عن حوليات للأحداث الهامة لدويلة لو.
والحقيقة أن الشهرة والمكانة التي نالها كونفوشيوس بعد وفاته تفوق بكثير ما حققه خلال حياته، ففي عام 195 قبل الميلاد، أي بعد وفاته بنحو مائتين وأربع وثمانين سنة، عندما مر الإمبراطور قاو تسو، حاكم أسرة هان الغربية ( 206 ق.م – 24 م)، بمنطقة دويلة لو، مسقط رأس ومدفن كونفوشيوس، عبر عن الاحترام لهذا المعلم وطلب من وزرائه التعبير عن الاحترام له أولا قبل ممارسة العمل السياسي، في تقليد يشبه أداء اليمين القانونية هذه الأيام. وفي عصر الإمبراطور وو دي لأسرة هان الغربية، وصلت الكونفوشية إلى قمتها في الصين بعد أن حظر البلاط كافة المدارس الفكرية إلا الكونفوشية، التي أصبحت الفكر الرسمي للدولة. وقد أدى تبجيل الصينيين لكونفوشيوس إلى تأليهه تدريجيا. وكان من بين ألقابه العديدة سيد نشر الثقافة، المنجز العظيم، الحكيم المطلق، المعلم الأول، والحكيم. وقد توارث أسلافه ألقاب الشرف التي منحهم إياها العديد من الأباطرة في تاريخ الصين. في عام 1055م، نال حفيده من الجيل السادس والأربعين لقب أمير يانغشنغ، الذي يعني "المغمور بالقداسة". وأصبح مقر إقامة أسرة كونفوشيوس أكبر دار رسمية في الصين، لا يسبقها إلا مقر إقامة الإمبراطور. وقد احتفظ أسلاف كونفوشيوس بهذه المكانة على مدى السنوات الثمانمائة والثمانين اللاحقة، حيث تقلد أفراد ستة وثلاثين جيلا منهم مناصب حكومية رفيعة. وعشيرة كونفوشيوس هي الأسرة الوحيدة في تاريخ الصين التي لم تفقد مكانتها النبيلة مع صعود وانحطاط الأسرات الإمبراطورية.
حسين إسماعيل
كونفوشيوس هو أول من بلور الفكر الصيني في صياغات منهجية وقوالب فكرية متكاملة أُطلق عليها المدرسة الكونفوشية، التي كانت أول فكر منهجي في تاريخ الثقافة الصينية وأثّرت في مجتمع وثقافة وحياة الصينيين لفترة استمرت أكثر من ألفي عام. فعندما ولد فيلسوف الصين الكبير كانت هناك مدارس وكان هناك فكر، بل إن كونغ فو تسي، المعروف خارج الصين باسم كونفوشيوس، شرع وهو في العشرين من عمره يدرس المهارات الأساسية الست في الصين القديمة، وهي الثقافة والعلاقات العامة والعسكرية والووشو (الكونغ فو) والكتابة والحساب؛ التي كان يجب توفرها في من يريد أن يشتغل بالسياسة. معنى ذلك أن الصين عرفت قبل كونفوشيوس بزمن طويل مدارس فكرية أرست الأسس لمهارات فكرية ينبغي أن يتعلمها ويجيدها من أراد أن يقتحم عالم الفكر والسياسة ويمارس العمل السياسي في المجتمع الصيني القديم. وكما هو الحال في تاريخ الأمم الأخرى، كان ارتباط مدرسة فكرية معينة بسلطة الدولة يضمن لها الاستمرار والقوة والتطور، وهذا بالضبط ما حدث مع المدرسة الكونفوشية في الصين، التي وضع أصولها كونفوشيوس (551- 479 ق م) خلال فترة الربيع والخريف (770-476 ق م)، وطورها من بعده الفلاسفة الكونفوشيون. ففي عام 134 قبل الميلاد استطاع العالم الكونفوشي دونغ تشونغ شو (179-104 ق م) إقناع الإمبراطور هان وو دي (على العرش 140-87 ق م) إمبراطور أسرة هان الغربية (140ق م – 9 م) بجعل الكونفوشية الفكر الرسمي للدولة. وهكذا أصبح الفكر الكونفوشي الفلسفة المسيطرة في الصين لفترة طويلة، وامتد تأثيرها على كافة مناحي الحياة.
خرج كونفوشيوس إلى النور في عصر عمته الفوضى وانحدرت فيه القيم الأخلاقية في مجتمع دويلة لو (مقاطعة شاندونغ حاليا)، إبان عصر الربيع والخريف (770- 476 ق.م). وهو سليل أسرة من النبلاء، ولكنها كانت فقيرة عندما رُزقَت به. وزاد الأمر سوءا أن والده مات وهو في الثالثة من عمره، بينما ماتت أمه وهو في ربيعه السابع عشر. ولا شك أن هذه الظروف جعلت الفتى كونغ فو تسي، أكثر إصرارا على التفوق والنجاح، وبالفعل أقبل على دراسة العلوم التي كانت وسيلة ارتقاء السلم الاجتماعي، كما أسلفنا. ووضع كونفوشيوس أمامه هدف العودة بالمجتمع إلى ما كان عليه من نزاهة وأمانة في بداية أسرة تشو الغربية (القرن الحادي عشر ق. م – 771 ق.م) وإعادة نظام الدرجات الاجتماعية الهرمي الهيراركي.
في سن الثلاثين استوعب كونفوشيوس المهارات الست التي أشرنا إليها، والتي كانت مؤهلات ممارسة العمل السياسي، وازدادت شهرته وسعى إليه كثيرون طلبا للعلم، فأنشأ مدرسة خاصة في داره، هي الأولى من نوعها في الصين، ومارس فيها مهنة التدريس، من أجل نشر الثقافة التقليدية لأسرة تشو وإعداد تلاميذه وفقا للمُثل التي آمن بها ودعا إليها، على أساس أن هؤلاء سيصبحون يوما أعمدة المجتمع وقادة الفكر من خلال المناصب التي سيشغلونها. اعتبر كونفوشويس التدريس سبيلا آخر للانضمام إلى النخبة السياسية، ولهذا أمضى حياته كلها ما بين التدريس والعمل السياسي، حيث شغل منصب المسؤول عن دائرة الشؤون القانونية في حكومة دويلة لو، وكان عمره خمسين عاما، ولكنه ترك العمل بالحكومة بعد مكيدة سياسية دبرها له الحاسدون والكارهون. بعد استقالته من المنصب الحكومي، شرع كونفوشيوس يتجول مع تلاميذه بين الدويلات، واستمر هكذا لمدة أربع عشرة سنة، سعيا لإصلاح المجتمع وتحقيق المُثل التي دعا إليها، ولكن مسعاه لم ينجح، إذ لم يفلح المصلح الاجتماعي في تحقيق ما أراده، فأقفل عائدا إلى دويلة لو، حيث مات ودفن بها بعد ثلاث سنوات.
لقد مارس كونفوشيوس طوال حياته السياسة والتعليم، بكل ما بين الُمثل السياسية والواقع الاجتماعي القاسي من تناقضات، وحاول أن يحقق المُثل التي آمن بها على أرض الواقع في المجتمع، وبذل من أجل ذلك جهودا مضنية، برغم علمه أن تحقيق هذه المُثل أمر صعب. لم ينجح كونفوشيوس في عالم السياسة ولكنه أصبح أعظم معلم في تاريخ الصين، فقد كان مقبلا على التعليم داعيا له، وهو القائل: "إذا كان ثمة ثلاثة أفراد يسيرون معا فحتما واحد منهم معلم لي".
قبل كونفوشيوس، كان التعليم حكرا على أبناء الطبقات العليا في المجتمع، ولكن كونفوشيوس قبل في المدرسة الخاصة غير الحكومية التي أقامها، تلاميذه بدون النظر إلى أصولهم العائلية، وأعد أكثر من ثلاثة آلاف تلميذ، وزاد عدد المتفوقين منهم على السبعين. وربما يبدو للبعض أن هذا يتناقض مع دعوته إلى الهيراركية الهرمية الاجتماعية ولكن ذلك يؤكد أن كونفوشيوس اعتبر التعليم، مثل الماء والهواء، حقا لكل إنسان بغض النظر عن وضعه الاجتماعي أو طبقته، ولعله أول صيني اعتبر التعليم أحد الحقوق الأساسية للإنسان. ويرجع لكونفوشيوس أيضا الفضل في وضع هيكل النظام التعليمي القديم في الصين، من حيث أهدافه التربوية ومناهجه الدراسية وأساليبه التعليمية. لقد سعى إلى تعليم تلاميذه الأخلاق والكفاءة، اقتناعا منه بأن هدف التعليم هو بناء شخص كريم الخلق. كان يطلب من تلاميذه أن يقرءوا أمهات الكتب ثم يشرحها لهم بصورة إبداعية، واستطاع أن يعلم تلاميذه من الواقع ويثقفهم وفقا لاستعدادات وإمكانات كل منهم، وكان يوقظ ضمائرهم ويجعلهم يتعلمون ذاتيا ويتنافسون في الدراسة، ويبذلون أقصى الجهود في سبيل التقدم. كان منطلق دعوة كونفوشيوس إلى "حق الجميع في التعليم"، هو اقتناعه بأن جميع البشر خلقوا متساويين، ولكنهم يختلفون عند الممارسة نتيجة تأثير البيئة والعادات المختلفة، ولذلك فإن كل فرد قادر على الارتقاء بنفسه عن طريق التربية والتعليم.
المبادئ الأساسية للكونفوشية هي الولاء وطاعة الأهل والاستقامة والسلطة المطلقة للحاكم على المحكوم وللأب على الابن وللزوج على الزوجة، إضافة إلى حب الخير والحكمة والإيمان، وقد نَفَذت تلك المبادئ في حياة وتفكير وعادات الصينيين. وتحتل التربية الأخلاقية مكانة محورية في النظام التعليمي الكونفوشي، أما التربية في المجالات الأخرى فتحتل مكانة ثانوية، حيث رأى كونفوشيوس أيضا أن الأخلاق ينبغي أن تكون الأساس لمن يريد أن يمارس العمل السياسي، بينما تأتي المهارات الأخرى في مراتب تالية للأساس الأخلاقي. وقال كونفوشيوس: "على المعلم أن يُدرّسَ بدون ملل ويُعلِم الناس دون سأم". وقال: "إن الذي يستطيع، بمحاكاة القديم، أن يكتسب معلومات عن الجديد يصلح أن يكون معلما." ودعا كونفوشوس إلى أن يكون التعليم بالقول والفعل، وأن يدرس المعلم والتلاميذ معا ويتعاونون ويتقدمون معا، وأن يمارس المعلم التدريس والتفكير في نفس الوقت، وهو ذات المعنى الذي دعى إليه العالم التربوي الصيني تشو يونغ شين. وشجع كونفوشيوس الطلاب على تجاوز معلميهم في العلم والمعرفة، فقال: "احترم الشباب، فمن يُدريك، لعلهم يصبحون يوما، ما أنت عليه الآن"، ودعا كونفوشيوس المسؤول الذي ينجز مهامه إلى تكريس نفسه للدراسة، والطالب الذي يكمل دراساته إلى تكريس نفسه لواجباته كمسؤول". وقد كانت هذه الفكرة ذات أهمية خاصة في تاريخ الصين، حيث أنها كانت الإرهاصات الأولى لنظام الامتحان الإمبراطوري الذي ظهر أولا في زمن أسرة سوي ( 581 - 618 م)، وكان وسيلة اختيار الموظفين الحكوميين واستمر حتى زمن آخر أسرة إمبراطورية في تاريخ الصين، أسرة تشينغ.
مفهوم رن، الذي قد لا يمكن ترجمته ترجمة دقيقة إلى لغة أخرى، وقد يعني المروءة أو النزوع إلى الخير، واحد من المفاهيم الأساسية للكونفوشية، بل مفهوم محوري في الثقافة الكونفوشة. المعنى الجوهري للنزوع إلى الخير أو المروءة هو أن تحب الآخرين. الإنسان، أولا يجب أن يحب أسرته، ومن هنا يكون توسيع مدى حبه للعالم كله. ويدعو مفهوم النزوع إلى الخير البشر للتعاطف مع بعضهم البعض. فهو مفهوم يدمج بين الوعي بالذات وفهم الطبيعة الإنسانية أيضا كروح عميقة للنزعة الإنسانية. وجوهر النزوع إلى الخير هو الاعتراف بالقيمة الحقيقية للآخرين، والقدرة على أن ترى أنهم لا يختلفون فعلا عن نفسك. وتنقل كتب التراث الصيني عن المفكر الكونفوشي الكبير منغ تسي، المعروف خارج الصين باسم منشيوس (372-289 ق م)، أنه حكى قصة عن الملك تشي شوان، وهو حاكم دويلة تشي خلال فترة الدويلات المتحاربة (475- 221 ق.م)، تقول إن الملك صادف في إحدى جولاته جماعة من الناس يهمون بذبح بقرة، فتألم لمشهد الحيوان الذي يرتعد خوفا، فأمر بوقف عملية الذبح. وعلق منغ تسي على ذلك بأن تصرف الملك يجسد مبدأ (رن)، أي المروءة أو النزوع إلى الخير. كما أن الرؤية الكونفوشية للنزوع إلى الخير تؤكد على التربية الذاتية لتحقيق تناغم الفرد مع نفسه وتنظيم الدولة. ومحور منظومة المعايير الخلقية التي طرحها كونفوشيوس هو الرحمة وحب الناس. وقد دعا كونفوشيوس إلى تهذيب أبناء الشعب بالآداب الاجتماعية لغرس الرحمة في قلوبهم وإثارة اهتمامهم بالمراتب الهيراركية أي الهرمية الاجتماعية، في سبيل الحفاظ على انضباط ووئام الأسرة والمجتمع. كما اهتم كونفوشيوس بالأخلاق بدلا من المصلحة الخاصة، مؤكدا على دور الأخلاق في حكم البلاد. ودعا إلى الحكم الرحيم وتحقيق الخير الاقتصادي لأبناء الشعب والعقاب الخفيف والتعليم السياسي لأبناء الشعب.
وبعد النزوع إلى الخير يأتي مفهوم التوازن والتناغم (تشونغخه)، ويلخص كونفوشيوس هذا المفهوم في فلسفته حول مبدأ الوسطية. يعتقد كونفوشيوس أن لكل ظاهرة وجهين متعارضين يوجدان في حالة من التوازن النسبي. عندما يتجاوز التوتر بين الجانبين حدا معينا، يضطرب هذا الاعتماد المتبادل مما يسفر عن ظواهر شديدة وربما عكس الوضع الأصلي. وينبغي أن يكون هدف الإدارة الحكومية هو استعادة الحالة الأصلية للتوازن النسبي والحفاظ عليها، وهذا يتحقق بتوظيف مبدأ التوسط للتسوية بين الجانبين المتطرفين. هذا التوسط يجب أو يُدى؟ ( ربما المقصود يؤدى) بحيادية، وبروح من الاعتدال والتعاون. ومن الضروري اللجوء إلى إجراءات لا تكون لينة للغاية ولا صارمة جدا، من أجل الحفاظ على النظام ومنع مزيد من النزاعات.
لم يتحدث كونفوشيوس عن أعاجيب وأعمال قوة واضطرابات أو أرواح، وإنما أوضح العلاقات الاجتماعية، فمحور الكونفوشية كما أسلفنا هو النزوع إلى الخير، التي حددها كونفوشيوس بشكل أساسي باحترام الأبوين والأخوة والأخوات. ولكن مفهوم النزوع إلى الخير في الكونفوشية لا يقتصر على الأخلاق فحسب، وإنما أيضا يشمل معاملة الآخرين باحترام، كما أنه، المرشد في ممارسة السياسية ومعيار السلوك الإنساني. وحدد كونفوشيوس طريقتين لإقامة الدولة على أساس النزوع إلى الخير؛ الأولى، الأمانة والتسامح، والثانية هي الالتزام بالشعائر والطقوس. وقد شرح الطريقة الأولى بالقول: "إذا أردت أن أُقيم مَثلا طيبا في حياتي، أساعد الآخرين على إقامة المثل الطيب، وإذا حاولت أن أحقق المثل، أساعد الآخرين على تحقيقه." وقد قال المفكر الكونفوشي، منشيوس: "إذا كنت كبيرا، وأريد أن يحترمني الناس، عليّ أن أحترم الآخرين أولا، وإذا كنت طفلا وأريد أن يحبني الناس، علي أن أحب الآخرين أولا." واعتقد كونفوشيوس أنه ينبغي على المرء أن يسيطر على نفسه ويرتقي بأخلاقه إلى الدرجة العالية ويحقق ذلك بأفعاله، فيستطيع أن يفيد الآخرين في تحقيق الخير. وإذا تناقضت مصالح الحياة والأخلاق لا يجوز التضحية بالأخلاق من أجل مصالح الحياة، فقال: "لا تدع أحدا يسبقك إلى فعل الخير، حتى ولو كان مُعلمك". وحسب الفكر الكونفوشي، إذا ارتقى المرء إلى منزلة طيبة، استطاع أن يفعل ما يشاء دون أن يناقض الأخلاق، فالفقراء يهتمون بأخلاقهم وبعد أن يصبحوا أثرياء يخدمون المجتمع بثروتهم.
وهكذا فإن الفكر الكونفوشي اشتمل على مبادئ الأخلاق والتربية والسياسة في إطار منظومة كاملة وضعها كونفوشيوس، وعلى مدى سنوات طويلة ظلت المثل العليا لكونفوشيوس الهدف الذي يسعى إليه الصينيون جيلا بعد جيل.
كان كونفوشيوس يلقي تعاليمه على تلاميذه ويشرح لهم ولم يدون أي مؤلف في حياته، وبعد وفاته، جمع طلابه كلماته في كتاب ((المحاورات)).
هناك ستة مؤلفات تنسب للمدرسة الكونفوشية هي "الشعر" (شي)، و"الوثائق" (شو)، و"الطقوس" (لي)، و"التنجيم" (يي)، و"الموسيقى" (يويه)، و"الربيع والخريف" (تشون تشيو). كتاب "الشعر" عبارة عن ديوان للشعر الصيني. وكتاب "التنجيم" يشتمل على حِكَم سياسية وفلسفة حياة الإنسان. كتاب "الوثائق"، عبارة عن جمع لوثائق أسرات شيا وشانغ وتشو. أما كتاب "الطقوس" فهو تسجيل للآداب والمراسم التي سادت في فترة أسرة تشو، وهي الفترة التي كانت تمثل النموذج الأمثل للسياسة والمجتمع في الدولة. كتاب "الموسيقى" يتحدث عن النظريات الموسيقية في عصره، ولكن هذا الكتاب اندثر. وكتاب "الربيع والخريف" عبارة عن حوليات للأحداث الهامة لدويلة لو.
والحقيقة أن الشهرة والمكانة التي نالها كونفوشيوس بعد وفاته تفوق بكثير ما حققه خلال حياته، ففي عام 195 قبل الميلاد، أي بعد وفاته بنحو مائتين وأربع وثمانين سنة، عندما مر الإمبراطور قاو تسو، حاكم أسرة هان الغربية ( 206 ق.م – 24 م)، بمنطقة دويلة لو، مسقط رأس ومدفن كونفوشيوس، عبر عن الاحترام لهذا المعلم وطلب من وزرائه التعبير عن الاحترام له أولا قبل ممارسة العمل السياسي، في تقليد يشبه أداء اليمين القانونية هذه الأيام. وفي عصر الإمبراطور وو دي لأسرة هان الغربية، وصلت الكونفوشية إلى قمتها في الصين بعد أن حظر البلاط كافة المدارس الفكرية إلا الكونفوشية، التي أصبحت الفكر الرسمي للدولة. وقد أدى تبجيل الصينيين لكونفوشيوس إلى تأليهه تدريجيا. وكان من بين ألقابه العديدة سيد نشر الثقافة، المنجز العظيم، الحكيم المطلق، المعلم الأول، والحكيم. وقد توارث أسلافه ألقاب الشرف التي منحهم إياها العديد من الأباطرة في تاريخ الصين. في عام 1055م، نال حفيده من الجيل السادس والأربعين لقب أمير يانغشنغ، الذي يعني "المغمور بالقداسة". وأصبح مقر إقامة أسرة كونفوشيوس أكبر دار رسمية في الصين، لا يسبقها إلا مقر إقامة الإمبراطور. وقد احتفظ أسلاف كونفوشيوس بهذه المكانة على مدى السنوات الثمانمائة والثمانين اللاحقة، حيث تقلد أفراد ستة وثلاثين جيلا منهم مناصب حكومية رفيعة. وعشيرة كونفوشيوس هي الأسرة الوحيدة في تاريخ الصين التي لم تفقد مكانتها النبيلة مع صعود وانحطاط الأسرات الإمبراطورية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق