الجمعة، 31 مايو 2013

المداخلة التي قدّمتها خلال الندوة عن كتابي " لعنة بابل"


  الكتاب عبارة عن نظرات في اللغة، ليست على غرار نظرات النحويين، وان كان لهم عليّ فضل لا يجحده عاشق للغته، ولكن أحببت كلمة قالها المعرّي  في" رسالة الملائكة" ، وهي كلمة خاطب بها النحو قائلاً: يا نحو، حقّ لما كتب منك المحو. ولو ان الكلمة خرجت من فم شخص آخر لكان يمكن أن تعتبر بمثابة هرطقة نحوية تستحقّ، ربّما، المحو أو في الأقلّ، التنديد. لكننا نعرف انّ المعرّي عجن اللغة وخبزها. وعرف ما تسرّه اللغة وما تعلنه.

وهو ايضا نظرات في أفواه الناس. فاللغة ليست بنت ما كتب، وانما بنت ما تنبس به الشفاه، فاللغة صرخة قبل أن تكون قلماً. ولرغبة الانسان في في دحر هشاشته اخترع الكتابة كألبوم صور صوتية حين عجز عن ايجاد وسيلة أخرى للحفاظ على ذاكرته المعرفيّة. الى ان جاء زمنٌ قبض فيه الانسان على الصوت، صار بإمكاننا انْ نسمع كلمات الموتى ليس من خلال خطّ أصابعهم وانّما من خلال نبرات صوتهم وتعابير وجوههم، بل أصبح بالامكان اليوم استخراج الكلام من أذهان الخرسان وسماعه، وهذا مدار مقال في الكتاب بعنوان" الأخرس الناطق".

علّمت مادّة كان يعلّمها قبلي الدكتور بسّام بركة في علم الأصوات وله فيها باع وكتاب. كان الطلاب يعرفون جفاف المادّة وينفرون منها، وكنت أعرف، أيضاً، جفافها، فقرّرت أن أغمسها في ماء الطرافة لتصير بلعها سهلاً،  ولفت نظري ذلك الشبه الدفين بين جوهر الماء وجوهر اللسان، وهو تلك السيولة والليونة. أليس الرضاب ( وهو عنصر مائيّ) رفيق اللسان أغلب الوقت؟ ومن وحي الأصوات تكلمت عن رجل، وهو واصل بن عطاء استاذ الجاحظ في الاعتزال كان لا يحسن إخراج حرف الراء كما يليق به،  والجاحظ نفسه عجز عن أعطاء توصيف لهذه الراء التي أقلقت لسان واصل، وقضّت مضجع شفتيه. فما كان أن استغنى عن خدماتها وألغاها من قاموسه، وراح الكلام ينساب سيّالاً، فيّاضاً من بين شفتيه دون أن ينتبه احد، ولا حتّى الشاعر الكبير بشّار بن برد إلى غياب هذه الراء.

لي هوايات كثيرة، وأعتبر الهواية قرش أبيض لأيّام العمر السوداء، ومن جملة هواياتي التسكّع في المعاجم، ومعجمي المفضّل هو "لسان العرب" لابن منظور، الذي من وحي مقدّمته كتبت " الماء ان حكى"، ولا أقصد كلام الماء حقيقة، وانما تجليات الماء في اللغة العربية، لفت نظري ذلك الشبه المريب بين" السراب" ابن الصحراء وبين الشراب الذي يعرف قيمته أكثر ابن العطش. استوقفتني تلك النقاط الثلاث التي تشبه ثلاث قطرات من الماء فوق حرف الشين، وهذه النقاط المائيّة هي التي تنقل الماء من حيّز الوهم / السراب الذي لا يروي فماً أو يبل ريقاً إلى حيّز الشراب، كما توقفت عند كلمة "قاموس" التي تعني بـ"لسان العرب" غير الذي تعنيه على ألسنة العرب، وهو أعماق البحار. لفت نظري ذلك التعايش الحميم بين اللغة والماء في الصحراء.

أقول لطلاّبي اننا نفتح المعجم عادة للبحث عن معنى كلمة نجهله، وهذا ممتع لا ريب، ولكني أقول لهم : الأمتع هو ان نفتح المعجم على الكلمات التي نعرفها، فنكتشف أننا لا نعرفها. وما أمتع أن نكتشف أننا لا نعرف ما نعرف.

وفي الكتاب نظرات الى معاجم عبرية وصينية وفرنسية للاستفادة منها في تجديد نظرتنا إلى العربية. كان ابو العلاء المعرّي يقول بسبب خسارته لنور عينيه: " انا المستطيع بغيري"، من هنا ذهبت الى لغات غير العربيّة لطلب مساعدتها وتقديم خبرتها في تغيير نظرتنا الى لغتنا وفي تحبيب ابنائنا بلغتهم، لا ننتبه الى العقوق اللعويّ أشدّ فداحة على الأمم والحضارات ربّما من عقوق الوالدين، وكلمة " العقوق" ليست دخيلة على عبارتي، فأنا أحاول أن أشترشد باللغة في دراستها، واللغات قلبها طيّب، وهي كمحرّك البحث غوغل لا تبخل على سائلها بأجوبتها الفطنة. أليست اللغة التي نكتسبها من الأم حتّى ونحن في الأرحام " تسمّى بـ"اللغة الأمّ"؟ وهذا ما يعالجه مقال " حكي نسوان"، وهي عبارة في الأساس ذات ظلال سلبية ولكن أحببت النظر إليها من منظور مختلف، بل قل انني أحببت ان اعيدها إلى حيث يجب أن تكون، وخلاصة مقالي هو التالي:" لولا حكي النسوان لكان الانسان انقرض كما انقرضت الديناصورات"، حكي المرأة هو الذي منح الانسان انسانيّته.

 كنت قد تعلمت حكمة صينية تقول: " انظر إلى حيث ينظر الناس، ولكن لا لترى ما يراه الناس وإنما لترى ما لا يراه الناس". ومن وقتها وأنا ولوع في ما يمكن ان أسميه " الذهنيّة الاستعارية" إزاء " الذهنيّة التشبيهية". ولعي بالاستعارة هو ولعي بالنظر في "وجه الشبه" المتواري، أي النظر في المحذوف منها.

ومن هنا رحت أقمّش ما توارى خلف "قطعة كرواسان" من صراع حضاريّ ودينيّ ومطبخيّ. ووما توارى خلف كلمة "مريول المدرسة" وهو فم الطفل. وانتبهت الى أمر تحتضنه المعاجم، والمعاجم مناجم انتروبولوجيّة، هو تلك الصلة الروحية بين الطعام والكلام، ومن هذه العلاقة ولدت عدّة مقالات في النصّ، منها: "تفّاحة لغوية"، و "مآكل لغوية"، و "ومطبخ ابن الروميّ" و" كرواسان".

أحبّ الإشارة الى ان هذا الكتاب هو واحد من ثلاثة كتب سوف تظهر تباعاً: الثاني هو "الفكر الاستراتيجيّ الصينيّ"، والثالث هو حكايات عربيّة، تجمعهم روح واحدة وان بدا من حيث الظاهر عدم اتساق العناوين فيما بينها.

ولكني، ولله الحمد، أؤمن أن الظاهر ماكر ولعوب بالعيون، ومن الحكمة أخذ الحذر منه، وإلاّ وقعنا فيما وقع فيه ذلك المغفّل الذي صدّق المثل القائل:" لبّس المكنسة بتصير ستّ النسي"، فظنّ المكنسة اللابسة ستّ النساء فوقع في غرامها وذهب ليطلب يدها، ولكنّ يدها - كما تعرفون - عصا.

ولكم وضع نهاية لهذه الحكاية.


بلال عبد الهادي





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق