جمهورية جنونستان
( لبنان سابقاً )
نزار قباني
مسرحية من ثلاثة فصول
كتبتُ هذه المسرحية في بيروت عام 1977 في بدايات الحرب الأهلية اللبنانية .
وأنشرها في عام 1988 , أي : بعد أحدَ عشرَ عاماً من كتابتها ,
دون أي إضافة أو تعديل .
فوقائع الحرب اللبنانية , بعبثيتها , ووحشيتها , وجنونها , بقيت هي . . هي . .
والمسرحية بقيت هي َ . . هيَ . .
نزار قباني
الفصل الأول
المكان : مطار ( جمهورية جنونستان ) .
علمٌ عليه سَبعُ أرزات . . يرتَفِعُ فوقَ المبنى .
صورةٌ كبيرةٌ جداً . . لِرئيس الدولة في صدر قاعة المكان , وفي وجهه سبعُ عُيُونْ .
موظفو أمن عام , وجمارك , ومخابرات .
إلى اليمين بابٌ كُتِبَ فوقه : ( باب رقم / 1 - المغادرون ) .
إلى اليسار بابٌ كُتِبَ فوقه : ( باب رقم / 2 - القادمون ) .
حركةٌ غير عادية عند باب المغادرة .
وباب ( القادمون ) لا يدخل منه أحد .
مُكبرات الصوت تُعلن عن إقلاع الطائرات إلى باريس , روما ,
لندن , قبرص , أبو ظبي , جدة , الكويت , الدوحة .
يستمر تدفُّق المسافرين نحو باب المغادرة . ثم تهدأ الحركة في
المطار تدريجياً . وتخلو القاعة من المسافرين .
يمرُّ بعضُ الوقت ثم ينفتح الباب ( رقم 2 ) ويدخل منه رجلٌ وامرأةٌ في ثياب السفر . وقد حملَ الرجل حقيبتين كبيرتين ، وحملت المرأة حقيبة تجميل , وبعض المجلات الأجنبية .
يضعُ الرجلُ الحقيبتين على الأرض , ويرتاح قليلاً . بينما تفتحُ المرأة حقيبةَ التجميل , وتبدأ بإصلاح زينتها . . .
الرجل : لا تُشغِلي بالكِ يا حبيبتي . فالجميل لا يحتاجُ إلى تجميل ...
ولكن المُهِمَّ أن تعثري على من يرى هذا الماكياج , أو يكونَ في المطار من يحمل لكِ باقة ورد ...
المرأة : (مُندَهِشة) . ماذا تقصد ؟ ألم تُبرِقْ إلى بيروت بموعد وصولنا , ليرسلوا إلينا سيارة ؟
الرجل : المشكلة ليست مشكلة برقية . . ولا مشكلة العُثُور على سيارة. المشكلةُ هي العُثُور على بيروت .
المرأة : ما هذا الكلام السِريالي ؟
ألم تسمع قائدَ الطائرة وهو يطلب منّا ربط الأحزمة , والتوقف عند التدخين, استعداداً للهبوط في مطار بيروت ؟
الرجل : سمعتُ يا حبيبتي . ولكنَّ الطائرة نزلت في مكانٍ آخر . . رُبَّما هبطنا اضطرارياً في أرض أخرى . . في كوكب آخر ..
المرأة : يا حبيبي . قد يكون الضَغْطُ الجوي أَثَّرَ عليكَ قليلاً . فنحن قد هبطنا هبوطاً طبيعياً . ألم تَرَ من نافذة الطائرة صَخرَةَ "الرُوشَة"..
وبناية "الجيفينور".. وحدائِقَ الجامعة الأمريكية . . ورمال الأوزاعي ؟
الرجل : أؤكدُ لكِ أنني لا أَهذِي , ولا أتوهَّم .. فأنا بيروتيّ ابنُ بيروتي ّ. ولكنَّ ما أراه حولي يوحي بأنّنا أخطأنا في العُنوان . .
المرأة : وهل هناكَ شيءٌ غَلَط ؟
الرجل : بل كُلُّ الأشياء التي أراها غَلَطْ .. هل رأيتِ العَلَمَ المرفوع
فوقَ مبنى المطار ؟
المرأة : رأيتُه ..
الرجل : ألم تُلاحظي أن علمنا صارَ بِسَبْعِ أرْزاتِ .. في حين أننا حين تركنا بيروت آخرَ مرةٍ .. كانَ العَلَمُ اللبناني بأَرْزَةٍ واحدة ...
وصورةُ رئيس الدولة المعلَّقة في صدر القاعة هل تَرينها ؟
( تَتطلَّع المرأة إلى الصورة , وَتَشهَقُ من المفاجأة ) .
المرأة : مستحيل .. مستحيل .. هذه صورة رَجُل بِسبعِ عُيُون .
يا إلهي . . أينَ نحن ؟ في أيِّ كوكبٍ عجيبٍ هبطت بنا الطائِرة ؟ ...
(صوتُ غليظُ النبرَة ينبعث من مكبـِّرات الصوت في صالة المطار ) .
الصوت : هُنا ( جمهورية جنونستان ) . . .
هُنا ( جمهوريّة جُنُونِستَانْ ) . . .
هُنا ( جمهوريّة جُنُونِستَانْ ) . . .
المرأة : أينَ وضعتَ الخريطة ؟
الرجل : ولِماذا تريدينَ الخريطة ؟
المرأة : أريد أن أفتِشَ عن هذه الدولة التي اسمُها (جنونستان).
في أيِّ قارَّةٍ تَقَع ؟
ما هيَ لُغَتها .. ما هو تاريخُها ؟ كم عدد سكانها ؟
الرجل : لا تُتْعِبي نفسَكِ . فلن تعثري عليها لا في كُتُب التاريخ , ولا في أطلس الجغرافيا , ولا بين الدول الأعضاء في الأمم المتحدة . .
إنها دولةٌ مُختَرَعة . . مَسلوقة سَلقاً . . كما تُسلق "السباغيتي" في عشرين دقيقة . . .
( الصوت الغليظ ينبعث مرةً أخرى من مكبِّرات الصوت ) .
الصوت : نُرحِبُ بكم على أرض ( جمهورية جنونستان ) . أرض الشمس , والثلج , والكَرَز , والتُفاح , والحواجز الطيَّارة , والقتلِ على الهويَّة . . .
نُرحِّبُ بكم في هذا المطار المؤقَّت , ريثما يتمُّ تحرير البقية الباقية من جمهوريتنا العظيمة . . .
إن ( جمهورية جنونستان) هي البديلُ الجغرافي والسياسي والتاريخي والحضاري , لما كان يُدْعى في قديم الزمان . . جمهورية لُبْنَانْ.
الرجل : هل صدقتِ الآنَ أننا نزلنا في كوكب آخر؟ . . وأن صخرةَ "الروشة" التي رأيتِها من نافِذة الطائرة كانت نوعاً من خِدَاع البصر .. وأن مستشفى الجامعة الأمريكية لم يكن إلا مستشفى العصفورية ؟
الصوت : لا تؤاخذونا إذا قصّرنا في واجبات الضيافة , وفي تقديم
الخدمات السياحية التقليدية . ففنادقُ الدرجة الأولى كلُّها احترقت .. والمزارعُ احترقت .. والمتاجر احترقت .. والمدارس احترقت .. والمكتبات احترقت .. والشوارع مهجورة بسبب القنص .. والكهرباء مقطوعةٌ .. والمياهُ مقطوعة , والتليفونات صامتة.. والبريد لا يُوزَّع .. والزبالة لا تجد من يَلُمُّها .. والجثث لا تجد من يدفنها..
طبعاً كلُّ هذه المشاكل تعتبر صغيرةً جداً , أمام الإنجازات الكبيرة التي حقَّقتها ميليشياتكم الظافرة .
قد تضطرونَ للوقوف في الطابور ساعاتٍ للحصولِ على رَبطة خبز . . أو على غالون بنزين . . أو على علبة سردين . . أو على غرفة في أحد المستشفيات . . أو على ضريح في إحدى المقابر . .
إن قضية العثور على قبر أو كفن ليست قضية مصيرية . فحينَ ماتَ سيدنا آدم , لم يشيعهُ أحدٌ . . ولم يكفـِّنه أحدٌ . . ولم يَرثِهِ شاعرٌ بقصيدة.
حتى زوجته حوَّاء لم تمشِ في جنازته , وتركت جثّتَهُ في البرية
تنقرُها العصافير . . وتزوَّجتْ غيره . .
لِذلكَ لا تشغلوا بالكم , ولا تفكروا كثيراً في هذا الموضوع . فالأعمارُ بيد الله .. ويد الميليشيات .
لبنانُ القديم ذو الأرزةِ الواحدة انتهى أمرُه , وَدَخلَ متحف التقاليد الشعبيَّة , ومن أجل تحقيق العدالة الاجتماعية بين جميع الطوائف , جعلنا علمَ الدولة بسبعِ أرزاتِ . . وانتخبنا رئيس جمهورية بِسبعِ عُيُون . .
المرأة : يا سلام على الفصاحة . . يا سلام على هذه اللغة الميليشياوية الجديدة .. يا ليتهم خَطَفوا بنا الطائرة , ولم ننزل في دولة ( هيستيرياستان ) أقصد ( جنونستان ) . . .
الرجل : كلُّهُ واحد . .
المرأة : خفِّف من سخريتكَ . . وإلا رُحنا في داهية . .
(رجل مخابرات كان يسترق السمع إلى حديثهما يتقدم نحوهما . . )
رجل المخابرات : ماذا يقصد الأستاذ بكلمة ( واحد ) ؟
الرجل : أقصد أن الله واحد . .
رجل المخابرات : هذه نظرية سقطت من زمن بعيد . . وعلى وجه التحديد ، منذ أن قمنا بتأسيس جمهوريتنا الجديدة . هل أنت لبناني ، أم أنت غريب ؟
الرجل : أنا لبناني غريب . .
رجل المخابرات : لا أفهم . .
الرجل : أقصد أنني خرجتُ من وطني قبل عشر سنوات ، ورجعتُ اليوم لأجده قد صار سبعة أوطان . كما أن الله الذي تركته قبل سفري واحداً . . قسمتموه على سبعة . .
رجل المخابرات : يبدو لي أنك لا تعرف شيئاً عن نظرية العدل الاجتماعي .
إن اقتسام الله هو الحل العلمي الوحيد لإرضاء جميع الطوائف . .
الرجل : ولكن الله غير قابل للقسمة . .
رجل المخابرات : صحيح أنك غشيم ، ولا تفهم في علم اللاهوت . في ( جمهورية جنونستان ) كل شئ قابل للقسمة . . بما في ذلك المرافئ . . والضرائب . . والواردات الجمركية ، والمناهج التعليمية ، ومؤسسة الكهرباء ، ومؤسسة المياه ، والبرق والبريد والهاتف ، والإذاعة ، والتلفزيون . .
ولكن يبدو أنك مواطن غير مثقف . . لا تتابع حركة التاريخ . . ولا تعرف جدول الضرب والجمع والقسمة .
الرجل : أنا أحب الجمع . . وأكره القسمة . .
رجل المخابرات : أنت لا تزال تعيش في حالة طفولة سياسية ، ولكنك مع الزمن سوف تتعود . .
الرجل : أتعود على ماذا ؟ على معتقلي الجديد ؟
رجل المخابرات : بل على حريتك الجديدة .
الرجل : السكنى في داخل ( غيتو ) ليست حرية . إنها عودة بالإنسان إلى عصر المغارة والطوطم .
رجل المخابرات : إنك لا تزال سجين رومانسيتك وأحلامك الوردية . ولا حل لك إلا بإلغاء ذاكرتك . فلبنان القديم لم يعد موجوداً . . .
الرجل : ما دام موجوداً في ذاكرتي . . فهو موجود .
المرأة : قل لي أيها السيد . . من اختار لكم اسم ( جمهورية جنونستان ) ؟ . .
رجل المخابرات : لماذا تسألين هذا السؤال ؟ ألا يعجبكِ الاسم ؟
المرأة : عاشت الأسماء . إنه بالفعل اسمٌ على مُسَمَّى . ولكن . . ماذا فعلتم باسم لبنان القديم ؟
( يهرش رجل المخابرات رأسه كمن يحاول أن يتذكر تاريخاً بعيداً ) .
رجل المخابرات : لبنان . . لبنان . . لبنان . . آه . تذكرتُ الآن . إننا عرضناه في المزاد العلني ، فاشتراه تاجرٌ يهوديٌ يبتاع الثياب القديمة . .
المرأة : وبكَمْ .. بعتم لبنان ؟
رجل المخابرات : في الحقيقة يا مدام . . هذا قرارٌ سري اتخذه الحزب . ولا يعرف الرقم الحقيقي غير رئيس الميليشيا . . والتاجر اليهودي الذي اشتراه منه .
المرأة : وهل بكى الوطن عندما بعتموه ؟
رجل المخابرات : نعم يا سيدتي . الوطن بكى . . ولكن التاجر اليهودي هو الذي ضحك . . .
مكبر الصوت : يُرجَى من حضرات الركاب القادمين التوجه إلى مركز الأمن العام لإنجاز معاملاتهم .
( يحمل الرجل الحقيبتين ، ويتوجه إلى حيث يقف ضابط الأمن العام . يُخرج الرجل من جيبه جوازي سفر لبنانيين ، ويضعهما أمام الضابط . يُقلِب الضابط جوازي السفر ، ثم يرميهما بعصبية أمامه . . ) .
الضابط : هذه جوازات سفر تاريخية . . جوازات سفر منقرضة . . صادرة عن دولة منقرضة لا نعترف بها .
الرجل : منقرضة ؟؟ . . هل يمكن لدولة أن تنقرض بين عشية وضحاها . . هل يمكن لجواز سفر قانوني أن يذوب كفص الملح . . أو فقاعة الصابون ؟
يا حضرة الضابط . نحن قادمان من باريس . ولم يقل لنا أحدٌ في مطار أورلي أن جوز سفرنا قد انقرض . . أو أن لبنان قد انقرض . . .
الضابط : ألم تقرأوا في جريدة ( اللوموند ) أو جريدة ( الفيغارو ) أن جمهورية جديدة قامت في بلادكم ، اسمها ( جمهورية جنونستان ) ؟ .
الرجل : لا يا سيدي الضابط . لم نقرأ . ثم ما هو وضعنا القانوني في مثل هذه الحال ؟ وماذا نفعل في جوازات سفرنا اللبنانية ؟
الضابط : هذا ليس شغلي . ارموها في البحر . . أو خذوها إلى المتحف . . المواطن الحقيقي مفروضٌ فيه أن يعرف القانون . وأنتم كان عليكم أن تراجعوا قنصليات ( جنونستان ) في الخارج ، لاستبدال جوازات سفركم .
الرجل : ولكنكم لم تفتحوا أي قنصلية في الخارج . ثم إن قناصل لبنان الذين راجعناهم ، كانوا مثلنا مقطوعين من الأخبار . . والمرتبات . . ولا يعرفون شيئاً عن قيام ( جمهورية جنونستان ) .
الضابط : ( بانفعال وغضب شديدين ) : هذا إهمال .. هذا تقصير .. هذا تخريب .. ماذا يفعل وزير خارجيتنا إذن ؟ . ماذا يفعل سفراؤنا في الخارج ، غير تدخين السيجار .. وشرب الويسكي .. واقتناء السيارات الفارهة ؟ ...
سأقدم تقريراً للمكتب السياسي أطالب فيه بمحاكمة وزير خارجيتنا .. وإقالة جميع سفرائنا في الخارج .. لأنهم جميعاً أعداء الثورة ....
الرجل : يا حضرة الضابط . اعمل معروف هدئ أعصابك . فقد تأخذ محاكمة وزير الخارجية وقتاً طويلاً .. فهل سننتظر أنا وزوجتي في المطار حتى تنتهي المحاكمة ؟
الضابط : لا .. أنتم لستم مسؤولين عن أخطاء غيركم . ولكن قبل أن أسمح لكم بمغادرة المطار ، أريد أن أستكمل التحقيق معكم ..
الرجل : حاضر ...
الضابط : هل هذه السيدة هي زوجتك ؟
الرجل : نعم .. هي زوجتي .
الضابط : ولكنكما تحملان جوازي سفر منفصلين . وتنتميان إلى طائفتين مختلفتين . والتأشيرات التي توجد على الجوازين تشير إلى أنكما غادرتما معاً .. وعدتما معاً ..
الرجل ( باسماً ) : وهل هناك شركة طيران في العالم تسأل عن دين الراكب وجنسه ، قبل أن تبيعه التذكرة ؟
إن سفينة نوح كانت أكثر تقدمية .. لأنها كانت تحمل على ظهرها الذكور والإناث دون تفريق ...
الضابط : إنني أريد أجوبة لا تعليقات . هل تسمح السيدة أن تقول لي إذا كانت قد سافرت مع هذا الرجل بملء إرادتها ؟ ..
المرأة : طبعاً .. سافرتُ بملء إرادتي ، لأنني أحبه .
الضابط : تحبينه ؟؟ ولكنه من دين مختلف ..
المرأة : الحب .. هو ديننا المشترك ..
الضابط : وهل حصلتِ على موافقة أهلك ؟
المرأة : يا حضرة الضابط إنني امرأة في الثامنة والعشرين من عمري . وأعتقد أن بوسعي أن أتخذ قراراتي بنفسي دون الرجوع إلى رأي القبيلة ...
الضابط : وهل تعتبرين المجتمع قبيلة ؟ ..
المرأة : طبعاً .. إنه قبيلة كبيرة ، بكل تسلطها ، وتعصبها ، وخناجرها ، ومشانقها ، وسجونها ، وجنونها ...
الضابط : ولكن القبيلة تحافظ عليكِ كأنثى ، يا سيدتي ..
المرأة : القبيلة لا تحافظ إلا على ذكورها . الرجال هم مواطنو الدرجة الأولى .. والنساء هن مواطنات الدرجة الثانية . والدليل أنك تحقق معي في قضية شخصية جداً تتعلق برجل أحببته .. وسافرتُ معه ..
الضابط : سافرتِ معه بصورة غير شرعية . أي أنك لستِ زوجته ..
المرأة : وهل من الضروري أن يسافر الإنسان مع زوجته ؟ أنا حبيبته ...
الضابط : كلمة ( حبيبة ) تــُستعمَل في دواوين الشعر .. ولكنها لا تكفي لإثبات الشرعية .
المرأة : ومن الذي يفصل في قضية الشرعية ؟
الضابط : الحكومة ...
المرأة : الحكومة جهاز ٌ بوليسي ، ولا علاقة لها لا بالحب ، ولا بالشِعر .. الحب هو مصدر كل الشرعيات .
الضابط : على جوازي سفركما تأشيرة قديمة لدخول جزيرة قبرص . ماذا فعلتما في قبرص ؟
المرأة : وماذا تنتظر أن نفعل في قبرص ؟ نزلنا في فندق على الشاطئ .. وسبحنا في البحر .. وأكلنا سمكاً طازجة وجبنة قبرصية بيضاء .. وشربنا نبيذاً قبرصياً جيداً .. ورقصنا .. ثم خطر ببالنا أن نتزوج .. فتزوجنا ...
الضابط : أي نوع من أنواع الزواج ؟
المرأة : الزواج الأبسط .. والأسهل .. والمتحرر من كل الشكليات .. كزواج العصافير ..
الضابط : تقصدين الزواج المدني ؟
المرأة : بالضبط ..
الضابط : أي أنكما هربتما من الوطن .. لتتزوجا على أرض أجنبية ؟
المرأة : كل مكان يجمع رأسي عاشقين هو وطن .. بل هو سيد الأوطان .. ثم إن الوطن ليس سجناً للنساء .. ولا مدرسة داخلية لا يُسمَح للفتيات فيها أن يخرجن إلا بإذن الناظرة ...
إن الوطن هو مجموعة عواطف من يسكنونه .. ومجموعة أفكارهم ، ومجموعة خياراتهم .. ومجموعة حرياتهم ..
وحين يقف الوطن ضد مشاعر مواطنيه ، وضد عواطفهم ، وأفكارهم ، وضد شؤونهم الصغيرة ، فإنه يتحول حينئذ إلى قاووش كبير للسجناء .
الضابط : ولكنك هاربة من الوطن الذي أطعمكِ .. ورباكِ ..
المرأة : الأمل ليس مشكلة ....
كل الحيوانات بما في ذلك الصراصير تجد ما تأكله .. الحرية هي مشكلتي . فحين يرفض الوطن أن يزوجني من الرجل الذي أحبه ، بحجة المحافظة على النظام العام ، ومصالح الطائفة ، وسُمعة الحارة .. فإن لي ملء الحق أن أرفضه بدوري ..
حين يرفض وطني أن يعترف بحبيبي .. فإن حبيبي عندئذ يصبح وطناً ..
الضابط : أنتِ محامية حقيقية .
المرأة : بل أنا امرأة ٌ حقيقية ...
الضابط : حسناً .. حسناً .. لقد طال هذا الحوار كثيراً .. إلى أي قسم من بيروت تريدان أن تذهبا .. حتى توصلكما سيارة قوى الأمن ، لأن الطرق غير آمنة في هذه الساعة من ساعات الليل ..
الرجل : نذهب إلى منزلنا في بيروت الغربية ..
الضابط : تذهب أنت إلى بيت أهلك .. وتذهب هي إلى بيت أهلها ..
الرجل : ولكنها زوجتي ...
الضابط : كونها زوجتك .. لا يغير وضعها الطائفي .
الرجل : ولكنني أحمل الأوراق التي تؤكد زواجنا ..
الضابط : نحن في ( جمهورية جنونستان ) لا نعترف بقصاصات الأوراق التي أعطوكم إياها في قبرص ..
المرأة : ولكن كل الزيجات مكتوبة على قصاصات ورق . المحكمة الشرعية تعطي للمتزوجين قصاصة ورق .. والكنيسة أيضاً تعطي قصاصة ورق ..
كل الزيجات في العالم بناياتٌ من ورق ...
الضابط : ماذا تقصدين ؟
المرأة : أقصد أن القضية كلها ورقٌ بورق .. والمهم في الزواج ليس النص المكتوب .. وإنما جوهر العلاقة بين الرجل والمرأة ...
حين يكون اثنان في حالة حب .. فإنهما لا يحتاجان للتوقيع على أية وثيقة . إن حبهما هو شهادة التأمين التي تحميهما من الضجر .. والتكرار .. والإفلاس الروحي ..
الضابط : حسناً .. لنختم هذا الحوار اللامُجْدِي . فقولي يا سيدتي إلى أين تريدين أن توصلك سيارة قوى الأمن الداخلي ؟
المرأة : يا حضرة الضابط . هل أفهم من كلامك أن عليَّ الالتحاق بقبيلتي في بيروت الشرقية ؟
الضابط : نعم يا سيدتي .. هذه هي التعليمات ..
الرجل : وهل يعني هذا أنني سأذهب إلى ( غيتو ) المسلمين .. وزوجتي ستذهب إلى ( غيتو ) النصارى ؟ .
الضابط : استنتاجك صحيح .
الرجل : إذن ، هل تسمح لي ، يا حضرة الضابط ، أن أتشاور مع زوجتي ؟ .
الضابط : لك ما تريد .
( يمسك الرجل بذراع زوجته ، ويذهبان إلى زاوية من زوايا المسرح . يتكلمان همساً لبضع دقائق ، ثم يعودان .. ) .
الضابط : تفضلا .. فسيارة الأمن الداخلي جاهزة .
الرجل : لن نحتاج إلى سيارة يا حضرة الضابط .. فقد قررنا أنا وزوجتي أن لا ندخل البيروتين .. الشرقية أو الغربية ..
الضابط : وأين ستمضيان ليلتكما ؟
الرجل : سنمضيها نائمين على رصيف أحزاننا ، وفي الصباح ، سنسافر على أول طائرة مسافرة إلى قبرص .
المرأة : وداعاً يا حضرة الضابط .. وإذا تصادف وعشقتَ امرأة من ( الحارة الثانية ) ولم توافق ( جمهورية جنونستان ) على زواجك منها .. فتذكر أن لك في قبرص بيتاً مفتوحاً .. وأصدقاء من لبنان القديم مستعدين أن يقتسموا معك رغيف الخبز .. ورغيف الحب ..
( يحمل الرجل الحقيبتين ، وتتبعه المرأة ، ويخرجان من الباب رقم 1 ) .
ستار
الفصل الثاني
شتاء عام 1975
(( المشهد ليلي . والساعة تتجاوز منتصف الليل بقليل . حاجز مصنوع من جذوع الأشجار ، وأكياس الرمل ، والبراميل في ضاحية تطل على مدينة بيروت .
الليل شتائي بارد . وأصوات جنادب ليلية . وسماء رمادية داكنة لا يضيئها بين الحين والحين سوى أضواء الطائرات التي ترتفع على مدرج المطار باتجاه البحر .
الحاجز يرتفع على يمين المسرح بشكل نصف دائرة مفتوحة إلى جهة الصالة . على يسار المسرح تمر الطريق الرئيسية الصاعدة من بيروت .
وعلى جانب الطريق لافتة كُتب عليها :
( جمهورية جنونستان - لبنان سابقاً )
خلف الحاجز ، ثلاثة مسلحين يراقبون الطريق :
يخرج أحدهم ، وهو في حوالي الخامسة والثلاثين من العمر . ويبدو أنه المسؤول العسكري عن الحاجز .
يخرج من خلف الحاجز إلى الطريق العام ، وبيده بطارية كهربائية .
يشير إلى مدينة بيروت التي تبدو من البعيد مخنوقة الأضواء .. مسكونة بالكآبة .. ))
المسلح 1 : ... وأخيراً ، نجحنا في اغتيال جمهورية لبنان العتيقة .. وقضينا على السنديان ، والبلوط ، وأشجار الصنوبر ، وأعمدة بعلبك .. ووضعنا الحجر الأساسي للجمهورية التي طالما حلمنا بتأسيسها ، أعني ( جمهورية جنونستان ) .
أنظروا إلى بيروت التي كانت تسمى ذات يوم ، لؤلؤة البحر الأبيض المتوسط ، ومدينة المدائن ، والقصيدة الزرقاء ..
إنها أشبه بامرأة جميلة كبرت مئة عام خلال عام واحد .
لقد استطاع حزبنا العظيم أن يحول بيروت إلى مقبرة جماعية ، ويُحرق وجهها بالأسيد ، ويجعل منها أرملة متشحة بالسواد .
ليس مهماً أن تبقى بيروت جميلة . فالجمال لا يدخل في قاموسنا الثوري . وليس مهماً أن تظل بيروت مصدراً من مصادر الشِعر . فمنظرو حزبنا يحتقرون الشِعر والشعراء ، ويعتبرون كتابة الشعر ثرثرة وشعوذة وإضاعة وقت ..
ثورتنا ليس فيها مكان للشِعر . ولا لتنابلة السلطان الذين يقولون القصائد والمواويل ...
الكتابة عمل مضاد للثورة . والتشابيه ، والاستعارات ، والمجازات ، والكلام الجميل بكل أنواعه ، والقصيدة العمودية ، والقصيدة الحرة ، وقصيدة النثر ، والروايات ، والمسرحيات ، والفنون التشكيلية كلها .. ثوراتٌ مضادة .
سوف نلغي جميع الكتب ، بما في ذلك الكتب السماوية ، ولن نسمح إلا بتداول كتاب مقدس واحد ، هو الكتاب الذي وضعه رئيس الحزب .
( ينبعث صوت فيروز من راديو ترانزستور صغير يحمله أحد المسلحين ) .
المسلح 2 : وفيروز .. أين موقعها من ثورتنا يا حضرة الكومندان ؟
المسلح 1 : لا موقع لها . إنها تنتمي إلى مرحلة تاريخية سحيقة ومتخلفة . فمفرداتها الغنائية تحاول أن تخلق في أذهان البسطاء ( يوتوبيا ) مستحيلة ، وعالماً خرافياً لا يمكن تحقيقه على هذه الأرض .
إنها بكلامها عن ضوء القمر ، والكروم ، والعصافير ، والقناطر ، وضوء القناديل ، ومكاتيب الهوى ، والحنين ، والمحبة ، والأجراس ، والصلوات ، ترسخ في ذاكرة الناس لبنان القديم ، في حين تحاول الثورة أن تمحوه ...
إنها مغنية خطيرة على دعوتنا الثورية . طابورٌ خامس يستطيع أن يقضي على جميع مخططات التغيير التي نرسمها . إنها بأغنية واحدة عن المحبة تستطيع إسقاط كل أيديولوجيتنا . لذلك يتوجب على المكتب السياسي في حزبنا أن يصدر أوامره بمصادرة حنجرتها ....
المسلح 2 : ولكن .. هل من السهل مصادرة حنجرة مغنية ؟
المسلح 1 : العواطف لا تدخل في قاموسنا الثوري . كل الحناجر التي تشاغب على الثورة يجب استئصالها ، سواء كانت حنجرة فيروز .. أو حنجرة دجاجة ..
المسلح 2 : ولكن الجماهير تحب صوت فيروز ..
المسلح 1 : سنقطع آذان الجماهير إذا لزم الأمر . الأحاسيس الجميلة كلها مؤجلة حتى تنتصر الثورة .. ضوء القمر مؤجل . غروب الشمس مؤجل . زرقة البحر مؤجلة . سنابل القمح . أشجار اللوز . رائحة الورد . مواعيد العشاق . الأشواق . القبلات .. قصائد الغزل .. كتب الشعر كلها مؤجلة .. مؤجلة ..
المسلح 2 : وإذا طلع على بالي أن أعشق ، قبل أن تنتصر الثورة ، فماذا أفعل ؟
المسلح 1 : عندئذ ، عليك أن تستقيل من الثورة ، فالثائر الحقيقي لا ينام مع النساء ..
المسلح 2 : مع من ينام إذن ؟
المسلح 1 : يحتضن صورة رئيس الحزب .. وينام ..
المسلح 2 : لكنني لستُ من أهل هذا ....
المسلح 1 : أرجو أن تقلع عن تعليقاتك الساخرة .. وإلا قدمتُ عنك تقريراً إلى قيادة الحزب ..
( المسلح رقم 3 يتحرك من مكانه ، كأنه يبحث عن شئ ضاع منه .. ) .
المسلح 3 : يا جماعة كفوا عن هذا الجدل البيزنطي .... أين زجاجة الكونياك ؟ إن البرد يخترق عظامي ، ولم نستفتح على هذا الحاجز بزبون واحد ... ماذا جرى لأهل بيروت حتى صاروا ينامون كالدجاج مع غروب الشمس .. فلا سهر .. ولا من يسهرون .. ولا طرب ولا من يطربون ..
إن زبائننا قد تناقصوا بصورة ملحوظة ، وعصافير الليل لم تعد تتجول .. وأخشى إذا تحسن الوضع الأمني في البلد ، أن ينقطع رزقنا .. ونفقد عضويتنا في الحزب ...
المسلح 1 : لا تقطعوا أملكم يا شباب . إن الله كريم . وهو يرزق النمل حيث كان . إن بيننا وبين طلوع الفجر نحو خمس ساعات .. ولا بد أن يرسل الله إليكم قرباناً .. أو إنساناً .. تنقذون به شرفكم الحزبي .
( يُسمَع صوت محرك سيارة قادمة باتجاه الحاجز . يرجع المسلحون الثلاثة إلى خلف الحاجز ، ويأخذون وضع تأهب ... )
المسلح 1 : ألم أقل لكم إن العصافير قادمة ؟
( سيارة صغيرة تقودها امرأة تتوقف أمام الحاجز . يتقدم نحوها المسلح 1 شاهراً مسدسه ، ويطلب منها النزول من وراء المقود .
تنزل امرأة في حوالي الثلاثين من عمرها ، رشيقة القوام ، داكنة الشعر ، واسعة العينين . يوجه المسلح ضوء البطارية إلى وجهها ... )
المسلح 1 : من أنتِ ؟
المرأة : أنا امرأة .. ألم تروا امرأة في حياتكم ؟ أليس لكم أمهات .. شقيقات .. حبيبات ؟
المسلح 1 : نحن لا نسألكِ عن جنسك . جنسكِ لا يهمنا ..
المرأة : وماذا تريدون إذن ؟
المسلح 1 : نريد أن نعرف إذا كنتِ تحملين سلاحاً .
المرأة : نعم .. معي أربع .. أو خمس قطع ..
( يتبادل المسلحون نظرات الريبة والحذر .. ويخرطشون بنادقهم تحسباً للمفاجآت .. ) .
المسلح 1 : تقولين معكِ أربع أو خمس قطع سلاح ... أخرجي كل ما عندكِ .. وحاذري أن تقومي بأية حركة مريبة ..
( تفتح المرأة حقيبة يدها بهدوء وبرودة أعصاب ، وتبدأ بسحب بعض أدوات الزينة . مرآة . مشط . علبة بودرة . أنبوب أحمر شفاه . قارورة عطر .. ) .
المرأة ( بابتسامة ساخرة ) : هذا كل ما عندي ...
المسلح 1 : ولكن هذه أدوات تجميل ، فأين هو السلاح ؟
المرأة : هذا هو سلاحي !!
المسلح 1 : نريد السلاح الحقيقي . السلاح الذي يقتل . السلاح الذي تخبئينه في مكان ما ...
المرأة : صدقوني . أنا لا أخبئ شيئاً . والسلاح الذي وضعته أمامكم هو السلاح الذي تحمله كل امرأة في العالم .
كل امرأة جميلة .. هي مسلحة بصورة طبيعية ..
( بحركة إغراء مدروسة ، تأخذ المرأة قارورة العطر ، وترش منها رشتين تحت أذنيها ... ) .
المسلح 1 : ( شاهراً عليها المسدس ) . توقفي عن الرش .. وإلا رششتكِ ..
المرأة : وهل يزعجكم عطري إلى هذا الحد ؟ هل يتناقض عطري مع ثورتكم ؟
المسلح 1 : جميع أنواع العطور ، وعلى رأسها العطر النسائي ، تتناقض مع أيديولوجية الحزب .
المرأة : مساكين .. مساكين .. فهذه أول ثورة أسمع بها في حياتي لا تعترف بالعطر .. لا تعترف بالرائحة الطيبة ..
المسلح 1 : يا مدموازيل .. نحن هنا في متراس مسلح ، ولسنا في صالون تجميل ..
المرأة : لكن العطر تركيبٌ إنساني . الحيوان وحده هو الذي لا يتعطر ...
المسلح 1 : إن ثورتنا من طراز آخر .. ثورة ٌ لا تهتم بالعطر ، ولا بالحب ، ولا بالجنس ، ولا بالنساء ، ولا تتعاطى كل هذه التفاهات ..
المرأة : شكراً على المجاملة . إن آراء حزبكم بمنتهى التقدمية . وبالمناسبة ، قل لي : هل رئيس حزبكم متزوج .. أم عازب ؟
المسلح 1 : إن معلمنا تزوج العمل السياسي . تزوج الشعب . تزوج القضية ....
المرأة : ولكن القضية هي أيضاً أنثى ...
المسلح 1 : كُـفــِّي عن هذه البهلوانيات الكلامية .. فلا وقت لدينا لهذه الثرثرة النسائية ...
المرأة : إذا كنتَ لا تريد أن تحاورني ، فهل يمكنني أن أقابل رئيس الحزب ؟
المسلح 1 : المعلم ؟ تريدين أن تقابلي المعلم ؟ ومن أنتِ ؟ وبأي صفة تريدين أن تقابليه ؟
المرأة : أنا صحفية ..
المسلح 1 : أنتِ مجنونة بكل تأكيد .. إن الوصول إلى القمر أسهل من الوصول إلى معلمنا .. وعلى فكرة فإن رئيسنا ليس لديه اهتماماتٌ نسائية ...
المرأة : شغلتم بالي عليه .. هل هو مريض ؟ هل هو ساخن ؟ هل هو من أنصار سيدنا لوط عليه السلام ؟؟
المسلح 1 : أنتِ امرأة طويلة اللسان ككل الصحفيات . ويمكنكِ أن تنشري على لساني أن معلمنا ليس منحرفاً .. ولا يشكو من أي ضعف جنسي .. وإنما ارتفع بجسده عن مستوى بقية البشر .. حتى أصبح ( سوبرمان ) ...
المرأة : الله يشفيه .. وماذا يفعل معلمكم في ساعات الفراغ .. ما هي هواياته ؟
المسلح 1 : هواياته أن يقتل . هناك أناسٌ هوايتهم أن يعزفوا على البيانو .. وأناسٌ هوايتهم أن يرسموا .. وأناسٌ هوايتهم أن يجمعوا الطوابع القديمة وأناسٌ هوايتهم أن يكتبوا الشِعر ...
أما معلمنا فهوايته أن يقتل الآخرين ..
المرأة : فعلاً .. هذه هواية أوريجينال .. ومن هم الآخرون الذين يقتلهم ؟
المسلح 1 : كل الطارئين .. والغرباء .. والذين لا خلفية حضارية لهم . والمحشورون كالحيوانات في سفينة نوح ...
المرأة : ولكنكم بهذه الطريقة ستقتلون ثلاثة أرباع البلد ..
المسلح 1 : لا يهم . فسوف يبقى الربع الحضاري ، النخبوي ، السوبر - لبناني .
المرأة : ولكن الربع الباقي سيكون بحجم العدس .. أو قرص الأسبرين ..
المسلح 1 : قرص الأسبرين يبقى أفضل من سفينة نوح ...
المرأة : وماذا ستفعلون ببقية الحيوانات ؟
المسلح 1 : سنذبحها .. أو نرميها في البحر .. لأن الحمولة الزائدة ستــُغرق السفينة .
المرأة : ولكن هذا موقف عنصري ، عرقي ، ماكيافيلي ، صهيوني ...
المسلح 1 : العناوين الصحفية لا تهمنا . واتهامنا بالماكيافيلية لا يهمنا أيضاً . كل ما يهمنا أن نتخلص من الحيوانات الزائدة التي تتناسل على ظهر السفينة .. وتهددها بالغرق ..
نحن - كحزب - نؤمن بأن لبنان يحتاج إلى ثقافة العنف . لا إلى ثقافة ( المَيْجَنا ) و ( العَتــَابا ) و ( أبو الزُلــُف ) .. والخبز التنوري .. والعرق الزحلاوي .. والمسرح الرحباني ..
المرأة : وما هو اعتراضك على المسرح الرحباني ؟
المسلح 1 : المسرح الرحباني مسرح فانتازي ، تخييلي ، افتراضي ، يعمل من الحبة قبة ، ويصنع لنا وطناً أكبر منا . وطناً يكاد لفرط جماله أن يكون غير حقيقي . المسرح الرحباني يسبح فوق غمامة بنفسجية ، ولكنه لا ينزل إلى أرض البشر ..
المرأة : إن وظيفة الفن أن يرتقي بالإنسان إلى الأعلى .. ووظيفة الشعر أن يحملنا إلى الأجمل ..
المسلح 1 : جماليات الشِعر ، يا سيدتي ، هي وراء تخلفنا وضعفنا . الثقافة الحقيقية هي ثقافة القوة . ولن يستريح لبنان إلا إذا قتل القمر ..
ولبنان الذي نحلم به يولد بين المتاريس ، وأكياس الرمل ، والديناميت .. لا في مهرجانات بعلبك .. واستعراضات الكازينو .. وبكائيات وديع الصافي ..
المرأة : آه .. كم تذكرني بالماركيز دو ساد ...
المسلح 1 : إذا كانت السادية تعطيني وطناً قوياً ، فسوف أكون سادياً . وإذا كان القتل هو المركب الذي لا بد لنا من ركوبه ، فسوف نركبه ..
المرأة : ولكن لبنان ليس معتاداً على القتل ...
المسلح 1 : سيتعود عليه .. إن اللبناني سريع التأقلم مع الأشياء . وبعد قليل سيمارس القتل بالسهولة ذاتها التي يرقص بها الدبكة .. أو يشرب كأس عرق ... إن القضية قضية عادة . أنا في البداية كنتُ لا أجرؤ على قتل نملة ، ثم أصبحتُ أقتل إنساناً بذات السهولة التي أفرشي بها أسناني ، أو أغير قميصي .
المرأة : أرجو أن لا تفكر في أن تفرشي أسنانك .. أو تغير قميصك الآن ..
المسلح 1 : هذا يتوقف على نوع الأوراق التي ستبرزينها .
المرأة : ولكنني قدمتُ لكم أوراقي .. ( تشير إلى أدوات الزينة ) .
المسلح 1 : الأوراق التي قدمتها تستعملينها على فراش الحب .. لا هنا .. هذا حاجزٌ محترمٌ ، يا سيدتي ، وهو لا يقبل الرشوات النسائية ..
المرأة : ولكنني قلت لكم إنني صحفية ..
المسلح 1 : صحفية من أين ؟
المرأة : صحفية من لبنان .
المسلح 1 : لبنان كلمة واسعة جداً .. حددي ..
المرأة : لا أفهم السؤال .
المسلح 1 : أقصد إلى أي لبنان تنتمين ؟
المرأة : لم يطرح أحدٌ عليَّ من قبل مثل هذا السؤال العجيب . وهل لبنان هو بمساحة الصين ، حتى أقول لك إنني أنتمي إلى الصين الوطنية ، أو الصين الشعبية . إن لبنان بحجم الكف .. أو بحجم القلب ..
المسلح 1 : وقلبكِ .. مع أي لبنان من اللبنانين ؟ .
المرأة : قلبي مع لبنان . لأنه لا يمكن للمرأة أن تحب رجلين في وقت واحد ..
المسلح 1 : إنني لا أريد رموزاً وتوريات .. سأكون أكثر صراحة وأسألكِ : إلى أين تذهبين عادة ، إلى المسجد .. أم إلى الكنيسة ؟
المرأة : أذهب إلى الله ...
المسلح 1 : أي واحد منهم ؟
المرأة : وهل هناك أكثر من رب واحد ؟
المسلح 1 : عندنا في لبنان يوجد أكثر من واحد . كل متراس مسلح له ربٌ مختلف عن رب المتراس الآخر . لذلك نطلب منكِ أن تحددي بدقة إلى أي متراس - عفواً - إلى أي رب تنتمين ؟
المرأة : إلى الواحد الأحد ، الذي يرانا ولا نراه ، ويُغيِّر ولا يتغير ..
المسلح 1 : هذا جواب ميتافيزيكي لا ينفعنا في التحقيق .
المرأة : أنتمي إلى الذي يعلم ما في الأرحام ..
المسلح 1 : وهذا جوابٌ في الطب النسائي لا نقبله ..
المرأة : أنتمي إلى مُقدِّر الأقدار ، وعالِم الغيوب والأسرار .
المسلح 1 : ستوب .. ستوب .. ستوب .. لقد دوختني بأجوبتك السريالية ..
المرأة : ولكن أسئلتكم أيضاً هي أسئلة سريالية .
المسلح 1 : نحن جماعة مسلحون ، ولا وقت لدينا لجدلك البيزنطي . نريد منكِ كلمة ورد غطاها . هل أنتِ مع الرب الذي على اليمين ، أم مع الرب الذي على اليسار ؟
المرأة : أنا مع الرب الذي في كل الأمكنة ..
المسلح 1 : رجعنا إلى البهلوانيات ، والكلمات المتقاطعة ؟
المرأة : ولكن هذه هي أفكاري ..
المسلح 1 : طز بأفكارك .. ومتى كانت المرأة تفكر بغير نهديها ؟
المرأة : تعجبني تقدميتك .. وموقفك الحضاري من المرأة ..
المسلح 1 : وتجيدين التهكم أيضاً ؟ . حسناً هاتي هويتك الصحفية ..
( تفتح المرأة حقيبتها ، وتعطي هويتها للمسلح )
المرأة : تفضل .. هذه هي هويتي الصحفية ..
( يدقق المسلح في الهوية ، ثم بصوت يقطر منه اللؤم والسخرية )
المسلح 1 : ها .. ها .. ها .. جريدة ( المحبة ) .. جريدة ( المحبة ) .. إن حدسي لا يخطئ أبداً ..
إذن أنتِ من سكان الحارة الثانية ، وتشتغلين في جريدة تصدر باللغة العربية ..
المرأة : وهل اللغة الرسمية في لبنان هي اللغة المسمارية .. أم الهيروغليفية ؟
المسلح 1 : اللغة العربية تسبب لمعلمنا حساسية كالحساسية التي يسببها أكل البيض والسمك ...
المرأة : ولكن معلمكم يكتب .. ويخطب .. باللغة العربية ..
المسلح 1 : هذا تكتيك .. قناع .. محاولة التفاف على اللغة العربية . معلمنا شعلة ذكاء ، وبركان عبقرية ..
المرأة : ما شاء الله ..
المسلح 1 : والآن قولي لنا ، في أي قسم من أقسام الجريدة تعملين ؟
المرأة : أعمل سكرتيرة لرئيس التحرير ، وأجري التحقيقات التي يكلفني بها مع رجال السياسة .
المسلح 1 : أذكر أنني قرأتُ بعض تحقيقاتك في جريدة ( المحبة ) . وبكل صراحة أقول لكِ إنها لا تعجبني ..
المرأة : الدنيا أذواق . ولكن ما هو اعتراضك على كتاباتي ؟
المسلح 1 : كتاباتكِ تنطق بلسان الحارة الثانية .
المرأة : لبنان ليس حارة يا سيدي . ليس حارتي ولا حارتك . وإنما هو مجموع الحارات التي تقتسم الفرح ، والآمال ، والخبز ، والدموع ..
والكاتب الحقيقي لا يتكلم بلسان الحارة .. وإنما هو الناطق الرسمي بلسان الأمة .. بلسان الإنسان ..
الكاتب الحقيقي هو الذي يرتفع من الخاص إلى العام ، ومن الجزء إلى الكل .. ومن القوقعة إلى البحر ..
المسلح 1 : كتابتكِ هي دقة قديمة .. وأفكاركِ دقة قديمة .. ومفرداتكِ دقة قديمة ..
المرأة : مثل ماذا ؟
المسلح 1 : مثل المحبة ، التعايش ، التسامح ، المساواة ، الديمقراطية ، العدل الاجتماعي ..
المرأة : هل صارت المحبة موضة عتيقة ؟
المسلح 1 : طبعاً .. طبعاً .. إنها مرحلة رومانسية تجاوزها الزمن . إن نقطة ضعف لبنان كان رومانسيته .. ولذلك استوطى الناس حائطنا ، وركبونا ... لأنهم اعتبروا أن لبنان ليس أكثر من مزرعة تفاح .. ومعصرة عنب .. وكأس عرق .. وصحن كبة نية ..
المرأة : وما هو بديل التفاح ، والعنب ، وصوت فيروز ؟
المسلح 1 : البديل هو هذا ... ( يشير إلى مسدسه ) ..
المرأة : ولكن هذا ( تشير إلى المسدس ) .. ربما ينفع في قطع طريق .. أو السطو على مصرف ، ولكنه لا ينفع في تأسيس دولة ..
المسلح 1 : لقد أسسنا ( دولة جنونستان ) .. وانتهى الأمر ، واعترف بنا أكثر دول العالم .
المرأة : ( جنونستان ) .. ( جنونستان ) .. هل هذا اسم دولتكم الحقيقي ، أم أنه اسم الدلع ؟
المسلح 1 : أنتِ قليلة أدب .
المرأة : شكراً ..
المسلح 1 : وطابورٌ خامس ..
المرأة : شكراً ..
المسلح 1 : ومتآمرة على سلامة الجمهورية ..
المرأة : أية جمهورية ؟ جمهورية قرص الأسبرين ؟
المسلح 1 : ستدفعين ثمن هذا الكلام في نهاية التحقيق . والآن نريد بعض التفاصيل عن تاريخ ومكان ولادتك ، ولون عينيكِ .. وطول قامتك ..
المرأة : لماذا ؟ هل تريدون أن تخطبوني ؟
المسلح 1 : أعوذ بالله .. نحن نريد أن نقتلك .. لا أن نخطبك ..
المرأة : إذا كنتم تريدون أن تقتلوني ، فلماذا تجمعون كل هذه التفاصيل عن مواصفاتي الجسدية .. ثم ألا تعرفون أنني مخطوبة ؟؟
المسلح 1 : مخطوبة ٌ لمن ؟
المرأة : مخطوبة ٌ لواحد من أولاد حارتكم ؟
المسلح 1 : واحدٌ من أولاد حارتنا ؟ مستحيل . أنتِ كذابة .. أنتِ حالمة .. أنتِ مجنونة ..
المرأة : أنا لستُ كذابة . أنا امرأة ٌ لها قلب .. وقد تصادف أن أحبني رجلٌ من أولاد حارتكم ، وأحببته .. فهل عندكم مانع ؟
المسلح 1 : طبعاً .. هناك أكثر من مانع . مانعٌ حزبي . ومانعٌ جغرافي . ومانع طائفي . ومانع ديموغرافي . ومانع حضاري .
المرأة : ولكن حبنا قفز فوق كل هذه الحواجز المصطنعة .. فذابت كما تذوب جبال الجليد ..
المسلح 1 : إنني عاجزٌ عن تصديقك أيتها المرأة .. عاجزٌ عن تصديقك .. فأولاد حارتنا لا يمكن أن يحبوا بنات حارتكم . إن الحزب لا يوافق .
المرأة : ومن قال لكم إنني أريد أن أتزوج الحزب ؟؟
إن الحب لا ينتظر موافقة الحزب ، ولا المكتب السياسي ، فهو يسقط كالمطر على كل الحارات .. ويتفتح كشقائق النعمان في كل البراري ..
المسلح 1 : إذا صح ما تقولين أيتها المرأة .. فسوف نقتله ونقتلك ، لأن زواجكما يتناقض مع استراتيجية الحزب ، واجتهادات مُنظريه ..
نحن ضد هذا الحب الفوضوي .. ضد هذا الفلتان العاطفي الذي من شأنه أن يمحو خصائص حارتنا .. ويحمل إليها الخراب ..
المرأة : الحب لا يخرب المدن . الكراهية هي التي تخربها . إن جميع ما على سطح الكرة الأرضية من بحار ، وأنهار ، وجبال ، وغابات ، وعصافير ، وفراشات ، وسنابل قمح .. وجميع ما في السماء من شموس ، وكواكب ، ومجرات ، هي مِن صُنع الحب . إن الله فِعْلُ محبة .. فلماذا يعارض حزبكم مشيئة الله ؟
المسلح 1 : كل النساء بطبيعتهن رومانسيات .. وانفعاليات . ولذلك فهن لا يصلحن للحكم والقيادة . إنهن يخلطن دائماً بين شؤون القلب وبين مصالح الدولة العليا ، كما فعلت كليوباترا .. وتكون النتيجة سقوط الإمبراطوريات واندثار الممالك .
المرأة : هل تسمح لي أن أوقظ ذاكرتك قليلاً ، فأذكرك أن كل الحروب في التاريخ أشعلها رجال ، وكل الكوارث والمجازر البشرية هي مِن صُنع الرجال ، فهولاكو ، وجنكيزخان ، ونيرون ، وجمال باشا السفاح ، والإمبراطور بوكاسا كانوا كلهم رجالاً .
أما ماري أنطوانيت المسكينة فقد قطعوا رقبتها ، لأن الثورة الفرنسية كانت بحاجة إلى امرأة لتــُسند إليها الدور النسائي ..
وفي لبنان ، من الذي ورَّط البلد بهذه الحرب القذرة سوى الرجال ؟
منذ عام 1943 وأنتم تحكمون لبنان ، أيها الرجال ، حكماً إقطاعياً ، عشائرياً ، عائلياً ، وراثياً .. تنتقل فيه الزعامات التاريخية إلى الذكور وحدهم ..
البيك يسلم التاج إلى البيك ..
والأفندي إلى الأفندي ..
والشيخ إلى الشيخ ..
أما النساء ، فقد تركتموهن دائماً خارج الشركة السياسية المحدودة الأسهم ، وعهدتم إليهن - حفاظاً على أنوثتهن كما تدعون - بأشغال الإبرة ، وزيارة المرضى والمساجين ، وشغل كنزات الصوف للأيتام ، ورعاية المكفوفين ، وأعمال الطبخ والتمريض ..
المسلح 1 : وماذا تعرف المرأة أن تفعل أكثر من هذا ؟ هذه هي الوظائف الطبيعية والتقليدية التي خلقها الله من أجلها ..
المرأة : الله لا يتدخل في تشكيل الوزارات ، ولا يمارس أعمال التفرقة العنصرية . وليس هو الذي عيَّن مارغريت تاتشر ، وإنديرا غاندي رئيستين للوزارة .. ليس هناك يا سيدي ، وظائف تقليدية خاصة بالمرأة ، وأخرى خاصة بالرجل .. هذه التقسيمات أوجدها الرجال ، ثم مع مرور الزمن ، اعتبروها إرثاً أبدياً لهم .
وهكذا احتكرتم العمل السياسي ، والإداري ، والقضائي ، والاقتصادي لأنفسكم ، كما يحتكر تجار الحرب السكر ، والرُز ، والطحين .
المسلح 1 : تقولين العمل السياسي ؟ وهل ثمة امرأة تفهم أصول العمل السياسي ؟
( تضحك المرأة ضحكة عالية )
المسلح 1 : ماذا يضحكك ؟
المرأة : يضحكني قولك ( العمل السياسي في لبنان ) . فهل تعتقد أن في لبنان سياسة أو سياسيين ؟
في لبنان - يا سيدي - مجموعة من الدكاكين تبيع وتشتري سياسة . هناك متعهدو سياسة كمتعهدي الأبنية والطرقات . هناك سماسرة .. ومضاربون .. وكومسيونجية سياسة ..
استأجروا لبنان إجارة طويلة لمدة 990 سنة ، قابلة للتجديد ، ولا يزالون يرفضون إخلاء المأجور ..
إن دم لبنان يلطخ أصابعكم أيها الرجال . أما النساء فلم يتورطن في يوم من الأيام في عملية القتل ، لأنهن أرق قلباً .. وأنقى وجداناً .. وأكثر حناناً من ذكور القبيلة ..
المسلح 1 : الثورة لا تقوم على الحنان .. ورقة القلب ..
المرأة : وعلى ماذا تقوم الثورة ؟
المسلح 1 : تقوم على التصفيات الدموية ، لا على الرسائل الغرامية .. تقوم على سلاح المسلحين .. لا على ثرثرة المثقفين . إن ثقافة المسدس هي أهم عندي من ثقافة الوردة ...
المرأة : هذا كلام جزارين .. لا كلام ثوريين ..
المسلح 1 : الألقاب والنعوت لا أعبأ بها . ما دمتُ قد انتصرت ، فليقل عني التاريخ ما يشاء ..
هناك ثقافة واحدة هي ثقافة القوة . حين أكون قوياً ، يحترم الناس ثقافتي . وحين أكون ضعيفاً ، أسقط أنا ، وتسقط ثقافتي معي .
عندما كانت روما قوية عسكرياً ، كانت اللغة اللاتينية سيدة اللغات .. وعندما سقطت الإمبراطورية الرومانية ، صارت اللغة اللاتينية طبق سباغيتي .
الثقافة ، يا سيدتي ، ليست في عدد الكتب التي أقرؤها ، ولكنها في عدد الرصاصات التي أطلقها ..
المرأة : هذه ثقافة مجرمي حرب .. ثقافة قاطعي طريق .. ثقافة مافيات ...
إن تعريفك للثقافة مرعبٌ .. مرعبٌ .. مرعبْ ...
المسلح 1 : أرجو أن لا تعطيني دروساً في الثقافة . إن ثقافتكم ثقافة حشاشين .. وثقافتنا ثقافة انقلابيين .
أنتم تكتبون بالقلم .. ونحن نكتب بالمسدس ..
المرأة : ولكن المسدس أميّ .. لا يقرأ ولا يكتب ..
المسلح 1 : على العكس . المسدس هو أكبر أدباء هذا العصر . هل تريدين أن أجرب فيكِ ثقافتي ؟
( يضع مسدسه في صدغها )
الرصاصة التي سأطلقها عليكِ الآن ، ستكون أجمل من كل الشعر الذي كتبه شعراؤكم .. ابتداء من المتنبي .. حتى أحمد شوقي .. وخليل مطران .. فما رأيكِ بثقافة ( جمهورية جنونستان ) ؟
المرأة : ثقافتكم مثل ثقافة التتار والمغول ، هي ثقافة اجتياح ، وسبي ، وحرائق ..
إنني أعرف أنك ستقتلني . ولكن موتي لن يحقق لك الانتصار .
فثقافتي حتى بعد الموت .. ستكون أهم من ثقافتك ، وأعمق ، وأكثر إنسانية ..
طبعاً .. أنت تستطيع أن تقتلني . ولكنك لن تستطيع قتل لبنان الثقافي والفكري والحضاري . ( فجمهورية جنونستان ) التي تتبجحون بها لا مصير لها . فهي كالحمل الكاذب لا يمكن أن تمكث طويلاً في رحم لبنان .
المسلح 1 : أنتِ امرأة وقــحــة ..
المرأة : شكراً ..
المسلح 1 : وكـــلبــة ..
المرأة : شكراً ..
المسلح 1 : وعــاهـــرة ..
المرأة : شكراً ..
المسلح 1 : هل ( جمهورية جنونستان ) التي بنيناها بجماجم الموتى ، وجثث الأطفال المحترقة ، وألوف المشوهين والمعاقين هي في نظركِ حملٌ كاذب ؟
المرأة : الكراهية لا يمكن أن تحبل ، ولا أن تلد ...
( يتقدم نحوها أكثر ، ويُلصِق مسدسه بصدغها )
المسلح 1 : وما هي أمنيتكِ قبل أن تموتي ؟
المرأة : أمنيتي أن أرى خريطة لبنان القديم .. لبنان الـ 10452 كيلومتراً مربعاً .. قبل أن تمسخوه .
المسلح 1 : لا يوجد عندنا غير خريطة ( جمهورية جنونستان ) .
المرأة : تقصد قرص الأسبرين ؟ لا .. لا .. انقعها واشرب ماءها .. فهي حملٌ كاذب ..
( يطلق الرصاص عليها .. تسقط المرأة على الأرض وهي تردد : )
حملٌ كاذب ..
حملٌ كا ... ذ ... بْ ...
كا ... ذ ... بْ
كا ... ذ ... بْ
كا ... ذ ... بْ
ستار
الفصل الثالث
العام 2000
(( بعد خمس وعشرين سنة على تأسيس ( جمهورية جنونستان ) . ساحة العاصمة الجديدة . وفي البعيد يلوح قصر الحاكم على رابية .
في منتصف الساحة تمثالٌ برونزي كبير للحاكم بسبعة عيون ، وعلى قاعدة التمثال كُتبت هذه الكلمات :
( بطل التحرير ، ومؤسس ( جمهورية جنونستان ) ، هدية الشعب إليه بمناسبة انتصاره في حرب التحرير ) .
مقهى على يسار المسرح فيه ثلاث طاولات ، كُتِبَ على مدخله ( بار ومقهى النسيان ) .
فرقة موسيقى الجيش تمر ، وهي تعزف أناشيد وطنية ، والأولاد يتبعونها . زينة ٌ ورقية . بالوناتٌ ملونة . لافتاتٌ على عرض الشارع تحمل كلمات التأييد للبطل .. والمنقذ .. والمحرر ..
ثلاثة أشخاص يجلسون في المقهى ( هم نفس الأشخاص الذين كانوا يقومون بدور المسلحين الثلاثة في الفصل الثاني ) .
أولهم : صاحب ( مقهى النسيان ) . الكومندان السابق والمسؤول الحزبي عن تدريب مسلحي الحزب عام 1975 .
ثانيهم : طبيب الحي .
ثالثهم : معلم المدرسة )) .
معلم المدرسة : نهارك سعيد يا كومندان ..
صاحب المقهى : نهارك سعيد .
معلم المدرسة : جئنا أنا والحكيم لنسلم عليك بمناسبة عيد الاستقلال . فأنت يا حضرة الكومندان واحدٌ ممن صنعوا هذا اليوم التاريخي المجيد . واحدٌ من الأعمدة الرئيسية لهذا الوطن .
الطبيب : طبعاً .. طبعاً .. الكومندان هو الحجر الأساسي في بناية ( جمهورية جنونستان ) .
صاحب المقهى : أي حجر ؟ أي بناية يا حكيم ؟ البناية طوَّبها صاحب البناية الذي هناك على اسمه ...
( يشير بيده إلى قصر الحاكم )
أنا لست أكثر من صاحب ( مقهى وبار النسيان ) . أرجو أن تقرأوا جيداً كلمة ( النسيان ) المكتوبة بأحرف كبيرة على باب المقهى ..
لذلك ، أرجو أن تتركوا ذكرياتنا المشتركة على باب المقهى .
معلم المدرسة : ولكن ذكرياتنا معك في خريف عام 1975 لا يمكن أن تـــُنسَى بسهولة . فلقد حاربنا في خندق واحد .. وتعلمنا منك كيف نحمل السلاح ، وكيف نقاتل في سبيل قضية كبرى ..
صاحب المقهى : قبل 25 سنة كانت قضية كبرى ...
معلم المدرسة : والآن ؟ ..
صاحب المقهى : تقلصت .. كما يتقلص الثوب المنقوع في الماء ..
من كان يتصور أن المدينة التي رسمناها في مخيلتنا بألوان قوس قزح ، وسقيناها دمع العين ، ودم القلب ، ستتحول إلى معتقل ؟
من كان يتصور أن الجمهورية التي أردناها بحجم الكون ، أصبحت أضيق من خرم الإبرة ..
من كان يتصور أن الحزب الذي منحناه زهرة حياتنا ، صار مؤسسة للتهريب ، والاستيراد ، والتصدير ، والعمولات ؟
ثم .. من كان يتصور أن ( المعلم ) الذي كنا نضعه في مرتبة الأولياء والقديسين .. يتحول إلى رئيس عصابة ؟ ...
معلم المدرسة : ولكنك كنت من أشد المتحمسين ( لجمهورية جنونستان ) ، بل كنتَ مستعداً أن تقتل نصف العالم من أجل قيام الجمهورية الجديدة .
صاحب المقهى : في تلك الفترة كنتُ وحشاً حزبياً .. وكنت أعتبر القتل في سبيل الحزب ، صلاة يومية أمارسها . وأن كل قتيل أقتله .. جواز سفر أدخل به الجنة ...
هل تذكران تلك الفتاة الصحفية التي أطلقتُ النار عليها ، لأنها قالت لي إن جمهوريتنا حمل ٌ كاذب ؟
هل تذكران الجثة التي طمرناها معاً في ليل خريفي من ليالي عام 1975 ؟
إنها لم تكن جثة امرأة .. بقدر ما كانت جثة الحقيقة .
لم أكن أعرف عندما قتلتها أنني كنتُ أقتل الحقيقة .. كنتُ أقتل الشمس .. كنتُ أقتل الشجر .. كنتُ أقتل المطر .. كنتُ أقتل الشعر والموسيقى والحقول والمواسم واللون الأخضر ..
كنتُ أقتل جنين الحب النائم في أعماقها .
كنتُ أقتل في عينيها قمر الحرية ..
كانت جميلة ، وشجاعة .. وكنا بشعين وجبناء ..
كانت حمامة سلام .. وكنا أولاد آوى ..
كانت حديقة عابقة بالعطر .. وكنا صناديق قمامة ..
كانت ليبرالية ومنفتحة كالبحر .. وكنا ضيقين كمحارة بحرية فارغة ..
كانت تنتمي بأفكارها إلى القرن الواحد والعشرين ، وكنا ننتمي إلى القرون الوسطى ..
كانت تتكلم باسم الله ، وكنا نتكلم باسم الشيطان .
هل تتذكران هذه المرأة الخرافية ؟ إنني لا أزال أحمل جثتها على كتفي منذ 25 سنة ، بحثاً عن مكان أدفنها فيه ، ولكن دون طائل . لأن جثة الحقيقة لا تــُدْفــَن ..
لقد قتلتُ أشخاصاً كثيرين غيرها .. وارتكبتُ مئات الجرائم السياسية التي أمرني الحزب بارتكابها في تلك الحقبة المجنونة من التاريخ ...
ولكن جميع قتلاي لم يجثموا على ضميري مثلما تجثم هذه المرأة ..
مستحيل ٌ .. مستحيل ٌ أن أنسى هذه المرأة ..
كلما آويتُ إلى فراشي رأيتُ عينيها تشتعلان كالبرق في ظلام الغرفة ، وسمعتُ صوتها يضرب على الجدار كدقات الساعة :
جمهوريتكم حمل ٌ كاذب ..
حمل ٌ كاذب ..
حمل ٌ كاذب .
لماذا قتلتُ هذه المرأة التي كانت عيناها تحتشدان بالنبوءات ؟
لماذا أخرستُ هذا الصوت الذي كان يكشف ستائر الغيب ؟
لماذا أطلقتُ النار على هذه الحمامة الأليفة التي كانت تبشر بالجمال والشِعر والمحبة ؟
آهٍ .. لو أستطيع أن أذهب إلى قبرها لأغسل رخامته بدموعي .
آهٍ .. لو أستطيع أن أعتذر لها عن جريمتي .. فقد كانت تمثل الحضارة ، وكنا نمثل العصور الهمجية .
كانت ترى الأشياء بعين الحب .. وكنا نراها بعين الحقد ..
إن حوارها معي لا يزال حتى هذه اللحظة محفوراً في ذاكرتي . لذلك أحاول الهروب منها إلى ( مقهى وبار النسيان ) ..
إنني لا أستطيع أن أهرب من هذه المرأة ..
لا أستطيع أن أهرب من هذا الوجه الذي كان يضئ أمام بنادقنا المرفوعة كوجه المجدلية ، ولا هذا الصوت الواثق المتكبر الذي كان يتدفق كمطر استوائي ، ويجرفنا نحن الثلاثة أمامه كمراكب مصنوعة من الورق ...
عجيبٌ أمر هذه المرأة الخرافة ..
كانت هي في حالة عشق ، وكنا في حالة لا عشق ، فلم نستطع أن نتفاهم معها ..
كانت عالية كأشجار الحنان ..
وكنا أقزاماً كطحالب الكراهية .. فلم نستطع أن نتفاهم معها ..
كانت عيناها السوداوان تكشفان الغيب ، وتكتبان النبوءات ..
معلم المدرسة : ولماذا قتلناها إذن ؟
صاحب المقهى : لأننا كنا نجهل القراءة .. قراءة النبوءات .
معلم المدرسة : وبماذا تنبأت هذه المرأة ؟
صاحب المقهى : تنبأت بنهاية هذه الجمهورية الكاريكاتورية .. وقالت إنها ستأكل نفسها بنفسها .. كما تأكل الهرة أولادها ..
معلم المدرسة : ولقد صدقت النبوءة ، فأكلت الثورة أولادها ..
الطبيب : وماذا قالت أيضاً ؟
صاحب المقهى : قالت أشياء كثيرة لا أتذكر تفاصيلها بدقة ، بعدما طمس موج السنين حروفها .. ولكن من أهم ما قالته - على ما أذكر - إن الله ليس قالب جبنة نقطعه بسكين الطائفية ..
معلم المدرسة : بديع .. بديع .. وماذا قالت أيضاً يا كومندان ؟
صاحب المقهى : قالت إنها ضد لبنان الشرائح .. ولبنان الفتافيت .. ولبنان السيراميك .. ولبنان الغيتوهات .. والدوقات ..
واعترفتْ أنها تحب رجلاً من غير طائفتها ، لأنها تحتقر حكم ملوك الطوائف ...
كان الوطن عندها عباءة حنان يلبسها الجميع ، وكان الحب عندها هو الدين الحقيقي الذي يجمع كل الناس .
وكانت تؤمن أن مبرر وجود لبنان هو الحب . فإذا يبست شجرة الحب على أرضه ، يبست شرايينه ، وتوقف قلبه ..
معلم المدرسة : هذا كلامٌ رائع .. وصادق ..
صاحب المقهى : الكلام الذي نعتبره اليوم رائعاً وصادقاً ، لم يكن قبل 25 سنة رائعاً ولا صادقاً ..
في تلك الحقبة السوداء من الزمن ، كنا مجموعة من الثيران الإسبانية لا ترى أمامها سوى راية الحزب المصبوغة بالدم .. وكانت شهيتنا للقتل كشهية التماسيح وأسماك القرش ..
معلم المدرسة : ولكن حوار هذه المرأة كان قطعة شِعر ..
صاحب المقهى : هل سمعت عن سمكة قرش تقرأ الشِعر ؟ .. وأعترف لكم أنني كنت في عام 1975 سمكة قرش .. وكنتُ من الحماقة بحيث تصورتُ أن صوت الرصاصة أهم من صوت البلبل .. ومن صوت فيروز ..
الطبيب : من هي فيروز هذه ؟ إن كل مرضاي الذين يتلقون عندي علاجاً نفسياً يبكون عند ذكر اسمها ..
صاحب المقهى : كلنا نبكي الآن عند سماع صوتها . إن فيروز مغنية ٌ لبنانية جاءت قبل 50 سنة ، أي قبل ولادة ( جمهورية جنونستان ) ، وكان صوتها الصندوق السحري الذي خبأنا فيه أجمل أقاصيص حبنا ، وأخبار طفولتنا ، وأسماء حبيباتنا ..
ولأن صوت فيروز كان وعاء الكريستال الذي سكبنا فيه صلواتنا ، وذكرياتنا ، وأحلامنا ، ولأنه كان الصورة الزيتية الرائعة لوجه لبنان القديم ، فإن جهاز المخابرات العسكرية في ( جمهورية جنونستان ) أصدر منذ 25 سنة قراراً بمنع اسطواناتها وأشرطتها من التداول .. لأنه اعتبر صوتها خطراً على الأمن القومي ...
ورغم العقوبات الصارمة التي يتعرض لها كل شخص يقبضون عليه متلبساً بجريمة الاستماع إلى فيروز .. أو محتفظاً بشريط قديم لها ، فإن الذين عاصروا فيروز من اللبنانيين ، لا يزالون يتناقلون أشرطتها بصورة سرية ، كما يتناول المدمنون الحشيش والأفيون ، كلما حركهم الشوق إلى العهد القديم ..
الطبيب : الآن .. بدأتُ أفهم حالة أكثر مرضاي ، ولا سيما الكهول منهم . إنهم يعانون انفصاماً نفسياً حاداً ، فهم منشطرون في داخلهم إلى جزئين . جزء يعود تاريخياً إلى ما قبل 13 نيسان 1975 ، وجزء يعود إلى ما بعد هذا التاريخ .
لذلك يحدث الصراع المرير في ذواتهم ، بين ماض ٍ يحبونه ولا يستطيعون الذهاب إليه ، وبين حاضر ٍ يكرهونه ولا يستطيعون الفرار منه ..
وعلى ذكر المرأة التي قتلناها على الحاجز عام 1975 ، دعني أعترف لك يا كومندان ، أنها لا تطاردك وحدك ، وإنما تطاردني أيضاً ...
إنها تسكنني كالسر .. وتتمدد على الفراش بيني وبين زوجتي ، وتذهب معي إلى عيادتي ، وتتدخل في حواري مع مرضاي ..
هل أعترف لكم بسر لم أقله حتى الآن لأحد ؟ لقد درستُ الطب النفسي لأشفى من شبح هذه المرأة التي امتزج دمها بطعامي وشرابي وقهوتي اليومية .
وسافرتُ إلى أوروبا ، وتابعت آخر المكتشفات في حقول الطب النفسي ، علني أجد حالة تشبه حالتي ، ولكنني مع الأسف لم أصل إلى نتيجة ، فقد صارت هذه المرأة هي الطبيبة .. وأصبحتُ أنا المريض .
تصوروا .. أنا طبيب المدينة الذي ما زال واقعاً تحت تأثير مريضة ماتت منذ 25 سنة ...
صاحب المقهى : ماتت ؟ هل تظن أنها ماتت يا حكيم ؟ إنني أعرف أن الموتى إذا ماتوا يذهبون إلى مكان آخر .. إلا هذه المرأة ، فإنها تتجول حين يهبط الظلام على شوارع المدينة ، وتطرق كل الأبواب ، وتوقظ كل النائمين ، وتكتب على جدران المدينة بخط عريض .. عريض ..
(( جنونستان .. أنتِ حمل ٌ كاذب .. ))
معلم المدرسة : يا لها من كلمة مأثورة !!
صاحب المقهى : يا لمفارقات القدر . من يصدق أنني قتلتُ هذه المرأة لأنها تلفظت بهذه الكلمة المأثورة ؟ ..
معلم المدرسة : أقتلتها من أجل هذا ؟
صاحب المقهى : نعم .. لم أستطع تحمل سخريتها وتهكمها وتشبيهها جمهوريتنا مرة بحبة الأسبرين .. ومرة بالغيتو .. ومرة بالحمل الكاذب .. فأطلقتُ عليها الرصاص ، ولكنها ظلت تضحك بينما كان الدم يتفجر من رأسها ..
معلم المدرسة : وعلى من كانت تضحك ؟
صاحب المقهى : طبعاً علينا .. كانت ( جمهورية جنونستان ) بالنسبة إليها عبارة عن نكتة تسمعها للمرة الأولى . ولم أكن أستطيع أن أوقفها عن الضحك .. فقتلتها ..
الطبيب : وبالرغم من قتلها ، فإننا لم نستطع أن نمنعها من الضحك . إن القتل ليس جواباً مقنعاً ونهائياً .. لذلك ظلت هذه المرأة تضحك علينا 25 سنة ، ولا تزال تضحك حتى الآن ...
معلم المدرسة : ولماذا تتوقف عن الضحك ، والكرنفال لا يزال شغالاً ، والكوميديا مستمرة ؟
والجمهور مضطر أن يضحك ، لأنهم أصدروا مرسوماً منعوه بموجبه من البكاء ..
الطبيب : بالفعل .. إنهم صادروا من الصيدليات جميع حبوب البكاء ..
معلم المدرسة : وما هو الدواء المسموح ببيعه في صيدليات المدينة ؟
الطبيب : المهدئات العصبية .. الفاليوم .. والليبريوم .. والنوروكالسيوم .. والمورفين ..
إن مدينتنا تستهلك من المهدئات أكثر مما يستهلك العالم كله . إن هذه المدينة مأزومة ٌ نفسياً وعصبياً .. فمنذ أن افتتحت عيادتي منذ خمسة عشر عاماً وأنا لا أستقبل إلا نوعاً معيناً من المرضى ، هم المصابون بالشيزوفرينيا ، والعُصاب ، والسوداوية ، ومرض الكآبة ، والصرع ، والهلوسة ، وفقدان الذاكرة ..
صاحب المقهى : يعني أن مدينتنا صارت مدينة مجانين ! ..
الطبيب : التأزم النفسي هو الكلمة العلمية البديلة لكلمة جنون ..
إنني أحاول تفسير هذه الظاهرة الخطيرة ، ولطالما سألتُ نفسي : لماذا لا يشكو أهل مدينتنا من أسنانهم ، أو من مفاصلهم ، أو من أمعائهم الغليظة ، وإنما يشكون من عقولهم فقط ؟ .
صاحب المقهى : لقد تأخرتَ باكتشافك يا حكيم .. فعقل هذه المدينة صادرته الحكومة منذ ربع قرن ..
الطبيب : معك حق يا كومندان . إنني أشعر كما لو أن الذين يدخلون إلى عيادتي ، إنما يبحثون عن عقلهم الضائع .
معلم المدرسة : ولماذا تصادر الدولة عقول رعاياها ؟
صاحب المقهى : لكي تحكُمْ ..
معلم المدرسة : ومن يمنعها من أن تحكم ؟
صاحب المقهى : عقل المحكومين . فالعقل معارضٌ أزلي ..
معلم المدرسة : الآن أفهم لماذا سموا جمهوريتنا ( جمهورية جنونستان ) ..
صاحب المقهى : صح النوم .. يا أستاذ .
معلم المدرسة : ولكن غياب العقل ، يهدد الوطن بالانقراض .
الطبيب : ومن قال لك إننا لسنا في طريقنا إلى الانقراض ؟
لو رجعنا إلى الدراسات العلمية ، لوجدنا أن النبات ، والجماد ، والبشر ، قد تعرضوا خلال ربع القرن الأخير إلى تغييرات بيولوجية أساسية . فجمجمة الإنسان أصبحت أصغر .. وعظام فكيه صارت أضخم .. وذنبه صار أطول ...
فجبال الوطن احدودب ظهرها ، وأشجاره أصيبت بالروماتيزم فلم تعد قادرة على الوقوف ، وعصافيره نسيت عادة الطيران ، وأسماكه نسيت غريزة السباحة ، وشعراؤه نسوا كتابة الشِعر ...
معلم المدرسة : ومن أين يأتي الشعر يا حكيم ؟
إن الشعر وردة لا تطلع من الأرض الكبريتية المالحة ..
هل تصدقون أن رواد الفكر والشعر في لبنان ، والعالم العربي ، موضوعون في القائمة السوداء مع مهربي الهيروين وحشيشة الكيف ..
وأننا لا نجرؤ في مدارسنا على تدريس المتنبي ، وأبي تمام ، والجاحظ ، وطه حسين ، والعقاد ، وتوفيق الحكيم ، واليازجي ، والبستاني ، وميخائيل نعيمة ، وإيليا أبو ماضي ، والشاعر القروي ، وبشارة الخوري ، وأمين نخلة ، وإلياس أبي شبكة .. لأنهم معتبرون من شعراء العهد البائد وعصور الانحطاط ..
الطبيب : وكيف يحددون عصور الانحطاط ؟
معلم المدرسة : كل تاريخ قبل 13 نيسان 1975 هو عصور انحطاط . لذلك فإنني لا أدري ماذا أقول لطلابي حين يسألونني عن هؤلاء الكتاب والشعراء المبدعين الذين يسمعون عنهم ولا يجدونهم في كتبهم الدراسية .
صاحب المقهى : قل لهم يا أستاذ إن الشِعر العربي الجميل مطرودٌ من جمهوريتنا . قل لهم إن الثقافة ، والمعرفة ، والكتب ، والأقلام ، والطباشير ، مطرودة ٌ من جمهوريتنا . قل لهم إن الله أيضاً مطرودٌ من جمهوريتنا لأن إقامته قد انتهت .. وليس لديه إجازة عمل ..
الطبيب : وما الجريمة التي ارتكبها الشعراء والمفكرون اللبنانيون والعرب ؟
معلم المدرسة : جريمتهم أنهم يتكلمون اللغة العربية ...
الطبيب : ولكن اللغة العربية هي اللغة الرسمية . لغة الناس ، لغة الأطفال ، لغة البسطاء ، لغة الفقراء ، لغة المصلين ، لغة العاشقين ، لغة النصارى ، لغة المسلمين ، فكيف يمكن إلغاء لغةٍ بانقلاب ؟
صاحب المقهى : العساكر يمكنهم أن يفعلوا ذلك ..
معلم المدرسة : يا حضرة الكومندان ، خفــِّف صوتك ، فإن للحيطان آذاناً مرهفة ، والساحة ملآى بعشرات المخبرين . إن ثلاثة أرباع ( جمهورية جنونستان ) هم من المخبرين .
صاحب المقهى : تساوَى الماء والخشب عندي ... إنني أعرف أنهم يراقبونني ، ويراقبون زبائن المقهى ، ويحشرون أنوفهم في فناجين الشاي والقهوة ، ويتنصتون على ما تقوله الكراسي والطاولات .. ولكنهم لا يقتربون مني ، لأنهم يعرفون أني أعرف ..
ولذلك عندما طلبتُ من وزير الداخلية أن يمنحني رخصة لفتح ( مقهى وبار النسيان ) أرسل لي الرخصة بخمس دقائق مع مرافقه الخاص ، كما أرسل لي باقة ورد جميلة يوم افتتاح المقهى ..
أعجبهم اسم المقهى كثيراً .. لأنهم يريدون شعباً بلا ذاكرة . شعباً يتعاطى حشيشة النسيان .
الطبيب : إذا كانت اللغة العربية - كما يقول الأستاذ - محجوزاً عليها الآن .. فبأي لغة يتكلم الوطن ؟
معلم المدرسة : إنه لا يتكلم . منذ 25 سنة ، والوطن لا يتكلم .
الطبيب : وكيف يعبر الشعب عن نفسه في ( جمهورية جنونستان ) ؟
معلم المدرسة : بالإشارات .. كالأولاد المعاقين ..
الطبيب : ولكن الأولاد المعاقين لا يتكلمون لسبب عضوي .
معلم المدرسة : والشعوب قد تتوقف عن الكلام لسبب بوليسي . وإذا كنا نحن الثلاثة لا نزال محتفظين بقدرتنا على الكلام ، فلأننا آخر الحيوانات الناطقة في ( جمهورية جنونستان ) .
صاحب المقهى : يظهر أنكم نسيتم أنكم في ( مقهى النسيان) وأنه من الأفضل لكم أن لا تفتحوا أبواب الذكريات عليكم ، لأن نار الذكريات قد تــُحرق أصابعكم .. وتخرب بيوتكم ..
( ينهض الطبيب ومعلم المدرسة ) .
الطبيب ومعلم المدرسة : نهارك سعيد .. يا كومندان ..
صاحب المقهى : نهاركم سعيد .. يا آخر الحيوانات الناطقة في ( جمهورية جنونستان ) ..
نهاركم سعيد .. يا آخر ديناصورات لبنان القديم .
ستار
( لبنان سابقاً )
نزار قباني
مسرحية من ثلاثة فصول
كتبتُ هذه المسرحية في بيروت عام 1977 في بدايات الحرب الأهلية اللبنانية .
وأنشرها في عام 1988 , أي : بعد أحدَ عشرَ عاماً من كتابتها ,
دون أي إضافة أو تعديل .
فوقائع الحرب اللبنانية , بعبثيتها , ووحشيتها , وجنونها , بقيت هي . . هي . .
والمسرحية بقيت هي َ . . هيَ . .
نزار قباني
الفصل الأول
المكان : مطار ( جمهورية جنونستان ) .
علمٌ عليه سَبعُ أرزات . . يرتَفِعُ فوقَ المبنى .
صورةٌ كبيرةٌ جداً . . لِرئيس الدولة في صدر قاعة المكان , وفي وجهه سبعُ عُيُونْ .
موظفو أمن عام , وجمارك , ومخابرات .
إلى اليمين بابٌ كُتِبَ فوقه : ( باب رقم / 1 - المغادرون ) .
إلى اليسار بابٌ كُتِبَ فوقه : ( باب رقم / 2 - القادمون ) .
حركةٌ غير عادية عند باب المغادرة .
وباب ( القادمون ) لا يدخل منه أحد .
مُكبرات الصوت تُعلن عن إقلاع الطائرات إلى باريس , روما ,
لندن , قبرص , أبو ظبي , جدة , الكويت , الدوحة .
يستمر تدفُّق المسافرين نحو باب المغادرة . ثم تهدأ الحركة في
المطار تدريجياً . وتخلو القاعة من المسافرين .
يمرُّ بعضُ الوقت ثم ينفتح الباب ( رقم 2 ) ويدخل منه رجلٌ وامرأةٌ في ثياب السفر . وقد حملَ الرجل حقيبتين كبيرتين ، وحملت المرأة حقيبة تجميل , وبعض المجلات الأجنبية .
يضعُ الرجلُ الحقيبتين على الأرض , ويرتاح قليلاً . بينما تفتحُ المرأة حقيبةَ التجميل , وتبدأ بإصلاح زينتها . . .
الرجل : لا تُشغِلي بالكِ يا حبيبتي . فالجميل لا يحتاجُ إلى تجميل ...
ولكن المُهِمَّ أن تعثري على من يرى هذا الماكياج , أو يكونَ في المطار من يحمل لكِ باقة ورد ...
المرأة : (مُندَهِشة) . ماذا تقصد ؟ ألم تُبرِقْ إلى بيروت بموعد وصولنا , ليرسلوا إلينا سيارة ؟
الرجل : المشكلة ليست مشكلة برقية . . ولا مشكلة العُثُور على سيارة. المشكلةُ هي العُثُور على بيروت .
المرأة : ما هذا الكلام السِريالي ؟
ألم تسمع قائدَ الطائرة وهو يطلب منّا ربط الأحزمة , والتوقف عند التدخين, استعداداً للهبوط في مطار بيروت ؟
الرجل : سمعتُ يا حبيبتي . ولكنَّ الطائرة نزلت في مكانٍ آخر . . رُبَّما هبطنا اضطرارياً في أرض أخرى . . في كوكب آخر ..
المرأة : يا حبيبي . قد يكون الضَغْطُ الجوي أَثَّرَ عليكَ قليلاً . فنحن قد هبطنا هبوطاً طبيعياً . ألم تَرَ من نافذة الطائرة صَخرَةَ "الرُوشَة"..
وبناية "الجيفينور".. وحدائِقَ الجامعة الأمريكية . . ورمال الأوزاعي ؟
الرجل : أؤكدُ لكِ أنني لا أَهذِي , ولا أتوهَّم .. فأنا بيروتيّ ابنُ بيروتي ّ. ولكنَّ ما أراه حولي يوحي بأنّنا أخطأنا في العُنوان . .
المرأة : وهل هناكَ شيءٌ غَلَط ؟
الرجل : بل كُلُّ الأشياء التي أراها غَلَطْ .. هل رأيتِ العَلَمَ المرفوع
فوقَ مبنى المطار ؟
المرأة : رأيتُه ..
الرجل : ألم تُلاحظي أن علمنا صارَ بِسَبْعِ أرْزاتِ .. في حين أننا حين تركنا بيروت آخرَ مرةٍ .. كانَ العَلَمُ اللبناني بأَرْزَةٍ واحدة ...
وصورةُ رئيس الدولة المعلَّقة في صدر القاعة هل تَرينها ؟
( تَتطلَّع المرأة إلى الصورة , وَتَشهَقُ من المفاجأة ) .
المرأة : مستحيل .. مستحيل .. هذه صورة رَجُل بِسبعِ عُيُون .
يا إلهي . . أينَ نحن ؟ في أيِّ كوكبٍ عجيبٍ هبطت بنا الطائِرة ؟ ...
(صوتُ غليظُ النبرَة ينبعث من مكبـِّرات الصوت في صالة المطار ) .
الصوت : هُنا ( جمهورية جنونستان ) . . .
هُنا ( جمهوريّة جُنُونِستَانْ ) . . .
هُنا ( جمهوريّة جُنُونِستَانْ ) . . .
المرأة : أينَ وضعتَ الخريطة ؟
الرجل : ولِماذا تريدينَ الخريطة ؟
المرأة : أريد أن أفتِشَ عن هذه الدولة التي اسمُها (جنونستان).
في أيِّ قارَّةٍ تَقَع ؟
ما هيَ لُغَتها .. ما هو تاريخُها ؟ كم عدد سكانها ؟
الرجل : لا تُتْعِبي نفسَكِ . فلن تعثري عليها لا في كُتُب التاريخ , ولا في أطلس الجغرافيا , ولا بين الدول الأعضاء في الأمم المتحدة . .
إنها دولةٌ مُختَرَعة . . مَسلوقة سَلقاً . . كما تُسلق "السباغيتي" في عشرين دقيقة . . .
( الصوت الغليظ ينبعث مرةً أخرى من مكبِّرات الصوت ) .
الصوت : نُرحِبُ بكم على أرض ( جمهورية جنونستان ) . أرض الشمس , والثلج , والكَرَز , والتُفاح , والحواجز الطيَّارة , والقتلِ على الهويَّة . . .
نُرحِّبُ بكم في هذا المطار المؤقَّت , ريثما يتمُّ تحرير البقية الباقية من جمهوريتنا العظيمة . . .
إن ( جمهورية جنونستان) هي البديلُ الجغرافي والسياسي والتاريخي والحضاري , لما كان يُدْعى في قديم الزمان . . جمهورية لُبْنَانْ.
الرجل : هل صدقتِ الآنَ أننا نزلنا في كوكب آخر؟ . . وأن صخرةَ "الروشة" التي رأيتِها من نافِذة الطائرة كانت نوعاً من خِدَاع البصر .. وأن مستشفى الجامعة الأمريكية لم يكن إلا مستشفى العصفورية ؟
الصوت : لا تؤاخذونا إذا قصّرنا في واجبات الضيافة , وفي تقديم
الخدمات السياحية التقليدية . ففنادقُ الدرجة الأولى كلُّها احترقت .. والمزارعُ احترقت .. والمتاجر احترقت .. والمدارس احترقت .. والمكتبات احترقت .. والشوارع مهجورة بسبب القنص .. والكهرباء مقطوعةٌ .. والمياهُ مقطوعة , والتليفونات صامتة.. والبريد لا يُوزَّع .. والزبالة لا تجد من يَلُمُّها .. والجثث لا تجد من يدفنها..
طبعاً كلُّ هذه المشاكل تعتبر صغيرةً جداً , أمام الإنجازات الكبيرة التي حقَّقتها ميليشياتكم الظافرة .
قد تضطرونَ للوقوف في الطابور ساعاتٍ للحصولِ على رَبطة خبز . . أو على غالون بنزين . . أو على علبة سردين . . أو على غرفة في أحد المستشفيات . . أو على ضريح في إحدى المقابر . .
إن قضية العثور على قبر أو كفن ليست قضية مصيرية . فحينَ ماتَ سيدنا آدم , لم يشيعهُ أحدٌ . . ولم يكفـِّنه أحدٌ . . ولم يَرثِهِ شاعرٌ بقصيدة.
حتى زوجته حوَّاء لم تمشِ في جنازته , وتركت جثّتَهُ في البرية
تنقرُها العصافير . . وتزوَّجتْ غيره . .
لِذلكَ لا تشغلوا بالكم , ولا تفكروا كثيراً في هذا الموضوع . فالأعمارُ بيد الله .. ويد الميليشيات .
لبنانُ القديم ذو الأرزةِ الواحدة انتهى أمرُه , وَدَخلَ متحف التقاليد الشعبيَّة , ومن أجل تحقيق العدالة الاجتماعية بين جميع الطوائف , جعلنا علمَ الدولة بسبعِ أرزاتِ . . وانتخبنا رئيس جمهورية بِسبعِ عُيُون . .
المرأة : يا سلام على الفصاحة . . يا سلام على هذه اللغة الميليشياوية الجديدة .. يا ليتهم خَطَفوا بنا الطائرة , ولم ننزل في دولة ( هيستيرياستان ) أقصد ( جنونستان ) . . .
الرجل : كلُّهُ واحد . .
المرأة : خفِّف من سخريتكَ . . وإلا رُحنا في داهية . .
(رجل مخابرات كان يسترق السمع إلى حديثهما يتقدم نحوهما . . )
رجل المخابرات : ماذا يقصد الأستاذ بكلمة ( واحد ) ؟
الرجل : أقصد أن الله واحد . .
رجل المخابرات : هذه نظرية سقطت من زمن بعيد . . وعلى وجه التحديد ، منذ أن قمنا بتأسيس جمهوريتنا الجديدة . هل أنت لبناني ، أم أنت غريب ؟
الرجل : أنا لبناني غريب . .
رجل المخابرات : لا أفهم . .
الرجل : أقصد أنني خرجتُ من وطني قبل عشر سنوات ، ورجعتُ اليوم لأجده قد صار سبعة أوطان . كما أن الله الذي تركته قبل سفري واحداً . . قسمتموه على سبعة . .
رجل المخابرات : يبدو لي أنك لا تعرف شيئاً عن نظرية العدل الاجتماعي .
إن اقتسام الله هو الحل العلمي الوحيد لإرضاء جميع الطوائف . .
الرجل : ولكن الله غير قابل للقسمة . .
رجل المخابرات : صحيح أنك غشيم ، ولا تفهم في علم اللاهوت . في ( جمهورية جنونستان ) كل شئ قابل للقسمة . . بما في ذلك المرافئ . . والضرائب . . والواردات الجمركية ، والمناهج التعليمية ، ومؤسسة الكهرباء ، ومؤسسة المياه ، والبرق والبريد والهاتف ، والإذاعة ، والتلفزيون . .
ولكن يبدو أنك مواطن غير مثقف . . لا تتابع حركة التاريخ . . ولا تعرف جدول الضرب والجمع والقسمة .
الرجل : أنا أحب الجمع . . وأكره القسمة . .
رجل المخابرات : أنت لا تزال تعيش في حالة طفولة سياسية ، ولكنك مع الزمن سوف تتعود . .
الرجل : أتعود على ماذا ؟ على معتقلي الجديد ؟
رجل المخابرات : بل على حريتك الجديدة .
الرجل : السكنى في داخل ( غيتو ) ليست حرية . إنها عودة بالإنسان إلى عصر المغارة والطوطم .
رجل المخابرات : إنك لا تزال سجين رومانسيتك وأحلامك الوردية . ولا حل لك إلا بإلغاء ذاكرتك . فلبنان القديم لم يعد موجوداً . . .
الرجل : ما دام موجوداً في ذاكرتي . . فهو موجود .
المرأة : قل لي أيها السيد . . من اختار لكم اسم ( جمهورية جنونستان ) ؟ . .
رجل المخابرات : لماذا تسألين هذا السؤال ؟ ألا يعجبكِ الاسم ؟
المرأة : عاشت الأسماء . إنه بالفعل اسمٌ على مُسَمَّى . ولكن . . ماذا فعلتم باسم لبنان القديم ؟
( يهرش رجل المخابرات رأسه كمن يحاول أن يتذكر تاريخاً بعيداً ) .
رجل المخابرات : لبنان . . لبنان . . لبنان . . آه . تذكرتُ الآن . إننا عرضناه في المزاد العلني ، فاشتراه تاجرٌ يهوديٌ يبتاع الثياب القديمة . .
المرأة : وبكَمْ .. بعتم لبنان ؟
رجل المخابرات : في الحقيقة يا مدام . . هذا قرارٌ سري اتخذه الحزب . ولا يعرف الرقم الحقيقي غير رئيس الميليشيا . . والتاجر اليهودي الذي اشتراه منه .
المرأة : وهل بكى الوطن عندما بعتموه ؟
رجل المخابرات : نعم يا سيدتي . الوطن بكى . . ولكن التاجر اليهودي هو الذي ضحك . . .
مكبر الصوت : يُرجَى من حضرات الركاب القادمين التوجه إلى مركز الأمن العام لإنجاز معاملاتهم .
( يحمل الرجل الحقيبتين ، ويتوجه إلى حيث يقف ضابط الأمن العام . يُخرج الرجل من جيبه جوازي سفر لبنانيين ، ويضعهما أمام الضابط . يُقلِب الضابط جوازي السفر ، ثم يرميهما بعصبية أمامه . . ) .
الضابط : هذه جوازات سفر تاريخية . . جوازات سفر منقرضة . . صادرة عن دولة منقرضة لا نعترف بها .
الرجل : منقرضة ؟؟ . . هل يمكن لدولة أن تنقرض بين عشية وضحاها . . هل يمكن لجواز سفر قانوني أن يذوب كفص الملح . . أو فقاعة الصابون ؟
يا حضرة الضابط . نحن قادمان من باريس . ولم يقل لنا أحدٌ في مطار أورلي أن جوز سفرنا قد انقرض . . أو أن لبنان قد انقرض . . .
الضابط : ألم تقرأوا في جريدة ( اللوموند ) أو جريدة ( الفيغارو ) أن جمهورية جديدة قامت في بلادكم ، اسمها ( جمهورية جنونستان ) ؟ .
الرجل : لا يا سيدي الضابط . لم نقرأ . ثم ما هو وضعنا القانوني في مثل هذه الحال ؟ وماذا نفعل في جوازات سفرنا اللبنانية ؟
الضابط : هذا ليس شغلي . ارموها في البحر . . أو خذوها إلى المتحف . . المواطن الحقيقي مفروضٌ فيه أن يعرف القانون . وأنتم كان عليكم أن تراجعوا قنصليات ( جنونستان ) في الخارج ، لاستبدال جوازات سفركم .
الرجل : ولكنكم لم تفتحوا أي قنصلية في الخارج . ثم إن قناصل لبنان الذين راجعناهم ، كانوا مثلنا مقطوعين من الأخبار . . والمرتبات . . ولا يعرفون شيئاً عن قيام ( جمهورية جنونستان ) .
الضابط : ( بانفعال وغضب شديدين ) : هذا إهمال .. هذا تقصير .. هذا تخريب .. ماذا يفعل وزير خارجيتنا إذن ؟ . ماذا يفعل سفراؤنا في الخارج ، غير تدخين السيجار .. وشرب الويسكي .. واقتناء السيارات الفارهة ؟ ...
سأقدم تقريراً للمكتب السياسي أطالب فيه بمحاكمة وزير خارجيتنا .. وإقالة جميع سفرائنا في الخارج .. لأنهم جميعاً أعداء الثورة ....
الرجل : يا حضرة الضابط . اعمل معروف هدئ أعصابك . فقد تأخذ محاكمة وزير الخارجية وقتاً طويلاً .. فهل سننتظر أنا وزوجتي في المطار حتى تنتهي المحاكمة ؟
الضابط : لا .. أنتم لستم مسؤولين عن أخطاء غيركم . ولكن قبل أن أسمح لكم بمغادرة المطار ، أريد أن أستكمل التحقيق معكم ..
الرجل : حاضر ...
الضابط : هل هذه السيدة هي زوجتك ؟
الرجل : نعم .. هي زوجتي .
الضابط : ولكنكما تحملان جوازي سفر منفصلين . وتنتميان إلى طائفتين مختلفتين . والتأشيرات التي توجد على الجوازين تشير إلى أنكما غادرتما معاً .. وعدتما معاً ..
الرجل ( باسماً ) : وهل هناك شركة طيران في العالم تسأل عن دين الراكب وجنسه ، قبل أن تبيعه التذكرة ؟
إن سفينة نوح كانت أكثر تقدمية .. لأنها كانت تحمل على ظهرها الذكور والإناث دون تفريق ...
الضابط : إنني أريد أجوبة لا تعليقات . هل تسمح السيدة أن تقول لي إذا كانت قد سافرت مع هذا الرجل بملء إرادتها ؟ ..
المرأة : طبعاً .. سافرتُ بملء إرادتي ، لأنني أحبه .
الضابط : تحبينه ؟؟ ولكنه من دين مختلف ..
المرأة : الحب .. هو ديننا المشترك ..
الضابط : وهل حصلتِ على موافقة أهلك ؟
المرأة : يا حضرة الضابط إنني امرأة في الثامنة والعشرين من عمري . وأعتقد أن بوسعي أن أتخذ قراراتي بنفسي دون الرجوع إلى رأي القبيلة ...
الضابط : وهل تعتبرين المجتمع قبيلة ؟ ..
المرأة : طبعاً .. إنه قبيلة كبيرة ، بكل تسلطها ، وتعصبها ، وخناجرها ، ومشانقها ، وسجونها ، وجنونها ...
الضابط : ولكن القبيلة تحافظ عليكِ كأنثى ، يا سيدتي ..
المرأة : القبيلة لا تحافظ إلا على ذكورها . الرجال هم مواطنو الدرجة الأولى .. والنساء هن مواطنات الدرجة الثانية . والدليل أنك تحقق معي في قضية شخصية جداً تتعلق برجل أحببته .. وسافرتُ معه ..
الضابط : سافرتِ معه بصورة غير شرعية . أي أنك لستِ زوجته ..
المرأة : وهل من الضروري أن يسافر الإنسان مع زوجته ؟ أنا حبيبته ...
الضابط : كلمة ( حبيبة ) تــُستعمَل في دواوين الشعر .. ولكنها لا تكفي لإثبات الشرعية .
المرأة : ومن الذي يفصل في قضية الشرعية ؟
الضابط : الحكومة ...
المرأة : الحكومة جهاز ٌ بوليسي ، ولا علاقة لها لا بالحب ، ولا بالشِعر .. الحب هو مصدر كل الشرعيات .
الضابط : على جوازي سفركما تأشيرة قديمة لدخول جزيرة قبرص . ماذا فعلتما في قبرص ؟
المرأة : وماذا تنتظر أن نفعل في قبرص ؟ نزلنا في فندق على الشاطئ .. وسبحنا في البحر .. وأكلنا سمكاً طازجة وجبنة قبرصية بيضاء .. وشربنا نبيذاً قبرصياً جيداً .. ورقصنا .. ثم خطر ببالنا أن نتزوج .. فتزوجنا ...
الضابط : أي نوع من أنواع الزواج ؟
المرأة : الزواج الأبسط .. والأسهل .. والمتحرر من كل الشكليات .. كزواج العصافير ..
الضابط : تقصدين الزواج المدني ؟
المرأة : بالضبط ..
الضابط : أي أنكما هربتما من الوطن .. لتتزوجا على أرض أجنبية ؟
المرأة : كل مكان يجمع رأسي عاشقين هو وطن .. بل هو سيد الأوطان .. ثم إن الوطن ليس سجناً للنساء .. ولا مدرسة داخلية لا يُسمَح للفتيات فيها أن يخرجن إلا بإذن الناظرة ...
إن الوطن هو مجموعة عواطف من يسكنونه .. ومجموعة أفكارهم ، ومجموعة خياراتهم .. ومجموعة حرياتهم ..
وحين يقف الوطن ضد مشاعر مواطنيه ، وضد عواطفهم ، وأفكارهم ، وضد شؤونهم الصغيرة ، فإنه يتحول حينئذ إلى قاووش كبير للسجناء .
الضابط : ولكنك هاربة من الوطن الذي أطعمكِ .. ورباكِ ..
المرأة : الأمل ليس مشكلة ....
كل الحيوانات بما في ذلك الصراصير تجد ما تأكله .. الحرية هي مشكلتي . فحين يرفض الوطن أن يزوجني من الرجل الذي أحبه ، بحجة المحافظة على النظام العام ، ومصالح الطائفة ، وسُمعة الحارة .. فإن لي ملء الحق أن أرفضه بدوري ..
حين يرفض وطني أن يعترف بحبيبي .. فإن حبيبي عندئذ يصبح وطناً ..
الضابط : أنتِ محامية حقيقية .
المرأة : بل أنا امرأة ٌ حقيقية ...
الضابط : حسناً .. حسناً .. لقد طال هذا الحوار كثيراً .. إلى أي قسم من بيروت تريدان أن تذهبا .. حتى توصلكما سيارة قوى الأمن ، لأن الطرق غير آمنة في هذه الساعة من ساعات الليل ..
الرجل : نذهب إلى منزلنا في بيروت الغربية ..
الضابط : تذهب أنت إلى بيت أهلك .. وتذهب هي إلى بيت أهلها ..
الرجل : ولكنها زوجتي ...
الضابط : كونها زوجتك .. لا يغير وضعها الطائفي .
الرجل : ولكنني أحمل الأوراق التي تؤكد زواجنا ..
الضابط : نحن في ( جمهورية جنونستان ) لا نعترف بقصاصات الأوراق التي أعطوكم إياها في قبرص ..
المرأة : ولكن كل الزيجات مكتوبة على قصاصات ورق . المحكمة الشرعية تعطي للمتزوجين قصاصة ورق .. والكنيسة أيضاً تعطي قصاصة ورق ..
كل الزيجات في العالم بناياتٌ من ورق ...
الضابط : ماذا تقصدين ؟
المرأة : أقصد أن القضية كلها ورقٌ بورق .. والمهم في الزواج ليس النص المكتوب .. وإنما جوهر العلاقة بين الرجل والمرأة ...
حين يكون اثنان في حالة حب .. فإنهما لا يحتاجان للتوقيع على أية وثيقة . إن حبهما هو شهادة التأمين التي تحميهما من الضجر .. والتكرار .. والإفلاس الروحي ..
الضابط : حسناً .. لنختم هذا الحوار اللامُجْدِي . فقولي يا سيدتي إلى أين تريدين أن توصلك سيارة قوى الأمن الداخلي ؟
المرأة : يا حضرة الضابط . هل أفهم من كلامك أن عليَّ الالتحاق بقبيلتي في بيروت الشرقية ؟
الضابط : نعم يا سيدتي .. هذه هي التعليمات ..
الرجل : وهل يعني هذا أنني سأذهب إلى ( غيتو ) المسلمين .. وزوجتي ستذهب إلى ( غيتو ) النصارى ؟ .
الضابط : استنتاجك صحيح .
الرجل : إذن ، هل تسمح لي ، يا حضرة الضابط ، أن أتشاور مع زوجتي ؟ .
الضابط : لك ما تريد .
( يمسك الرجل بذراع زوجته ، ويذهبان إلى زاوية من زوايا المسرح . يتكلمان همساً لبضع دقائق ، ثم يعودان .. ) .
الضابط : تفضلا .. فسيارة الأمن الداخلي جاهزة .
الرجل : لن نحتاج إلى سيارة يا حضرة الضابط .. فقد قررنا أنا وزوجتي أن لا ندخل البيروتين .. الشرقية أو الغربية ..
الضابط : وأين ستمضيان ليلتكما ؟
الرجل : سنمضيها نائمين على رصيف أحزاننا ، وفي الصباح ، سنسافر على أول طائرة مسافرة إلى قبرص .
المرأة : وداعاً يا حضرة الضابط .. وإذا تصادف وعشقتَ امرأة من ( الحارة الثانية ) ولم توافق ( جمهورية جنونستان ) على زواجك منها .. فتذكر أن لك في قبرص بيتاً مفتوحاً .. وأصدقاء من لبنان القديم مستعدين أن يقتسموا معك رغيف الخبز .. ورغيف الحب ..
( يحمل الرجل الحقيبتين ، وتتبعه المرأة ، ويخرجان من الباب رقم 1 ) .
ستار
الفصل الثاني
شتاء عام 1975
(( المشهد ليلي . والساعة تتجاوز منتصف الليل بقليل . حاجز مصنوع من جذوع الأشجار ، وأكياس الرمل ، والبراميل في ضاحية تطل على مدينة بيروت .
الليل شتائي بارد . وأصوات جنادب ليلية . وسماء رمادية داكنة لا يضيئها بين الحين والحين سوى أضواء الطائرات التي ترتفع على مدرج المطار باتجاه البحر .
الحاجز يرتفع على يمين المسرح بشكل نصف دائرة مفتوحة إلى جهة الصالة . على يسار المسرح تمر الطريق الرئيسية الصاعدة من بيروت .
وعلى جانب الطريق لافتة كُتب عليها :
( جمهورية جنونستان - لبنان سابقاً )
خلف الحاجز ، ثلاثة مسلحين يراقبون الطريق :
يخرج أحدهم ، وهو في حوالي الخامسة والثلاثين من العمر . ويبدو أنه المسؤول العسكري عن الحاجز .
يخرج من خلف الحاجز إلى الطريق العام ، وبيده بطارية كهربائية .
يشير إلى مدينة بيروت التي تبدو من البعيد مخنوقة الأضواء .. مسكونة بالكآبة .. ))
المسلح 1 : ... وأخيراً ، نجحنا في اغتيال جمهورية لبنان العتيقة .. وقضينا على السنديان ، والبلوط ، وأشجار الصنوبر ، وأعمدة بعلبك .. ووضعنا الحجر الأساسي للجمهورية التي طالما حلمنا بتأسيسها ، أعني ( جمهورية جنونستان ) .
أنظروا إلى بيروت التي كانت تسمى ذات يوم ، لؤلؤة البحر الأبيض المتوسط ، ومدينة المدائن ، والقصيدة الزرقاء ..
إنها أشبه بامرأة جميلة كبرت مئة عام خلال عام واحد .
لقد استطاع حزبنا العظيم أن يحول بيروت إلى مقبرة جماعية ، ويُحرق وجهها بالأسيد ، ويجعل منها أرملة متشحة بالسواد .
ليس مهماً أن تبقى بيروت جميلة . فالجمال لا يدخل في قاموسنا الثوري . وليس مهماً أن تظل بيروت مصدراً من مصادر الشِعر . فمنظرو حزبنا يحتقرون الشِعر والشعراء ، ويعتبرون كتابة الشعر ثرثرة وشعوذة وإضاعة وقت ..
ثورتنا ليس فيها مكان للشِعر . ولا لتنابلة السلطان الذين يقولون القصائد والمواويل ...
الكتابة عمل مضاد للثورة . والتشابيه ، والاستعارات ، والمجازات ، والكلام الجميل بكل أنواعه ، والقصيدة العمودية ، والقصيدة الحرة ، وقصيدة النثر ، والروايات ، والمسرحيات ، والفنون التشكيلية كلها .. ثوراتٌ مضادة .
سوف نلغي جميع الكتب ، بما في ذلك الكتب السماوية ، ولن نسمح إلا بتداول كتاب مقدس واحد ، هو الكتاب الذي وضعه رئيس الحزب .
( ينبعث صوت فيروز من راديو ترانزستور صغير يحمله أحد المسلحين ) .
المسلح 2 : وفيروز .. أين موقعها من ثورتنا يا حضرة الكومندان ؟
المسلح 1 : لا موقع لها . إنها تنتمي إلى مرحلة تاريخية سحيقة ومتخلفة . فمفرداتها الغنائية تحاول أن تخلق في أذهان البسطاء ( يوتوبيا ) مستحيلة ، وعالماً خرافياً لا يمكن تحقيقه على هذه الأرض .
إنها بكلامها عن ضوء القمر ، والكروم ، والعصافير ، والقناطر ، وضوء القناديل ، ومكاتيب الهوى ، والحنين ، والمحبة ، والأجراس ، والصلوات ، ترسخ في ذاكرة الناس لبنان القديم ، في حين تحاول الثورة أن تمحوه ...
إنها مغنية خطيرة على دعوتنا الثورية . طابورٌ خامس يستطيع أن يقضي على جميع مخططات التغيير التي نرسمها . إنها بأغنية واحدة عن المحبة تستطيع إسقاط كل أيديولوجيتنا . لذلك يتوجب على المكتب السياسي في حزبنا أن يصدر أوامره بمصادرة حنجرتها ....
المسلح 2 : ولكن .. هل من السهل مصادرة حنجرة مغنية ؟
المسلح 1 : العواطف لا تدخل في قاموسنا الثوري . كل الحناجر التي تشاغب على الثورة يجب استئصالها ، سواء كانت حنجرة فيروز .. أو حنجرة دجاجة ..
المسلح 2 : ولكن الجماهير تحب صوت فيروز ..
المسلح 1 : سنقطع آذان الجماهير إذا لزم الأمر . الأحاسيس الجميلة كلها مؤجلة حتى تنتصر الثورة .. ضوء القمر مؤجل . غروب الشمس مؤجل . زرقة البحر مؤجلة . سنابل القمح . أشجار اللوز . رائحة الورد . مواعيد العشاق . الأشواق . القبلات .. قصائد الغزل .. كتب الشعر كلها مؤجلة .. مؤجلة ..
المسلح 2 : وإذا طلع على بالي أن أعشق ، قبل أن تنتصر الثورة ، فماذا أفعل ؟
المسلح 1 : عندئذ ، عليك أن تستقيل من الثورة ، فالثائر الحقيقي لا ينام مع النساء ..
المسلح 2 : مع من ينام إذن ؟
المسلح 1 : يحتضن صورة رئيس الحزب .. وينام ..
المسلح 2 : لكنني لستُ من أهل هذا ....
المسلح 1 : أرجو أن تقلع عن تعليقاتك الساخرة .. وإلا قدمتُ عنك تقريراً إلى قيادة الحزب ..
( المسلح رقم 3 يتحرك من مكانه ، كأنه يبحث عن شئ ضاع منه .. ) .
المسلح 3 : يا جماعة كفوا عن هذا الجدل البيزنطي .... أين زجاجة الكونياك ؟ إن البرد يخترق عظامي ، ولم نستفتح على هذا الحاجز بزبون واحد ... ماذا جرى لأهل بيروت حتى صاروا ينامون كالدجاج مع غروب الشمس .. فلا سهر .. ولا من يسهرون .. ولا طرب ولا من يطربون ..
إن زبائننا قد تناقصوا بصورة ملحوظة ، وعصافير الليل لم تعد تتجول .. وأخشى إذا تحسن الوضع الأمني في البلد ، أن ينقطع رزقنا .. ونفقد عضويتنا في الحزب ...
المسلح 1 : لا تقطعوا أملكم يا شباب . إن الله كريم . وهو يرزق النمل حيث كان . إن بيننا وبين طلوع الفجر نحو خمس ساعات .. ولا بد أن يرسل الله إليكم قرباناً .. أو إنساناً .. تنقذون به شرفكم الحزبي .
( يُسمَع صوت محرك سيارة قادمة باتجاه الحاجز . يرجع المسلحون الثلاثة إلى خلف الحاجز ، ويأخذون وضع تأهب ... )
المسلح 1 : ألم أقل لكم إن العصافير قادمة ؟
( سيارة صغيرة تقودها امرأة تتوقف أمام الحاجز . يتقدم نحوها المسلح 1 شاهراً مسدسه ، ويطلب منها النزول من وراء المقود .
تنزل امرأة في حوالي الثلاثين من عمرها ، رشيقة القوام ، داكنة الشعر ، واسعة العينين . يوجه المسلح ضوء البطارية إلى وجهها ... )
المسلح 1 : من أنتِ ؟
المرأة : أنا امرأة .. ألم تروا امرأة في حياتكم ؟ أليس لكم أمهات .. شقيقات .. حبيبات ؟
المسلح 1 : نحن لا نسألكِ عن جنسك . جنسكِ لا يهمنا ..
المرأة : وماذا تريدون إذن ؟
المسلح 1 : نريد أن نعرف إذا كنتِ تحملين سلاحاً .
المرأة : نعم .. معي أربع .. أو خمس قطع ..
( يتبادل المسلحون نظرات الريبة والحذر .. ويخرطشون بنادقهم تحسباً للمفاجآت .. ) .
المسلح 1 : تقولين معكِ أربع أو خمس قطع سلاح ... أخرجي كل ما عندكِ .. وحاذري أن تقومي بأية حركة مريبة ..
( تفتح المرأة حقيبة يدها بهدوء وبرودة أعصاب ، وتبدأ بسحب بعض أدوات الزينة . مرآة . مشط . علبة بودرة . أنبوب أحمر شفاه . قارورة عطر .. ) .
المرأة ( بابتسامة ساخرة ) : هذا كل ما عندي ...
المسلح 1 : ولكن هذه أدوات تجميل ، فأين هو السلاح ؟
المرأة : هذا هو سلاحي !!
المسلح 1 : نريد السلاح الحقيقي . السلاح الذي يقتل . السلاح الذي تخبئينه في مكان ما ...
المرأة : صدقوني . أنا لا أخبئ شيئاً . والسلاح الذي وضعته أمامكم هو السلاح الذي تحمله كل امرأة في العالم .
كل امرأة جميلة .. هي مسلحة بصورة طبيعية ..
( بحركة إغراء مدروسة ، تأخذ المرأة قارورة العطر ، وترش منها رشتين تحت أذنيها ... ) .
المسلح 1 : ( شاهراً عليها المسدس ) . توقفي عن الرش .. وإلا رششتكِ ..
المرأة : وهل يزعجكم عطري إلى هذا الحد ؟ هل يتناقض عطري مع ثورتكم ؟
المسلح 1 : جميع أنواع العطور ، وعلى رأسها العطر النسائي ، تتناقض مع أيديولوجية الحزب .
المرأة : مساكين .. مساكين .. فهذه أول ثورة أسمع بها في حياتي لا تعترف بالعطر .. لا تعترف بالرائحة الطيبة ..
المسلح 1 : يا مدموازيل .. نحن هنا في متراس مسلح ، ولسنا في صالون تجميل ..
المرأة : لكن العطر تركيبٌ إنساني . الحيوان وحده هو الذي لا يتعطر ...
المسلح 1 : إن ثورتنا من طراز آخر .. ثورة ٌ لا تهتم بالعطر ، ولا بالحب ، ولا بالجنس ، ولا بالنساء ، ولا تتعاطى كل هذه التفاهات ..
المرأة : شكراً على المجاملة . إن آراء حزبكم بمنتهى التقدمية . وبالمناسبة ، قل لي : هل رئيس حزبكم متزوج .. أم عازب ؟
المسلح 1 : إن معلمنا تزوج العمل السياسي . تزوج الشعب . تزوج القضية ....
المرأة : ولكن القضية هي أيضاً أنثى ...
المسلح 1 : كُـفــِّي عن هذه البهلوانيات الكلامية .. فلا وقت لدينا لهذه الثرثرة النسائية ...
المرأة : إذا كنتَ لا تريد أن تحاورني ، فهل يمكنني أن أقابل رئيس الحزب ؟
المسلح 1 : المعلم ؟ تريدين أن تقابلي المعلم ؟ ومن أنتِ ؟ وبأي صفة تريدين أن تقابليه ؟
المرأة : أنا صحفية ..
المسلح 1 : أنتِ مجنونة بكل تأكيد .. إن الوصول إلى القمر أسهل من الوصول إلى معلمنا .. وعلى فكرة فإن رئيسنا ليس لديه اهتماماتٌ نسائية ...
المرأة : شغلتم بالي عليه .. هل هو مريض ؟ هل هو ساخن ؟ هل هو من أنصار سيدنا لوط عليه السلام ؟؟
المسلح 1 : أنتِ امرأة طويلة اللسان ككل الصحفيات . ويمكنكِ أن تنشري على لساني أن معلمنا ليس منحرفاً .. ولا يشكو من أي ضعف جنسي .. وإنما ارتفع بجسده عن مستوى بقية البشر .. حتى أصبح ( سوبرمان ) ...
المرأة : الله يشفيه .. وماذا يفعل معلمكم في ساعات الفراغ .. ما هي هواياته ؟
المسلح 1 : هواياته أن يقتل . هناك أناسٌ هوايتهم أن يعزفوا على البيانو .. وأناسٌ هوايتهم أن يرسموا .. وأناسٌ هوايتهم أن يجمعوا الطوابع القديمة وأناسٌ هوايتهم أن يكتبوا الشِعر ...
أما معلمنا فهوايته أن يقتل الآخرين ..
المرأة : فعلاً .. هذه هواية أوريجينال .. ومن هم الآخرون الذين يقتلهم ؟
المسلح 1 : كل الطارئين .. والغرباء .. والذين لا خلفية حضارية لهم . والمحشورون كالحيوانات في سفينة نوح ...
المرأة : ولكنكم بهذه الطريقة ستقتلون ثلاثة أرباع البلد ..
المسلح 1 : لا يهم . فسوف يبقى الربع الحضاري ، النخبوي ، السوبر - لبناني .
المرأة : ولكن الربع الباقي سيكون بحجم العدس .. أو قرص الأسبرين ..
المسلح 1 : قرص الأسبرين يبقى أفضل من سفينة نوح ...
المرأة : وماذا ستفعلون ببقية الحيوانات ؟
المسلح 1 : سنذبحها .. أو نرميها في البحر .. لأن الحمولة الزائدة ستــُغرق السفينة .
المرأة : ولكن هذا موقف عنصري ، عرقي ، ماكيافيلي ، صهيوني ...
المسلح 1 : العناوين الصحفية لا تهمنا . واتهامنا بالماكيافيلية لا يهمنا أيضاً . كل ما يهمنا أن نتخلص من الحيوانات الزائدة التي تتناسل على ظهر السفينة .. وتهددها بالغرق ..
نحن - كحزب - نؤمن بأن لبنان يحتاج إلى ثقافة العنف . لا إلى ثقافة ( المَيْجَنا ) و ( العَتــَابا ) و ( أبو الزُلــُف ) .. والخبز التنوري .. والعرق الزحلاوي .. والمسرح الرحباني ..
المرأة : وما هو اعتراضك على المسرح الرحباني ؟
المسلح 1 : المسرح الرحباني مسرح فانتازي ، تخييلي ، افتراضي ، يعمل من الحبة قبة ، ويصنع لنا وطناً أكبر منا . وطناً يكاد لفرط جماله أن يكون غير حقيقي . المسرح الرحباني يسبح فوق غمامة بنفسجية ، ولكنه لا ينزل إلى أرض البشر ..
المرأة : إن وظيفة الفن أن يرتقي بالإنسان إلى الأعلى .. ووظيفة الشعر أن يحملنا إلى الأجمل ..
المسلح 1 : جماليات الشِعر ، يا سيدتي ، هي وراء تخلفنا وضعفنا . الثقافة الحقيقية هي ثقافة القوة . ولن يستريح لبنان إلا إذا قتل القمر ..
ولبنان الذي نحلم به يولد بين المتاريس ، وأكياس الرمل ، والديناميت .. لا في مهرجانات بعلبك .. واستعراضات الكازينو .. وبكائيات وديع الصافي ..
المرأة : آه .. كم تذكرني بالماركيز دو ساد ...
المسلح 1 : إذا كانت السادية تعطيني وطناً قوياً ، فسوف أكون سادياً . وإذا كان القتل هو المركب الذي لا بد لنا من ركوبه ، فسوف نركبه ..
المرأة : ولكن لبنان ليس معتاداً على القتل ...
المسلح 1 : سيتعود عليه .. إن اللبناني سريع التأقلم مع الأشياء . وبعد قليل سيمارس القتل بالسهولة ذاتها التي يرقص بها الدبكة .. أو يشرب كأس عرق ... إن القضية قضية عادة . أنا في البداية كنتُ لا أجرؤ على قتل نملة ، ثم أصبحتُ أقتل إنساناً بذات السهولة التي أفرشي بها أسناني ، أو أغير قميصي .
المرأة : أرجو أن لا تفكر في أن تفرشي أسنانك .. أو تغير قميصك الآن ..
المسلح 1 : هذا يتوقف على نوع الأوراق التي ستبرزينها .
المرأة : ولكنني قدمتُ لكم أوراقي .. ( تشير إلى أدوات الزينة ) .
المسلح 1 : الأوراق التي قدمتها تستعملينها على فراش الحب .. لا هنا .. هذا حاجزٌ محترمٌ ، يا سيدتي ، وهو لا يقبل الرشوات النسائية ..
المرأة : ولكنني قلت لكم إنني صحفية ..
المسلح 1 : صحفية من أين ؟
المرأة : صحفية من لبنان .
المسلح 1 : لبنان كلمة واسعة جداً .. حددي ..
المرأة : لا أفهم السؤال .
المسلح 1 : أقصد إلى أي لبنان تنتمين ؟
المرأة : لم يطرح أحدٌ عليَّ من قبل مثل هذا السؤال العجيب . وهل لبنان هو بمساحة الصين ، حتى أقول لك إنني أنتمي إلى الصين الوطنية ، أو الصين الشعبية . إن لبنان بحجم الكف .. أو بحجم القلب ..
المسلح 1 : وقلبكِ .. مع أي لبنان من اللبنانين ؟ .
المرأة : قلبي مع لبنان . لأنه لا يمكن للمرأة أن تحب رجلين في وقت واحد ..
المسلح 1 : إنني لا أريد رموزاً وتوريات .. سأكون أكثر صراحة وأسألكِ : إلى أين تذهبين عادة ، إلى المسجد .. أم إلى الكنيسة ؟
المرأة : أذهب إلى الله ...
المسلح 1 : أي واحد منهم ؟
المرأة : وهل هناك أكثر من رب واحد ؟
المسلح 1 : عندنا في لبنان يوجد أكثر من واحد . كل متراس مسلح له ربٌ مختلف عن رب المتراس الآخر . لذلك نطلب منكِ أن تحددي بدقة إلى أي متراس - عفواً - إلى أي رب تنتمين ؟
المرأة : إلى الواحد الأحد ، الذي يرانا ولا نراه ، ويُغيِّر ولا يتغير ..
المسلح 1 : هذا جواب ميتافيزيكي لا ينفعنا في التحقيق .
المرأة : أنتمي إلى الذي يعلم ما في الأرحام ..
المسلح 1 : وهذا جوابٌ في الطب النسائي لا نقبله ..
المرأة : أنتمي إلى مُقدِّر الأقدار ، وعالِم الغيوب والأسرار .
المسلح 1 : ستوب .. ستوب .. ستوب .. لقد دوختني بأجوبتك السريالية ..
المرأة : ولكن أسئلتكم أيضاً هي أسئلة سريالية .
المسلح 1 : نحن جماعة مسلحون ، ولا وقت لدينا لجدلك البيزنطي . نريد منكِ كلمة ورد غطاها . هل أنتِ مع الرب الذي على اليمين ، أم مع الرب الذي على اليسار ؟
المرأة : أنا مع الرب الذي في كل الأمكنة ..
المسلح 1 : رجعنا إلى البهلوانيات ، والكلمات المتقاطعة ؟
المرأة : ولكن هذه هي أفكاري ..
المسلح 1 : طز بأفكارك .. ومتى كانت المرأة تفكر بغير نهديها ؟
المرأة : تعجبني تقدميتك .. وموقفك الحضاري من المرأة ..
المسلح 1 : وتجيدين التهكم أيضاً ؟ . حسناً هاتي هويتك الصحفية ..
( تفتح المرأة حقيبتها ، وتعطي هويتها للمسلح )
المرأة : تفضل .. هذه هي هويتي الصحفية ..
( يدقق المسلح في الهوية ، ثم بصوت يقطر منه اللؤم والسخرية )
المسلح 1 : ها .. ها .. ها .. جريدة ( المحبة ) .. جريدة ( المحبة ) .. إن حدسي لا يخطئ أبداً ..
إذن أنتِ من سكان الحارة الثانية ، وتشتغلين في جريدة تصدر باللغة العربية ..
المرأة : وهل اللغة الرسمية في لبنان هي اللغة المسمارية .. أم الهيروغليفية ؟
المسلح 1 : اللغة العربية تسبب لمعلمنا حساسية كالحساسية التي يسببها أكل البيض والسمك ...
المرأة : ولكن معلمكم يكتب .. ويخطب .. باللغة العربية ..
المسلح 1 : هذا تكتيك .. قناع .. محاولة التفاف على اللغة العربية . معلمنا شعلة ذكاء ، وبركان عبقرية ..
المرأة : ما شاء الله ..
المسلح 1 : والآن قولي لنا ، في أي قسم من أقسام الجريدة تعملين ؟
المرأة : أعمل سكرتيرة لرئيس التحرير ، وأجري التحقيقات التي يكلفني بها مع رجال السياسة .
المسلح 1 : أذكر أنني قرأتُ بعض تحقيقاتك في جريدة ( المحبة ) . وبكل صراحة أقول لكِ إنها لا تعجبني ..
المرأة : الدنيا أذواق . ولكن ما هو اعتراضك على كتاباتي ؟
المسلح 1 : كتاباتكِ تنطق بلسان الحارة الثانية .
المرأة : لبنان ليس حارة يا سيدي . ليس حارتي ولا حارتك . وإنما هو مجموع الحارات التي تقتسم الفرح ، والآمال ، والخبز ، والدموع ..
والكاتب الحقيقي لا يتكلم بلسان الحارة .. وإنما هو الناطق الرسمي بلسان الأمة .. بلسان الإنسان ..
الكاتب الحقيقي هو الذي يرتفع من الخاص إلى العام ، ومن الجزء إلى الكل .. ومن القوقعة إلى البحر ..
المسلح 1 : كتابتكِ هي دقة قديمة .. وأفكاركِ دقة قديمة .. ومفرداتكِ دقة قديمة ..
المرأة : مثل ماذا ؟
المسلح 1 : مثل المحبة ، التعايش ، التسامح ، المساواة ، الديمقراطية ، العدل الاجتماعي ..
المرأة : هل صارت المحبة موضة عتيقة ؟
المسلح 1 : طبعاً .. طبعاً .. إنها مرحلة رومانسية تجاوزها الزمن . إن نقطة ضعف لبنان كان رومانسيته .. ولذلك استوطى الناس حائطنا ، وركبونا ... لأنهم اعتبروا أن لبنان ليس أكثر من مزرعة تفاح .. ومعصرة عنب .. وكأس عرق .. وصحن كبة نية ..
المرأة : وما هو بديل التفاح ، والعنب ، وصوت فيروز ؟
المسلح 1 : البديل هو هذا ... ( يشير إلى مسدسه ) ..
المرأة : ولكن هذا ( تشير إلى المسدس ) .. ربما ينفع في قطع طريق .. أو السطو على مصرف ، ولكنه لا ينفع في تأسيس دولة ..
المسلح 1 : لقد أسسنا ( دولة جنونستان ) .. وانتهى الأمر ، واعترف بنا أكثر دول العالم .
المرأة : ( جنونستان ) .. ( جنونستان ) .. هل هذا اسم دولتكم الحقيقي ، أم أنه اسم الدلع ؟
المسلح 1 : أنتِ قليلة أدب .
المرأة : شكراً ..
المسلح 1 : وطابورٌ خامس ..
المرأة : شكراً ..
المسلح 1 : ومتآمرة على سلامة الجمهورية ..
المرأة : أية جمهورية ؟ جمهورية قرص الأسبرين ؟
المسلح 1 : ستدفعين ثمن هذا الكلام في نهاية التحقيق . والآن نريد بعض التفاصيل عن تاريخ ومكان ولادتك ، ولون عينيكِ .. وطول قامتك ..
المرأة : لماذا ؟ هل تريدون أن تخطبوني ؟
المسلح 1 : أعوذ بالله .. نحن نريد أن نقتلك .. لا أن نخطبك ..
المرأة : إذا كنتم تريدون أن تقتلوني ، فلماذا تجمعون كل هذه التفاصيل عن مواصفاتي الجسدية .. ثم ألا تعرفون أنني مخطوبة ؟؟
المسلح 1 : مخطوبة ٌ لمن ؟
المرأة : مخطوبة ٌ لواحد من أولاد حارتكم ؟
المسلح 1 : واحدٌ من أولاد حارتنا ؟ مستحيل . أنتِ كذابة .. أنتِ حالمة .. أنتِ مجنونة ..
المرأة : أنا لستُ كذابة . أنا امرأة ٌ لها قلب .. وقد تصادف أن أحبني رجلٌ من أولاد حارتكم ، وأحببته .. فهل عندكم مانع ؟
المسلح 1 : طبعاً .. هناك أكثر من مانع . مانعٌ حزبي . ومانعٌ جغرافي . ومانع طائفي . ومانع ديموغرافي . ومانع حضاري .
المرأة : ولكن حبنا قفز فوق كل هذه الحواجز المصطنعة .. فذابت كما تذوب جبال الجليد ..
المسلح 1 : إنني عاجزٌ عن تصديقك أيتها المرأة .. عاجزٌ عن تصديقك .. فأولاد حارتنا لا يمكن أن يحبوا بنات حارتكم . إن الحزب لا يوافق .
المرأة : ومن قال لكم إنني أريد أن أتزوج الحزب ؟؟
إن الحب لا ينتظر موافقة الحزب ، ولا المكتب السياسي ، فهو يسقط كالمطر على كل الحارات .. ويتفتح كشقائق النعمان في كل البراري ..
المسلح 1 : إذا صح ما تقولين أيتها المرأة .. فسوف نقتله ونقتلك ، لأن زواجكما يتناقض مع استراتيجية الحزب ، واجتهادات مُنظريه ..
نحن ضد هذا الحب الفوضوي .. ضد هذا الفلتان العاطفي الذي من شأنه أن يمحو خصائص حارتنا .. ويحمل إليها الخراب ..
المرأة : الحب لا يخرب المدن . الكراهية هي التي تخربها . إن جميع ما على سطح الكرة الأرضية من بحار ، وأنهار ، وجبال ، وغابات ، وعصافير ، وفراشات ، وسنابل قمح .. وجميع ما في السماء من شموس ، وكواكب ، ومجرات ، هي مِن صُنع الحب . إن الله فِعْلُ محبة .. فلماذا يعارض حزبكم مشيئة الله ؟
المسلح 1 : كل النساء بطبيعتهن رومانسيات .. وانفعاليات . ولذلك فهن لا يصلحن للحكم والقيادة . إنهن يخلطن دائماً بين شؤون القلب وبين مصالح الدولة العليا ، كما فعلت كليوباترا .. وتكون النتيجة سقوط الإمبراطوريات واندثار الممالك .
المرأة : هل تسمح لي أن أوقظ ذاكرتك قليلاً ، فأذكرك أن كل الحروب في التاريخ أشعلها رجال ، وكل الكوارث والمجازر البشرية هي مِن صُنع الرجال ، فهولاكو ، وجنكيزخان ، ونيرون ، وجمال باشا السفاح ، والإمبراطور بوكاسا كانوا كلهم رجالاً .
أما ماري أنطوانيت المسكينة فقد قطعوا رقبتها ، لأن الثورة الفرنسية كانت بحاجة إلى امرأة لتــُسند إليها الدور النسائي ..
وفي لبنان ، من الذي ورَّط البلد بهذه الحرب القذرة سوى الرجال ؟
منذ عام 1943 وأنتم تحكمون لبنان ، أيها الرجال ، حكماً إقطاعياً ، عشائرياً ، عائلياً ، وراثياً .. تنتقل فيه الزعامات التاريخية إلى الذكور وحدهم ..
البيك يسلم التاج إلى البيك ..
والأفندي إلى الأفندي ..
والشيخ إلى الشيخ ..
أما النساء ، فقد تركتموهن دائماً خارج الشركة السياسية المحدودة الأسهم ، وعهدتم إليهن - حفاظاً على أنوثتهن كما تدعون - بأشغال الإبرة ، وزيارة المرضى والمساجين ، وشغل كنزات الصوف للأيتام ، ورعاية المكفوفين ، وأعمال الطبخ والتمريض ..
المسلح 1 : وماذا تعرف المرأة أن تفعل أكثر من هذا ؟ هذه هي الوظائف الطبيعية والتقليدية التي خلقها الله من أجلها ..
المرأة : الله لا يتدخل في تشكيل الوزارات ، ولا يمارس أعمال التفرقة العنصرية . وليس هو الذي عيَّن مارغريت تاتشر ، وإنديرا غاندي رئيستين للوزارة .. ليس هناك يا سيدي ، وظائف تقليدية خاصة بالمرأة ، وأخرى خاصة بالرجل .. هذه التقسيمات أوجدها الرجال ، ثم مع مرور الزمن ، اعتبروها إرثاً أبدياً لهم .
وهكذا احتكرتم العمل السياسي ، والإداري ، والقضائي ، والاقتصادي لأنفسكم ، كما يحتكر تجار الحرب السكر ، والرُز ، والطحين .
المسلح 1 : تقولين العمل السياسي ؟ وهل ثمة امرأة تفهم أصول العمل السياسي ؟
( تضحك المرأة ضحكة عالية )
المسلح 1 : ماذا يضحكك ؟
المرأة : يضحكني قولك ( العمل السياسي في لبنان ) . فهل تعتقد أن في لبنان سياسة أو سياسيين ؟
في لبنان - يا سيدي - مجموعة من الدكاكين تبيع وتشتري سياسة . هناك متعهدو سياسة كمتعهدي الأبنية والطرقات . هناك سماسرة .. ومضاربون .. وكومسيونجية سياسة ..
استأجروا لبنان إجارة طويلة لمدة 990 سنة ، قابلة للتجديد ، ولا يزالون يرفضون إخلاء المأجور ..
إن دم لبنان يلطخ أصابعكم أيها الرجال . أما النساء فلم يتورطن في يوم من الأيام في عملية القتل ، لأنهن أرق قلباً .. وأنقى وجداناً .. وأكثر حناناً من ذكور القبيلة ..
المسلح 1 : الثورة لا تقوم على الحنان .. ورقة القلب ..
المرأة : وعلى ماذا تقوم الثورة ؟
المسلح 1 : تقوم على التصفيات الدموية ، لا على الرسائل الغرامية .. تقوم على سلاح المسلحين .. لا على ثرثرة المثقفين . إن ثقافة المسدس هي أهم عندي من ثقافة الوردة ...
المرأة : هذا كلام جزارين .. لا كلام ثوريين ..
المسلح 1 : الألقاب والنعوت لا أعبأ بها . ما دمتُ قد انتصرت ، فليقل عني التاريخ ما يشاء ..
هناك ثقافة واحدة هي ثقافة القوة . حين أكون قوياً ، يحترم الناس ثقافتي . وحين أكون ضعيفاً ، أسقط أنا ، وتسقط ثقافتي معي .
عندما كانت روما قوية عسكرياً ، كانت اللغة اللاتينية سيدة اللغات .. وعندما سقطت الإمبراطورية الرومانية ، صارت اللغة اللاتينية طبق سباغيتي .
الثقافة ، يا سيدتي ، ليست في عدد الكتب التي أقرؤها ، ولكنها في عدد الرصاصات التي أطلقها ..
المرأة : هذه ثقافة مجرمي حرب .. ثقافة قاطعي طريق .. ثقافة مافيات ...
إن تعريفك للثقافة مرعبٌ .. مرعبٌ .. مرعبْ ...
المسلح 1 : أرجو أن لا تعطيني دروساً في الثقافة . إن ثقافتكم ثقافة حشاشين .. وثقافتنا ثقافة انقلابيين .
أنتم تكتبون بالقلم .. ونحن نكتب بالمسدس ..
المرأة : ولكن المسدس أميّ .. لا يقرأ ولا يكتب ..
المسلح 1 : على العكس . المسدس هو أكبر أدباء هذا العصر . هل تريدين أن أجرب فيكِ ثقافتي ؟
( يضع مسدسه في صدغها )
الرصاصة التي سأطلقها عليكِ الآن ، ستكون أجمل من كل الشعر الذي كتبه شعراؤكم .. ابتداء من المتنبي .. حتى أحمد شوقي .. وخليل مطران .. فما رأيكِ بثقافة ( جمهورية جنونستان ) ؟
المرأة : ثقافتكم مثل ثقافة التتار والمغول ، هي ثقافة اجتياح ، وسبي ، وحرائق ..
إنني أعرف أنك ستقتلني . ولكن موتي لن يحقق لك الانتصار .
فثقافتي حتى بعد الموت .. ستكون أهم من ثقافتك ، وأعمق ، وأكثر إنسانية ..
طبعاً .. أنت تستطيع أن تقتلني . ولكنك لن تستطيع قتل لبنان الثقافي والفكري والحضاري . ( فجمهورية جنونستان ) التي تتبجحون بها لا مصير لها . فهي كالحمل الكاذب لا يمكن أن تمكث طويلاً في رحم لبنان .
المسلح 1 : أنتِ امرأة وقــحــة ..
المرأة : شكراً ..
المسلح 1 : وكـــلبــة ..
المرأة : شكراً ..
المسلح 1 : وعــاهـــرة ..
المرأة : شكراً ..
المسلح 1 : هل ( جمهورية جنونستان ) التي بنيناها بجماجم الموتى ، وجثث الأطفال المحترقة ، وألوف المشوهين والمعاقين هي في نظركِ حملٌ كاذب ؟
المرأة : الكراهية لا يمكن أن تحبل ، ولا أن تلد ...
( يتقدم نحوها أكثر ، ويُلصِق مسدسه بصدغها )
المسلح 1 : وما هي أمنيتكِ قبل أن تموتي ؟
المرأة : أمنيتي أن أرى خريطة لبنان القديم .. لبنان الـ 10452 كيلومتراً مربعاً .. قبل أن تمسخوه .
المسلح 1 : لا يوجد عندنا غير خريطة ( جمهورية جنونستان ) .
المرأة : تقصد قرص الأسبرين ؟ لا .. لا .. انقعها واشرب ماءها .. فهي حملٌ كاذب ..
( يطلق الرصاص عليها .. تسقط المرأة على الأرض وهي تردد : )
حملٌ كاذب ..
حملٌ كا ... ذ ... بْ ...
كا ... ذ ... بْ
كا ... ذ ... بْ
كا ... ذ ... بْ
ستار
الفصل الثالث
العام 2000
(( بعد خمس وعشرين سنة على تأسيس ( جمهورية جنونستان ) . ساحة العاصمة الجديدة . وفي البعيد يلوح قصر الحاكم على رابية .
في منتصف الساحة تمثالٌ برونزي كبير للحاكم بسبعة عيون ، وعلى قاعدة التمثال كُتبت هذه الكلمات :
( بطل التحرير ، ومؤسس ( جمهورية جنونستان ) ، هدية الشعب إليه بمناسبة انتصاره في حرب التحرير ) .
مقهى على يسار المسرح فيه ثلاث طاولات ، كُتِبَ على مدخله ( بار ومقهى النسيان ) .
فرقة موسيقى الجيش تمر ، وهي تعزف أناشيد وطنية ، والأولاد يتبعونها . زينة ٌ ورقية . بالوناتٌ ملونة . لافتاتٌ على عرض الشارع تحمل كلمات التأييد للبطل .. والمنقذ .. والمحرر ..
ثلاثة أشخاص يجلسون في المقهى ( هم نفس الأشخاص الذين كانوا يقومون بدور المسلحين الثلاثة في الفصل الثاني ) .
أولهم : صاحب ( مقهى النسيان ) . الكومندان السابق والمسؤول الحزبي عن تدريب مسلحي الحزب عام 1975 .
ثانيهم : طبيب الحي .
ثالثهم : معلم المدرسة )) .
معلم المدرسة : نهارك سعيد يا كومندان ..
صاحب المقهى : نهارك سعيد .
معلم المدرسة : جئنا أنا والحكيم لنسلم عليك بمناسبة عيد الاستقلال . فأنت يا حضرة الكومندان واحدٌ ممن صنعوا هذا اليوم التاريخي المجيد . واحدٌ من الأعمدة الرئيسية لهذا الوطن .
الطبيب : طبعاً .. طبعاً .. الكومندان هو الحجر الأساسي في بناية ( جمهورية جنونستان ) .
صاحب المقهى : أي حجر ؟ أي بناية يا حكيم ؟ البناية طوَّبها صاحب البناية الذي هناك على اسمه ...
( يشير بيده إلى قصر الحاكم )
أنا لست أكثر من صاحب ( مقهى وبار النسيان ) . أرجو أن تقرأوا جيداً كلمة ( النسيان ) المكتوبة بأحرف كبيرة على باب المقهى ..
لذلك ، أرجو أن تتركوا ذكرياتنا المشتركة على باب المقهى .
معلم المدرسة : ولكن ذكرياتنا معك في خريف عام 1975 لا يمكن أن تـــُنسَى بسهولة . فلقد حاربنا في خندق واحد .. وتعلمنا منك كيف نحمل السلاح ، وكيف نقاتل في سبيل قضية كبرى ..
صاحب المقهى : قبل 25 سنة كانت قضية كبرى ...
معلم المدرسة : والآن ؟ ..
صاحب المقهى : تقلصت .. كما يتقلص الثوب المنقوع في الماء ..
من كان يتصور أن المدينة التي رسمناها في مخيلتنا بألوان قوس قزح ، وسقيناها دمع العين ، ودم القلب ، ستتحول إلى معتقل ؟
من كان يتصور أن الجمهورية التي أردناها بحجم الكون ، أصبحت أضيق من خرم الإبرة ..
من كان يتصور أن الحزب الذي منحناه زهرة حياتنا ، صار مؤسسة للتهريب ، والاستيراد ، والتصدير ، والعمولات ؟
ثم .. من كان يتصور أن ( المعلم ) الذي كنا نضعه في مرتبة الأولياء والقديسين .. يتحول إلى رئيس عصابة ؟ ...
معلم المدرسة : ولكنك كنت من أشد المتحمسين ( لجمهورية جنونستان ) ، بل كنتَ مستعداً أن تقتل نصف العالم من أجل قيام الجمهورية الجديدة .
صاحب المقهى : في تلك الفترة كنتُ وحشاً حزبياً .. وكنت أعتبر القتل في سبيل الحزب ، صلاة يومية أمارسها . وأن كل قتيل أقتله .. جواز سفر أدخل به الجنة ...
هل تذكران تلك الفتاة الصحفية التي أطلقتُ النار عليها ، لأنها قالت لي إن جمهوريتنا حمل ٌ كاذب ؟
هل تذكران الجثة التي طمرناها معاً في ليل خريفي من ليالي عام 1975 ؟
إنها لم تكن جثة امرأة .. بقدر ما كانت جثة الحقيقة .
لم أكن أعرف عندما قتلتها أنني كنتُ أقتل الحقيقة .. كنتُ أقتل الشمس .. كنتُ أقتل الشجر .. كنتُ أقتل المطر .. كنتُ أقتل الشعر والموسيقى والحقول والمواسم واللون الأخضر ..
كنتُ أقتل جنين الحب النائم في أعماقها .
كنتُ أقتل في عينيها قمر الحرية ..
كانت جميلة ، وشجاعة .. وكنا بشعين وجبناء ..
كانت حمامة سلام .. وكنا أولاد آوى ..
كانت حديقة عابقة بالعطر .. وكنا صناديق قمامة ..
كانت ليبرالية ومنفتحة كالبحر .. وكنا ضيقين كمحارة بحرية فارغة ..
كانت تنتمي بأفكارها إلى القرن الواحد والعشرين ، وكنا ننتمي إلى القرون الوسطى ..
كانت تتكلم باسم الله ، وكنا نتكلم باسم الشيطان .
هل تتذكران هذه المرأة الخرافية ؟ إنني لا أزال أحمل جثتها على كتفي منذ 25 سنة ، بحثاً عن مكان أدفنها فيه ، ولكن دون طائل . لأن جثة الحقيقة لا تــُدْفــَن ..
لقد قتلتُ أشخاصاً كثيرين غيرها .. وارتكبتُ مئات الجرائم السياسية التي أمرني الحزب بارتكابها في تلك الحقبة المجنونة من التاريخ ...
ولكن جميع قتلاي لم يجثموا على ضميري مثلما تجثم هذه المرأة ..
مستحيل ٌ .. مستحيل ٌ أن أنسى هذه المرأة ..
كلما آويتُ إلى فراشي رأيتُ عينيها تشتعلان كالبرق في ظلام الغرفة ، وسمعتُ صوتها يضرب على الجدار كدقات الساعة :
جمهوريتكم حمل ٌ كاذب ..
حمل ٌ كاذب ..
حمل ٌ كاذب .
لماذا قتلتُ هذه المرأة التي كانت عيناها تحتشدان بالنبوءات ؟
لماذا أخرستُ هذا الصوت الذي كان يكشف ستائر الغيب ؟
لماذا أطلقتُ النار على هذه الحمامة الأليفة التي كانت تبشر بالجمال والشِعر والمحبة ؟
آهٍ .. لو أستطيع أن أذهب إلى قبرها لأغسل رخامته بدموعي .
آهٍ .. لو أستطيع أن أعتذر لها عن جريمتي .. فقد كانت تمثل الحضارة ، وكنا نمثل العصور الهمجية .
كانت ترى الأشياء بعين الحب .. وكنا نراها بعين الحقد ..
إن حوارها معي لا يزال حتى هذه اللحظة محفوراً في ذاكرتي . لذلك أحاول الهروب منها إلى ( مقهى وبار النسيان ) ..
إنني لا أستطيع أن أهرب من هذه المرأة ..
لا أستطيع أن أهرب من هذا الوجه الذي كان يضئ أمام بنادقنا المرفوعة كوجه المجدلية ، ولا هذا الصوت الواثق المتكبر الذي كان يتدفق كمطر استوائي ، ويجرفنا نحن الثلاثة أمامه كمراكب مصنوعة من الورق ...
عجيبٌ أمر هذه المرأة الخرافة ..
كانت هي في حالة عشق ، وكنا في حالة لا عشق ، فلم نستطع أن نتفاهم معها ..
كانت عالية كأشجار الحنان ..
وكنا أقزاماً كطحالب الكراهية .. فلم نستطع أن نتفاهم معها ..
كانت عيناها السوداوان تكشفان الغيب ، وتكتبان النبوءات ..
معلم المدرسة : ولماذا قتلناها إذن ؟
صاحب المقهى : لأننا كنا نجهل القراءة .. قراءة النبوءات .
معلم المدرسة : وبماذا تنبأت هذه المرأة ؟
صاحب المقهى : تنبأت بنهاية هذه الجمهورية الكاريكاتورية .. وقالت إنها ستأكل نفسها بنفسها .. كما تأكل الهرة أولادها ..
معلم المدرسة : ولقد صدقت النبوءة ، فأكلت الثورة أولادها ..
الطبيب : وماذا قالت أيضاً ؟
صاحب المقهى : قالت أشياء كثيرة لا أتذكر تفاصيلها بدقة ، بعدما طمس موج السنين حروفها .. ولكن من أهم ما قالته - على ما أذكر - إن الله ليس قالب جبنة نقطعه بسكين الطائفية ..
معلم المدرسة : بديع .. بديع .. وماذا قالت أيضاً يا كومندان ؟
صاحب المقهى : قالت إنها ضد لبنان الشرائح .. ولبنان الفتافيت .. ولبنان السيراميك .. ولبنان الغيتوهات .. والدوقات ..
واعترفتْ أنها تحب رجلاً من غير طائفتها ، لأنها تحتقر حكم ملوك الطوائف ...
كان الوطن عندها عباءة حنان يلبسها الجميع ، وكان الحب عندها هو الدين الحقيقي الذي يجمع كل الناس .
وكانت تؤمن أن مبرر وجود لبنان هو الحب . فإذا يبست شجرة الحب على أرضه ، يبست شرايينه ، وتوقف قلبه ..
معلم المدرسة : هذا كلامٌ رائع .. وصادق ..
صاحب المقهى : الكلام الذي نعتبره اليوم رائعاً وصادقاً ، لم يكن قبل 25 سنة رائعاً ولا صادقاً ..
في تلك الحقبة السوداء من الزمن ، كنا مجموعة من الثيران الإسبانية لا ترى أمامها سوى راية الحزب المصبوغة بالدم .. وكانت شهيتنا للقتل كشهية التماسيح وأسماك القرش ..
معلم المدرسة : ولكن حوار هذه المرأة كان قطعة شِعر ..
صاحب المقهى : هل سمعت عن سمكة قرش تقرأ الشِعر ؟ .. وأعترف لكم أنني كنت في عام 1975 سمكة قرش .. وكنتُ من الحماقة بحيث تصورتُ أن صوت الرصاصة أهم من صوت البلبل .. ومن صوت فيروز ..
الطبيب : من هي فيروز هذه ؟ إن كل مرضاي الذين يتلقون عندي علاجاً نفسياً يبكون عند ذكر اسمها ..
صاحب المقهى : كلنا نبكي الآن عند سماع صوتها . إن فيروز مغنية ٌ لبنانية جاءت قبل 50 سنة ، أي قبل ولادة ( جمهورية جنونستان ) ، وكان صوتها الصندوق السحري الذي خبأنا فيه أجمل أقاصيص حبنا ، وأخبار طفولتنا ، وأسماء حبيباتنا ..
ولأن صوت فيروز كان وعاء الكريستال الذي سكبنا فيه صلواتنا ، وذكرياتنا ، وأحلامنا ، ولأنه كان الصورة الزيتية الرائعة لوجه لبنان القديم ، فإن جهاز المخابرات العسكرية في ( جمهورية جنونستان ) أصدر منذ 25 سنة قراراً بمنع اسطواناتها وأشرطتها من التداول .. لأنه اعتبر صوتها خطراً على الأمن القومي ...
ورغم العقوبات الصارمة التي يتعرض لها كل شخص يقبضون عليه متلبساً بجريمة الاستماع إلى فيروز .. أو محتفظاً بشريط قديم لها ، فإن الذين عاصروا فيروز من اللبنانيين ، لا يزالون يتناقلون أشرطتها بصورة سرية ، كما يتناول المدمنون الحشيش والأفيون ، كلما حركهم الشوق إلى العهد القديم ..
الطبيب : الآن .. بدأتُ أفهم حالة أكثر مرضاي ، ولا سيما الكهول منهم . إنهم يعانون انفصاماً نفسياً حاداً ، فهم منشطرون في داخلهم إلى جزئين . جزء يعود تاريخياً إلى ما قبل 13 نيسان 1975 ، وجزء يعود إلى ما بعد هذا التاريخ .
لذلك يحدث الصراع المرير في ذواتهم ، بين ماض ٍ يحبونه ولا يستطيعون الذهاب إليه ، وبين حاضر ٍ يكرهونه ولا يستطيعون الفرار منه ..
وعلى ذكر المرأة التي قتلناها على الحاجز عام 1975 ، دعني أعترف لك يا كومندان ، أنها لا تطاردك وحدك ، وإنما تطاردني أيضاً ...
إنها تسكنني كالسر .. وتتمدد على الفراش بيني وبين زوجتي ، وتذهب معي إلى عيادتي ، وتتدخل في حواري مع مرضاي ..
هل أعترف لكم بسر لم أقله حتى الآن لأحد ؟ لقد درستُ الطب النفسي لأشفى من شبح هذه المرأة التي امتزج دمها بطعامي وشرابي وقهوتي اليومية .
وسافرتُ إلى أوروبا ، وتابعت آخر المكتشفات في حقول الطب النفسي ، علني أجد حالة تشبه حالتي ، ولكنني مع الأسف لم أصل إلى نتيجة ، فقد صارت هذه المرأة هي الطبيبة .. وأصبحتُ أنا المريض .
تصوروا .. أنا طبيب المدينة الذي ما زال واقعاً تحت تأثير مريضة ماتت منذ 25 سنة ...
صاحب المقهى : ماتت ؟ هل تظن أنها ماتت يا حكيم ؟ إنني أعرف أن الموتى إذا ماتوا يذهبون إلى مكان آخر .. إلا هذه المرأة ، فإنها تتجول حين يهبط الظلام على شوارع المدينة ، وتطرق كل الأبواب ، وتوقظ كل النائمين ، وتكتب على جدران المدينة بخط عريض .. عريض ..
(( جنونستان .. أنتِ حمل ٌ كاذب .. ))
معلم المدرسة : يا لها من كلمة مأثورة !!
صاحب المقهى : يا لمفارقات القدر . من يصدق أنني قتلتُ هذه المرأة لأنها تلفظت بهذه الكلمة المأثورة ؟ ..
معلم المدرسة : أقتلتها من أجل هذا ؟
صاحب المقهى : نعم .. لم أستطع تحمل سخريتها وتهكمها وتشبيهها جمهوريتنا مرة بحبة الأسبرين .. ومرة بالغيتو .. ومرة بالحمل الكاذب .. فأطلقتُ عليها الرصاص ، ولكنها ظلت تضحك بينما كان الدم يتفجر من رأسها ..
معلم المدرسة : وعلى من كانت تضحك ؟
صاحب المقهى : طبعاً علينا .. كانت ( جمهورية جنونستان ) بالنسبة إليها عبارة عن نكتة تسمعها للمرة الأولى . ولم أكن أستطيع أن أوقفها عن الضحك .. فقتلتها ..
الطبيب : وبالرغم من قتلها ، فإننا لم نستطع أن نمنعها من الضحك . إن القتل ليس جواباً مقنعاً ونهائياً .. لذلك ظلت هذه المرأة تضحك علينا 25 سنة ، ولا تزال تضحك حتى الآن ...
معلم المدرسة : ولماذا تتوقف عن الضحك ، والكرنفال لا يزال شغالاً ، والكوميديا مستمرة ؟
والجمهور مضطر أن يضحك ، لأنهم أصدروا مرسوماً منعوه بموجبه من البكاء ..
الطبيب : بالفعل .. إنهم صادروا من الصيدليات جميع حبوب البكاء ..
معلم المدرسة : وما هو الدواء المسموح ببيعه في صيدليات المدينة ؟
الطبيب : المهدئات العصبية .. الفاليوم .. والليبريوم .. والنوروكالسيوم .. والمورفين ..
إن مدينتنا تستهلك من المهدئات أكثر مما يستهلك العالم كله . إن هذه المدينة مأزومة ٌ نفسياً وعصبياً .. فمنذ أن افتتحت عيادتي منذ خمسة عشر عاماً وأنا لا أستقبل إلا نوعاً معيناً من المرضى ، هم المصابون بالشيزوفرينيا ، والعُصاب ، والسوداوية ، ومرض الكآبة ، والصرع ، والهلوسة ، وفقدان الذاكرة ..
صاحب المقهى : يعني أن مدينتنا صارت مدينة مجانين ! ..
الطبيب : التأزم النفسي هو الكلمة العلمية البديلة لكلمة جنون ..
إنني أحاول تفسير هذه الظاهرة الخطيرة ، ولطالما سألتُ نفسي : لماذا لا يشكو أهل مدينتنا من أسنانهم ، أو من مفاصلهم ، أو من أمعائهم الغليظة ، وإنما يشكون من عقولهم فقط ؟ .
صاحب المقهى : لقد تأخرتَ باكتشافك يا حكيم .. فعقل هذه المدينة صادرته الحكومة منذ ربع قرن ..
الطبيب : معك حق يا كومندان . إنني أشعر كما لو أن الذين يدخلون إلى عيادتي ، إنما يبحثون عن عقلهم الضائع .
معلم المدرسة : ولماذا تصادر الدولة عقول رعاياها ؟
صاحب المقهى : لكي تحكُمْ ..
معلم المدرسة : ومن يمنعها من أن تحكم ؟
صاحب المقهى : عقل المحكومين . فالعقل معارضٌ أزلي ..
معلم المدرسة : الآن أفهم لماذا سموا جمهوريتنا ( جمهورية جنونستان ) ..
صاحب المقهى : صح النوم .. يا أستاذ .
معلم المدرسة : ولكن غياب العقل ، يهدد الوطن بالانقراض .
الطبيب : ومن قال لك إننا لسنا في طريقنا إلى الانقراض ؟
لو رجعنا إلى الدراسات العلمية ، لوجدنا أن النبات ، والجماد ، والبشر ، قد تعرضوا خلال ربع القرن الأخير إلى تغييرات بيولوجية أساسية . فجمجمة الإنسان أصبحت أصغر .. وعظام فكيه صارت أضخم .. وذنبه صار أطول ...
فجبال الوطن احدودب ظهرها ، وأشجاره أصيبت بالروماتيزم فلم تعد قادرة على الوقوف ، وعصافيره نسيت عادة الطيران ، وأسماكه نسيت غريزة السباحة ، وشعراؤه نسوا كتابة الشِعر ...
معلم المدرسة : ومن أين يأتي الشعر يا حكيم ؟
إن الشعر وردة لا تطلع من الأرض الكبريتية المالحة ..
هل تصدقون أن رواد الفكر والشعر في لبنان ، والعالم العربي ، موضوعون في القائمة السوداء مع مهربي الهيروين وحشيشة الكيف ..
وأننا لا نجرؤ في مدارسنا على تدريس المتنبي ، وأبي تمام ، والجاحظ ، وطه حسين ، والعقاد ، وتوفيق الحكيم ، واليازجي ، والبستاني ، وميخائيل نعيمة ، وإيليا أبو ماضي ، والشاعر القروي ، وبشارة الخوري ، وأمين نخلة ، وإلياس أبي شبكة .. لأنهم معتبرون من شعراء العهد البائد وعصور الانحطاط ..
الطبيب : وكيف يحددون عصور الانحطاط ؟
معلم المدرسة : كل تاريخ قبل 13 نيسان 1975 هو عصور انحطاط . لذلك فإنني لا أدري ماذا أقول لطلابي حين يسألونني عن هؤلاء الكتاب والشعراء المبدعين الذين يسمعون عنهم ولا يجدونهم في كتبهم الدراسية .
صاحب المقهى : قل لهم يا أستاذ إن الشِعر العربي الجميل مطرودٌ من جمهوريتنا . قل لهم إن الثقافة ، والمعرفة ، والكتب ، والأقلام ، والطباشير ، مطرودة ٌ من جمهوريتنا . قل لهم إن الله أيضاً مطرودٌ من جمهوريتنا لأن إقامته قد انتهت .. وليس لديه إجازة عمل ..
الطبيب : وما الجريمة التي ارتكبها الشعراء والمفكرون اللبنانيون والعرب ؟
معلم المدرسة : جريمتهم أنهم يتكلمون اللغة العربية ...
الطبيب : ولكن اللغة العربية هي اللغة الرسمية . لغة الناس ، لغة الأطفال ، لغة البسطاء ، لغة الفقراء ، لغة المصلين ، لغة العاشقين ، لغة النصارى ، لغة المسلمين ، فكيف يمكن إلغاء لغةٍ بانقلاب ؟
صاحب المقهى : العساكر يمكنهم أن يفعلوا ذلك ..
معلم المدرسة : يا حضرة الكومندان ، خفــِّف صوتك ، فإن للحيطان آذاناً مرهفة ، والساحة ملآى بعشرات المخبرين . إن ثلاثة أرباع ( جمهورية جنونستان ) هم من المخبرين .
صاحب المقهى : تساوَى الماء والخشب عندي ... إنني أعرف أنهم يراقبونني ، ويراقبون زبائن المقهى ، ويحشرون أنوفهم في فناجين الشاي والقهوة ، ويتنصتون على ما تقوله الكراسي والطاولات .. ولكنهم لا يقتربون مني ، لأنهم يعرفون أني أعرف ..
ولذلك عندما طلبتُ من وزير الداخلية أن يمنحني رخصة لفتح ( مقهى وبار النسيان ) أرسل لي الرخصة بخمس دقائق مع مرافقه الخاص ، كما أرسل لي باقة ورد جميلة يوم افتتاح المقهى ..
أعجبهم اسم المقهى كثيراً .. لأنهم يريدون شعباً بلا ذاكرة . شعباً يتعاطى حشيشة النسيان .
الطبيب : إذا كانت اللغة العربية - كما يقول الأستاذ - محجوزاً عليها الآن .. فبأي لغة يتكلم الوطن ؟
معلم المدرسة : إنه لا يتكلم . منذ 25 سنة ، والوطن لا يتكلم .
الطبيب : وكيف يعبر الشعب عن نفسه في ( جمهورية جنونستان ) ؟
معلم المدرسة : بالإشارات .. كالأولاد المعاقين ..
الطبيب : ولكن الأولاد المعاقين لا يتكلمون لسبب عضوي .
معلم المدرسة : والشعوب قد تتوقف عن الكلام لسبب بوليسي . وإذا كنا نحن الثلاثة لا نزال محتفظين بقدرتنا على الكلام ، فلأننا آخر الحيوانات الناطقة في ( جمهورية جنونستان ) .
صاحب المقهى : يظهر أنكم نسيتم أنكم في ( مقهى النسيان) وأنه من الأفضل لكم أن لا تفتحوا أبواب الذكريات عليكم ، لأن نار الذكريات قد تــُحرق أصابعكم .. وتخرب بيوتكم ..
( ينهض الطبيب ومعلم المدرسة ) .
الطبيب ومعلم المدرسة : نهارك سعيد .. يا كومندان ..
صاحب المقهى : نهاركم سعيد .. يا آخر الحيوانات الناطقة في ( جمهورية جنونستان ) ..
نهاركم سعيد .. يا آخر ديناصورات لبنان القديم .
ستار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق