اللغة هي القاسم المشترك بين جميع أفراد المجتمع،
وهي بالتالي تحمل بين طياتها تاريخ هذا المجتمع، في مفرداتها، وعباراتها، وكذلك في
تراكيبها الدلالية والنحوية. وهي كذلك تقع في مستوياتٍ تمتد من المستوى المبتذل
والعامي إلى المستوى الشعري والجمالي.
يتنزّه بلال عبد الهادي في حديقة اللغة العربية، بين
كلماتها وعباراتها وتراكيبها النحوية، ويقفز من مستوى استعمالٍ لها إلى مستوى آخر،
كل ذلك من أجل أن يقطف من هنا نادرة ومن هناك درّة، وأن يروي من هنا حادثة ومن
هناك جدالاً، وأن يستعيد من التراث العربي من هنا دلالة أو لمعة ومن هناك جذوراً
في الكلمات أو فروعاً في الدلالات. من هنا جاء كتابه "لعنة بابل" في
صورة باقة من المقالات يستطيب القارئ فيها شذا ألف عطرٍ وعطر.
عندما يقرأ أحدنا هذا الكتاب يُخيَّل إليه أن بلال
عبد الهادي لم يكن لوحده عندما كتب كلماته. يُخيل إليه أنَّ هناك من كان يشاركه في
خط كل سطر من سطوره. أو بالأحرى يشعر أنه عندما كان المؤلف يكتب، كانت هناك عينان
تنظران من وراء كتفه إلى ما يخطه، لا بل هي عينان تحدقان النظر في عينيه تارة وفي
قلمه تارة أخرى. إنهما عينا القارئ. أعني بذلك أن القارئ موجود في الحكاية – فكتاب
عبد الهادي حكايات – وهو يحاوره ويلاطفه وفي معظم الأحيان يفاجئه.
هذا الكتاب نوع من الفسيفساء – موزاييك – ينتقل فيها
القارئ من موضوع إلى آخر. فإذا اقتربتَ من الصفحات وتفرست في الصفحة الواحدة وتأملت
مفرداتها، أو إذا نظرت إلى المقالة الواحدة على حدة دون أن تعتدّ بالصفحات
والمقالات الأخرى، فإنه يُخيَّل إليك أنها قطعة واحدة منفصلة، قد تبدو غريبة عن
جاراتها في الموضوع أو اللون أو الشكل. لكن، إذا ابتعدت قليلاً ونظرت إلى الكتاب
بشموليته لتبيَّن لك أنه لوحة كبيرة تضمّ في أشكالها العامة رؤيةً واحدة تنسج من
خلال اللغة، بل من خلال الكلام على الكلام، لوحةً، أو كما يحب أن يقول المؤلف،
سجادة عجمية، مليئة بالألوان المنمقة والأشكال المزخرفة، كل جزء منها عبارة عن
لوحة، وكلها معاً لوحة واحدة. فجاء بذلك هذا الكتاب وكأنه لوحة كبيرة مكوّنة من
لوحات فنية صغيرة.
تحدثت عن المستويات اللغوية. وفي هذا الكتاب مستويات
عديدة، ليس في داخل اللغة فقط بل خصوصاً في تناول اللغة من الخارج ومعالجتها،
فهناك :
-
مستوى
المفردة العربية الواحدة التي تقابلها مفردة عربية أختٌ لها. مثل : الذاكرة
واللسان، والجنس والنسج أو الجنس والنجس، والفم واللسان، والعِمامة والعمى، إلى ما
هنالك.
-
مستوى
العامية يقابله مستوى الفصحى. بلال عبد الهادي لا يخشى العامية كما يفعل بعض
المتنطعين الذين يكرهون الحديث عنها أو البحث فيها. والأمثلة كثيرة في الكتاب : من
العبارات والحكم الشعبية إلى محطات الكلام في اللغة "الركيكة". الحقيقة
أنني أعتقد أو بالأحرى أرى بوضوح أن العامية ليست غريبة على اللغة الفصحى، إنما هي
في جسد العربية وتقع في أساسها، وليس احتقارها أو التعالي عليها أو التخلي عنها
سوى عملٍ يشبه عمل من يتخلى عن إحدى يديه أو يقطع إحدى رجليه. وهذا موقف أُجِلّه
عند عبد الهادي وأهنئه عليه.
-
مستوى
العامية لذاتها، ولكن كذلك مستوى العامية بالمقارنة مع جذورها في تاريخ الفصحى، أو
على العكس من ذلك باعتمادها كأصل من الأصول التي تنبع منها العربية الفصحى.
-
وهناك
مستوى المفردات العربية وما يقابلها من مفردات غير عربية. وأكتفي بمثال
"هلك" بين لغة الضاد والعبرية. قراءة ص. 137.
-
أخيراً،
هناك مستوى الكلمات الأجنبية التي يقابلها إما الاستعمالات العربية المقابلة لها وإما
أصولها العربية أو الإسلامية. وليست كلمة "كرواسان" سوى واحد من النماذج
العديدة لذلك. قراءة مقاطع من صفحة 116-117.
-
....
في نهاية الأمر، لا يسعني إلا أن أدعوكم إلى قراءة
هذا الكتاب، للمتعة أولاً، ولكن للمعرفة أيضاً. ولا أستطيع هنا إلا أن أشبّه قارئ
هذا الكتاب بالمسافر، إنه مسافر جالس، مسافر قابع في أريكته، يركب الأسفار، ويجوب
البلاد، ويمخر عباب اليم، وهو لا يفعل شيئاً سوى أنه يمتطي صهوة الكلمات ويحلق في
أجواء المعاني والدلالات.
أ. د. بسام بركة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق