كلّ من يستعمل الكومبيوتر يعرف أنه لا يمكنه الاستغناء، عملياً، عن لوحة المفاتيح، فاللوحة والفأرة بوّابتاه الى التعامل مع الكومبيوتر. وهنا، سوف أتكلّم على نقطة واحدة، هي تعامل الإنسان العربي مع لوحة مفاتيح حاسوبه الشخصي، وهي تعبّر، الى حدّ ما، عن شخصية مستعمله وعن موقفه من لغته (الأم). فغالباً ما تكون لوحة المفاتيح بالحرفين العربي واللاتيني، ولكن ثمة فئة من الناس تشتري لوحة مفاتيح خالية من الحروف العربية على اعتبار أنها لا تحتاج الى استخدام الحرف العربي، وإن اضطرت للدردشة باللغة العربية فإنها تعمد الى استخدام الحرف اللاتيني، وأوجدت هذه الفئة حلولاً عملية للحروف العربية غير الموجودة في اللغة الفرنسية او الانكليزية، فهي تستعمل مثلاً رقم 3 لكتابة حرف العين، ورقم 7 لكتابة حرف الحاء، ورقم 8 لكتابة الغين... الخ، حتى ولو توفرت الحروف العربية على لوحة مفاتيحهم فإن هذه الفئة تستسهل استخدام الحرف اللاتيني او ما يمكن تسميته بـ«الكرشوني المودرن»!.
كنت قد سمعت مرّة ان فتاة تحترم خطها العربي وهي تستعمله في دردشاتها الحاسوبية مع زميلات لها، فاعترضت إحداهن عليها لاستخدامها الحرف العربي وليس اللاتيني، مظهرة استغرابها الشديد كونها تعرف تماماً ان زميلتها «متحضّرة». وهكذا، بطريقة من الطرق، ربطت زميلة فتاتنا بين الحرف العربي والتخلّف. وهذه مسألة، في أيّ حال، وقع فيها كثيرون حتى من المثقفين العرب الذين اعتبروا ان مرضنا الحضاري مرتبط بالحرف العربي، ودعوا الى اختيار الحرف اللاتيني حتى ندخل العصر.
كل أمة في لحظة تخلّفها وتضعضعها الحضاري تحتار كيف تتعامل مع لغتها المكتوبة، وتخلّفنا العربي الراهن يظهر في مجالات مختلفة، ولكني أعتقد ان تعاملنا مع اللغة معبّر، بشكل واف، عن تخلّفنا. وهذه المسألة ليست خاصة بنا نحن العرب فقط.
في الصين، مطلع القرن العشرين، فكّر جزء من رجالات النهضة الصينية بإلغاء الخط الصيني واستبداله بالحرف اللاتيني معتبرين ان جذور التخلّف كامنة في الخط.
وهكذا ظنّ أتاتورك فألغى استعمال الحرف العربي اعتقاداً منه أن إلغاءه هو دخول الى العصر الحديث من بابه العريض. إيران استطاعت ان تدخل الى الحداثة مع احتفاظها بالحرف العربي، وهذا ما ينسف فكرة أتاتورك. كما ان سلامة موسى يقول في مقال له بعنوان: «حاجتنا الحتمية الى الحروف اللاتينية» بأن علوم العصر سوف تبقى غريبة عنّا ما دمنا متشبّثين بحرفنا العربي، وعبارته بحرفيّتها تقول: «لن تُسْتَعْربَ العلوم إلاّ اذا اسْتَلْتَنْ (أي صار لاتينياً) الهجاء العربي». وعدد لا بأس به من المفكرين تبنّى وجهة نظر سلامة موسى، ولكني أعتبرها وجهة نظر قصيرة النظر، لأن التاريخ ضدهم، والجغرافيا ضدهم، والتراث ضدهم، والأمم التي نهضت من كبواتها الحضارية ضدهم.
اهتمامي بالعربية دفعني الى دراسة لغتين: العبرية والصينية. فأنا من المؤمنين بأن اللغة، أية لغة، بريئة من التخلّف، وعبارة «لغة متخلّفة» تُخفي شعباً متخلّفاً او قائلاً متخلّفاً، فاللغة لا تتخلّف بقرار نابع من ذاتها وإنما بقرار نابع من عُقَد شعبها.
تعلّمت العبرية لأنها لغة سامية ولها مشاكل لا تختلف عن مشاكل اللغة العربية والكتابة العربية، بل هي أكثر مشاكل بسبب تعدّد الحركات فيها وبسبب أنها كانت لغة لا يتقنها إلاّ أقل القليل وكانت بحكم الميتة، ولكن مؤسسي الفكرة الصهيونية فكّروا في إحياء لغتهم حتى قبل ان يفكّروا في إنشاء كيان جغرافي لهم، معتبرين ان اللغة وليس الأرض هي الوطن الأول، ولا يمكن لأحد ان يقول ان اسرائيل دولة متخلّفة في ميادين العلم والتكنولوجيا واللغة، فهم من أبرع الناس في إيجاد وسائل سريعة لتعليم لغتهم بحكم ان العبرية شرط الاندماج الأول في المجتمع الصهيوني.
كانت اللغة الثانية التي استهوتني هي اللغة الصينية لأسباب منها ان مفكّرين صينيين كثيرين اعتبروا تخلّف الصين في القرن الثامن عشر والتاسع عشر كان بسبب الكتابة الصينية المعقّدة، ولكن الأيام أظهرت بطلان دعواهم فها هي الصين تتقدّم، اليوم، علمياً واقتصادياً على أكثر من دولة غربية من دون ان تتخلى عن كتابتها التي تمثّل تاريخها واعتزازها. إن الشعوب هي التي تختار مواقع لغاتها وليس العكس كما قد يتبادر الى الذهن الساذج.
أذكر ان درس الخط، حين كنت صغيراً، كان جزءًا من التعليم، في المراحل الابتدائية، وما زلت أذكر طاولة الصف التي كانت تأخذ بعين الاعتبار تأمين مكان ثابت لمحبرة درس الخط. فأين نحن اليوم من تعليم الخط؟ ونظرة موضوعية للأمور تظهر ان الخط العربي من أجمل الخطوط الكتابية وأطوعها لا يوازيه في ذلك إلاّ الخط الصيني، ومع هذا فنحن نهمله لأننا نهمل أنفسنا، ونهمله لأننا نهمل مستقبلنا. اللغة ليست جزءًا من الحاضر ولا جزءًا من الماضي فقط، إنها صورة عن المستقبل أيضاً.
ألغينا درس الخط من حياتنا ومدارسنا، وعليه ألغينا بناء علاقة جمالية وحميمة مع الحرف العربي، وهنا أنهي بعلاقة اليابان (وهي ليست دولة متخلّفة!) بخطّها، وهي علاقة نموذجية، رائعة، تظهر مدى احترام اليابان لخطها، وتفانيها في خدمته، وتظهر كيف ان الخط جزء من سياسة الدولة ونظرتها الواعية لذاتها، تقام، في الامبراطورية اليابانية، مسابقة خطية هي أشبه بمهرجان وطني، مطلع كل عام، من الدالّ توقيت المسابقة يوم رأس السنة وهو يوم ليس كسائر الأيام. يشترك في مسابقة فن الخط حوالى ثلاثة آلاف مشترك من كل الأعمار، في الهواء الطلق، في ساحة واسعة الأرجاء، فهنا توحّدهم جميعاً هواية الخط، واللوحة التي تفوز بالجائزة لا تكتفي بالمبلغ المرصود لها، فثمّة ما هو أهم من المبلغ وأهم من الجائزة نفسها، هو مكان إقامتها بعد الفوز، تتحوّل اللوحة الفائزة الى لوحة فنية تعلّق في قصر الامبراطور، وهنا يخطر ببالي كيف ان «المعلّقات» الشعرية الجاهلية أخذت اسمها من «تعليقها» على جدران الكعبة. ثم إن الامبراطور يقوم بنفسه باستقبال الفائز وتكريمه، ونحن نعرف المقام المقدّس للامبراطور الياباني في الديانة الشّنْتويّة (shinto).
لنتخيّل ان لبنان يقيم، سنوياً، مسابقة للخط العربي برعاية مباشرة من رأس السلطة، ويكون من نصيب لوحة الفائز ان تعلّق في القصر الجمهوري او في السراي الكبير او في البرلمان. وتخيّل لو ان كل رئيس عربي او أمير او ملك يقرّر إنشاء هذه المسابقة، هل يبقى احتقارنا للحرف العربي كما هو الآن؟ وهل يبقى تفضيل الجيل العربي الجديد للحرف اللاتيني على الحرف العربي في رسائله القصيرة على الهاتف الجوّال، او في دردشاته على «الفايسبوك»؟.
أختصر مقالي بعبارة: «قل لي كيف تتعامل مع خط لغتك أقل لك من أنت!».
كنت قد سمعت مرّة ان فتاة تحترم خطها العربي وهي تستعمله في دردشاتها الحاسوبية مع زميلات لها، فاعترضت إحداهن عليها لاستخدامها الحرف العربي وليس اللاتيني، مظهرة استغرابها الشديد كونها تعرف تماماً ان زميلتها «متحضّرة». وهكذا، بطريقة من الطرق، ربطت زميلة فتاتنا بين الحرف العربي والتخلّف. وهذه مسألة، في أيّ حال، وقع فيها كثيرون حتى من المثقفين العرب الذين اعتبروا ان مرضنا الحضاري مرتبط بالحرف العربي، ودعوا الى اختيار الحرف اللاتيني حتى ندخل العصر.
كل أمة في لحظة تخلّفها وتضعضعها الحضاري تحتار كيف تتعامل مع لغتها المكتوبة، وتخلّفنا العربي الراهن يظهر في مجالات مختلفة، ولكني أعتقد ان تعاملنا مع اللغة معبّر، بشكل واف، عن تخلّفنا. وهذه المسألة ليست خاصة بنا نحن العرب فقط.
في الصين، مطلع القرن العشرين، فكّر جزء من رجالات النهضة الصينية بإلغاء الخط الصيني واستبداله بالحرف اللاتيني معتبرين ان جذور التخلّف كامنة في الخط.
وهكذا ظنّ أتاتورك فألغى استعمال الحرف العربي اعتقاداً منه أن إلغاءه هو دخول الى العصر الحديث من بابه العريض. إيران استطاعت ان تدخل الى الحداثة مع احتفاظها بالحرف العربي، وهذا ما ينسف فكرة أتاتورك. كما ان سلامة موسى يقول في مقال له بعنوان: «حاجتنا الحتمية الى الحروف اللاتينية» بأن علوم العصر سوف تبقى غريبة عنّا ما دمنا متشبّثين بحرفنا العربي، وعبارته بحرفيّتها تقول: «لن تُسْتَعْربَ العلوم إلاّ اذا اسْتَلْتَنْ (أي صار لاتينياً) الهجاء العربي». وعدد لا بأس به من المفكرين تبنّى وجهة نظر سلامة موسى، ولكني أعتبرها وجهة نظر قصيرة النظر، لأن التاريخ ضدهم، والجغرافيا ضدهم، والتراث ضدهم، والأمم التي نهضت من كبواتها الحضارية ضدهم.
اهتمامي بالعربية دفعني الى دراسة لغتين: العبرية والصينية. فأنا من المؤمنين بأن اللغة، أية لغة، بريئة من التخلّف، وعبارة «لغة متخلّفة» تُخفي شعباً متخلّفاً او قائلاً متخلّفاً، فاللغة لا تتخلّف بقرار نابع من ذاتها وإنما بقرار نابع من عُقَد شعبها.
تعلّمت العبرية لأنها لغة سامية ولها مشاكل لا تختلف عن مشاكل اللغة العربية والكتابة العربية، بل هي أكثر مشاكل بسبب تعدّد الحركات فيها وبسبب أنها كانت لغة لا يتقنها إلاّ أقل القليل وكانت بحكم الميتة، ولكن مؤسسي الفكرة الصهيونية فكّروا في إحياء لغتهم حتى قبل ان يفكّروا في إنشاء كيان جغرافي لهم، معتبرين ان اللغة وليس الأرض هي الوطن الأول، ولا يمكن لأحد ان يقول ان اسرائيل دولة متخلّفة في ميادين العلم والتكنولوجيا واللغة، فهم من أبرع الناس في إيجاد وسائل سريعة لتعليم لغتهم بحكم ان العبرية شرط الاندماج الأول في المجتمع الصهيوني.
كانت اللغة الثانية التي استهوتني هي اللغة الصينية لأسباب منها ان مفكّرين صينيين كثيرين اعتبروا تخلّف الصين في القرن الثامن عشر والتاسع عشر كان بسبب الكتابة الصينية المعقّدة، ولكن الأيام أظهرت بطلان دعواهم فها هي الصين تتقدّم، اليوم، علمياً واقتصادياً على أكثر من دولة غربية من دون ان تتخلى عن كتابتها التي تمثّل تاريخها واعتزازها. إن الشعوب هي التي تختار مواقع لغاتها وليس العكس كما قد يتبادر الى الذهن الساذج.
أذكر ان درس الخط، حين كنت صغيراً، كان جزءًا من التعليم، في المراحل الابتدائية، وما زلت أذكر طاولة الصف التي كانت تأخذ بعين الاعتبار تأمين مكان ثابت لمحبرة درس الخط. فأين نحن اليوم من تعليم الخط؟ ونظرة موضوعية للأمور تظهر ان الخط العربي من أجمل الخطوط الكتابية وأطوعها لا يوازيه في ذلك إلاّ الخط الصيني، ومع هذا فنحن نهمله لأننا نهمل أنفسنا، ونهمله لأننا نهمل مستقبلنا. اللغة ليست جزءًا من الحاضر ولا جزءًا من الماضي فقط، إنها صورة عن المستقبل أيضاً.
ألغينا درس الخط من حياتنا ومدارسنا، وعليه ألغينا بناء علاقة جمالية وحميمة مع الحرف العربي، وهنا أنهي بعلاقة اليابان (وهي ليست دولة متخلّفة!) بخطّها، وهي علاقة نموذجية، رائعة، تظهر مدى احترام اليابان لخطها، وتفانيها في خدمته، وتظهر كيف ان الخط جزء من سياسة الدولة ونظرتها الواعية لذاتها، تقام، في الامبراطورية اليابانية، مسابقة خطية هي أشبه بمهرجان وطني، مطلع كل عام، من الدالّ توقيت المسابقة يوم رأس السنة وهو يوم ليس كسائر الأيام. يشترك في مسابقة فن الخط حوالى ثلاثة آلاف مشترك من كل الأعمار، في الهواء الطلق، في ساحة واسعة الأرجاء، فهنا توحّدهم جميعاً هواية الخط، واللوحة التي تفوز بالجائزة لا تكتفي بالمبلغ المرصود لها، فثمّة ما هو أهم من المبلغ وأهم من الجائزة نفسها، هو مكان إقامتها بعد الفوز، تتحوّل اللوحة الفائزة الى لوحة فنية تعلّق في قصر الامبراطور، وهنا يخطر ببالي كيف ان «المعلّقات» الشعرية الجاهلية أخذت اسمها من «تعليقها» على جدران الكعبة. ثم إن الامبراطور يقوم بنفسه باستقبال الفائز وتكريمه، ونحن نعرف المقام المقدّس للامبراطور الياباني في الديانة الشّنْتويّة (shinto).
لنتخيّل ان لبنان يقيم، سنوياً، مسابقة للخط العربي برعاية مباشرة من رأس السلطة، ويكون من نصيب لوحة الفائز ان تعلّق في القصر الجمهوري او في السراي الكبير او في البرلمان. وتخيّل لو ان كل رئيس عربي او أمير او ملك يقرّر إنشاء هذه المسابقة، هل يبقى احتقارنا للحرف العربي كما هو الآن؟ وهل يبقى تفضيل الجيل العربي الجديد للحرف اللاتيني على الحرف العربي في رسائله القصيرة على الهاتف الجوّال، او في دردشاته على «الفايسبوك»؟.
أختصر مقالي بعبارة: «قل لي كيف تتعامل مع خط لغتك أقل لك من أنت!».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق