على الأستاذ أن لا يتخلّى عن ذهنيّة الطالب المبتدئ.
أن يبقى تلميذا يقظا، عاشقا لمهنته ، متمتّعا بكل لحظة تعليم التي هي في الوقت نفسه لحظة تعلّم.
ان تبقى علاقته مع الموادّ التي يعلّمها علاقة طازجة، حارّة، يفتح لها الأبواب والشبابيك لتتنفّس في كلّ لحظة هواء جديدا، ونكهة جديدة تحمل بصمة روحه.
أن لا يملّ من تقليب النظر فيها، ويراها من وجهات نظر جديدة.
وان لا يكفّ عن مدّها بروافد من مشارب أخرى.
أن لا يتوقّف عن البعد والاقتراب، الكر والفرّ، وطرح أسئلة جديدة على كلّ نقطة يعالجها.
التعليم ليس وظيفة ولا رسالة ولا باب رزق، انها اكثر من ذلك وأجمل من ذلك، وانبل من ذلك.
انها شغف عنيد.
أكره ما أكره أن أرى شخصاً يعلك علكة معلوكة قد علكها أحد غيره.
وكذلك الأفكار والأحلام.
لا أحبّ من يعيش في حلم ليس من صنع رغباته، وأفكار لا تحمل جيناته الذاتية، وآراء مطروقة بألف قدم وقدم.
العلم ليس طبقا جاهزا، وانما طبق مفكك تأخذ مكوناته وتطبخه على ذوقك، وتنكّهه بحسب نفسك الشخصيّ.
أعشق الهوامش لا المتون لأنّها بيضاء، عذراء، بياض الهوامش بياض مديد يسمح لي بتغيير فكرة او تعديل نكهتها أو تغييرها جذريا.
في كتب النقد العربيّ القديم كالوساطة للقاضي الجرجاني، او المثل السائر لابن الأثير او الموازنة للآمدي وقفات جميلة عن قلب الأفكار والأشعار، فالنثر يصير شعرا، والشعر يصير نثرا، والهجاء مديحا، والغزل رثاء، والمديح هجاء.
يكمن ابداع كثير من الشعراء ليس في ابتكار افكار او توليد افكار او صور شعرية بل في تلك القدرة المذهلة على تحويل العناصر.
أدهشني ذات يوم رجل مع اولاده الصغار في البرية حيث لم يكن الماء في متناول افواه الصغار ولم يكن معه لا كوب ولا اي وعاء لتوصيل المياه الى شفاههم العطشى، راحت عيناه تتجوّلان في الأشياء فعثر على ورقة A4، ولكنه لم يرها كما هي ، رآها كوبا، تناولها وبلمح البصر حوّلها الى قمع وملأها بالماء وراح أبناؤه ينهلون فرحين بهذا الكوب الغريب.
لم ير الورقة ورقة رآها شيئا مغايرا لوظيفتها.
لا أحبّ من ينحبس في أشكال الأشياء ، أحب من يحرّر الأشكال من أشكالها ويفتحها على الاحتمالات السرنديبيّة البديعة، ويقوم بمزج ما لم يمزج بعد، لتكوين مركّب خاص به.
حين أقف عند مقدمة كتاب الحيوان للجاحظ أرى أشياء لا علاقة لها بالحيوان، واعتبر ان الجاحظ كان " محتالا"، و" حربوقا"، في اسلوبه الذي يمزج الجد والهزل ، الخاصي بالعامي، ويجعل من هذا المزيج الكيميائي سرّه الجاحظي الفريد.
وللأسف لا اعرف الا عبد الفتاح كيليطو الناقد الألمعيّ الذي استطاع ان يسبر سرّ الكتابة عند الجاحظ، يوم لم ير في الاستطراد الجاحظيّ ما رآه غيره وكرّره غيره حتّى السآمة.
وللحديث صلة بل صلات...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق