الاثنين، 12 مايو 2014

نشأة الكتابة العربية / خرافة الأبجدية


علّمت فترة من الزمن مادّة جميلة في الجامعة اسمها "المدارس النحويّة"، وكان من الطبيعيّ أن أقرأ في كتب اللغة وكتب النحو لتقميش معلومات حول المادّة، وكان من الطبيعي ان اتناول كتب الإمام جلال الدين السيّوطي النحوية. كانت كتبه مرجعا، لغويا ونحويا، ولا سيّما  كتاباه "المزهر" و"الاقتراح في أصول النحو". كان التجوال في كتابيه أشبه برحلة صيد لا يعود الواحد منهما خالي الوفاض أو بخفّي حنين. وكنت ولوعا باصطياد الطرائف لا الطرائد. كما ان تخصصي العلميّ وهو علم اللغة الحديث يدفعني الى التعرّف على نظرات العرب اللغوية لأقارن بينها وبين النظريّات اللغوية الغربية.

وحين يتكلّم المرء على اللغة فهو مضطر أيضا لتناول الكتابة. فالكتابة، في العمق، تفكير عمليّ في اللغة. ان مجرد نقل اللغة من الفم الى الورق او الجلد او العظم او لحاء الشجر أو جريدة النخل أو شاشة الحاسوب هو انتقال من حيّز العفوية الى حيّز المكتسب.

امور كثيرة صادفت حياتي اللغوية كان منها هذه النصوص" السيوطية" البديعة، وحين اقول السيوطيّة اقصد اني قرأتها في كتبه وليست من عندياته انما هي نقل من كتب سابقة منسوبة لأصحابها من العلماء. وتحكي حكايات يظنّها البعض من وقائع الماضي، ويظنها آخرون من اساطير الأولين. في أي حال، أقول، أنّ بين الاسطورة والتاريخ، أحياناً، ما يشبه شعرة معاوية! والفصل بينهما ليس دائما سهلا لإنّ تقنية الفصل لم تتوفّر بعد. والمرء قد يتخلّى، أحياناً، عن أشياء كثيرة من حياته، ولكن لا يتخلّى بسهولة عن أساطيره التاريخية والروحيّة .

وليس من الضروري ان يتعامل من يقوم بالتأريخ الانترولوجيّ والأركيولوجيّ، تحديدا، لحضارة ان يلغي مفعول الاساطير في تكوين الانسان. فانا من المؤمنين ان الانسان المعاصر كما الانسان القديم تلذّ له الاسطورة، ويقتات من ثمراتها ويعتمد عليها في ممارسة حياته اليومية. ويستعين بها على تمرير كثير من أزماته الروحية والنفسيّة والمادّية.

لا تخلو حضارة قديمة أو معاصرة، في أي حال، من أسطورة تزيّن وقائع ايامّه.

نحن نعرف ان ترتيب الكتابة العربية الأساس هو ابجد هوز …الخ، وليس التسلسل الألفبائي. التسلسل الابجدي هو اقدم من التسلسل الالفبائي. وهو موجود عند اليهود وعند الفينيقيين ويمكن القول انه ترتيب ساميّ، اما الترتيب الالفبائي فهو ترتيب حديث هو وليد شكل الحرف لا صوته، شكل الحرف العربي المكتوب. فنجد " ب ت ث ج ح خ " وضعت مترافقة بناء للشبه الشكليّ. اللغة العبريّة، الى اليوم، تعتمد الأبجديّ لا الألفبائيّ في معاجمها مثلا. وكذلك الأمر في اللغة اليونانية التي تعتمد على الترتيب الأبجدي لا الألفبائي. ولا يزال، الى اليوم، في كلّ "الالفبائيات" بقايا من "الأبجديات"، وأجدها طريفة، وهذه البقايا ذات صلة بالكلام، وهي جذر الكلام، وقد لا ينتبه لها المرء من الوهلة الأولى.

إذا راح المرء يعدد الاحرف الالفبائية فانه يصل في اللاتينية الى "KLM " وإذا قام بالأمر نفسه في التعداد الألفبائي فانّ يصل بعد القاف الى " ك ل م". واذا رجع الى التعداد الابجدي ايضا سيصل الى" ك ل م" في "كلمن". كان يلفتني رسوخ الكلام في التعدادين. والكلام هو الميزة الانسانية التي يمتاز بها الانسان عن سائر المخلوقات.

 هناك دراسات جفريّة تربط مصائر البشر بالحروف وأقصد بالجفريّة ما هو وليد "كتاب الجفر". ثمّة اساطير حول قضيّة الحروف الأبجدية. وان هذه الحروف انما اكتسبت اسماءها وترتيبها من اسماء اشخاص عاشوا وماتوا في زمن قديم. وليس في القِدم لغير الأسطورة موطىء قًدم.!بالنسبة لأبجد، لا نعرف ان كانت الكلمة منحوتة ام لا، اي هل هناك شجص اسمه "ابجد" ام كان لهذا الشخص ولد اسمه جاد فكان يكنى بأبي جاد.

ثمّة من يعتبر ان الكتابة تعود الى سيدنا آدم، وهي كانت على شاكلة آدم من طين، تقول الاسطورة ان آدم قام بطبخ ما كتبه في الطين، وكان آدم بحسب هذه الأسطورة عليما بكل اللغات، فآدم ليس أبا البشر فقط وانّما أبو اللغات كلّها. وإليك نصّ السيوطي: "يروى أن أوّل من كتب الكتاب العربيّ والسريانيّ، والكتب كلها آدمُ عليه السلام قبل موته بثلثمائة سنة كتبها في طين وطبخه فلما أصاب الأرضَ الغرقُ وجد كلّ قوم كتاباً فكتبوه فأصاب إسماعيل عليه السلام الكتاب العربي".

 وكلمة "يروى " هنا لا تختلف كثيرا عن كلمة "يحكى" التي نراها في كتاب "كليلة ودمنة" وغيره من الكتب. فعل يريح فاعل الكلام أو ناقل النصّ، يريح ذمّته مما يقول او يحكي أو يكتب. صيغة "المجهول" في السرد العربي القديم لها وظيفتان: أولى، انك ، هنا ، في ارض الغرابة لا في أرض المألوف، وثانية: انّ لا احمّل ضميري صدق ما أقول. فناقل الخرافة ليس مخرفّا او مصابا بالخرف وإلا ّ لتوقفت انماط كثيرة من الكتابة خوفا من تلويث سمعة من يكتبها. الكاتب يختبىء أو يختفي وراء "يروى أو يحكى". كلمة يحكى تريح الكاتب من العنعنة! انتقل الى اقتباس النصّ الثاني من كتاب جلال الدين السيوطي، ذي العلاقة بـ"ابا جاد" وهو:

 "وقيل: أوّل من وضعه { أي الخطّ العربيّ} أبجد وهوّز وحطّي وكلمن وسعفص وقرشت وكانوا ملوكاً فسمي الهجاء بأسمائهم". الكتابة ليست مسألة عاديّة، من يضع الحروف لا يمكن أن يكون انسانا عاديا، فهو اما ان يكون أبا الخليقة، وامّا ان يكون ملكا من الملوك .نجد ان العربية لم يرضِها ملك واحد، وابجديتها ملوكية من الطراز الرفيع. وهذا ما يقوله نصّ السيوطيّ.

انتقل الى النصّ الأبجدي الثالث في كتاب السيوطي وهو مقتبس من كتاب المسعودي "مروج الذهب ومعادن الجوهر" وهو موسوعة غنيّة  جدّاً في التاريخ والجغرافيا والأسطورة والأدب:

"وقال المسعودي في تاريخه { مروج الذهب ومعادن الجوهر}  : قد كان عدّة أمم تفرقوا في ممالك متصلة، منهم المسمى بـ"أبي جاد" و"هوَّز" و"حطي" و"كلمن" و"سعفص" و"قرشيات" وهم بنو المحصن بن جندل بن يصعب بن مدين بن إبراهيم الخليل عليه السلام. وأحرف الجُمَّل هي أسماء هؤلاء الملوك وهي الأربعة والعشرون حرفاً التي عليها حساب الجُمَّل وقد قيل في هذه الحروف غير ذلك، فكان "أبجد" ملك مكة وما يليها من الحجاز، وكان "هوز" و"حطي" ملكين بأرض الطائف وما اتصل بها من أرض نجد، و"كلمن و"سعفص" و"قرشيات" ملوكاً بمدين، وقيل : ببلاد مضر وكان "كلمن" على أرض مدين وهو ممّن أصابه عذاب يوم الظُلَّة مع قوم شعيب، وكانت جارية ابنته بالحجاز ، فقالت ترثي "كلمن" أباها بقولها : 

كلَمُونٌ هدَّ رُكني        هلكه وَسْط المحلَّهْ

 سيد القوم أتاه الحتف        ثَاوٍ وَسْطَ ظُلَّهْ

كونت ناراً فأضحت    دار قومي مُضْمَحلّهْ

وقال المنتصر بن المنذر المديني :

ملوك بني "حطي" و"سعفص" في الندى  و"هوّز" أرباب الثَّنية والحجر  

 ولمن يرغب في متابعة الحكاية أن يذهب الى كتب أخرى غير كتاب السيوطي ككتاب المواعظ والاعتبار للمقريزيّ. فثمّة في كتب التاريخ والأخبار ما يشفي الغليل. إذ في كتب التاريخ، تقعد الأسطورة جنبا إلى جنب مع الحقيقة. بل قل: ان الأسطورة هي رافعة تاريخيّة تقوم بوظيفة الإغواء للسامع والقارىء بما لها من مفعول المؤثراث الصوتية والضوئية واللونيّة في السينما المعاصرة.

بلال عبد الهادي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق